تقريب المعارف

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

تقريب المعارف

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: الشيخ فارس تبريزيان « الحسّون »
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المحقّق
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

بني هاشم وغيرهم من أعيان المهاجرين من قريش وغيرهم وذوي البصائر من الأنصار.

[ بيان حال عائشة وأصحاب الجمل ]

وهذا من أوضح عندها وعند أعوانها على الانتصار له (١).

ولو صحّ خطأ القاتل لم يكن من الطلب بثأره في شيء ، لبعد ما بينهما من النسب.

ولو كانت من أولياء الدم لكانت من ذلك بمعزل ، لكونها امرأة من دونها رجال ، فهم أولى بعثمان.

ولو صحّت ولايتها في المطالبة لوجب اختصاصها بالتظلّم إلى إمام المسلمين وحاكمهم ومن لا يتهم بميل إلى باطل ولا إيثار لهوى ، ومن لم تزل تصفه من ذلك بما لم تصف أحدا ، وابتداؤها بالحرب ليس من التحاكم في شيء.

ولو كانت الحرب سائغة لكانت من فروض الرجال دونها بغير خلاف.

ولو كانت الحرب من فروض النساء لكانت خارجة عن ذلك بنصّ التنزيل الموجب عليها لزوم البيت وإطالة الحجاب.

ولو كانت الحرب من فروضها لوجب قصرها على القتلة والأعوان على القتل الّذين منهم طلحة والزبير ، دون إمام المسلمين الملازم بيته ومن في حيزه من المهاجرين والأنصار الذين لم يقتلوا عثمان ولا رضوا بقتله عند كافة الخصوم من أوليائها إلى ... (٢).

هذا ، ولو كان قتال القوم سائغا لقتلهم عثمان ورضاهم بذلك وولايتهم قتلته لوجب عليها أن تخصهم بالحرب والجهاد ، دون أهل البصرة الّذين [ لم ] يشعروا بشيء من ذلك ولا شركوا فيه بقول ولا فعل عند أحد من الخصوم.

فعلى أي وجه ساغ ذلك؟

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر وجود سقط قبل هذه العبارة.

(٢) كلمة غير مقرؤة.

٣٦١

وبأيّ دليل طلبت بيعتهم؟

وبأيّ شريعة ساغ لها مطالبة الناس بنكث بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام وقتال الممتنع من ذلك؟

وبأيّ برهان استحلّت دم من قتل منهم من صلحاء المسلمين من غير حدث يوجب القتل؟

وبأيّ حجة حلّ لها العذر بعثمان بن حنيف ومن معه من الأنصار والتنكيل به وقتلهم؟

وعلى أيّ مذهب ساغ لها فتح باب بيت مال المسلمين والتصرف فيه بغير إذن من الصحابة أهل العقد والحل عندها وعند شيعتها وأفاضل التابعين؟

وما لها لم ترتدع لتنابح كلاب الحوأب مع تقدّم التحذير لها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، وإخبارها بكونها ظالمة في مسيرها!.

وبأيّ علّة ساغ لها تفريق أموال المسلمين في المعونة على الفتنة فيهم؟

ومن أيّ وجه حلّ لها إظهار السلاح في دار الأمن؟

وما المانع لها إن كانت طالبة بالثأر من الرجوع إلى دعاء أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى التحاكم إليه مع علمها بعدله وبعده عن الظلم؟

وما الصارف لها ـ إن كانت حضرت للإصلاح بين المسلمين على ما يهذي به أولياؤها ـ عن الرجوع إلى دعوة أمير المؤمنين عليه‌السلام لها إلى الكتاب والسنّة؟

وما الصارف لها عن الرجوع إلى وعظه وتخويفه من خلاف الكتاب والسنّة وما يتم ذلك من فساد أمر الأمة وسوء القضاء وإثارة الفتنة؟

وما لها لم تذكر الحجّة في خروجها ، والعذر في هتك حجابها ، والوجه في قتالها ، وجميع الأعذار للفتنة؟

وما لها لم تستثر من طلحة والزبير وهما من جملة القتلة بلا خلاف؟

وعلى أيّ وجه استحلّت قتل حامل المصحف داعيا إلى ما فيه؟

وبأيّ دليل عقلي أو شرعي بدأت بحرب إمام الملّة ومن في حيزه من ذوي

٣٦٢

السوابق والأبصار وأنصار الحق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بدر وحنين والمفروغ إلى إبرامهم ونقضهم عندها وعند أوليائها ، مع دعائهم إلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وما شرّعاه ، وإمساكهم عن القتال إيجابا للحجّة عليها؟

