تقريب المعارف

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

تقريب المعارف

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: الشيخ فارس تبريزيان « الحسّون »
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المحقّق
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) (١).

قالوا : أبو بكر وعمر وكثير ممن تابعهم ورضي بهم من جملة المبايعين باتفاق ، فيجب توجّه الرضوان إليهم ، وذلك يمنع من كفرهم ، ويقتضي ثبوت إيمانهم وإمامتهم.

والجواب : من وجوه :

منها : أنه لا حجّة لهم فيها على أصولهم ، لجواز الكفر بعد الايمان والسخط بعد الرضوان عندهم ، فعلى هذا لو سلّم توجّه الرضوان إلى المبايعين لم يمنع من السخط بما أحدثوه بعد البيعة من جحد النص وغيره ممّا بيناه ، كما لم يمنع ذلك من فسق طلحة والزبير وغيرهما من جملة المبايعين على ما أوضحناه.

ومنها : أنّ الرضوان على البيعة مشترط بالوفاء بما هي بيعة عليه ، بدليل قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ [ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (٢) ، فليدلّوا على وفائهم بالبيعة ، ولن يجدوا سبيلا إليه ، بل المعلوم نكثهم بهزيمتهم عقيب هذه البيعة بخيبر ، فخرجا من الظاهر.

ومنها : أنّ الوعد بالرضوان على البيعة مشترط بإيقاعها لوجهها قربة إلى الله تعالى ، كسائر الطاعات ، فليدلّوا على وقوع بيعتهما ومن اتبعهما على هذا الوجه ، وهيهات ، بل الواقع من عمر في ذلك اليوم برهان واضح على ما شرحناه على تعرّي أفعالهما من الوجه الّذي يستحق به الرضوان ، فيختص بمن ثبت إيمانه من المبايعين ، فليدلّوا على ثبوت إيمانهم ليسلم لهم الظاهر ، بل ليسعون بثبوته عنه ، ولن يستطيعوه ، وأنّى لهم به ، وقد قامت البراهين السالفة بضلالهم.

ومنها : أنّ الرضوان في الآية متوجّه إلى المؤمنين عند الله تعالى ، المبايعين لوجه الله ، المعلوم ما في قلوبهم من الايمان والوفاء بالبيعة في المستقبل ، المنزول عليهم لذلك

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ١٨.

(٢) الفتح ٤٨ : ١٠.

٣٨١

السكينة المقارنة للطمأنينة والنصر ، المثاب عليهم بالفتح القريب الكائن بهم وعلى أيديهم ، ولم يحصل القوم بحمد الله من هذه الصفات شيء غير ظاهر البيعة ، لتعرّيهم من الإيمان وإيقاع البيعة لوجهها بحجّة النص الكاشف عن كفرهم ، وانتفاء السكينة عنهم ، ونكث البيعة للهزيمة الواقعة منهم ، وتعرّيهم بالفتح من الفرار.

وإذا ثبت هذا ، فنحن وإن شككنا في خروج كثير من المبايعين عن هذا الرضوان أو دخولهم فيه ، فلسنا نشكّ في خروج القوم الّذين ادعي توجّه الرضوان إليهم عنه بخروجهم عن صفات المرضيّ عنهم في الآية ، ويخصّص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام به ومن كان في حيزه من المؤمنين ، لثبوت الصفات له بإجماع.

ومنه : قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (١).

قالوا : فأخبر سبحانه بالمغفرة للّذين معه وهم أصحابه ، وذلك ينافي قولكم بضلالهم والمبايع لهم.

والجواب من وجوه :

منها : أنّه تعالى لم يرد بقوله : ( وَالَّذِينَ مَعَهُ ) في الزمان ولا المكان ولا على ظاهر الاسلام ، لأنه لا مدحة في ذلك ، والآية مختصّة بمدح المذكور فيها والقطع على ثوابه ، وذلك يدل على إرادته سبحانه بـ ( الَّذِينَ مَعَهُ ) المؤمنين حقا ، فليدلّ الخصوم على ثبوت إيمان من جعلوا الآية مدخوله عند الله ، ليسلم لهم الظاهر ، بل ثبوته مغن في المقصود عنه باجماع ، ولن يجدوه ، بل الثابت ضلالهم بالبرهان المانع من ثبوت البرهان واستحقاق الرضوان.

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ٢٩.

٣٨٢

ومنها : أنّ المذكورين فيها موصوفون بصفات معلوم خلوّ القوم منها ، وتكاملها لأمير المؤمنين وحمزة عليهم‌السلام ، وخاصّة شيعتهم ، كعمّار وأبي ذر ومقداد وسلمان وأبي وابن مسعود وبريدة وجابر وخزيمة وسعد وولده قيس وسعد بن معاذ وفي أمثالهم ، فيجب إخراجهم من حكمها وتخصيصه بهؤلاء.

فمن ذلك : وصفهم بالشدّة على الكفار ، وكلّ متأمّل يعلم خلوّهم من ذلك.

ومنه : الرحمة بأهل الإيمان ، وقد بينا كونهم بخلاف ذلك.

ومنه : ابتغاؤهم بالطاعات فضل الله ورضوانه ، ولا يكون كذلك من تخلّف عن أسامة ، ولم يحضر جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رغبة في الدنيا ، وجعل أفعال الآخرة يوم السقيفة ذريعة إلى الخلافة ، وصادر العمّال ، واقترض من بيت المال ، وخصّ بمال الله بني أميّة أعداء الدين في الجاهليّة والاسلام ، إلى غير ذلك مما سطرناه ، وحال متّبعهم في ذلك كحالهم.

