القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

مفادي لا ضرر ، أي نفي الحكمين الضرريين الذين يلزم من نفي كلّ واحد منهما ثبوت الآخر ، أو نعلم بثبوت أحدهما.

والحاصل : أنّه إذا تعارض نفي حكم ضرري مع نفي حكم ضرري آخر ، فلا محالة يسقط لا ضرر في الاثنين بالمعارضة. ولا يعتنى بما قيل من تقديم أعظم الضررين وينفي بلا ضرر ذلك الحكم الذي يكون ضرره أكثر وأعظم ؛ لأنّ هذا ليس من مرجّحات باب التعارض ، فلا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأخر إن كانت ، وإلاّ فإلى الأصول العمليّة.

نعم قد يكون البحث صغرويّا بمعنى أنّه هل هاهنا تعارض بين نفي هذين الحكمين الضرريين أم لا؟ وقد يكون البحث من جهة أنّ المورد من موارد التزاحم أو من موارد التعارض؟ فهذه أمور يسهل على الفقيه تشخيصها بعد معرفة ضوابطها الكليّة.

هذا كلّه في تعارض لا ضرر مع نفسه بالنسبة إلى نفي الحكمين الضرريين فيما إذا لا يمكن ولا يصحّ نفيهما جميعا لما تقدّم من الوجهين.

وأمّا فيما إذا تعارض لا ضرر مع لا حرج كما إذا كان تصرّف المالك في ملكه ضرريّا على الجار ، وكان ترك تصرّفه فيه حرجا على المالك وإن لم يكن ضررا عليه ، فيقع التعارض بين نفي جواز التصرّف بلا ضرر مع نفي حرمة التصرّف بلا حرج ، فالأمر كما ذكرنا في تعارض لا ضرر في مورد نفي أحد الحكمين مع نفسه في مورد نفي الحكم الآخر لوحدة المناط ، وهو عدم إمكان جمع النفيين في عالم الجعل والتشريع ، ووحدة لسان لا ضرر ولا حرج في الحكومة بالتضييق في جانب المحمولات التي هي الأحكام الواقعيّة للأشياء بعناوينها الأوّليّة التي هي مفاد إطلاقات الأدلّة أو عموماتها ، ونتيجتها تقييد تلك الإطلاقات ، وتخصيص تلك العمومات بغير ما كانت ضرريّة أو حرجيّة.

٢٤١

ويظهر ممّا ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري حكومة قاعدة الحرج على قاعدة الضرر ، (١) ولم نعرف لها وجها يمكن الاعتماد والاتّكاء عليه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ حال تعارض قاعدة الحرج مع نفسه في موردين ، حال تعارض قاعدة الضرر مع نفسه في موردين من موارده فيتساقطان ، والمرجع حينئذ هي القواعد الأخر لو كانت ، كقاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » وإلاّ فالرجوع إلى الأصول العمليّة.

التنبيه الثامن : في بيان مجرى قاعدة « الناس مسلطون على أموالهم » ومورد تعارض قاعدة لا ضرر معها.

فنقول : لا شكّ في أنّ مفاد لا ضرر ـ بناء على ما استظهرناه من الحديث الشريف ـ رفع الحكم الضرري ونفيه مطلقا ، سواء كان حكما تكليفيّا أم وضعيّا ، وبعبارة أخرى : مفاد قاعدة لا ضرر أنّه ليس في المجعولات الشرعيّة وفيما هو من الدين مجعول ينشأ من قبله الضرر ويكون الضرر عنوانا ثانويّا له ، فالسلطنة الاعتبارية المجعولة من قبل الشارع للملاك على أموالهم إذا كان ضرريّا منفي بلا ضرر ، ويكون حال السلطنة حال سائر الأحكام الشرعيّة المجعولة على موضوعاتها ، فكما تكون القاعدة حاكمة على أدلّة سائر الأحكام فكذلك الحال في نسبتها مع قاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » لاتّحاد المناط في الجميع.

ولكن الشأن في إثبات الصغرى ، وأنّه في أيّ مورد يتحقّق هذه المعارضة.

ولتوضيح المقام نقول : إنّ تصرّف المالك في ماله مع الإضرار بالغير على أنحاء :

فقد لا يكون إلاّ بقصد الإضرار بالغير من دون أن يكون له نفع في هذا التصرف ، أو يكون في تركه ضرر عليه.

الثاني : أن لا يكون بقصد الإضرار ، ولكن ليس في ذلك التصرّف نفع له ولا في‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٣٧٥.

٢٤٢

تركه ضرر عليه ، بل يكون عابثا بفعله.

الثالث : أن يكون له نفع فيه ، ولكن ليس في تركه ضرر عليه.

الرابع : أن يكون في تركه ضرر عليه.