وبأيّ وجه استحلّت دماءهم؟

وما الحامل لها تعريض أنصارها المقرّين لها للقتل بمن يدعوها إلى المسالمة والمحاكمة؟

وهلاّ خافت مالك العقاب سبحانه إن كانت عارفة به من إراقة دماء الفريقين مع تمكنّها من حقنهما؟

وهلاّ صرفها عن ذلك ما سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام من المآثر الدالة على تحريم خلافه فضلا عن حربه ، من قوله عليه الصلاة والسلام : علي مع الحق والحقّ مع علي ، وقوله عليه‌السلام : حربك حربي وسلمك سلمي ، وأمثال ذلك ، والشهادة له ولولديه ولجماعة ممن في حيزه بالجنة؟

وما لها لم ترتدع عن قتاله مع اختصاص نصرته بوجوه الصحابة وذوي البصيرة والورع وأنصار الملّة ، واختصاص نصرتها بأغدار قريش والمؤلّفة قلوبهم والمتّهمين على الاسلام وأهل السواد وأجلاف الأعراب لو لا ما ذكرناه من عداوة علي عليه‌السلام الّتي لها عميت القلوب وطاشت الأفهام؟

وما لها لم تخف بحربها من قتل المشهود لهم بالجنة ، كعليّ والحسنين عليهم‌السلام وعمار وغيرهم من أهل بدر وحنين وبيعة الرضوان وفضلاء التابعين؟

ولم لم يرق أسمقها من ... (١) أهل الحق عند الظهور عليهم وتجب إلى المسالمة ووضع السلاح المدعوّ إليهما فتحقن بذلك باقي الدماء ، ويتلافى فارط الشقاق؟

ولم أحوجت إلى عقر الجمل ولم تجب إلى الأمان إلاّ قسرا؟

ولم لم تشكر عليا عليه‌السلام على ما منّ به عليها من التجاوز عن الانتقام منها

__________________

(١) كلمة غير مقرؤة.

٣٦٣

وإكرامها مدّة مقامها وإلى أن أوصلها بيتها؟

ولم كفرت نعمته الظاهرة عليها وصرّحت بذمّه والتعريض به ، وأظهرت الشماتة بقتله ، واعترضت في دفن ولده ، واوصلت ذلك في أحوال التمكن إلى أن فارقت الدنيا؟

وأمّا طلحة والزبير ، فمعظم ما قدّمناه من وجوه الخطأ الواقع من عائشة قائم فيهما ، لكونهما الزعيمين لأمرها المشاركين لها في جميع ما عددناه ، فلا وجه لتكراره وتنقيصهما (١) أنهما من جملة من حصر عثمان وضيّق عليه وشرك في قتله.

وفيهما يقول حسان بن ثابت ، شعر :

من عذيري من الزبير ومن

طلحة هاجا أمرا له إعصار

بم قالا للناس دونكم (٢) العجل

فشبّت وسط المدينة نار

والأبيات معروفة.

فكيف يطلب بثأر المقتول من قتله!

ولأنهما بايعا طائعين ونكثا من غير حدث يحدث منه عليه‌السلام يوجب ذلك ، إلاّ فوت الأمنية والطمع في الرئاسة.

ولأنهما هتكا حجاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن زوجته وأبرزاها على رءوس الأشهاد ، وصانا حلائلهما.

وإذا تقرّرت هذه الجملة وصحّ لك ضلال أصحاب الجمل وقبح قصدهم وبعدهم عن الدين بكلّ واحد ممّا ذكرناه ، فكيف بجميعه ، فسقط الاعتراض بفعلهم.

[ بيان حال معاوية وعمرو بن العاص ومن في حيزهما ]

وأما معاوية وعمرو بن العاص ومن كان في حيزهم ، فالواجب عليهم طاعة أمير المؤمنين عليه‌السلام والانقياد له والنزول على حكمه ، لثبوت إمامته على أصولنا بالنص

__________________

(١) كذا.

(٢) في النسخة : « من دونكم ».

٣٦٤

عليه بها ، وعلى أصول المخالف ، لحصول الاختيار المتكامل الصفات الّذي لم يحصل على إمامة غيره ممن تقدمه وتأخّر عنه ، فلمّا لم يفعلوا وأظهروا الشقاق عليه والخروج عن دار الأمن وإظهار السلاح فيها ومحاربة الإمام العادل عليه‌السلام ومن لا يرتاب أحد في فضله وتقدّمه في الدين من وجوه المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، وذلك دال على ضلالهم على أصولنا ، وفسقهم على أصول مخالفينا ، وموضح عن فساد غرضهم في الدين من وجوه :

منها : قعودهم عن نصرة عثمان والدفع عنه ، ظالميه عندهم ، وهم من رعيته المرتهنين ببيعته ، مع تمكنهم من ذلك.

