القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

أيّ واحد من الآخذين لما له على البدل ، وإلاّ فليس له أن يرجع إلى الاثنين معا ويأخذ بدلين ، كي يكون الإشكال المذكور واردا.

وأمّا ضمانه لغير المالك من الأيدي المتقدّمة عليه فليس ضمان نفس المال حتّى يلزم ضمانه للمال الواحد مرّة أو مرّات ، أي مرة للمالك ، وأخرى لكل يد متقدّمة عليه ، بل كلّ من عدا المالك من تلك الأيدي المتقدّمة فالضمان له يكون ضمان الضمان ، أي الخسارة اليد السابقة عليه للمالك. فليس من قبيل ضمان الشخصين لمال واحد مرّتين ؛ لأنّه بالنسبة إلى المالك ونفس العين وان كان بحسب تعدّد الأيدي متعدّدا ، ولكن ليس في عرض واحد بل على البدل. وأمّا بالنسبة إلى الأيدي السابقة فليس الضمان ضمان العين ، وهذا الحكم جار ولو إلى ألف يد ، ولا يلزم محذور ؛ لطوليّة الضمانات.

ثمَّ إنّ ها هنا فروع كثيرة ، ومطالب جليلة ـ ذكرها الفقهاء والمحقّقون في كتاب الغصب وفي مسألة المقبوض بالعقد الفاسد ـ يطول ذكرها والنقض والإبرام فيها.

الجهة التاسعة

في كون اليد سببا لحصول الملكيّة

في عالم الثبوت لا أنّها سبب إثباتي فقط‌

وذلك كما في حيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش وأمثال ذلك ، ولا شكّ في أنّ اليد على المباحات الأصليّة والاستيلاء عليها بقصد التملّك تكون سببا لحصول الملكيّة ، وإنّما الكلام في كفاية صرف الاستيلاء ولو لم يكن بقصد التملّك ، بل كان لغرض آخر.

ربما يقال بكفاية هذا الاستيلاء الخارجي ولو لم يكن قاصدا للتملّك ، مستندا إلى‌

١٨١

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحقّ به » (١) المنجبر ضعف سنده بالاشتهار عند الكلّ واستناد الجميع إليه.

ولكن الاستيلاء على الشي‌ء بدون قصد التملّك وإن كان يصدق عليه السبق إلى الشي‌ء ، ولكن السبق إلى المباحات الأصليّة لا يوجب حسب مضمون الحديث إلاّ الأحقيّة من الآخرين ، والأحقّية غير الملكيّة ؛ لأنّها تجري فيما لا يقبل التملّك ، كالأوقاف العامّة مثل المساجد والمشاهد المشرفة والرّبط وخانات الوقف ، فالذي سبق إلى مكان من هذه الأماكن ، وأخذ لنفسه وعياله محلاّ منها فليس لأحد مزاحمته ، بل يكون هو أحقّ من جميع الناس بذلك المكان ، مع أنّ تلك الأماكن غير قابلة لأنّ تصير ملكا لأحد.

فهذا الحديث الشريف لا يدلّ إلاّ على حصول حقّ السبق بالنسبة إلى الأمكنة التي هي وقف عامّ كالموارد التي ذكرناها ، أو بالنسبة إلى المباحات الأصليّة إذا استولى عليها لا يقصد التملّك. وأمّا إذا استولى عليها بقصد تملّكها فيصير ملكا قطعا ، لبناء العقلاء والسيرة القطعيّة عند المتديّنين على حصول الملكيّة في المباحات الأصليّة إذا كان الاستيلاء بقصد التملّك ، وذلك كالاحتطاب والاعتشاب.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مطلق الأحقّية وإن كان غير ملازم للملكيّة ؛ لما ذكرنا من أنّها قد توجد فيما ليس بقابل لأن يصير ملكا لأحد كالأوقاف العامّة ، ولكن الأحقّية المطلقة مساوقة مع الملكيّة ولا تنفكّ عنها ؛ لأنّ الأحقيّة المطلقة عبارة كون صاحبها أحقّ من جميع من عداه بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، ومنع غيره عن جميع التقلّبات. ومثل هذا المعنى في نظر العرف والشرع عين الملكيّة ؛ وذلك من جهة أنّ الملكيّة اعتبار عقلائي بلحاظ هذه الآثار ، فإذا حكم الشرع أو العقلاء بترتّب هذه الآثار على شي‌ء ، وفي مورد معناه أنّه أو أنّهم اعتبروا ملكيّة ذلك الشي‌ء ، فإذا دلّ الحديث الشريف على‌

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٤٨ ، ح ٤ ؛ « سنن البيهقي » ج ٦ ، ص ١٤٢ ، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد.

١٨٢

أنّ من سبق إلى شي‌ء من المباحات الأصليّة ـ فيما إذا لم يسبق إليه أحد من المسلمين ـ فهو أحقّ به بالنسبة إلى جميع التصرّفات ، حتّى التصرّفات المتوقّفة على الملك ـ فيدلّ على حصول الملكيّة بالسبق والاستيلاء ، ولو كان خاليا عن قصد التملّك ، ولكن الشأن في استفادة هذا المعنى من الحديث.