ومنه : وصفهم بالنصر لله ولرسوله عليه‌السلام ، وذلك مختصّ بالجهاد وبذل الأنفس والأموال فيه ، وليسوا كذلك بغير إشكال.

وهذه الصفات متكاملة فيمن ذكرناه ، فيجب توجه المدحة إليهم دون هؤلاء الضلال.

ومن ذلك قوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (١).

قالوا : والمتقدّمون على أمير المؤمنين عليه‌السلام وأكثر من عقد لهم وبايعهم من جملة هؤلاء المذكورين ، وقد أخبر سبحانه برضاه عنهم واستحقاقهم الثواب ، وذلك مناف لما يقولونه فيهم.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ الوعد في الآية متوجّه إلى من وقع سبقه واتباعه لوجهه المخصوص

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٠٠.

٣٨٣

قربة لله تعالى ، فليدلّوا على كون القوم كذلك ليتوجّه الرضوان إليهم ، ولن يجدوه ، بل الموجود ضلالهم وخروج أفعالهم من قبل الطاعات بما وضح برهانه سالفا.

وثانيها : أنّ الرضوان مشترط بالموافاة ، ولم يواف القوم بما سبقوا إليه ، لردّهم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيته ، وما أتوه إلى أهله بما بيناه.

وثالثها : أنّ وقوع السبق موقع القربة لا يمنع من عصيان في المستقبل ، إمّا فسق على مذاهب الكلّ أو كفر على مذاهب الخصوم ، وإذا صحّ ذلك جاز تقدير وقوع سبقهم موقعه ، وإن عصوا عصوا من بعده ، كوقوع ذلك من طلحة والزبير وعمرو بن العاص وأمثالهم من السابقين والتابعين ، وقطعنا عليهم به ، لما أتوه إلى أهل بيت نبيهم عليهم‌السلام من بعده ، فليستنفذ الخصم لمنعنا من ذلك جهده إن استطاعه ، وإلاّ فالحجّة لازمة له والآية خطاب لغيرهم ، وهم الذين لم يتدينوا بجحد النص من السابقين والتابعين ، وهم كثير معيّن وغير معيّن.

ومن ذلك : قوله تعالى : ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) (١).

قالوا : وهذه صفة المذمومين عندكم الممدوحين في الآية.

والجواب : أنّ الخطاب في الآية متوجّه إلى من أنفق وقاتل قبل الفتح من المؤمنين عند الله تعالى متقرّبا بهما للوجه الّذي شرّعا ، فليدلّوا على تكامل هذه الصفات للقوم ليسلم لهم المقصود ، فان يتعرضوا لذلك يختص الكلام به وسقط تعلقهم بالآية ، وإن لا يفعلوا فلا يقع لهم فيها.

وكذلك القول في جميع ما مضى من الآيات ويأتي ، فليتأمّل لتقع المضايقة فيه.

على أنّا نتبرّع ببيان تعرّي القوم من صفات المذكورين في الآية.

أمّا الإيمان ـ الّذي لا تصحّ قربة من دونه ـ فقد دللنا على تعرّيهم منه بما لا يختل على متأمّل ، فمنع من توجّه الخطاب إليهم.

__________________

(١) الحديد ٥٧ : ١٠.

٣٨٤

وأمّا الإنفاق ، فيفتقر على أمور :

منها : ثبوت المال للمنفق ، وتعيين الزمان الواقعي فيه ، والجهة المتصرّف فيها ، وكونه قربة إلى الله تعالى ، وكلّ مقصود.

أما المال ، فالمعلوم من حال أبي قحافة كونه صياد القماري بمكة ، فلمّا أضرّ صار مناديا لمائدة عبد الله بن جذعان ، وأبو بكر في الجاهليّة خيّاطا ، وفي الاسلام يبيع الخلفان ، وعمر في الجاهلية جزّارا ، وفي الاسلام كلاّ على غيره من المسلمين ، وقد عدّ (١) الناس الأغنياء من قريش فلم يعدّهما أحد ، وعدّوا عفّان وابنه عثمان.

وأمّا الزمان ، فلا يخلو أن يكون قبل الهجرة أو بعدها ، وفي أيّ الحالين كان اقتضى حصول العلم بوجه الذي وقع فيه الإنفاق من حالتي مكة والمدينة.

وكذلك القول في الجهة ممّا يجب العلم بعينها ، أفي مصالح حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمتبعين له ، أو مداراة الكفّار ، أو تجييش الجيوش؟

وكلّ ذلك لا سبيل إلى إثبات شيء منه بيقين ، وإنّما هو مختصّ بالارجاف ، لا يجد مدّعيه سبيلا إلى إثبات شيء غير ابتياع بلال وعتقه ، وهو من أوضح برهان على عدم الإنفاق ، لاختصاص الدعوى به ، مع بعده من صفة الإنفاق.

وأمّا الجهاد ، فقد بينا خلوّ القوم منه ، وثبوت ضدّه من الانهزام في موطن بعد موطن.

وإذا خلوا من دعوى القتال الثابت في الآية بغير شبهة ، فلو ثبت الانفاق لم ينفع ، لأنّ الوعد في الآية يتوجّه إلى من جمع بينهما ، دون من انفرد بأحدهما ، وبهذا يخرج عثمان من مقتضى الظاهر ، لخروجه عن جملة المجاهدين وإن كان له إنفاق ، وانتفاء الصفتين عنهم أو أحدهما كاف في خروجهم عن مقتضى الآية.