ومنها : ظهور حال عمرو بن العاص في عداوة عثمان ، لعزله عن مصر وإنكاره عليه وخروجه إلى أطراف الشام مؤلّبا وكاتبا بأحداثه إلى البلاد ، إلى أن قتل ، ومشاركة معاوية ، وحربه له في ذلك ، لاختصاصه به وتولي الجميع له.

ومنها : كذبهم فيما أظهروه من الطلب بثأر عثمان المقتول بإيثارهم ، لتمكنهم من نصرته وقعودهم عنها ، وما ذكرناه من حال عمرو وولاية معاوية وجنده.

ومنها : خروجهم عن طاعة الإمام المختار على وجه لم يختر عليه أحد قبله ، وإظهار شقاقه ومخالفة ما أجمع عليه العلماء من التابعين والصحابة.

ومنها : منعهم ما قبلهم من أموال المسلمين وصدقاتهم الواجب عليهم حملها إلى بيت مال المسلمين.

ومنها : اعتصامهم ببلاد الاسلام ومنع الامام العادل عليه‌السلام وكافة العلماء المعتد بعقدهم وحلّهم من التصرف فيها ، وكونهم بذلك عاصين بغير إشكال.

ومنها : مطالبتهم بثأر من لا ولاية لهم في دمه.

ومنها : طلبهم ذلك على أقبح الوجوه من المجاهرة بحرب والفساد في البلاد المنافي لطلب القود المستحق في الشرع ، ورغبتهم عما دعوا إليه من الكتاب والسنّة.

ومنها : استحلالهم قتال أمير المؤمنين والحسنين عليهم‌السلام ومن في حيّزهم من سابقي الصحابة وفضلاء التابعين المشهود لأكثرهم بالجنة من غير حدث يوجب ذلك بل

٣٦٥

يوجب خلافه من توليهم والانقياد لهم.

ومنها : شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن في حيّزه من فضلاء المسلمين عليهم بالضلال وتدينهم بذلك مع حصول العلم ببعدهم عن الهوى والفتيا والعمل بغير حق.

وإذا ثبت ضلال معاوية وعمرو ومن في حيّزهما على أصولنا وفسقهم على أصولهم وقبح أغراضهم فيما قصدوه ، وجب الحكم بذلك عليهم ولا يجوز الاعتداد بفعلهم.

وليس لاحد أن يقول : فإذا كان علي عليه‌السلام وأصحابه على بصيرة من ضلال معاوية وأصحابه ، فلم رجع عن قتاله الواجب عندكم إلى المسالمة وتحكيم الرجال الذين يجوز عليهم الخطأ؟

لأنّا قد بينا وقوع التحكيم على جهة الاضطرار ، وكونه لو كان عن إيثار حسن ، لتعلقه بالكتاب والسنة الدالين على حقّ علي عليه‌السلام وباطل معاوية ، وأن الحال لمّا جرت بخلاف ذلك لم يرض بها عليه‌السلام وأظهر النكير واهتم بقتال معاوية حتّى عوجل دونه صلوات الله عليه ، فاقتضى ذلك سقوط ما عورضنا به.

[ ما أظهره القوم عند وفاتهم الدال على ضلالهم ]

وقد تناصرت الروايات بما أظهره القوم عند الوفاة من التصريح بما بيناه ، وإن كان ثابتا بالأدلة فاقتضى تأكيده.

فمن ذلك : قول أبي بكر في حديث طويل : ثلاث فعلتهن ليتني لم أفعلهن : ليتني لم أكشف بيت فاطمة عليها‌السلام ولو كان مغلقا على حرب ، وليتني يوم السقيفة كنت ضربت على يد أحد الرجلين فكان الأمير وكنت الوزير.

وهذا منه نصّ بما تقوله الشيعة وتأباه عامة مخالفيهم اليوم من الهجوم على باب فاطمة عليها‌السلام ، ونصّ على قبيح ما أتاه في ذلك ، وبرهان واضح على قبيح ولايته يوم السقيفة ، لانّها لو كانت حسنة لم يتمنّ فقدها ، وإن كانت حسنة فإنما تأسّف على ما أوجبته من القبائح ، إذ لا بدّ من وجه قبيح له تأسّف.

٣٦٦

ومن ذلك : قول عمر عند وفاته : وددت أني نجوت كفافا ألاّ عليّ ولا لي.