ولا شكّ في حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » في الصورة الأولى والثانية ، بناء على شمول قاعدة السلطنة لمورد الإضرار بالغير ، سواء كان من قصده الإضرار أم لم يكن. وأمّا لو قلنا بأنّ التصرّفات التي موجبة للإضرار بالغير إذا لم يكن للمالك نفع فيه ولا في تركه ضرر عليه خارجة عن عموم قاعدة السلطنة ، فلا يبقى مجال للحكومة ، بل خروج الصورتين عن تحت عموم قاعدة السلطنة يكون بالتخصّص لا بالحكومة.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا وجه لاحتمال عدم شمول قاعدة السلطنة للصورتين ؛ لأنّ ظاهر الحديث أنّ لكلّ مالك السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله ولو كان بقصد الإضرار ، وسواء كان مستلزما للضرر على الغير أم لا ، غاية الأمر يكون ضامنا للضرر الوارد على الغير لأنّه بفعله وبإتلافه.

ولا يخفى أن مرادنا التصرّفات التي لا يكون مستلزما للتصرّف في مال الغير أو في نفسه ، مثل (١) أن يتصرّف في معوله (٢) بهدم دار الغير أو في مديته (٣) بشقّ بطن الغير ، فلا ضرر يكون حاكما على قاعدة السلطنة في تينك الصورتين.

وأمّا في الصورة الثالثة : فأيضا مقتضى ما ذكرنا في الصورتين المتقدّمتين حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة ؛ لأنّ سلطنة الملاّك على أموالهم حكم شرعي وضعي على الأموال بعناوينها الأوّلية ، وقد تقدّم حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلّة‌

__________________

(١) مثل للمنفي لا للنفي.

(٢) المعول ج معادل : أداة لحفر الأرض.

(٣) المدية ج مُدىً ومِدىً ومديات ومديات : الشفرة الكبيرة.

٢٤٣

الأوّلية المثبتة للأحكام على موضوعاتها بعناوينها الأوّلية.

ولكنّ الشيخ الأعظم الأنصاري أفاد في المقام أنّ عدم جواز تصرّف المالك في ماله وحرمته فيما إذا كان التصرّف ضرريّا بالنسبة إلى الغير ، ولم يكن تركه ضرريّا على نفسه ولكن كان فيه نفع للمالك ، فترك مثل هذا التصرّف وحرمته حرجي للمالك ؛ لأنّه لا شكّ في أنّ عدم قدرة المالك على التصرّفات النافعة حرج عليه ، فيقع التعارض بين قاعدة الضرر وقاعدة الحرج ، والثانية حاكمة على الأولى. وعلى فرض عدم الحكومة تكون قاعدة السلطنة هو المرجع بعد تساقط لا ضرر ولا حرج بالمعارضة (١).

وفيه : ما تقدّم من أنّه لم نعرف وجها يمكن الاعتماد عليه ، لحكومة قاعدة الحرج على قاعدة لا ضرر ، فالصحيح أنّ المرجع قاعدة السلطنة بعد تساقط لا حرج ولا ضرر بالمعارضة.

وما أفاده شيخنا الأستاذ من عدم اجتماع مورد هاتين القاعدتين لأنّ مفاد قاعدة لا ضرر نفي السلطنة إذا كانت ضرريّة ، ونفي السلطنة على تقدير كونه حرجيّا أمر عدمي ولا يرتفع بلا حرج حتّى تقول أنّ نفي النفي إثبات ، فيرجع إلى بقاء السلطنة فيقع التعارض ، وذلك من جهة أنّ مفاد لا حرج نفي الحكم الموجود الذي يكون حرجيّا ، لا إثبات حكم لرفع الحرج (٢).

يمكن أن يجاب عنه : بأنّ مورد الحرج في المقام حرمة ذلك التصرّف النافع للمالك الموجب للإضرار بالغير ، والحرمة حكم وجودي ، فارتفاعها بلا حرج مع ارتفاع جواز التصرّف بلا ضرر ممّا لا يجتمعان ، فيقع التعارض بين لا حرج ولا ضرر ، وبعد تساقطهما بالمعارضة يكون المرجع قاعدة السلطنة.

وعلى تقدير القول بعدم إطلاق دليل السلطنة بالنسبة إلى التصرّف الذي يكون‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٣٧٥.

(٢) « منية الطالب » ج ٢ ، ص ٢٢٦.

٢٤٤

موجبا للإضرار فالمرجع هي الأصول العمليّة ، وفي المقام هي البراءة. وممّا ذكرنا ظهر حال الصورة الآتية.