ولم سلّم كونهم ذوي إنفاق وقتال ـ مع تعذر ذلك ـ لم يقتض توجه الخطاب إليهم ، لأنه لا حكم ولا نفاق ولا قتال من دون الايمان الّذين هم براء منه.

__________________

(١) في النسخة : « عادّ ».

٣٨٥

ولافتقار صحتهما لو ثبت إيمان فاعلهما إلى إيقاعهما للوجوه الشرعية على جهة الاخلاص ، فليثبتوا ذلك.

ومما يوضح نفي القتال والانفاق عنهم ، أو وقوعهما ـ لو كانا ثابتين ـ لغير وجههما ، أنّهما لو كانا كذلك لوجب النصّ عليهما به وارتفاع اللبس فيه ، كجهاد علي وحمزة وجعفر عليهم‌السلام وأمثالهم المعلوم ضرورة ثبوت النصّ بوقوعه موقع المستحقّ ، وتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجله ، وشهادته لهم به ، ونزول القرآن بإيثار علي عليه‌السلام على نفسه وأهله المسكين واليتيم والأسير ، وتصدّقه في حال الركوع وليلا ونهارا وسرّا وعلانية ، وتقديمه على المناجاة دون سائر الأمة ، وحصول الاجماع بذلك والنص على وقوعه موقع القربة والقطع بثوابه.

ولمّا فقدنا ذلك ، واختصّ الدعوى له بالارجاف ـ مع وجوب عموم العلم به لو كان ثابتا ، لعلوّ كلمة من يضاف إليه ، وكثرة الاتباع ، وقوّة الدواعي للاحتجاج به ، وانتفاء جميع الصوارف عن الناقل وعظيم النفع له بنقله ـ علمنا انتفاءه ، أو وقوعه على وجه لا يستحقّ به ثوابا ، وإلحاقه بانفاق من نصّ الله تعالى على حال إنفاقه بقوله تعالى : ( وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ ) (١) ، وقوله سبحانه ( قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ ) (٢) ، فنصّ تعالى على قبح إنفاق هؤلاء المذكورين ، مع مظاهرتهم بالاسلام ، لوقوعه لغير الوجه المعتبر في القبول واستحقاق الثواب ، وبهذا يسقط التعلّق بانفاق عثمان ومن يدّعى له بانفاق ممن لم يعلم وقوعهما على الوجه المخصوص.

وإذا لم يكن توجّه الخطاب في الآية إلى من ذكروه قطعا ، بل المقطوع به خروجهم منها بما أوضحناه ، وجب توجّهها إلى من ثبت إيمانه وجهاده وإنفاقه بما أوضحناه ،

__________________

(١) التوبة ٩ : ٥٤.

(٢) التوبة ٩ : ٥٣.

٣٨٦

ووجب توجّهها إلى من ثبت إيمانه وجهاده وإنفاقه على جهة الإخلاص قبل الفتح وبعده ، كعلي وحمزة وجعفر عليهم (١) السلام ، وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وسعد وعمّار وسلمان وأبي ذر ومقداد ، وأمثالهم ممن أجمع المسلمون على ثبوت جهادهم قبل الفتح وبعده ، وإنفاق قوم منهم ووقوع ذلك موضع الرضوان ، وإلى من كان كذلك عند الله تعالى ممن لم نعرفه على جهة التعيّن ، ولا علمنا خروجه عن الايمان ، ووقوع الأفعال الشرعية منه موقعها ، كالقوم المذكورين.

ومن ذلك في أبي بكر خاصّة : قوله تعالى : ( إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ) (٢).

قالوا : فاختصّ عليه‌السلام بمصاحبته (٣) في مثل تلك الحال الّتي لا يطّلع عليها إلاّ المخلصين من الأولياء ، ونطق به القرآن بأنّه ثانيه وصاحبه في الطريق ومشارك له في الكون معه ، وأنه عليه‌السلام شجّعه ورقّ له ، وأنّ السكينة نزلت عليه لخوفه وحاجته إليها ، وغنى النبي عليه‌السلام عنها.

والجواب : أنه لا فضيلة في القصة ، بل هي دالّة على النقص ، وأنّه لو سلّم مرادهم منها لم يضرّ فيما قصدناه ولم ينفعهم.

فأمّا بيان عدم الفضيلة منها ، فلسنا نعلم استصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له ، لأنه روي : أنه فقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتبعه ، وقيل : إنه لحقه بعدالة (٤) السفر ، فسأله الصحبة ، فلم يتمكن من كتمانه.

ولو كان بأمره لاحتمل أمورا :

منها : أنّه كان معه في بيت عائشة بحيث لا يخفى عليه شيء من أمره ، فلم يجد بدّا

__________________

(١) في النسخة : « عليهما ».

(٢) التوبة ٩ : ٤٠.

(٣) في النسخة : « بما صاحبته ».

(٤) كذا في النسخة ، ويحتمل أن يكون الصحيح : « يعدّ آلة السفر ».

٣٨٧

من استصحابه ، خوفا من إذاعته ، إمّا لضعف رأي أو دين.

ومنها : للأنس به.

ومنها : إسلامه ظاهره له وظنّه به الخير.

وليس في شيء من ذلك ما يعصم مما تقوله الشيعة فيه.