وهذا موضح عن علمه من نفسه بقبح ما أتاه بخلافته.

وقوله وقد قيل له : استخلف ، فقال : إنّي أكره أن أتحمّلها حيّا وميّتا.

ولو كانت خلافته لله رضى لكان تحمّلها قربة إليه سبحانه لا يجوز لمسلم التملّص منها.

قوله : ـ وقد جمع بني عبد المطلب بعد ما طعن ـ يا بني عبد المطلب أراضون أنتم عنّي فقال رجل من أصحابه : ومن ذا الذي يسخط عليك ، فأعاد الكلام ثلاث مرات ، فأجابه رجل بمثل جوابه ، فانتهره عمر وقال : نحن أعلم بما أشعرنا قلوبنا ، إنّا والله اشعرنا قلوبنا ما نسأل الله أن يكفينا شره ، وأن بيعة أبي بكر كانت فلتة نسأل الله أن يكفينا شرّها.

وهذا نصّ منه على قبيح ما فعل.

وقوله لابنه عبد الله وهو يسنده إلى صدره : ويحك ، ضع رأسي بالأرض ، فأخذته الغشية ، [ قال : ] (١) فوجدت من ذلك ، فقال : ويحك ضع رأسي بالأرض ، فوضعت رأسه بالأرض فعفر بالتراب ثم قال : ويل لعمر وويل لأمّه إن لم يغفر الله له.

وهذا تصريح منه بما أضفناه إليه.

وقوله حين حضره الموت : أتوب إلى الله من ثلاث : من اغتصابي هذا الأمر أنا وأبو بكر من دون الناس ، واستخلافي عليهم ، ومن تفضيلي المسلمين بعضهم على بعض.

وقوله : أتوب إلى الله من ثلاث : من ردي رقيق اليمن ، ومن رجوعي عن جيش أسامة بعد إذ أمّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علينا ، ومن تعاقدنا على أهل هذا البيت إن قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألاّ نولّيه منهم أحدا.

وما رووه عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : كنت [ عند ] عمر وهو يموت ، فجعل يجزع ، فقلت : يا أمير المؤمنين أبشر بروح الله وكرامته ، فجعلت كلّما رأيت جزعه

__________________

(١) من البحار.

٣٦٧

قلت هذا ، فنظر إليّ [ فقال : ] (١) ويحك فكيف بالممالاة على أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

[ بيان كفر القوم ومناقشة الزيدية ]

وإذا ثبت حدوث ما ذكرناه من القبائح الواقعة من الثلاثة في حال ولايتهم بطلب إمامتهم بها لاتفاقهم على ذلك ، وإذا بطلت في حال بطلت في كلّ حال باتفاق.

وإذا ثبتت إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام عقلا وسمعا ، واقتضى ثبوتها ثبوت الصفات الواجبة للإمام له ، وفسدت إمامة المتقدّمين عليه على أصولنا وأصولهم.

ثبت أنّ الواقع منهم وممن اتبعهم متدينا بإمامتهم من محاربته عليه‌السلام وغيرهم كفر ، لأنه لا أحد قال بوجوب عصمة الإمام إلاّ قطع بكفر القوم ومن دان بإمامتهم ، ولأن كلّ من أثبت النص على أمير المؤمنين عليه‌السلام قال بذلك.

ولا يقدح في هذه الطريقة خلاف الزيدية ، لانعقاد الاجماع بما قلناه ، وانقراض الأزمان به قبل حدوث مذاهب الزيدية.

على أنّ لنا ترتيب الاستدلال على وجه يسقط معه خلاف الزيدية.

فنقول : لا أحد قال بالنص الجليّ إلاّ قطع على كفر القوم ، فتخرج الزيدية من هذه الفتيا ، لأنها تنكر النص الجليّ.

ولأنّا نعلم وكلّ مخالط من دين أمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة من ذريته عليهم‌السلام القطع على كفرهم والدائن بإمامتهم ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما سلف ، وفتياهم بذلك حجّة ، لكونهم معصومين ، ولأن فتياهم هذه لو كانت خطأ لكانوا ضلالا ، وهذا ما لا يطلقه فيهم مسلم.

إن قيل : أفتطعون على كفر من تابعهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى الآن؟

قيل : قد مضى في كلامنا ما يغني عن هذا بقولنا : إنّ الفتيا مختصّة بتكفير الأعيان على

__________________

(١) من البحار.

٣٦٨

جهة التفصيل بمن (١) علمناه متدينا بإمامتهم من الصحابة وغيرهم إلى الآن ، ومن لم يعلم ذلك من حال ففرضنا فيه الوقف والتجويز لكلّ واحد من الكفر والفسق.