الصورة الرابعة : وهي فيما إذا كان ترك التصرّف وعدم السلطنة عليه يكون موجبا لتضرّر المالك ، فقاعدة الضرر بالنسبة إلى ضرر الغير مع نفسه بالنسبة إلى ضرر المالك يتعارضان ، وبعد تساقطهما المرجع هي قاعدة السلطنة. ولا يخفى أنّ جواز تصرّف المالك في هاتين الصورتين ـ أي في صورة الثالثة والرابعة ـ من حيث الحكم التكليفي لا ينافي مع ثبوت الضمان وضعا لقاعدة الإتلاف.

والحمد لله أولاً وآخراً.

٢٤٥
٢٤٦

٩ ـ قاعدة

نفى العسر والحرج‌

٢٤٧
٢٤٨

قاعدة نفى العسر والحرج (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة القاعدة المشهورة المعروفة بقاعدة « نفي العسر والحرج ».

والتكلّم فيها من جهات ثلاث :

الجهة الأولى

في الدليل عليها‌

فنقول : الأوّل : الآيات :

منها : قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١).

__________________

(*) « القواعد والفوائد » ج ١ ، ص ١٢٢ و ٢٨٧ ؛ « الأقطاب الفقهية على مذهب الإماميّة » ص ٤٦ ؛ « الحق المبين » ص ١٥٤ ؛ « الأصول الأصلية والقواعد الشرعيّة » ص ٣٠٦ ؛ « عوائد الأيّام » ص ٥٧ ؛ « قاعدة لا حرج » ؛ « عناوين الأصول » عنوان ٩ ؛ « مناط الأحكام » ص ٢٦ ؛ « قاعدة نفى العسر والحرج » الآشتيانى ؛ « مجموعه قواعد فقه » ص ١٢٥ ؛ « اصطلاحات الأصول » ص ٢٠٣ ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص ١٠٢ و ١٨٦ ؛ « القواعد » ص ٣٠٤ ؛ « قواعد فقه » ص ٦٠ ؛ « قواعد فقهي » ص ٢١١ ؛ « قواعد فقهية » ص ١٣٥ ؛ « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج ١ ، ص ١٦٠ ؛ « قاعدة نفى عسر وحرج وكاربرد آن در قوانين إيران » محمد على خرسنديان ، ماجستير ، مدرسة الشهيد مطهري العالية ، ١٣٧١ ؛ « عسر وحرج ونقش آن در روابط موجر ومستأجر » عزيز الله اليميني ، ماجستير ، جامعة الشهيد بهشتى ، ١٣٦٩ ؛ « قاعدة عسر وحرج وآثار آن در حقوق مدني إيران » ماجستير ، جامعة طهران ، ١٣٧٤ ؛ « بازتاب قاعدة لا حرج در اجاره » عيسى كشورى ، مجلة « قضائي وحقوقي دادگسترى » العدد ١٠ ؛ « بحثي در عسر وحرج » للسيّد على محمّد المدرّس الأصفهاني ، « مجلّة كانون وكلاء » لسنتها ١٣ ، العدد ٧٥ ؛ « قاعدة لا حرج » نشرة « مقالات وبررسيها » ، العدد ٤٣ ـ ٤٤ ؛ « سه قاعدة فقهي » مجلة « حق » ، الفصليّة ، العدد ١١ و ١٢ ، العام ١٣٦٦.

(١) الحجّ (٢٢) : ٧٨.

٢٤٩

وأيضا قوله تعالى ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) (١).

وأيضا قوله تعالى ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٢).

وأيضا قوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (٣).

هذه الآيات تدلّ دلالة واضحة على أنّ الله تبارك وتعالى لم يجعل في دين الإسلام أحكاما حرجيّة ، بحيث يكون امتثال أحكامه وإطاعة أوامره ونواهيه شاقّا وحرجا على المسلمين والمؤمنين بهذا الدين ، سيّما بملاحظة استدلال الإمام عليه‌السلام ببعض هذه الآيات على رفع الأحكام الحرجيّة ، حيث قال عليه‌السلام : « هذا وأمثاله يعرف من كتاب الله امسح على المرارة ما جعل الله ( عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ).

وأمّا الروايات :

فمنها : ما عن الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار : أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن عليّ بن الحسن بن رباط ، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة ، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال عليه‌السلام « يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ ، قال الله عزّ وجلّ : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) امسح عليه. (٤)

وقد روى الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : « ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ) الإسلام من ضيق ، هو واسع » (٥). وقد نسب في مجمع البيان هذا المعنى إلى جميع‌

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٣) البقرة (٢) : ٢٨٦.