وأمّا كونه ثانيا ، فمخبر عن عدّ ، ولا فضيلة فيه ، والغرض به تنبيه المخاذلين في نصرته عليه‌السلام ، على أنّه تعالى متولّي ذلك منه في هذه الحال وغيرها ، كما تولّى ذلك في حال كونه فريدا قرين واحد.

وأمّا كونه معه في الغار ، فلا يدل على فضيلة ، لاشتمال المكان على الفاضل والمفضول ومن لا فضل له ، وإنّما يعلم فضله بغير الكون.

وتسميته بالصحبة لا يفيد إلاّ مجرد المصاحبة في السفر وظاهر الانقياد ، وكلّ منهما لا يدل على الفضل منفردا.

والتسكين والتشجيع يتوجّه إلى الولي والعدوّ ، ولا سيّما في مثل تلك الحال.

وإخباره عليه‌السلام إنّ الله معهم بمعنى النصرة المقصود بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو كان متوجّها إليهما لم يقتض فضلا ، لأن المقصود من نصرة النبي عليه‌السلام والمنع منه يقتضي منع الكائن معه في الغار وإن كان كافرا ، لأنّهم لو وصلوا إليه بسوء لوصلوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لحصولهما في مكان واحد.

ونزول السكينة عليه لو سلّم لم يدل على فضيلة ، لاقتضائها الطمأنينة وزوال الخوف المخوف منه الضرر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ ظهور الهلع ممن هو معه في تلك الحال ربّما تعدّى إلى معرفة الكفّار بمكانهم ، فلذلك (١) سكّنه.

وأمّا دلالة الآية على نقيصة أبي بكر فمن وجهين :

أحدهما : قوله تعالى ( لا تَحْزَنْ ) ، لا يخلو أن يكون ناهيا أو مشجّعا ، فان كان ناهيا فالنهي يدلّ على كراهيّة المنهيّ ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكره إلاّ قبيحا ، وإن

__________________

(١) في النسخة : « فكذلك ».

٣٨٨

يك تشجيعا فلم يحصل إلاّ عن هلع من الرجل أو خوف أو خبّة (١) ، وذلك شكّ في خبره عليه‌السلام ، لأنّهم لا يختلفون في أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أطلعه على هجرته ، وأنّه سبب علوّ الكلمة ، فلو وثق بهذا الوعد لم يخف من وصول الضرر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا إلى من هو معه ، وهذا أعظم من الأول.

الثاني : تخصّص السكينة بالنبيّ عليه‌السلام مع حاجة أبي بكر إليها لخوفه ، وأنّها لم تنزل قطّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه مؤمنون إلاّ عمّتهم ، كقوله تعالى :

( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ، فلو كان من جملة المؤمنين لنزلت (٣) عليه السكينة مع حاجته إليها في تلك الحال.

إن قيل : من أين قلتم إنّ السكينة مختصّة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

فيجب رجوع الهاء في قوله : ( عَلَيْهِ ) ، [ عليه ـ عليه ] السلام ـ وإن كان قد تقدّم ذكر أبي بكر ، من حيث كانت عادة المقدّم في الضمير المتصل أن يرجع آخره إلى من تعلّق به أوله ، ما لم يمنع مانع ، كقوله : ( تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (٥) ، إنّما انقطع الضمير في ( وَتُسَبِّحُوهُ ) عن الأول ، لأن التسبيح لا يليق بالرسول ويخصّه تعالى ، لو لا ذلك لم ينفصل ، ولأنّه لا يوجد في كلام العرب ضمير يتعلّق أوّله بمذكور وأوسطه بمذكور آخر وآخره بالمذكور الأول.

فلا يجوز أن تكون الهاء في ( عَلَيْهِ ) مختصّة بأبي بكر ، مع علمنا بأنّها في قوله : ( نَصَرَهُ ) متعلّقة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بغير شبهة ، وفي قوله : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ

__________________

(١) كذا.

(٢) التوبة ٩ : ٩٦.

(٣) في النسخة : « أنزلت ».

(٤) كذا في النسخة ، والظاهر وجود سقط واضح ، يمكن أن يكون : « ولم تختص بأبي بكر قلنا : بقرينة الضمائر الراجعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : ( إِلاَّ تَنْصُرُوهُ ) .. ( نَصَرَهُ ) .. ( أَخْرَجَهُ ) .. ( يَقُولُ لِصاحِبِهِ ).

(٥) الفتح ٤٨ : ٩.

٣٨٩

تَرَوْها ) ، ومعلوم أنّ المؤيّد بالجنود هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيجب أن يكون هو المنزول عليه السكينة.

ومن ذلك فيه خاصة : قوله تعالى : ( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (١).

قالوا : وقد نقل المفسّرون اختصاصها بأبي بكر ، وفيها الوعد بالمصدّق للثواب.

والجواب من وجوه :

منها : أنّ الراوي لذلك من جهلة المفسّرين ، هم الّذين أوّلوا القرآن بآرائهم ، وأضافوا القبيح إلى الله تعالى ، وشبّهوه بخلقه ، كمقاتل وقتادة وداود [ و ] الحواري والكلبي ، ولا اعتداد بتأويل من هذه حاله.

وبعد ، فهو معارض بما رواه ابن عباس ومجاهد وغيرهما من علماء التفسير.

فمنهم من روى ( الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ) جبرئيل عليه‌السلام ( وَصَدَّقَ بِهِ ) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومنهم من روى ( الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( وَصَدَّقَ بِهِ ) أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو أولاها ، لأنّه أول المصدّقين به بلا خلاف.