ان قيل : كيف يمكنكم ذلك مع ظاهر إيمانهم ، وتدينهم بالاسلام ، واجتهادهم فيه ، وتقريب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ، وتعظيمه إياهم ، ومنعكم من وقوع الكفر بعد الإيمان على مذاهبكم في الموافاة.

قيل : المظاهرة بالايمان والاجتهاد ، في أفعاله وبذل الأنفس والأموال في نصرته لا يدل على مطابقة الباطن له ولا على كونه صادرا عن علم قصد به وجهه ، إذ كانت هذه الأمور لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب ، وإنما يعلم منها ما نصّ عليه سبحانه.

فإذا فقدنا النصّ فيهم بذلك ووضح البرهان بكفرهم وموتهم عليه ، علمنا أنّ الاعتقاد الماضي منهم كان جهلا ، وإن أظهروا إيمانا أو تقليدا أو علما لغير وجهه لا يستحق بهما المعتقد ثوابا ، لوقوف استحقاقه على العلم المقصود به ووجهه الّذي له وجب ، ووجوب القطع على كفر من كان كذلك حسب ما اقتضاه البرهان.

فأمّا تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فغير مسلّم ، لفقد دليله وتعذر إثباته ، إذ كان التقريب والإيناس والمظاهرة لا يدل على تعظيم لصاحبه (٢) ، لحصول ذلك أجمع مع من تجب البراءة منه لكفره.

على أنّ المتقرّر من شرعه عليه‌السلام تعظيم مظهر الاسلام والمطيع فيه ، مشترطا بكون ما أوجبه واقعا لوجهه باتفاق العلماء ، فلو (٣) سلّم تعظيمه عليه‌السلام للقوم لكان جاريا فيه على الوجه الّذي شرعه من الاشتراط.

فإذا وضح برهان كفرهم في حياته عليه‌السلام بما بيناه ، لم ينفعهم تعظيمه عليه

__________________

(١) في النسخة : « وبمن ».

(٢) في النسخة : « لصحة ».

(٣) في النسخة : « فلم ».

٣٦٩

السلام شيئا ، كما لا ينفع تعظيم المسلمين من علموه مظاهرا بالعبادة والاجتهاد وهو منافق أو مقلد أو عالم لغير الوجه الّذي تعلّق التكليف به.

٣٧٠

[ ما استدلّ به على إيمان القوم من الكتاب والسنّة وردّه ]

٣٧١
٣٧٢

وقد تعلّق من لا بصيرة له بأحكام الخطاب في إثبات إيمان القوم واستحقاقهم الثواب ـ ليتوصل بذلك إلى اثبات إمامتهم ، وردّ ما يذهب إليه من القطع بكفرهم وخلودهم في النار ـ بآيات من القرآن وأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نذكرها ، ونبيّن وجه الشبهة منها وسقوطها.

[ ما استدل به من الكتاب ]

فمن ذلك : قوله تعالى : ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (١).

قالوا : وهذه صفات القوم : آمنوا ، وعملوا الصالحات ، وخافوا في بدء الاسلام ، واستخلفوا في الأرض ، وآمنوا بعد الخوف ، فمنع ذلك من فرقهم بالضلال ودلّ على صحّة إيمانهم وإمامتهم.

الجواب : أنّ الوعد بالاستخلاف في الآية متوجّه إلى ذوي الإيمان ما في الباطن والظاهر ، وعمل الصالحات ، لوجوهها المخصوصة ، والاخلاص في العبادة لله تعالى من الإشراك والرياء وغيرهما مما يشوب الاخلاص ، والأمن بعد الخوف لله تعالى ، غير معيّنين (٢) بأسمائهم.

وقد دللنا على ضلال المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام على أصولنا وأصولهم والدائنين بولايتهم ، فاقتضى خروجهم من حكم الآية ، وتوجّهها إلى من تكاملت فيه صفاتها من غيرهم.

__________________

(١) النور ٢٤ : ٥٥.

(٢) في النسخة : « معنين ».

٣٧٣

على أنّا لو افترضنا (١) الكلام في الآية من دون ذلك لم يكن لهم فيها متعلّق من وجوه :

منها : افتقارهم في تخصيصهم بها إلى إقامة برهان على ثبوت صفات المذكورين فيها لهم ، وثبوته يغني عن الآية في المقصود باتفاق ، وإذا تعذر ذلك عليهم خرج الظاهر من أيديهم بغير إشكال.