(٤) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٣ ، باب الجبائر والقروح والجراحات ، ح ٤ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٣٦٣ ، ح ١٠٩٧ ، باب صفة الوضوء والغرض منه ، ح ٢٧ ؛ « الاستبصار » ج ١ ، ص ٧٧ ، ح ٢٤٠ ، باب المسح على الجبائر ، ح ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٣٢٧ ؛ أبواب الوضوء باب ٣٩ ، ح ٥.

(٥) « جامع البيان في تفسير القرآن » ج ١٧ ، ص ١٤٢.

٢٥٠

المفسّرين. (١)

وعن التهذيب عن ابن سنان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الجنب يجعل الركوة (٢) أو التور (٣) فيدخل إصبعه فيه؟ قال عليه‌السلام : « إن كانت يده قذرة فأهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا مما قال الله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٤).

وعن التهذيب ، والكافي ، والاستبصار : عن ابن مسكان قال : حدّثني محمّد بن ميسر قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : « يضع يده ويتوضّأ ثمَّ يغتسل ، هذا ممّا قال الله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٥).

وأيضا عن التهذيب ، والاستبصار عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية ، فتكون فيه العذرة ، ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدواب وتروث؟ فقال عليه‌السلام : « إن عرض في قلبك منه شي‌ء فقل هكذا : يعني افرج الماء بيدك ثمَّ توضّأ فإنّ الدين ليس بمضيق ، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٦).

وعن التهذيب ، والكافي عن فضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء ، فقال عليه‌السلام : « لا بأس ، ما جَعَلَ الله‌

__________________

(١) « مجمع البيان » ج ٢ ، ص ١٦٧.

(٢) الركوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء ، والجمع : ركاء. « النهاية » ج ٢ ، ص ٢٦١ ( ركود ).

(٣) التور : إناء من صفر أو حجارة كالإجانة ، وقد يتوضّأ منه. « لسان العرب » ج ٦ ، ص ٩٦ ( تور ).

(٤) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٢٢٩ ، ح ٦٦١ ، باب المياه وأحكامها. ، ح ٤٤.

(٥) « الكافي » ج ٣ ، ص ٤ ، باب الماء الذي تكون فيه قلّة و. ، ح ٢ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ١٤٩ ، ح ٤٢٥ ، باب حكم الجنابة وصفة الطهارة منها ، ح ١١٦ ؛ « الاستبصار » ج ١ ، ص ١٢٨ ، أبواب الماء المطلق ، باب ٨ ، ح ٥.

(٦) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٤١٧ ، ح ١٣١٦ ، باب المياه وأحكامها ، ح ٣٥ ؛ « الاستبصار » ج ١ ، ص ٢٢ ، ح ٥٥ ، باب الماء القليل يحصل فيه النجاسة ، ح ١٠.

٢٥١

عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (١).

وفي رواية حمزة بن طيار : « وكل شي‌ء أمر الناس به فهم يسعون ، وكلّ شي‌ء لا يسعون فهو موضوع عنهم » (٢).

وفي صحيحة البزنطي : أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : « إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالة ، وإن الدين أوسع من ذلك » (٣).

وقوله عليه‌السلام : « بعثت على الشريعة السمحة السهلة » (٤).

وهناك روايات كثيرة تدلّ على عدم جعل الحكم الحرجي وما يوجب العسر والضيق على الأمّة ، تركنا ذكرها لكفاية ما ذكرنا لإثبات هذه القاعدة.

وأمّا الإجماع على اعتبار هذه القاعدة فممّا لا اعتبار به ، لأنّ الإجماع الذي بنينا على اعتباره هو أن لا يكون في المسألة مدرك آخر يمكن ويحتمل أن يكون اتّكاء المجمعين عليه ، ففي هذه المسألة التي لها هذه المدارك من الكتاب العزيز لا وجه للتمسّك بالإجماع.

وأمّا الدليل العقلي : فغاية ما يمكن أن يقال هو أنّ التكليف بما يوجب العسر والضيق على الأمة ويكون ذلك التكليف فوق طاقتهم قبيح ، والقبيح محال صدوره من الله جلّ جلاله.

ولكن أنت خبير بأنّ تكليف ما لا يطاق بمعنى عدم القدرة على امتثاله وإن كان‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ١٣ ، باب اختلاط ماء المطر بالبول و. ، ح ٧ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٨٦ ، ح ٢٢٤ ، باب صفة الوضوء والفرض منه ، ح ٧٣.

(٢) « الكافي » ج ١ ، ص ١٦٤ ، باب حجج الله على خلقه ، ح ٤.

(٣) « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٥٧ ، باب ما يصلّي فيه وما لا يصلّي فيه. ، ح ٧٩١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٦٨ ، ح ١٥٢٩ ، باب ما يجوز الصلاة فيه ، ح ٦١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧١ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٣.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٩٤ ، باب كراهيّة الرهبانيّة وترك الباه ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٢٤٦ ، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، باب ١٤ ، ح ١ ، مع تفاوت في اللفظ.