ولا يقدح في ذلك بما لا تزال جهّالهم يقولونه من صغر سنّه ، لأنه عليه‌السلام لم يكن صغيرا يبعد منه التصديق ، لكونه ابن عشر سنين ، وقد وجدنا في زماننا من هو في هذا السن يدرك فهم (٢) كثير مما يبعد فهمه عن الكهول ، ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعاه إلى الاسلام بغير خلاف ، ولا يجوز أن يدعو من ليس بكامل ، لقبح (٣) ذلك ، ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مدحه بالسبق ، وتمدّح هو به على أعدائه ، ولا وجه لذلك إلاّ

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٣٣.

(٢) في النسخة : « فيهم ».

(٣) في النسخة : « بقبح ».

٣٩٠

وقوع سبقه موقعه.

على أنّا إن وقّعنا فيمن نزلت هذه الآية ، فلسنا في خروج أبي بكر منها (١) ، لضلاله (٢) المدلول عليه ، وتضمنها الوعد للمذكور فيها بالثواب ، ولفقد برهان على وقوع تصديق أبي بكر موقعه ليسلم له الوعد ، ولو أمكن ذلك لأغنى عن الآية بلا خلاف.

ومن ذلك فيه : قوله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) (٣).

قالوا : وقد روى المفسّرون أنّه أبو بكر.

والجواب : أنّا آمنون كون الآية [ ليست ] فيه ، لما قدّمناه من ضلالته ، وتضمّنها وصفا لا يليق بالضلال.

ثم لو فرضنا ارتفاع ذلك ، لكان الظاهر العموم في كلّ معط ومصدّق ، فلا يجوز تخصيصها إلاّ بدلالة ، ولا دلالة في قول المفسّرين.

وبعد ، فروايتهم مختصّة بتصديقه بحديقة نخل تسمّى الحسنى.

فأوّل ما في هذا أنّه لا تعرف في الحجاز حديقة توصف بذلك ، ولأنه لو كان الحال كذلك لقال : تصدّق ، ولما قال : ( صَدَّقَ ) ، وهو من التصديق ، وقابله بكذب المتعلّقين بالاعتقادات دون الصدقة ، دلّ على ما ذكرناه.

ومن ذلك فيه : قوله تعالى : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٤).

قالوا : وهذه الآية في أبي بكر ومسطح عند قذفه عائشة ، وحرمان أبي بكر إيّاه البرّ ، وقد سمّاه الله تعالى أولي فضل ، وهذا يخالف ما يقولون فيه.

والجواب من وجوه :

__________________

(١) أي : في شك.

(٢) في النسخة : « الضلالة ».

(٣) الليل ٩٢ : ٥ ـ ٦.

(٤) النور ٢٤ : ٢٢.

٣٩١

منها : أن القول بتخصيص الآية بأبي بكر مستند إلى من ذكرناه من جهلة المفسّرين ، فلا يجوز لمثله الرجوع من ظاهر العموم المتضمّن لنهي كلّ مكلف عن التألّ على حرمان أولي القربى والمساكين والمهاجرين بجريرة وقعت منهم.

على أنه قد روى جماعة من المفسّرين ما يخالف ذلك ، وأنّ ملاحاة وقعت بين المهاجرين والأنصار في بعض البعث ، فشجّ بعض المهاجرين أنصاريا ، قالوا : لا تبروهم ، فأنزل الله الآية ، وأراد بالقربى قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويقوّي هذه الرواية : أنّ مسطحا لم يكن من قرابة أبي بكر ، وهو واحد ، وظاهر الآية الجمع ، فصار حملها على هذه الرواية أولى ، لمطابقتها لها من كلّ وجه ومنافاتها لروايتهم ، وأقلّ أحوالها أن تعارض ما رووه ، فسقط التعلّق بها.

ومنها : أنّا لو سلّمنا تخصّصها بأبي بكر لكانت بالذمّ أولى ، لكونه منهيّا بظاهرها عن فعل ، والنهي لا يكون منه إلاّ عن قبيح ، وإذا كان تاليه وقع على وجه يقبح ، فالآية برهان على نقصه وذمّه ، فيكف تجعل دلالة على مدحه وأيضا فانّ الفضل المذكور فيها المراد فيه الفضل في الدنيا وسعة الحال فيها ، لأنّ تعلّق الآية بالقصة الّتي ذكروها يقتضي ذلك ، فكأنّه قال : ولا يأتل الأغنياء وذووا السعة على منع الفقراء من رزق الله تعالى لديهم.

وأراد بالفضل هاهنا على مسطح دون غيره ، لتخصّص الحكم به ، وحصول العلم بأنّ أبا بكر لم يكن من الأغنياء ، لا سيّما بعد الهجرة.

وإذا صحّ هذا ، فالفضل في باب الدنيا ليس بثواب ولا دالّ عليه ولا مانع من قبيح.

[ ما استدل به من السنّة ]

وتعلّقوا من جهة السنّة بأشياء :

منها : ما رووه عنه صلوات الله عليه وآله أنه قال : خير القرون القرن الّذي أنا فيه ، ثم الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم.

وقوله : إنّ الله تعالى اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

٣٩٢

وقوله : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.

والجواب من وجوه :

منها : أنّ هذه أخبار آحاد بلا خلاف بين الأصوليّين ، وما قصدوا له لا يكفي فيه إلاّ ما يوجب العلم باتفاق.

ومنها : أنه لا يخلو أن يجعلوها دلالة على نفي القبيح عن كلّ واحد من الصحابة ، أو عن إجماعهم.