ويمكن أن يقال : إنّ إطلاق الأحقيّة يقتضي أحقّية المطلقة ؛ لأنّ ما عداها من مراتب الأحقّية ، وبالنسبة إلى بعض التصرّفات دون بعض يحتاج إلى البيان ، ففيما ليس بقابل لأن يكون ملكا ـ كالأوقاف العامّة ـ نعلم بالأدلّة الخارجيّة عدم جواز بعض التصرّفات ، مثل بيعها وهبتها وسائر الانتقالات المتعلّقة بأعيانها ، بأيّ عنوان وأيّ عقد كانت.

وأمّا فيما يقبل التملّك فنأخذ بإطلاق الأحقّية ونقول : بأنّ الاستيلاء على المباحات الأصليّة ـ ولو لم يكن بقصد التملّك بل كان لغرض عقلائي آخر ـ يوجب الأحقّية المطلقة المساوقة للملكية.

ثمَّ إنّه ربما يستدلّ على حصول الملكيّة بصرف الاستيلاء واليد من غير قصد التملّك بقوله عليه‌السلام ، في موثّقة يونس بن يعقوب : « ومن استولى على شي‌ء منه فهو له » (١). بأن يقال : لا شكّ في أنّ قوله عليه‌السلام « فهو له » ظاهر في أنّه ملك له ، وقد رتّب هذا الحكم على عنوان « من استولى » من دون مدخليّة أيّ شي‌ء.

وقد بيّنّا أنّ هذا العنوان ـ أي عنوان الاستيلاء ـ عين عنوان اليد ، ولكن الاستدلال بهذه الفقرة متوقّف على أن تكون هذه الجملة كبرى كليّة ، لا أن يكون المراد منها أنّ استيلاء أيّ واحد من الرجل والمرأة على أيّ متاع من أمتعة البيت موجب لكونه له ، وإلاّ إن كان كذلك فهذا حكم خاصّ ، لخصوص الرجل والمرأة في‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٣٠٢ ، ح ١٠٧٩ ، باب ميراث الأزواج ، ح ٣٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٥٢٥ ، أبواب ميراث الأزواج ، باب ٨ ، ح ٣.

١٨٣

خصوص متاع البيت ولا يشمل سائر الموارد.

ولكن الإنصاف أنّ كون خصوصيّة متاع البيت ، وكذلك خصوصيّة الزوج والزوجة دخيلا في هذا الحكم بعيد وإن كان الظاهر من تقييد الشي‌ء بقوله عليه‌السلام « منه » هو ذلك. هذا أوّلا.

وثانيا : ظاهر هذه الجملة على فرض إلقاء الخصوصيّة وكونها كبرى كلّيّة ، هو أنّ الاستيلاء على شي‌ء أمارة الملكيّة في عالم الإثبات للمستولي بعد الفراغ أنّ له مالك في مقام الثبوت ، وكلامنا في أنّ صرف الاستيلاء بدون قصد التملّك هل يكون سببا لحصول الملكيّة في عالم الثبوت أم لا؟ فالمقامان كلّ واحد منهما أجنبي عن الآخر.

وأمّا الاستدلال على هذا المطلب بأدلّة إحياء الموات ، وأنّ الأرض الميتة تصير ملكا بالإحياء ، سواء قصد التملّك أم لا ، والإحياء عبارة عن وضع اليد عليها.

ففيه : أنّ الإحياء وإن كان سببا لحصول الملكيّة لقوله عليه‌السلام : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » (١) ولكنّه ليس عبارة عن الاستيلاء فقط ، وصرف وضع اليد على أرض ميتة ، بل يحتاج إلى عمل من طرف المحيي من اجراء نهر ، أو كريه حتّى يجري عليها الماء ، أو غرس أشجار ، أو زرع ، أو بناء بأن يجعله خانا أو دارا أو حمّاما أو مقهى أو غير ذلك ممّا ذكره الفقهاء في كتاب إحياء الأراضي الميتة. وعلى كلّ حال الإحياء غير صرف اليد.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٧٩ ، باب في إحياء أرض الموات ، ح ٤ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٥٢ ، ح ٦٧٣ ، باب أحكام الأرضين ، ح ٢٢ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٠٨ ، ح ٣٨٢ ، باب من أحيا أرضا ، ح ٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٢٧ ، أبواب إحياء الموات ، باب ١ ، ح ٥.

١٨٤

٧ ـ قاعدة

نفي السبيل للكافرين

على المسلمين‌

١٨٥
١٨٦

٧ ـ قاعدة نفي السبيل للكافرين على المسلمين (*)

ومن القواعد الفقهيّة ، التي عمل بها الأصحاب ، وطبقوها على موارد كثيرة في مختلف أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والأحكام ، القاعدة المعروفة المشهورة ، أي « نفي السبيل للكافرين على المسلمين ».