٢٥٢

قبيحا عقلا بل يكون ممتنعا عقلا ـ بناء على ما حقّقنا في محلّه من أنّ حقيقة الأمر والنهي هو البعث إلى أحد طرفي المقدور أو الزجر عنه كذلك ـ فالتكليف بما لا يطاق بهذا المعنى لا يمكن ، لا أنّه ممكن وقبيح.

ومثل هذا المعنى ليس مفاد قاعدة لا حرج ؛ لأن ظاهر أدلّة نفي الحرج ـ آية ورواية ـ أنّه تبارك وتعالى في مقام الامتنان على هذه الأمّة ، ولا امتنان في رفع ما لا يمكن جعله ووضعه ، أو يكون وضعه قبيحا ، مع أنّه حكيم لا يمكن أن يصدر منه فعل السفهاء.

فمعنى عدم الحرج في الدين هو عدم جعل حكم يوجب الضيق على المكلّفين ، وبهذا المعنى فسر الحرج في جميع التفاسير من العامّة والخاصّة.

ومثل هذا المعنى ليس دليل على امتناعه أو قبحه ولكنّ الله تبارك وتعالى لطفا وكرما لم يجعل الأحكام الحرجيّة بالنسبة إلى جميع العباد ، أو بالنسبة إلى خصوص هذه الأمّة المرحومة كرامة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويشهد بالمعنى الثاني ـ أي اختصاص رفع الأحكام الحرجيّة بهذه الأمّة ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « بعثت بالحنيفيّة السمحة السهلة » (١). وقوله تعالى ( لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) (٢) والإصر : الجمل الثقيل الذي يحبس صاحبه مكانه لثقله ، والمراد التكاليف الشاقّة التي كلّف الله تعالى بها الأمم السابقة من التشديدات ، وقد عصم الله هذه الأمّة من أمثال ذلك ، وأنزل في شأنهم ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) (٣).

فهذه الآية الكريمة مع الحديث الشريف تدلّ دلالة واضحة على أنّ رفع الأحكام‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٩٤ ، باب كراهية الرهبانيّة وترك الباه ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٢٤٦ ، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، باب ١٤ ، ح ١ ؛ « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٣٨١ ، ح ٣.

(٢) البقرة (٢) : ٢٨٦.

(٣) الأعراف (٧) : ١٥٧.

٢٥٣

الحرجيّة مخصوص بهذه الأمّة كرامة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يمكن أن يكون المراد من الحرج عدم القدرة والطاقة والعجز عن الامتثال بمثابة يكون تكليفه في تلك الحالة قبيحا أو غير ممكن ، فلا شكّ في أنّ المراد من التكاليف والأحكام الحرجيّة ـ ولو كانت وضعيّة ـ هو أن يكون الحكم المجعول من طرف الشارع موجبا للضيق والعسر على النوع أو على الشخص ؛ لأنّه قد يكون العسر النوعي موجبا لرفع الحكم ولو كان بالنسبة إلى بعض الأشخاص غير حرجي ، فيكون الحرج من قبيل الحكمة لا العلّة. ولعلّه يكون من هذا القبيل رفع وجوب الغسل ووجوب التيمّم في قوله تعالى في آية التيمّم ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (١) فالله تبارك وتعالى رفع وجوب الغسل وشرع التيمم ولو كان تحصيل الماء مع المشقّة ممكنا.

والحاصل : أنّه لا شكّ في دلالة هذه الآيات وهذه الروايات المستفيضة على عدم جعل الأحكام الحرجيّة في الدين الحنيف الإسلامي ، وقد ذكرنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بعث بالحنيفيّة السمحة السهلة ».

نعم هاهنا إشكال معروف ، وهو أنّه لا شكّ في وجود أحكام شاقّة في هذا الدين الحنيف ، كالجهاد وعدم جواز الفرار عن الزحف ، والصوم في شهر رمضان خصوصا في أيّام الصيف ، وأمثال ذلك من الأحكام التي هي شاقّة على نوع المكلّفين.

ولكن أنت خبير بأنّه ربما تكون مصلحة فعل ، أو ترك ، أو مصلحة إثبات حكم وضعي ، أو رفعه بمثابة من الأهميّة بحيث يكون عدم جعل ذلك الحكم التكليفي أو الوضعي خلاف اللطف والامتنان ، سواء أكانت تلك المصلحة شخصيّة أو نوعيّة ؛ لأنّ الشارع قد يلاحظ مصلحة النوع ولو لم تكن للشخص مصلحة أصلا أو لم تكن ملزمة ، ومع ذلك يكلّف الشخص بذلك الفعل مراعاتا وحفظا لمصلحتهم.