والأول معلوم ضرورة خلافه في كثير منهم ، وإذا لم يمكن (١) نفيه عن كلّ واحد لم ينفعهم ، لصحة كون من اختلفنا فيه من جملة الآحاد الخارجين عن موجبه.

والثاني غير نافع لهم ، لأنّا لا نخالف فيه ، لوجوب وجود معصوم في كلّ قرن يدلّ دخوله في جماعة المجمعين على صحة إجماعهم ، والمقدوح في عدالتهم ليسوا جميع الأمة ، والمعصوم من غيرهم.

ومنها : أنّ هذه الأخبار معارضة بآيات وأخبار.

فالآيات : آيات المنافقين ، وهي كثيرة.

ومنها (٢) : وصفه تعالى لقوم من الصحابة برفع الأصوات على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وترك تعظيمه وتوقيره ، حتّى نهاهم تعالى عن ذلك بقوله سبحانه : ( لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) (٣).

وقوله تعالى : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (٤).

__________________

(١) في النسخة : « يكن ».

(٢) أي : ومن الآيات التي تعارض الأخبار المذكورة.

(٣) الحجرات ٤٩ : ٢.

(٤) النور ٢٤ : ٦٣.

٣٩٣

وقوله تعالى : ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (١) ، فنصّ على إيثارهم التجارة واللهو على الصلاة ، والقصة مشهورة.

وقوله تعالى : و ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا ) (٢).

وقوله : ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (٣) ، [ نزلت هذه الآية ] يوم بدر ، وهي منافية لدعواهم للغفران لما تقدّم وتأخّر من ذنوب أهل بدر ، وتوبيخهم على هزيمتهم يوم أحد وحنين ، وسوء اعتقادهم يوم الأحزاب ، والآيات بذلك ثابتة.

وقوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (٤).

وغير ذلك من الآيات المتضمّنة لذمّ قوم ممن هم على ظاهر الصحبة ، إيراد جميعها يطول ، وفيما ذكرناه كفاية.

وأما الأخبار : فما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : بينا أنا على الحوض ـ حوض عرضه ما بين بصرى وصنعاء فيه قدحان كعدد النجوم ـ إذ يأتي قوم من أصحابي أعرفهم بأسمائهم وأنسابهم ، إذا دنوا منّي اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي أصحابي ، فيقال لي : يا محمّد إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فإنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم القهقرى منذ فارقتهم ، فأقول : الا بعدا ، ألا سحقا ألا سحقا.

وقوله عليه‌السلام : ـ وقد ذكرت فتنة الدجال ـ إنّي لفتنة بعضكم أخوف منّي

__________________

(١) الجمعة ٦٢ : ١١.

(٢) آل عمران ٣ : ١٥٢.

(٣) الأنفال ٨ : ٦٧ ـ ٦٨.

(٤) آل عمران ٣ : ١٤٤.

٣٩٤

لفتنة الدجّال.

وقوله عليه‌السلام : إنّ من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني.

وقوله عليه‌السلام : ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض.

وقوله عليه‌السلام : لتسلكنّ سنن من كان قبلكم ، حتّى لو دخل أحدهم في حجر ضبّ لدخلتموه ، فقيل له : يا رسول الله اليهود والنصارى ، فقال : فمن إذن!.

وقوله عليه‌السلام : يؤخذ بقوم من أصحابي ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصيحابي ، فيقال له : إنّهم ليسوا لك بأصحاب ، إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : بعدا للقوم الظالمين.

في أمثال لهذه الروايات ـ يطول بذكرها الكتاب ـ واردة بما ذكرناه.

وهذه أخبار قد سلّمها الكلّ ، واقترن إليها القرآن ، فيجب له الرجوع عما رووه ، أو تخصيصه بمن يليق به ، ويتعيّن فرض البرهان على من ادّعى تخصّصه بمعيّن.

ومنها : أن يتكلّم على كلّ خبر منها :

أما ما رووه أولا ، فإنّ قوله عليه‌السلام : خير القرون القرن الّذي أنا فيه ثم الّذين يلونهم ، فدلالة على كثرة الاخيار في المذكورين دون جميعهم ، كقول القائل : بنو فلان خير من بني فلان وبنو فلان أشجع من بني فلان ، لا يفيد كلام هذا إلاّ ما ذكرناه من كثرة الأخيار والشجعان في إحدى القبيلتين على الأخرى ، يؤكد ذلك خروج أكثرهم عن هذه السمة باتفاق.

ولحصول العلم الضروري بوجود أعيان تابعين أفضل من صحابة ، وتابعيهم أفضل منهم ، ومعاصرين لنا أفضل من كثير من الصحابة.

وهو معارض بما رووه من قوله عليه‌السلام : إنّ أفضل أمّتي قوم آمنوا بي ولم يروني ، خالط حبّي لحومهم ودماءهم ، فهم يؤثروني على الآباء والأمّهات.

وأما ما رووه ثانيا في أهل بدر ، فلا يخلو أن يريد عليه‌السلام غفر لكم الماضي من ذنوبكم ، أو المستقبل.

فان أراد الماضي ، فلا نفع فيه في موضع التعلّق ، لأن غفران ما مضى لا يمنع من

٣٩٥

استيناف مثله.

وإن أراد المستقبل ، فباطل من وجهين :

أحدهما : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : غفر ، إخبار عن ماضي لا يجوز حمله على مستقبل إلاّ بدليل.