وبهذه القاعدة تمسّك شيخنا الأعظم قدس‌سره في عدم صحّة بيع العبد المسلم على الكافر (١).

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مستندها‌

وهو أمور

الأوّل : قوله تعالى ( لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٢).

والظاهر من معنى الآية الشريفة أن الله تبارك وتعالى لم يجعل ولن يجعل في عالم‌

__________________

(*) « الحقّ المبين » ص ٩٢ ؛ « عناوين الأصول » عنوان ٤٩ ؛ « خزائن الأحكام » العدد ٢٢ ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص ١٢٧ ؛ « القواعد » ص ٢٩٩ ، « قواعد فقهية » ص ٢٢٤ ؛ « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج ١ ، ص ٢٤٤ ؛ « قاعدة نفي سبيل در حقوق إسلامي » مهدي شاملو احمدى ، ماجستير مدرسة الشهيد مطهّرى العالية.

(١) « المكاسب » ص ١٥٨.

(٢) النساء (٤) : ١٤١.

١٨٧

التشريع حكما يكون موجبا لكونه سبيلا وسلطانا للكافرين على المؤمنين. وتشريع جواز بيع عبد المسلم من الكافر ونفوذه وصحّته ، موجب لسلطنة الكافر على المسلم ، منفيّ بهذه الآية ، وكذلك إجازته وإعارته له. ونذكر إن شاء الله تعالى تطبيق هذه القاعدة على مواردها مفصلا.

ولا شكّ في أنّ ظاهر الآية الشريفة لو كان في مقام التشريع هو الذي ذكرنا ، ويكون المراد من الجعل المنفي فيها هو الجعل التشريعي لا التكويني ، فتكون قاعدة حاكمة على الأدلّة المتكلّفة لبيان الأحكام الواقعيّة.

مثلا الأدلّة الأوّليّة مفادها ولاية كلّ أب أو جدّ من طرف الأب على أولاده الصغار ، أبناء كانوا أو بناتا ، ومفاد هذه الآية ـ بناء على المعنى المذكور ـ نفي الولاية إذا كان الأب أو الجدّ من طرف الأب كافرا ، والابن أو البنت كانا مسلمين ، وهكذا في سائر موارد تطبيق الآية ، فتكون هذه قاعدة حاكمة بالحكومة الواقعيّة على الأدلّة الأوّليّة ، مساقها في ذلك مساق حديث « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (١) وقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢).

هذا ، ولكن ربما يقال ـ بقرينة قوله تعالى قبله ( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ـ إنّ المراد من السبيل هي الحجّة في يوم القيامة ، أي لا حجّة للكافرين على المؤمنين يوم القيامة ، بل تكون الحجّة للمؤمنين عليهم في ذلك اليوم.

ويؤيّد هذا المعنى ما رواه الطبري في تفسيره ، عن ابن ركيع ، بإسناده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال رجل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت قول الله ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ عليه‌السلام : « ادنه ادنه » ثمَّ قال عليه‌السلام : فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ( وَلَنْ يَجْعَلَ

__________________

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٣٣٤ ، باب ميراث أهل الملل ، ح ٥٧١٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٧٦ ، أبواب موانع الإرث ، باب ١ ، ح ١٠.

(٢) الحجّ (٢٢) : ٧٨.

١٨٨

اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) يوم القيامة ».

وروي أيضا عن آخرين عن عليّ أمير المؤمنين مثله.

وروي أيضا بإسناده عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى ( لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) قال : ذاك يوم القيامة ، وأمّا السبيل في هذا الموضع فالحجّة ، وروي أيضا عن السدي إنّه الحجّة (١).

ولكن أنت خبير أنّ تفسير الإمام عليه‌السلام ببعض مصاديق ما هو المتفاهم العرفي من اللفظ لا ينافي عموم المراد ، ولا يقتضي الخروج عمّا هو ظاهر اللفظ ، بل يكون الظهور باقيا على حجيّته فيؤخذ بظاهر اللفظ الذي هو عبارة عن نفي غلبة الكافر على المؤمن ، سواء أكان بالحجّة يوم القيامة ، أو في الدنيا بالنسبة إلى عالم التشريع.

نعم تفسيره عليه‌السلام بالحجّة في يوم القيامة حيث أنّه في مقام أنّه ليس المراد من نفي السبيل نفي القهر والغلبة الخارجية التكوينيّة ، فتكون تلك الغلبة خارجة عن عموم نفي السبيل ، وخروج مثل هذه الغلبة عن العموم أمر واضح محسوس في الخارج ، فقد قال الله تبارك وتعالى في قضيّة انكسار المسلمين في غزوة أحد ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ ) (٢).

والحاصل : أنّ الإمام عليه‌السلام بصدد بيان أنّ هذا العموم ليس عقليّا كي لا يكون قابلا للتخصيص ، وأنّ الغلبة الخارجيّة خارجة عن تحت العموم.

ثمَّ إنّه عليه‌السلام بيّن بعض مصاديق المراد الذي هو قريب إلى فهمهم ، وهو الغلبة بالبرهان والحجّة في يوم القيامة.