وبعبارة أخرى : رفع الأحكام الحرجيّة أو عدم جعلها ، يكون من باب الامتنان‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٨٥.

٢٥٤

واللطف ، فإذا كان الرفع وعدم الجعل خلاف الامتنان وخلاف المصلحة الشخصيّة أو النوعيّة ، فلا بدّ وأن يجعل ذلك الحكم ولو كان فيه ضيق وعسر ، وإلاّ تفوت تلك المصلحة الشخصيّة أو النوعيّة ، وهذا خلاف اللطف ؛ هذا في مقام الثبوت.

وأمّا في مقام الإثبات فلا بدّ وأن ينظر إلى ذلك الحكم الحرجي ، فإن كان حرجيّا لجميع المكلّفين ودائما وفي جميع الأوقات ، أو نوعيا وإن لم يكن حرجيّا في حقّ شرذمة قليلة من الناس ، فمن ذلك يستكشف أهميّة الملاك بحيث لم يرض الشارع بفعله أو بتركه وطلب الفعل ، كما في الجهاد والحج ، أو الترك كما في الصوم وإن كانا حرجيّين.

وأمّا إذا لم يكن حرجيّا إلاّ لبعض الأشخاص ، أو في بعض الأوقات ، أو في بعض الحالات ففي مثل هذه الموارد يتمسّك لرفعها بقاعدة نفي الحرج.

وبعبارة أخرى : الحكم المجعول بعنوان عامّ إذا كان بعض مصاديقها حرجيّا يرتفع عن تلك المصاديق بأدلّة نفي العسر والحرج ، مثلا الوضوء واجب للصلاة ، فإذا كان البرد شديدا قارصا وكان الوضوء في ذلك البرد حرجيّا يرتفع الوجوب بأدلّة نفي العسر والحرج. والمسح على للبشرة واجب ، فإذا كان حرجيّا بواسطة وضع المرارة عليها فيرتفع الوجوب. وعلى هذه المذكورات فقس ما سواها.

الجهة الثانية

في مفاد هذه القاعدة ومضمونها‌

فنقول : مفادها مضمونها رفع الحكم الذي هو حرجي ، سواء أكان تكليفا أو وضعا ، فيكون مساقها مساق لا ضرر ـ بناء على ما حقّقنا في معناها ـ تبعا للشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) أنّ المرفوع والمنفي هو نفس الحكم الضرري ، لا أنّ النّفي بمعنى‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٥٣٤.

٢٥٥

النهي ، كما أصرّ عليه شيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سره (١) ولا أنّه من قبيل رفع الحكم برفع الموضوع ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) ولا أنّ المنفي هو الضرر غير المتدارك ، كما ذهب إليه بعض.

والأمر هاهنا أوضح من تلك القاعدة ؛ لأنّه في هذه القاعدة صريح القرآن العظيم عدم جعل الأحكام الحرجيّة في قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣) بخلاف قاعدة لا ضرر ، فإنّ ظاهر الحديث الشريف هو نفي الضرر لا الحكم الضرري ، إلاّ بقرائن ذكرنا هناك.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الأدلّة نفي الحرج والضرر حكومة واقعيّة في جانب المحمول ـ أي الأحكام الأوّلية المحمولة على موضوعاتها ـ بالتضييق ، ولذلك تقدّم أدلّة نفي العسر والحرج كأدلّة الضرر على الأدلّة الأوّلية ولا تلاحظ النسبة بينهما ، كما هو شأن الحاكم والمحكوم.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ المراد من نفي العسر والضيق والحرج في هذا الدين الحنيف مقابل السعة والسهلة والسمحة أنّ الله تبارك وتعالى في هذا الدين ـ الذي هو عبارة عن مجموع الأحكام المتعلقة بأفعال المكلّفين أو الموضوعات الخارجيّة ، كبعض الأحكام الوضعيّة كالطهارة والنجاسة والولاية والحرّية والرقيّة والزوجيّة وأمثال ذلك ـ لم يجعل حكما ينشأ من قبله الحرج والضيق والعسر ، بل هذا الدين والشريعة سمحة سهلة ، والناس أي المتدينين بهذا الدين في سعة من قبل أحكامه ؛ ولذلك قال عليه‌السلام : « إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالة ، وإنّ الدين أوسع من ذلك » (٤).

وبهذا المعنى وردت روايات كثيرة فوق حدّ الاستفاضة.

__________________

(١) « رسالة لا ضرر ولا ضرار » ص ٢٤ ـ ٢٧.

(٢) « كفاية الأصول » ص ٣٨١.

(٣) الحجّ (٢٢) : ٧٨.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٢ ، رقم (٣).