ومنها : أنه لا يخلو أن يكون المراد بالاستخلاف المذكور في الآية توريث ديار الكفار ، كقوله تعالى : ( وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) (٢) ، ... ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) (٣) ، ... ( وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (٤) ، ... ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ) (٥) ، ... ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ ) (٦).

أو الخلافة على العباد وتدبير البلاد ، كآدم عليه‌السلام في قوله : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (٧) ، وطالوت في قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ) (٨) ، وداود في قوله : ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ ) (٩) ، وسليمان في قوله سبحانه : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) (١٠) ، وقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ

__________________

(١) في النسخة : « افرضنا ».

(٢) الشعراء ٢٦ : ٥٩.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ٢٧.

(٤) الأعراف ٧ : ١٢٩.

(٥) الأنعام ٦ : ١٦٥.

(٦) الأنعام ٦ : ١٣٣.

(٧) البقرة ٢ : ٣٠.

(٨) البقرة ٢ : ٢٤٧.

(٩) سورة ص ٣٨ : ٢٦.

(١٠) سورة ص ٣٨ : ٣٥ ـ ٣٦.

٣٧٤

الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (١) ، وهارون عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) (٢) ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) (٣) ، فكان للناس ، وعلم من دينه صلوات الله عليه وآله كونه خليفة على أهل الأرض ورئيسا لجميعهم.

أو ظاهر التصرف في البلاد وأهلها بالقهر والاضطرار.

فان كان أراد الأول فلا مزية لبعض المستخلفين في الديار على بعض ، وليس من الخلافة المطلوبة في شيء.

وإن أراد على الوجه الثاني فهو خطاب لغيرهم ، لعدم النص أو ما يستند إليه من المعجز على استخلافهم ، كاستخلاف من ذكرناه من الأنبياء عليهم‌السلام.

ولا يعترض هذا قولهم : أنّ ثبوت خلافتهم من اختيار مأذون لهم فيه يقتضي إضافتها إليه تعالى من وجوه :

أحدها : أنه مبني على أنّ الله تعالى قد نصّ على الاختيار ، وقد بيّنا فساد ذلك.

ومنها : أنّ من أذن لغيره أن يختار وكيلا لنفسه أو وصيّا من بعده فاختار ، فانّ الوكيل وكيل له والوصي كذلك ، دون من أذن له ، ولا يقول أحد : هذا وصيّ فلان ، وهذا وكيله ، وإن كانت الوكالة والوصية بإذنه.

ومنها : أنّ ظاهر الآية يقيّد وقوع الاستخلاف للمذكورين فيها به تعالى ، كاستخلاف من قبلهم ، وقد علمنا أنّ الله تعالى لم يستخلف أحدا منهم باختيار الأمة ، وإنّما دلّ على ذلك بمعجز أو نصّ يستند إلى معجز ، فيجب كون المستخلفين بها كذلك.

وهذا يختصّ الآية بأئمتنا عليهم‌السلام ، لثبوت النصّ من الكتاب والسنة والمعجز على خلافتهم.

__________________

(١) النمل ٢٧ : ١٦.

(٢) الأعراف ٧ : ١٤٢.

(٣) الأنبياء ٢١ : ١٠٧.

٣٧٥

ولا يجوز أن يريد تعالى الاستخلاف على الوجه الأخير ، لأنه سبحانه أضافه إليه ، وذلك يقتضي حسنه وإباحة التصرف له ، وتملّك البلاد والعباد على جهة الغلبة قبيح لا يجوز إضافته إليه سبحانه ، ولا يحسن معه التصرف على كلّ حال.

فان جاز للمجبّرة إضافة خلافتهم إلى الله تعالى ـ من حيث تمّ لهم تملّك أمر الأمة وتصريفهم على إرادتهم ـ لم يجز ذلك لأهل العدل ، ويلزمهم عليه إضافة خلافة كلّ متغلّب إلى الله تعالى من بني أمية وبني عباس ، بل عبّاد الأصنام ، فان التزموا ذلك ارتفعت المزية ، ولم ينازعهم في استحقاق القوم سمة الخلافة على الوجه الذي يستحقه كلّ متغلّب وظالم ، إذ ذلك صريح مذهبنا المدلول عليه ، وليس مما يريدونه في شيء ، وإنما يمنعهم من إثبات خلافتهم على وجه يحسن معه إضافتها إلى الله تعالى حسب ما اقتضته الآية ، فأمّا على وجه يقبح لا يجوز مع إضافتها إلى الله تعالى فغير منازعين فيه ، والآية أجنبية منه.

ومنه : قوله تعالى : ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) (١).