هذا كلّه فيما إذا كان المراد من السبيل المنفي هي الغلبة ، وأمّا بناء على ما استظهرنا من أنّ المراد منه الحكم الشرعي والغلبة في عالم التشريع فلا إشكال حتّى يحتاج إلى‌

__________________

(١) « جامع البيان في تفسير القرآن » ج ٥ ، ص ٢١٤.

(٢) آل عمران (٣) : ١٤٠.

١٨٩

جواب.

ولا ينافي تفسيره عليه‌السلام بالحجّة في يوم القيامة ما استظهرناه ؛ لأنّه تفسير لا ظاهر الكلام ، وللقرآن سبعة أبطن.

مضافا إلى أنّ كلّ هذه الأمور ـ أي الغلبة في عالم تشريع الأحكام ، والغلبة بالحجّة والبرهان في يوم القيامة ، والغلبة التكوينيّة الخارجيّة كلّها ـ من مصاديق مفهوم الغلبة والسبيل حقيقة وبالحمل الشائع ، وإن كان الظاهر كما استظهرناه أنّ المراد بالجعل المنفي هو الجعل التشريعي لا التكويني.

الثاني : قوله عليه‌السلام : « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يورثون ».

والخبر مشهور معروف ، ذكره في الفقيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المجلّد الرابع في باب ميراث أهل الملل (١) ، فعمدة الكلام دلالته ، وإلاّ فمن حيث السند موثوق الصدور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاشتهاره بين الفقهاء وعملهم به.

والظاهر من هذا الحديث الشريف بقرينة ظاهر الحال أنّه في مقام التشريع ، وأنّ الإسلام يكون موجبا لعلوّ المسلم على غيره في مقام تشريع أحكامه وبالنسبة إلى تلك الأحكام.

وبعبارة أخرى : لا يمكن أن يكون الحكم الإسلامي وتشريعه سببا وموجبا لعلوّ الكافر على المسلم ، ففي هذا الحديث الشريف جملتان : إحداهما موجبة ، والأخرى سالبة ، ومفاد الجملة الأولى الموجبة هو أنّ الأحكام المجعولة في الإسلام فيما يرجع إلى الأمور التي بين المسلمين والكفّار روعي فيها علوّ جانب المسلمين على الكفّار ، ومفاد الجملة السالبة عدم علوّ الكافر على المسلمين من ناحية تلك الأحكام المجعولة.

وممّا ذكرنا ظهر جواب أنّ علوّ الإسلام لا دخل له بعلوّ المسلمين ؛ إذ معنى علوّ‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٣٣٤ ، باب ميراث أهل الملل ، ح ٥٧١٩.

١٩٠

الإسلام ازدياد شوكته وانتشاره في أنحاء الأرض ، إذ بناء على ما استظهرناه من الحديث الشريف ـ من أنّ معنى الجملة الأولى الموجبة أي : الإسلام يعلو هو أنّ أحكام الإسلام توجب علوّ المسلم على الكافر في الأمور الواقعة بينهما من المعاملات ، وغيرها كالولايات والمعاهدات والأنكحة ، ولا توجب علوّ الكافر على المسلم ، فليس في الإسلام حكم يكون موجبا لعلوّ الكافر على المسلم ـ لا يبقى مجال ووقع لهذا الكلام ، ويكون علوّ الإسلام عبارة أخرى عن علوّ المسلمين.

وحاصل الكلام : أنّه بعد الفراغ عن أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام التشريع لا الإخبار عن أمر خارجي ـ وهو أنّ الإسلام له علوّ وشرف لأنّه موجب للنجاة وسعادة الدنيا والآخرة ـ لا شكّ في أنّ الظاهر من هذا الكلام في هذا المقام أنّ الإسلام وهذا الدين والشرع يعلو بالمتديّنين بهذا الدين على غيرهم ، ولا يكون موجبا لعلوّ الكفّار على المتديّنين بهذا الدين.

الثالث : هو الإجماع المحصّل القطعي على أنّه ليس هناك حكم مجعول في الإسلام يكون موجبا لتسلّط الكافر على المسلم ، بل جميع الأحكام المجعولة فيه روعي فيها علوّ المسلمين على غيرهم ، كمسألة عدم جواز تزويج المؤمنة للكافر ، وعدم جواز بيع العبد المسلم على الكافر ، وعدم صحّة جعل الكافر واليا ووليّا على المسلم ، وأمثال ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّ الاتّفاق على هذا الأمر ـ أي عدم كون الأحكام الشرعية موجبة لعلوّ الكافر على المسلم ـ وإن كان في الجملة مسلّما ، ولكن كونه من الإجماع المصطلح ـ عند الأصولي الذي أثبتنا حجيّته ـ في غاية الإشكال بل معلوم العدم ؛ لأنّ الظاهر أنّ المتّفقين يعتمدون على هذه الأدلّة المذكورة.