٢٥٦

وليس المراد من نفي الحرج نفى الحكم بلسان نفى الموضوع ، كما قيل ذلك في لا ضرر ، وإن كان التحقيق خلافه حتّى هناك ، ولو كان لهذا التوهّم وجه هناك ـ أي في قاعدة لا ضرر ـ ولكن لا وجه له هاهنا أصلا ؛ لأنّ ذلك مفاد الآية الشريفة ابتداء وأوّلا وبالذات نفى جعل الحرج في الدين ، ولا شكّ في أنّ المراد بالجعل الذي نفاه الله تبارك وتعالى هو الجعل التشريعي لا الجعل التكويني ، والمراد من الدين هي الأحكام المجعولة من قبل الشارع المسمّاة بالأحكام الفقهيّة من الطهارات إلى الديات ، فلا يبقى شكّ في أنّ المنفي هو نفس الحكم الذي ينشأ من قبله الضيق والحرج ، لا أنّه تعالى ينفى الحكم الحرجي بلسان نفى موضوع ، ذلك الحكم ، أي الموضوع الذي هو حرجي أي الوضوء في البرد الشديد مثلا ، أو المسح على البشرة فيما إذا وضع عليها المرارة إذا كان نزعها صعبا.

والثمرة بين الوجهين نذكرها في الجهة الثالثة إن شاء الله تعالى.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌

ومواردها كثيرة لا يمكن إحصاؤها ؛ لأنّ أغلب الأحكام الإلزاميّة سواء أكانت من الواجبات أو من المحرّمات قد يصير في بعض الأحيان حرجيّا ، فتكون تلك الأحكام الحرجيّة مشمولة لقاعدة لا حرج. وقد أشرنا إلى موردين منها أحدهما : الوضوء في البرد الشديد. والثاني : المسح على البشرة فيما إذا وضع عليها المرارة لوقوعه وانقطاع ظفره.

ونذكر جملة أخرى :

منها : فيما إذا اغتسل من الجنابة من إناء ، وينضح من ماء غسله بواسطة وقوعه على الحجر الصلب أو صلب آخر في الإناء ، فقال عليه‌السلام : « لا بأس ما جعل عليكم في‌

٢٥٧

الدين من حرج » (١). وجريان القاعدة في هذا المقام مبتن على عدم جواز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر حتّى بالنسبة إلى تلك القطرات التي تنضح في الإناء من ماء غسله.

ومنها : فيما إذا كان الاحتياط بالجمع بين المحتملات فعلا أو تركا حرجيا ، فيرتفع وجوبه بهذه القاعدة. وعلى هذا بنى صاحب الكفاية قدس‌سره في جواز ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها في الشبهة غير المحصورة التحريميّة وفي جواز ترك بعض الأطراف أو جميعها في الشبهة غير المحصورة الوجوبيّة. (٢)

وبعبارة أخرى : جواز المخالفة الاحتماليّة أو القطعيّة في الشبهة غير المحصورة ، وعدم وجوب الاحتياط فيها مستندا إلى هذه القاعدة. وقال بأنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن يكون الاحتياط في أطرافها موجبا للعسر والحرج ، فيما إذا كان عسر الاحتياط ناشئا من كثرة الأطراف.

وإلى هذا يرجع ما ذكره في مقدّمات دليل الانسداد وإنكار وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات بإتيان مظنون الوجوب ـ مشكوكه وموهومة ـ وترك مظنون الحرمة ومشكوكها وموهومها بأنّ هذا الاحتياط يوجب العسر والحرج بل اختلال النظام فبواسطة هذه القاعدة أنكروا وجوب الاحتياط.

وقد أورد هاهنا على الاستدلال بهذه القاعدة لرفع وجوب الاحتياط والجمع بين المحتملات بحكم العقل ، من باب لزوم القطع بالامتثال إمّا وجدانا وأمّا تعبدا ، واليقين بفراغ الذمّة ومفاد قاعدة الحرج كما بيّنا هو رفع الحكم الشرعي إذا كان حرجيّا لا الأحكام العقليّة.

ولكن أجبنا عن هذا الإشكال في محلّه أنّه بناء على ما اخترنا في مفاد القاعدة‌

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٢ ، رقم (١).

(٢) « كفاية الأصول » ص ٣٥٩.

٢٥٨

من أنّه عبارة عن رفع كلّ حكم شرعي يكون منشأ للحرج والعسر والضيق ، ولا شكّ في أنّ العسر والحرج الذي في الاحتياط آتية من قبل تلك الأحكام الواقعيّة المجهولة وإن كان الاحتياط بحكم العقل.

نعم لو قلنا بأنّ مفاد هذه القاعدة رفع الحكم الحرجي برفع موضوعه ، فلا مدفع لهذا الإشكال ؛ لأنّه ليس للاحتياط حكم شرعي حتّى يرتفع برفع موضوعه.