الثاني : أنّ القطع على غفران المستقبل على كلّ حال لمن ليس بمعصوم إغراء بالقبح ، وأكثر أهل بدر غير مقطوع على عصمتهم ، لوقوع القبح منهم ، والإغراء لا يجوز عليه تعالى.

وأما ما رووه ثالثا ، فباطل من وجوه :

منها : قيام البرهان على ضلال القوم المتقدّمين في مقام النبوة ومتبعيهم على ذلك.

ومنها : أنّه عليه‌السلام لا يجوز أن يحكم بهداية المقتدي به [ غير ] معصوم ، ولا أحد قطع على عصمة من ذكروه ، فيجب توجّهه إلى أئمتنا عليهم‌السلام ، لثبوت عصمتهم بالأدلّة.

ومنها : أنه لا يخلو أن يريد جميع الصحابة ، أو بعضهم.

فإن أراد البعض ، فعليهم أن يدلّوا على أنّ القوم المقتدين (١) من جملة ذلك البعض ، وأنّى لهم به.

وإن أراد الجميع ، فالمعلوم ضرورة خلافه ، لوقوع القبح من أكثرهم ، كطلحة والزبير وقدامة بن مظعون المستحلّ الخمر ، ومالك بن نويرة وبني حنيفة وغيرهم عندهم ، وقاتلي عثمان ، ومعاوية وعمرو بن العاص المستحلين دماء أهل بدر وحنين ، ووقوعه يحيل كون المقتدي بهم مهتديا.

ولأن ذلك يقتضي صواب مالك بن نويرة فيما فعله ومن اتبعه ، وأبي بكر وخالد فيما أتياه إليه ، وعثمان فيما صنعه بابن مسعود وعمار وأبي ذر وغيرهم ، وهم مصيبون في

__________________

(١) في النسخة : « المعتدين ».

٣٩٦

الإنكار عليه وعلى ذويه ، ومن منعه (١) الماء وقتله ، وعلي وذويه ومن معه من المهاجرين والأنصار في قتال طلحة والزبير ومعاوية وعمرو ومن في حيّزهم ، وهم في قتاله واستحلال دمه ، وهداية كل مقتد بواحد من هؤلاء.

وفساد ذلك ظاهر.

ومما تعلقوا به : ما رووه عنه عليه‌السلام أنه قال : عشرة من أصحابي في الجنة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد بن فضيل ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح.

قالوا : فشهد لهؤلاء بالجنة ، وذلك يقتضي إمامتهم ، لأنه لا أحد فرّق بين الموضعين ، فمنع من شهادتكم عليهم بالكفر المخالفة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجواب : من وجوه :

أحدها : أنه خبر واحد لا يجوز العمل به عندنا في شيء ، ولا عند الكلّ فيما طريقه العلم ، والقطع على ثبوت الثواب لمكلّف معيّن مما لا يكفي فيه إلاّ العلم ، لا سيّما في ذي قبائح ظاهرة ، فلا يجوز إثبات إثباته (٢) بخبر واحد باتفاق.

وثانيها : أنّه لم يروه إلاّ سعيد ، وهو أحد العشرة ، ولو كان ثابتا مع قوّة الدواعي إلى نقله ـ لتضمن البشارة بالجنة لأولي الأمر ـ لوجب تواتره وشياعه إلى حدّ لا يبقى فيه لبس ، ومن فقد ذلك برهان على سقوطه.

وثالثها : أنه لو كان ثابتا لكان معلوما لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه‌السلام :

فكان لا يقول أبو بكر عند وفاته : ليتني لم أكشف بيت فاطمة ولو أغلق على حرب ، وليتني لم أقتل الهرمزان ، أو ليتني كنت سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هل للأنصار حقّ في الأمر ، فكنّا لا ننازعهم ، وليتني بايعت أحد الرجلين.

ولا يقول عمر عند وفاته : ليت أمّي لم تلدني ، وليتني كنت نسيا منسيّا ، وودّ ابن

__________________

(١) في النسخة : « ومن معه منعه ».

(٢) كذا في النسخة ، والظاهر أنّ الصحيح : « إمامته ».

٣٩٧

الخطاب أنه نجى كفافا لا عليه ولا له ، ويأمر ابنه بوضع خدّه على التراب فيتمرّغ عليه ، فيقول له ابن عباس : يا أمير المؤمنين لم تجزع ، فقد كان والله اسلامك عزّا وامارتك فتحا ، فيرد عليه عمر : المغرور والله من غررتموه ، ودّ ابن الخطاب أنّه نجا (١) كفافا لا عليه ولا له ، ويقول : ـ وقد قيل له : استخلف ابنك عبد الله ـ حسب آل الخطاب أن يدان رجل منهم بالخلائق.

لأن علم المكلف بالثواب وأمانه من العقاب يمنع من هذا الجزع ويؤمن من هذا الخوف ، وثبوتهما ينافي حصول اليقين به بغير شبهة.

وكان ينبغي أن يحتجّ به عثمان على محاصريه ، لكونه أبلغ من جميع ما ذكره ، وكان لا يظهر ما ظهر من وجوه الصحابة من الاستخفاف به والشهادة عليه بالضلال والحصر ومنع الماء واستحلال دمه وإراقته ، لا سيّما مع كون جميعهم عند القوم هم العيار في جميع أمور الدين ، وكون جمهورهم عندنا بهذه الصفة ، لأن علم المسلم الورع كون غيره من أهل الجنة قطعا يجب أن يمنعه من النفير به والاستخفاف والتضليل واستحلال الدم.