وقد حقّقنا في الأصول أنّ مثل هذا الإجماع لا يوجب الحدس القطعي برأي الإمام عليه‌السلام ، وليس مثل هذا الاتّفاق مسبّبا عن رأيه ورضاه عليه‌السلام حتّى يستكشف من‌

١٩١

وجوده وجود سببه ، بل هو مسبّب من الاستظهار من هذه الأدلّة ، فلا بدّ وأن يراجع الفقيه إلى نفس هذه الأدلّة وأنّها هل تدلّ على هذه القاعدة أم لا؟

الرابع : مناسبة الحكم والموضوع ، بمعنى أنّ شرف الإسلام وعزّته مقتض بل علّة تامّة لأنّ لا يجعل في أحكامه وشرائعه ما يوجب ذلّ المسلم وهوانه ، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز ( وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (١) فكيف يمكن أن يجعل الله حكما ويشرعه يكون سببا لعلوّ الكفّار على المسلمين ، ويلزم المسلم على الامتثال بذلك الحكم؟ فيكون الكفّار هم الأعزّة ، ويكون المسلمون هم الأذلّة الصاغرون ، مع أنّه تبارك وتعالى حصر العزّة لنفسه ، ولرسوله ، وللمؤمنين في الآية الشريفة التي تقدّم ذكرها.

والإنصاف أنّ الفقيه يقطع بعد التأمّل فيما ذكرناه بعدم إمكان جعل مثل ذلك الحكم الذي يكون سببا لهوان المسلم وذلّة بالنسبة إلى الكافر الذي لا احترام له ، وهو كالأنعام بل أضل سبيلا. وليس هذا الكلام من باب استخراج الحكم الشرعي بالظنّ والتخمين كي يكون مشمولا للأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ والقول بغير علم والافتراء على الله ، بل هو من قبيل تنقيح المناط القطعي بل يكون استظهارا من الأدلّة اللفظيّة القطعيّة كما تقدّم شرحه.

وعندي أنّ هذا الوجه أحسن الوجوه للاستدلال على هذه القاعدة ؛ لأنّه ممّا يركن النفس إليه ويطمئنّ الفقيه به. نعم ربما يكون هناك مصلحة أهمّ للإسلام أو المسلمين يكون سببا لجعل حكم يكون موجبا لعلوّ الكافر على المسلم في بعض الأحيان ، كما أنّه ربما يجعل حكما يكون موجبا لا فناء جماعة من المسلمين ، كما في مورد تترس الكفّار بالمسلمين ، والمسألة مذكورة في كتاب الجهاد مشروحا مفصّلا ، وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض موارد الاستثناء عن هذه القاعدة لمصلحة وملاك أهمّ.

__________________

(١) المنافقون (٦٣) : ٨.

١٩٢

الجهة الثانية

في بيان مضمون هذه القاعدة ومفادها ، وما هو المراد منها‌

أقول : المراد من هذه القاعدة ـ كما تقدّم شرحه في الجهة الأولى في مقام الاستدلال عليها ـ هو أنّه لم يجعل الله تبارك وتعالى في التشريع الإسلامي حكما يكون من ناحية ذلك الحكم سبيلا وعلوّا للكافر على المسلم ، ففيما حكينا ونقلنا عن الفقيه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يورثون » دلالة صريحة على عدم الاعتناء بشأنهم ، وتنزيلهم منزلة الأموات في عدم استحقاقهم الإرث من المورث المسلم ، فعلى فرض ثبوت هذه القاعدة بتلك الأدلّة المذكورة تكون حاكمة على العمومات الأوّليّة وإطلاقاتها.

فقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (١) أو سائر آيات الإرث مثلا عام يشمل الوارث الكافر والمسلم ، وهذه القاعدة حاكمة على تلك العمومات ؛ لما ذكرنا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعلهم بمنزلة الموتى ، فتكون نتيجة هذه الحكومة تخصيص الإرث بالوارث المسلم وحرمان الكافر ، وعلى هذا فقس في موارد سائر العمومات والإطلاقات.

الجهة الثالثة

في ذكر جملة من موارد تطبيق هذه القاعدة‌

فمنها : عدم جواز تملّكه ـ أي الكافر ـ للمسلم بأيّ نحو من أنحاء التملّك الاختياري ، سواء أكان بالشراء ، أو كان بالصلح ، أو بالهبة ، أو بأيّ ناقل شرعي ؛

__________________

(١) النساء (٤) : ١١.

١٩٣

وذلك من جهة أنّه على تقدير ثبوت هذه القاعدة فما ذكر أى عدم جواز انتقال العبد المسلم إلى الكافر ، يكون من أوضح مصاديق هذه القاعدة ؛ لأنّه أيّ سبيل وعلوّ يكون أعظم من كون المسلم عبدا مملوكا للكافر ( لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ )؟

ولذلك لو تملّكه بالملك القهري ـ كالإرث فيما إذا كان المورث أيضا كافرا ، أو أسلم في ملك الكافر ـ يجبر على البيع ولا يقرّ يده عليه ، بل يباع عليه ، ولا يعتنى بمولاة ، كما هو صريح ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام في عبد كافر أسلم وهو في ملك مولاه الكافر :

في المرسل عن حمّاد بن عيسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أتي بعبد ذمّي قد أسلم ، فقال عليه‌السلام : اذهبوا فبيعوه من المسلمين وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ولا تقرّوه عنده » (١).