وأولو البأس هم أهل الردّة والروم وفارس ، والداعي إلى قتالهم أبو بكر وعمر وعثمان ، وقد تضمّنت الآية فرض طاعتهم ، فاقتضى ذلك إيمانهم وإمامتهم.

والجواب : من وجوه :

منها : أن الآية نزلت في المتخلّفين عن الحديبية بعد الأمر بمنعهم من الخروج إلى خيبر ذات المغانم ، المنصوص على منع هؤلاء المخلّفين منها ، فاقتضت اختصاص الدعوة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد دعى بعد خيبر إلى حنين وفتح مكّة وتبوك وغيرهن باتفاق ، لأنّ الله تعالى حرّم حضور خيبر ومغانمها على المخلّفين عن الحديبية بإجماع ونص التنزيل في قوله تعالى : ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ١٦.

٣٧٦

نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ ) (١) ، يعني سبحانه : ما أمر به من تحريم الخروج الى خيبر (٢) على المخلّفين عن الحديبيّة ، فقال رادّا عليهم : ( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٣) الآية ، ثم قال سبحانه : عقيب هذه الآية : ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ ) (٤) الآية ، يريد سبحانه : هؤلاء المخلّفين عن الحديبية ، وذلك دالّ على أنّ الداعي لهم هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقوله : ( فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (٥).

وتضمّن هذه الآية للخبر عن نفي الخروج معه وقتال الأعداء أبدا باطل من وجهين :

أحدهما : أنّ الآية المتعلّق بها في إمامة القوم نزلت في سنة ست بعد خيبر في المخلّفين عن الحديبية باتفاق العلماء بالتفسير وما يقتضيه ظاهرها على ما بيّناه ، وهذه الآية نزلت في سنة تسع في المخلّفين عن تبوك ، وإذا كان المراد من المخلّفين بآية الفتح غير المخلّفين بآية براءة على تبوك سقط التعلق.

وأيضا مخلّفي آية الفتح معرضون بالدعوة للثواب بقوله تعالى : ( فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً ) (٦) ، ومخلّفي آية براءة مقطوع على كفرهم وعذابهم وموتهم عليه ومصيرهم إليه في سياق الآية ، برهان ذلك قوله سبحانه : ( إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ١٥.

(٢) في النسخة : « جبابر ».

(٣) الفتح ٤٨ : ١٥.

(٤) الفتح ٤٨ : ١٦.

(٥) التوبة ٩ : ٨٣.

(٦) الفتح ٤٨ : ١٦.

٣٧٧

فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) (١) ، فوجب أن يكون المذكورون في آية براءة غير أولئك ، للقطع على عقاب هؤلاء وكفرهم وموتهم على ذلك ، وتعريض أولئك بالطاعة والثواب.

ومنها : أنّ إضافتها إلى القوم فرع لصحة كونهم دعاة إلى الجهاد على وجه يحسن ، وذلك فرع لثبوت إمامتهم ، وقد بينا فسادها على أصولنا وأصولهم ، فاقتضى ذلك قبح دعوتهم.

وإذا وجب ذلك ، فلو كان الداعي غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لوجب أن يكون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، لأنه لم يدع أحد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المخلّفين دعوة صحيحة غيره بنصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وثبوت إمامته في حال دعوته باجماع.

ولا يقدح في كونه داعيا قوله سبحانه في المدعوّ إليهم : ( تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) (٢) ، ومحاربوا علي عليه‌السلام مسلمون.

لأنهم عندنا وعند أكثر أهل العدل ليسوا مسلمين.

أما نحن ، فلما قدّمناه من الفتيا بكفر جاحد النصّ ومحارب المنصوص عليه ، ولأنّا نعلم من حال القوم استحلال دمه وذريته وشيعته ، واستحلال دماء أهل الايمان كفر ، ولأنه وأصحابه كانوا مصرّحين بكفرهم.

وقوله عليه‌السلام ، والله ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) (٣) ، ومن طرق أخر : ( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ ) الى قوله ( أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) (٤) ، ولو كانوا مسلمين لكان واصفهم بالكفر ضالا ، وهذا ما لا يطلقه مسلم.

ولاتفاق النقلة على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حربك يا علي حربي وسلمك

__________________

(١) التوبة ٩ : ٨٣ ـ ٨٥.

(٢) الفتح ٤٨ : ١٦.

(٣) المائدة ٥ : ٥٤.

(٤) التوبة ٩ : ١٢.

٣٧٨

سلمي ، وأنّه لم يرد نفس حربه ، لتغايرهما ، فلم يبق إلاّ أنه أراد أن حكم حربك ومحاربك حكم حربي ومحاربي ، وحرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كفر ، ومحاربه كافر ، فيجب الحكم على حربه ومحاربه بذلك.