وكان ينبغي أن يحتجّ به علي عليه‌السلام في مواضع الحاجة إليه ، ويقبله حين رواه طلحة والزبير يوم الجمل ، ولا يردّه ويشهد بكذبه ويقطع بضلال بعض المذكورين فيه وخلودهم في النار.

ورابعها : أن الشهادة بالجنة تقتضي عصمة المشهود له ، لأن فقدها فيه يقتضي الإغراء بالقبح ، والتكليف مع الإغراء قبيح لا يجوز عليه سبحانه.

ولا أحد قطع على عصمة التسعة المذكورين فيه حسب ما بيناه في الثلاثة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وما وقع من عبد الرحمن يوم الشورى وبعدها من ذم عثمان وخذلانه ، وما وقع من الجميع من التخلف عن أسامة وخذلان عثمان ، وما أتاه طلحة والزبير من حصاره والشدّ في أمره حتّى قتل ، ونكثهما بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام لغير حدث ، وما أتوه من القبائح في البصرة قبل حضور علي وبعده ، من استحلال

__________________

(١) في النسخة : « لا نجا ».

٣٩٨

الدماء والأموال بغير حقّ ، وقتال الإمام العادل ، وضلال الجميع بجحد النصّ على أمير المؤمنين عليه‌السلام الثابت بالأدلة القاهرة ، وموت الكلّ على الإصرار على ذلك ، من غير علم ولا ظنّ بتوبة أحد منهم.

وخامسها (١) : أنّ هذا الخبر معارض بما رووه من قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لطلحة والزبير : ـ وقد احتجّا عليه ـ أمّا أنتما فتشهدان لي بالجنة فقد حرم عليكما قتالي ، وأمّا أنا فيما قلتما من الكافرين ، أشهد لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ في جهنّم تابوتا فيه ستة من الأوّلين وستة من الآخرين ، إذا أراد الله أن يسعر جهنّم فتح ذلك التابوت ، وأنّ فيه لبعض من ذكرتم ، وإلاّ فأظفركم الله بي وأظفرني بكم.

وهذه مباهلة من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، تقتضي ضلال القوم المذكورين في الخبر ، ولم يرد عليه أحد من الصحابة ولا طلحة والزبير ومن كان في حيزهما ، فصار إجماعا.

ومن ذلك : ما رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر.

قالوا : والأمر بذلك ينافي ما يقولون فيهما.

والجواب من وجوه :

منها : أنه خبر واحد لا يجوز العمل به عندنا على حال ، ولا عند الكل في مثل هذه المسألة.

ومنها : أنه لم يرد إلاّ من جهة عبد الملك بن عمير اللخمي ، وكان قاضيا لبني أميّة معروفا بالفجور ، وهو الّذي ذبح بيده عبد الله بن يقطر رضيع الحسين عليه‌السلام ، ولو كان ثابتا لم تقف روايته على هذا الفاجر ، مع قوة الدواعي وانتفاء الصوارف (٢).

ومنها : أنّ الأمر بالاقتداء بهما يقتضي عصمتهما ، لقبح الأمر بالاقتداء بمن يجوز

__________________

(١) في النسخة : « وسادسها ».

(٢) في النسخة : « السوارف ».

٣٩٩

منه القبيح ، ولا أحد قطع بها لهما.

ومنها : وقوع القبائح الّتي بيّناها منهما ، وذلك يمنع من الأمر بالاقتداء بهما.

ومنها : أنه لا أحد من الأمّة يدين بوجوب الاقتداء بهما ، ولو كان ثابتا لوجب على أقلّ الأحوال تدين شيعتهما بذلك وتحريم خلافهما ، وليسوا كذلك.

ومنها : أنّ ظاهر الخبر يقتضي وجوب الاقتداء بهما معا ، وذلك محال ، لحصول العلم بما بينهما من الاختلاف في الأحكام.

ومنها : أنه لو كان صحيحا لاحتجّا به يوم السقيفة على الأنصار ، فهو أحجّ مما ذكراه ، ولاحتج به أبو بكر في تولّيه عمر على من أنكر عليه ولايته من الصحابة.

ومن ذلك : ما رووه من كونهما معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في العريش.

قالوا : وهذا يدلّ على غاية الاختصاص.

والجواب من وجوه :

منها : أنه خبر واحد ، وقد بينا فساد التعلّق بمثله في مثل هذا.

ومنها : أنّ الظاهر يوم بدر وحنين حين الحرب كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معبّيا (١) للصفوف وبيده سهم ، فوكز به سوار بن عزة ، فقال : يا رسول الله آلمتني أقدني ، فكشف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بطنه ، فقبّله سوار ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما حملك على هذا فقال : يا رسول الله هي (٢) الحرب وأنا أرجو الشهادة ، فأردت أن يكون آخر عهدي أن يمسّ جلدي جلدك ، فجزّاه خيرا ، وهذا ينافي كونه في العريش منفردا أو مقارنا لغيره.

ومنها : أنه لو ثبت كونهما معه في العريش ، لم يخل أن يكون بأمره أو بغير أمره.

وكونه بغير أمره لا فضيلة فيه ، ويكون الحامل عليه الجبن ، ويلحق بما وقع منهما من الفرار في [ غير ] مقام ، لأنه ولا فرق بين القبح في القعود عن الجهاد مع الحاجة إليه ،

__________________

(١) في النسخة : « معيبا ».

(٢) في النسخة : « هو ».

٤٠٠