وأمّا ما ذكره شيخنا الأعظم قدس‌سره في هذا المقام ـ من معارضة هذه القاعدة بعموم أدلّة صحّة البيع ، ووجوب الوفاء بالعقود ، وحلّ أكل المال بالتجارة عن تراض ، وعموم « الناس مسلطون على أموالهم ». (٢) فيدفع بما ذكرنا في الجهة الثانية من حكومة هذه القاعدة على العمومات الأوّليّة وإطلاقاتها ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعلهم بمنزلة الموتى في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والكفّار بمنزلة الموتى » ، فالكفّار خارجون عن تحت تلك العمومات والإطلاقات خروجا تعبّديّا ، وهذا معنى حكومة القاعدة عليها.

وسائر المناقشات التي أوردها في هذا المقام واضح الدفع ، ولذلك تركنا ذكرها والإيراد عليها.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٣٢ ، باب النوادر ( من كتاب القضاء والأحكام ) ، ح ١٩ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٨٧ ، ح ٧٩٥ ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٢٨٢ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب ٢٨ ، ح ١. وفي الكافي والتهذيب : « أتي بعبد لذمّي قد أسلم ».

(٢) « المكاسب » ص ١٥٩.

١٩٤

فما قربه من تفسير السبيل بما لا يشمل الملكيّة ـ بأن يراد منه السلطنة ، فيحكم بتحقّق الملك وعدم تحقّق السلطنة ، بل يكون محجورا عليه مجبورا على بيعه ـ لا يخلو من خلل ؛ لما تقدّم منّا من أنّ نفس المملوكيّة للكافر سبيل له عليه ، وإن كان محجورا عن التصرف فيه ومجبورا على بيعه.

نعم ظاهر قوله عليه‌السلام « اذهبوا فبيعوه من المسلمين ولا تقروه عنده » أنّ ما هو المنفي استقرار الملك لا أصل الملك ، وإلاّ لا معنى لدفع الثمن إليه ، أي إلى مولاه الكافر بعد بيعه ، بل لا معنى لبيعه ، لأنّه لا بيع إلاّ في ملك.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكافر مالك لماليّته لا لنفس العبد ، نظير ما قيل في إرث الزوجة بالنسبة إلى الأبنية الموجودة في دار زوجها الميّت.

وبناء على هذا المعنى لا يبقى إشكال في شراء الكافر العبد المسلم الذي ينعتق عليه ، أو الأمة المسلمة التي تنعتق عليه ؛ لأنّ الملكيّة المتعقّبة بالانعتاق فورا ليست ملكيّة مستقرّة حتّى تكون منفيّة ، ولا يحتاج إلى التكلّف والقول بأنّ المراد من السبيل المنفي هي السلطنة لا الملكيّة.

لأنّ مرادهم إن كان أنّ الملكيّة التي حجر على المالك من التصرّف في المملوك ليست سبيلا للكافر على العبد المسلم ، وتكون خارجة عن تحت هذا المفهوم ، وليست مصداقا له.

فهذا هو الذي بيّنّا فساده وقلنا إنّ نفس الملكيّة أعظم سبيل مضافا إلى أنّه على فرض تسليم أنّها ليست من مصاديق السبيل ـ لأنّ المراد من السبيل هي السلطنة ـ فلا يمكن إنكار كونها علوّا منفيّا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإن كان مرادهم أنّ مثل هذه الملكيّة خارجة عن تحت السبيل المنفي في الآية حكما ، لا موضوعا كي يكون تخصيصا لا أن يكون تخصّصا ، كما أنّه كذلك في الفرض الأوّل.

١٩٥

ففيه : أنّ هذا التخصيص المنافي لأصالة العموم يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

والإنصاف أنّ القدر المتيقّن من الخروج عن عموم الآية تخصيصا أو تخصّصا وكذلك عن عموم الحديث الشريف ، هو خصوص الملكيّة غير المستقرّة ، لا مطلق الملكيّة التي حجر على مالكها.

ثمَّ إنّه لا يتوهّم أنّ أمره عليه‌السلام ببيع العبد الذمّي الذي أسلم عند مولاه الكافر من المسلمين يدلّ على عدم سقوط الملكيّة المستقرّة ، وإلاّ كان ينعتق على مولاه الكافر ، فلم يكن مجال لبيعه وإعطاء ثمنه له ، لأنّك قد عرفت أنّ هذا المقدار من الملكيّة الموقّتة ـ أي بقاء إلى زمان تحقّق البيع ـ قد خرج عن تحت العموم تخصيصا ، والمخصّص هو هذه الرواية ، أي رواية حمّاد بن عيسى ، فلا يبقى إشكال في البين.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت ما ذكرنا يظهر لك أنّه لا فرق في شمول الآية والحديث الشريف بين أنواع الانتقالات بالأسباب الاختياريّة إلى الكافر ، فكما لا يجوز بيعه منه كذلك لا يجوز سائر الانتقالات الاختياريّة بأيّ سبب كان ، من النواقل الشرعيّة الاختياريّة من صلح أو هبة أو وصيّة أو غيرها.