وهذه هي الثمرة بين القولين ، أي القول بأنّ مفاد لا ضرر ولا حرج رفع الحكم بلسان رفع موضوعه ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره أو رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر والحرج ، كما اخترناه فبناء على الوجه الأوّل لا حكومة لأدلّة نفى العسر والحرج على الاحتياط العقلي في أطراف العلم الإجمالي إذا كان موجبا للعسر والحرج ، وأمّا بناء على الوجه الثاني فحيث أنّ الحرج والعسر بالآخرة ينتهيان إلى الحكم الشرعي وإن كان من جهة الجمع بين محتملاته بحكم العقل ، فيكون مشمولا للقاعدة.

وهذا هو الذي قلنا إنّ الثمرة بين الوجهين نذكرها في الجهة الثالثة.

ثمَّ إنّ هاهنا أمران يجب التنبيه عليهما‌

[ الأمر ] الأوّل : إنّه لو تحمّل المكلّف باختيار نفسه الحرج والمشقة ، وأتى بالعبادة التي فيها المشقّة ، سواء كان تمام العبادة أو جزؤها أو شرطها أو مانعها ، مثلا في البرد الشديد توضّأ أو في الحرّ الشديد في الصيف مع أنّ النهار طويل صام مع أنّه مجبور بالعمل في الشمس ، أو في البرد الشديد نزع اللباس من غير المأكول وأمثال ذلك هل تكون عبادته صحيحة ، أم لا ، بل تكون باطلة ؛ لأنّ في الأوّل كانت وظيفته التيمّم ، وفي الثاني كانت وظيفته الإفطار ، وفي الثالث كانت وظيفته الصلاة مع غير المأكول أو الحرير أو الذهب مثلا أو غيرها من الموانع؟

٢٥٩

ذهب شيخنا الأستاذ قدس‌سره إلى بطلان العبادة وقال : كما أنّ الوضوء والغسل والصوم والصلاة مع نزع غير المأكول أو نزع الحرير إذا كانت ضرريّة تبطل ، فكذلك فيما إذا كانت هذه المذكورات حرجيّة. وذلك من جهة أنّ مساق القاعدتين ـ أي قاعدة الضرر وقاعدة الحرج ـ واحد ، إذ في موارد كلتيهما يكون الحكم الواقعي مرفوعا بالمرّة ؛ لأنّ نتيجة حكومتهما على الأدلة الأحكام الواقعيّة هو تخصيصها بغير موارد الضرر والحرج ، كما هو الحال في جميع موارد الحكومة الواقعيّة ، فكأنّ الحكم الواقعي يصير نوعين ، النوع الضرري والحرجي يرتفعان عن عالم التشريع بالمرّة ، والنوع الآخر الذي ليس بضرري ولا هو حرجي يبقى على حاله.

وبعبارة أخرى : العمومات والإطلاقات الأوّلية لو لا هاتان القاعدتان كانت تشمل هذه الموارد أيضا ـ أي موارد كونها ضرريّا أو حرجيّا ـ كسائر الموارد التي ليست كذلك ، ولكن أدلّة هاتين القاعدتين تخصّص العمومات الأوّلية تخصيصا واقعيّا ، وكذلك تقيّد الإطلاقات الأوّلية تقييدا واقعيّا ، فتكون موارد هاتين القاعدتين خارجة عن تحت حكم تلك العمومات والإطلاقات حقيقة وواقعا ، لا عن تحت موضوعها حتّى تكونان واردتين على الأدلّة الأوّلية ، فتكون العبادة أو جزؤها أو شرطها كأن لم يكن تعلّق بها أمر ولم تكن عبادة إذا كانت حرجيّة ، كما هي كذلك لو كانت ضرريّة ، فالإتيان بها عبادة تشريع محرم.

وفيه : أنّ قياس باب الحرج بباب الضرر في غير محلّه ؛ لأنّ الضرر موجب لحرمة الفعل الضرري ، فارتكاب الفعل الذي فيه الضرر لا يجوز ، فلا يجتمع مع العبادة التي يجب الإتيان بها مقرّبا.

وبعبارة أخرى : الفعل الذي ضرري مبعد ، ولا يمكن أن يكون المبعد مقرّبا ، ولا يطاع الله من حيث يعصى وإن كان هذا الكلام ـ أي كون الفعل الضرري مبعدا وحراما بجميع مراتبه حتى الضرر الخفيف ـ لا يخلو من نظر. اللهم إلاّ أن يقال : إنّ تلك المرتبة التي ليست محرّمة ومبعدة لا يرفع الحكم الشرعي الإلزامي ، فلا يرتفع بها‌

٢٦٠