وأمّا من خالفنا من أهل العدل ، في اعتقادهم أنّ الواقع منهم كبيرة يخرج عن سمة الاسلام إلى الفسق ، وإذا لم يكونوا مسلمين صحّ تعلّق الخطاب بهم.

على أنّ الاسلام في اللغة هو الاستسلام ، ولم يكونوا كذلك ، إذ يقول سبحانه : ( أَوْ يُسْلِمُونَ ) (١) يريد يستسلمون ، على أصل الوضع ، وبهذا الوجه يسقط خلاف المجبر ، وإن كان ساقطا بما تقدّم من الأصول الصحيحة المنافية لمذاهبهم الفاسدة.

على أنّا لو سلّمنا أنّ الداعي في الآية من ذكروه ، لم يقتض ذلك إمامتهم ، لأنّ الأمر بقتال الروم وفارس متقدّم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالمجيب لهذه الدعوة طائع لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلذلك استحقّ الثواب ، والمتولي عاص لهما فلذلك استحق العقاب ، وقتال المرتد عن الملّة المجاهر بالحرب واجب على كلّ مسلم إماما كان الداعي لهم أم مأموما باتفاق ، فصارت إجابة هذا الداعي واجبة لكونها إلى واجب ، والتولي عنها قبيح لكونه إخلال بواجب ، لأنّ طاعة الداعي مفترضة على كلّ حال ، بل لكونها لحق لازم بغير دعوة من دعى إليه.

ومنه : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) (٢) الآية.

قالوا : ولا أحد قابل المرتدين غير أبي بكر ، فيجب توجّه الخطاب إليه ، وذلك ينافي ما تقوله الشيعة فيه.

والجواب : أن المأتيّ بهم لقتال المرتدين موصوفين في الآية بصفات تجب على من ادعي لشخص أو أشخاص أن تدلّ على تكاملها له أو لهم.

__________________

(١) الفتح ٤٨ : ١٦. وفي النسخة : « أو يعلمون » ، وهو سهو واضح.

(٢) المائدة ٥ : ٥٤.

٣٧٩

وهي وصفهم : بأنّهم يحبّون الله ويحبّهم ـ وهذا يقتضي القطع على إيمانهم وعلوّ منزلتهم عند الله تعالى ـ وكونهم ذوي ذلّة ورفق بأهل الايمان ، وعزّة وشديد وطي على الكفّار ، مجاهدين في سبيل الله ، ( لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) ، في شقّ ممّا وصفهم به سبحانه.

فليثبتوا تكامل هذه الصفات لأبي بكر ليسلم لهم كونه المقاتل للمرتدين (١) ، وإن ثبت ذلك يغنهم عن الآية في المقصود ، وهيهات ، على أنّا نتبرع ببيان خروج أبي بكر منها.

فنقول : معلوم انهزامه والثاني له بخيبر ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأعطين الراية غدا رجلا كرارا غير فرار يحبّ الله ورسوله والله ورسوله يحبّانه ، فأعطاها عليّا عليه‌السلام ، فاقتضى ذلك ثبوت محبّته لله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومحبتهما له ، والحكم له بالكرّ ، وانتفاء ذلك عنهما ، فخرجا عن مقتضى الآية.

وبعد ، فإنّه وصاحبه لم يكونوا من أهل الذلّة على المؤمنين ، لغلظتهم على أهل بيت نبيّهم عليهم‌السلام ، وعلى سعد بن عبادة والزبير وسلمان وبلال.

وقد صرّح أبو بكر بذلك فقال : وإذا عصيت فاجتنبوني (٢) لا أمثل في أشعاركم وأبشاركم ، مع ما صنعه ببني حنيفة من غير استحقاق ، على ما بيناه.

ووصف الصحابة عمر بالغلظة ، وثبوتها له بظاهر أفعاله.

وحال عثمان بذلك وإقدامه بالضرر القبيح والاستخفاف بأهل الايمان ظاهرة.

ولا من أهل العزّة على الكفّار ولا المجاهدين باتفاق ، على خلوّ ذكرهم بنكاية في كافر أو عناء في شيء من مواقف الجهاد ، وثبوت ذلك أجمع لعلي عليه‌السلام وشيعته.

فيجب خروجهم من مقتضاها ، وتوجّهها إليه عليه‌السلام وإلى من اتبعه مخلصا في قتال المرتدين.

ومنه : قوله تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ

__________________

(١) في النسخة : « ان يقابل للمرتدين ».

(٢) في النسخة : « فتجيبوني ».

٣٨٠