وأيضا ظهر لك ممّا ذكرنا أنّه لا مجال لاستصحاب الصحّة فيما إذا كان كفر المشترى مسبوقا بالإسلام ، أو إسلام العبد كان مسبوقا بالكفر ؛ لأنّه مضافا إلى أنّ هذا الاستصحاب تعليقي ـ وقد بيّنّا عدم صحة استصحاب التعليقي في كتابنا « منتهى الأصول » (١) ـ لا مورد للاستصحاب ولو لم يكن من الاستصحاب التعليقي ؛ لعدم مجال لجريان الاستصحاب الذي هو أصل عملي وإن كان تنزيليا ، لوجود الأمارة على خلافه ، وهي الآية والرواية.

وأمّا على تقدير عدم دلالة الآية والرواية على فساد البيع ، أو الشكّ فيها ، فأيضا لا مجال لاستصحاب الصحّة ؛ لحكومة أدلّة عمومات صحّة العقود وإطلاقاتها على هذا‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٤٦٣.

١٩٦

الاستصحاب.

بقي الكلام في أنّه هل يجوز إجارة العبد المسلم ، أو أمة المسلمة على الكافر ، أو لا تصحّ؟

فيه أقوال :

قول بعدم الجواز مطلقا.

وقول بالجواز مطلقا.

وقول بالتفصيل بين أن يكون وقوع الإجارة على الذمّة فلا تصح ـ وإلى هذا ذهب جامع المقاصد (١) والمسالك (٢) ـ وبين أن يكون وقوعها على العمل الخارجي فلا تصح.

وهناك تفصيل بين الحرّ والعبد ، فتصح في الأوّل دون الثاني.

وحكي هذا التفصيل عن الدروس (٣).

ومنشأ هذه التفاصيل والأقوال هو صدق العلوّ والسبيل في بعض الصور دون بعض.

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الوجوه والأقوال في هذه المسألة كلّها ليس كما ينبغي.

أمّا القول الأوّل : فلأنّه ربما تكون إجارة العبد المسلم للخدمة عند الكافر موجبا لسلطنة الكافر عليه ، ولا شكّ في أنّ سلطنة الكافر عليه سبيل وعلوّ عليه بالمعنى الذي ذكرنا للسبيل والعلو ، فلا يمكن القول بصحّتها مطلقا.

كما أنّ القول الثاني ـ أي : بطلانها مطلقا ـ أيضا لا وجه له ، كما أنّ الكافر لو‌

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ٤ ، ص ٦٣.

(٢) « مسالك الأفهام » ج ٣ ، ص ١٦٧.

(٣) « الدروس » ج ٣ ، ص ١٩٩ ، كتاب البيع ، في شرائط المتعاقدين ، درس (٢٣٩).

١٩٧

استأجره للتعلّم عنده فليس هناك علوّ أو سبيل للمستأجر الكافر على المسلم قطعا. وصرف استحقاقه التعليم عليه بواسطة عقد الإجارة ليس علوّا عليه قطعا ، وإلاّ ينسدّ باب جملة من المعاملات بين الكافر وبين المسلم إن لم نقل بانسداد أبواب جميعها ، بل ربما يكون بعض الإجارات الواقعة بينهما عزّا وعلوّا للمسلم عليه كما هو واضح.

كما أنّ القول الثالث ، أي التفصيل بين الوقوع على الذمّة فتصحّ ، والوقوع على العمل الخارجي فلا تصحّ ؛ من جهة أنّ اشتغال ذمّة المسلم للكافر علوّ وسبيل له على المسلم.

ففيه : أنّه ليس كلّ اشتغال ذمّة علو وسبيل من الذي اشتغلت الذمّة له على من اشتغلت ذمّته ، بل ربما يكون بالعكس ، كما ذكرنا في مسألة الإجارة على التعليم. هذا ، مضافا إلى القطع بوقوع معاملات بين المسلمين وبين الكفّار مع اشتغال ذمّة المسلمين لهم من زمان صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زماننا هذا ، بل ربما كان يقع مثل هذه المعاملة بين نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينهم.

وأمّا القول الرابع : أي التفصيل بين الحرّ والعبد وإن كان له وجه ، من جهة أنّ العبد مملوك ويقع تحت اليد ، فبعد أن استأجره الكافر من مولاه وتسلمه للعمل عنده خصوصا إذا كان للخدمة بل يكون خادما عنده ـ فلا شكّ في صدق السبيل والعلوّ لأنّ معنى اليد هي السيطرة والسلطنة الخارجيّة على الشي‌ء ولو كان غاصبا ، فضلا عمّا إذا كانت يده عليه بحقّ.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا المعنى لا يختصّ بإجارة العبد ، بل ربما تحصل السيطرة والسلطنة العرفيّة وإن لم يكن عبدا ، كما لو آجر الولي الطفل غير البائع على الكافر ، خصوصا إذا كان للخدمة عنده. بل ربما يحصل هذا المعنى ـ أي السيطرة الخارجية ـ ولو كان حرّا بالغا ، كما لو كانت الحرّة امرأة استأجرها الكافر لأن تكون خادمة في‌

١٩٨

بيته.

هذا ، مضافا إلى أنّه ليس المناط في عدم الجواز سيطرة الكافر على المسلم ، بل المناط كلّ المناط في عدم صحّة الإجارة هو حصول العلوّ والسبيل للكافر على المسلم.

ولا شكّ في أنّ في بعض الموارد يحصل العلوّ والسبيل للكافر على المسلم ، سواء أكان الأجير حرّا أو عبدا ، كما لو كان المسلم خادما أو خادمة عنده.

وكذلك أيضا لا شكّ في عدم حصول هذين الأمرين مطلقا ، أي سواء أكان الأجير حرّا أو عبدا ، كما أنّه لو استأجر الكافر مسلما لتعليم نفسه أو أولاده ، أو طبيبا مسلما لمعالجة نفسه أو مرضاة ، بل ربما يكون في بعض الموارد عزّا وعلوّا للمسلم الأجير عليه.

فلا بدّ وأن ينظر إلى موارد الإجارات وأنّه هل يحصل من كون المسلم أجيرا للكافر ذلاّ وهوانا له بحيث يكون الكافر علوّا عليه من ناحية هذه الإجارة أم لا؟

ففي الأوّل لا تصحّ الإجارة دون الثاني. ولا فرق في ذلك بين الحرّ والعبد ، ولا بين أن يكون وقوع الإجارة على ما في الذمّة أو على العمل الخارجي.

وأمّا الإعارة ، فحيث أنّه لا بدّ وأن يكون المعار مملوكا ، فالتفصيل الذي كان في الإجارة ـ بين الحرّ والعبد ـ لا مجال هاهنا. وكذلك التفصيل الذي كان في الإجارة بين أن يكون واقعا على الذمّة أو واقعا على العمل الخارجي ، لعدم اشتغال ذمّة المعير بشي‌ء.

وعلى كلّ فالحقّ في إعارة العبد المسلم للكافر ـ أيضا مثل الإجارة ـ هو أنّه لو كانت مستلزمة لذلّ المسلم وهوانا بالنسبة إلى الكافر ، أو كانت موجبة لعلوّ الكافر فلا تصحّ ، كما أنّه لو أعاره عبده المسلم أو أمته المسلمة ليكون خادما أو خادمة في بيته ، أو شغل آخر من الأشغال الذي يكون موجبا لعلوّ الكافر عليه.

١٩٩

وأمّا لو لم يكن كذلك ، بل ربما كانت موجبة لعزّ المسلم وعلوّه على الكافر ، كما أنّه لو أعار عبده المسلم لتعليمه ، أو معالجته ، أو معالجة مرضاة فلا إشكال فيه ، وتكون من هذه الجهة حال الإعارة حال الإجارة.

نعم الإشكال الذي ذكرناه في الإجارة ـ من أنّ الأجير إذا كان عبدا فيقع تحت يد الكافر وسيطرته فيكون علوّا للكافر على المسلم ـ يأتي هاهنا أيضا ، ولكن الجواب هو الذي ذكرنا في الإجارة.

نعم ذكروا أنّ العارية تسليط المستعير على العين المملوكة للانتفاع بها ، فتكون نتيجتها علوّ المستعير على تلك العين ، وسبيل للكافر عليها إذا كانت عين المستعارة عبدا مسلما أو أمة مسلمة.

وأمّا الارتهان عنده ، فقد منع عنه في القواعد (١) والإيضاح (٢) مطلقا ، وجوّز بعض مطلقا ، وفصّل الشيخ الأعظم قدس‌سره بين أن يكون العبد المسلم المرهون عند مسلم حسب رضاء الطرفين ، وبين أن يكون تحت يد الكافر فجوّز في الأوّل ، ومنع في الثاني (٣).

ولكن الظاهر هو الجواز مطلقا ؛ لما ذكرنا في إجارة وإعارته بأنّ صرف كونه تحت يد الكافر ليس علوّا وسبيلا للكافر عليه ، بل صرف وثيقة لاستيفاء دينه منه عند عدم أداء الراهن ، والمباشر للبيع ليس هو الكافر كي يكون هذا سبيلا عليه ، بل هو المالك أو الحاكم عند امتناعه.

وأمّا الاستيداع عنده ، فالظاهر عدم الإشكال فيه ؛ لأنّ صرف تسليطه على حفظه ليس علوّا وسبيلا عليه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تسلّطه عليه بكونه في مكان خاصّ وعدم خروجه عنه‌

__________________

(١) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٥٨.

(٢) « إيضاح الفوائد » ج ٢ ، ص ١١.

(٣) « المكاسب » ص ١٥٩.

٢٠٠