تقريب المعارف

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

تقريب المعارف

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: الشيخ فارس تبريزيان « الحسّون »
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المحقّق
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

ودعوى إمساك الصحابة عنه لا يغني شيئا ، لاحتماله للرضى وغيره على ما بيّناه ، ولحصول الإمساك منهم أيضا عن فاطمة عليها‌السلام وترك النكير عليها في دعوى النحلة والميراث.

ولا يجوز أن يقول جاهلهم في هذا : قد أنكر عليها أبو بكر ، لأنه يقال له : وقد أنكرت هي أيضا على أبي بكر ، وهل من فضل!

ومنها : أنّ هذا الخبر لو كان صدقا لم يختص سماعه بأبي بكر ، بل الوجوب في حكمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إعلام أهل بيته به ، لاختصاص فرض تبليغه إليهم بهم ، لكونه من فروضهم دون أبي بكر.

ولو أعلمهم لم يطالبوا إلاّ عن علم منهم بتحريم المطالبة ، وذلك مأمون منهم بغير خلاف ، ولأنه عليه‌السلام نصّ على أنّ عليا عليه‌السلام أعلم القوم ، وأقضاهم ، وباب مدينة علمه ، ومن لا يفارق الحقّ ولا يفارقه ، وذلك يمنع من جهله بحكم شرعي يعلمه أبو بكر.

وألاّ يبلّغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ولا إلى من تقوم الحجّة بنقله إخلال منه عليه‌السلام بواجب الأداء ، وذلك مأمون منه باتفاق ، فلم يبق إلاّ كذب المخبر به.

وبعد ، فلو (١) سلّم الحديث لم يمنع من مقصودنا من وجهين :

أحدهما : أنّ إعرابه غير مضبوط ، فيصح أن تكون الرواية بنصب صدقة ، فتكون فائدته : أنّ المتروك للصدقة لا يورث ، بخلاف كلّ موص بصدقة لا يمضي منها ما زاد على الثلث.

الثاني : أنه لو ثبت ما أرادوا من نفي التوريث لكان مختصا بما يصح ذلك فيه من أملاكه ، وفدك خارجة عن هذا ، لكونها من جملة الأنفال الّتي لا تملك على حال ، ولا يصح تصرّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا من يقوم مقامه من الحجّة من الأئمة المستحقّين للأنفال في شيء من منافعها بعد الوفاة ، لاختصاص ذلك بالقيام في حفظ الملّة مقام

__________________

(١) في النسخة : « فلم ».

٣٤١

الماضي.

وليس لأحد أن يقول : فأبو بكر بهذه الصفة.

لأنّا نعلم ضرورة أنه لم يدّعها لنفسه ، وذلك يقتضي جهله بهذا الحكم ، أو علمه بأنّه ليس من أهله ، وأيّ الأمرين كان قدح في عدالته.

إن قيل : فعلى أيّ وجه صحّ من فاطمة عليها‌السلام أن تدّعي استحقاقها بالنحلة تارة وبالميراث أخرى.

قيل : للوجه (١) الّذي له حلّ لها التصرف فيها في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، [ و ] هو إذنه لها بذلك ، وبعد وفاته ، إذن أمير المؤمنين عليه‌السلام المستحقّ لها بنيابته في الحجّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تتمكن عليها‌السلام أن تطلبها من هذا الوجه المقتضي لتضليل ولي الأمر دون أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كما لم يتمكّن أمير المؤمنين عليه‌السلام من التصريح بذلك ، فعدلت إلى دعوى النحلة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي صادقة ، لكونها منحولة منه عليه‌السلام.

ولمّا دفعت عنها بفعل من قد اعتقد كونها ملكا للنبيّ عليه‌السلام يصحّ ميراثه قالت : فاذا لم تعطنيها بالنحلة وكانت عندك ملكا لأبي فأنا أولى الخلق بميراثه ، فعدل إلى الخبر الّذي لا حجّة فيه على وجه ، وهي عليها‌السلام في ذلك واضحة للاحتجاج (٢) عليه موضعه ، وإن كان الوجه في استحقاقها ما بيّناه.

على أنّ الرجل قد ناقض ما ادّعاه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحكم به على فاطمة عليها‌السلام بإقراره الأزواج في بيوت النبي عليه‌السلام ، والقميص في يد عائشة الّذي أخرجته للتأليب على عثمان ، والسلاح والفرس والنعلين والقضيب والبردة والعمامة والحمار والناقة العضباء والراية في يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

__________________

(١) في النسخة : « لوجه ».

(٢) كذا في النسخة ، والظاهر أنّ الصحيح : « واضعة الاحتجاج ».

٣٤٢

وذلك لا يعدو أحد أمرين : إمّا كونه كاذبا في الخبر ، أو مانعا لأهل الصدقة ما يستحقونه من هذه الأشياء المقرّة في يد من لا يستحق الصدقة وإن استحقها فهو كبعض الفقراء.

وممّا يدلّ على كونه ظالما بمنع فدك من استمرار تظلّم فاطمة عليها‌السلام منه ، وقولها : فدونكها مزمومة مرجولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحاكم الله ، والزعيم محمد ، وعندها هناك ( يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) ، أفي آية يا بن أبي قحافة أن ترث أباك ولا أرث أبي (١) ، لقد جئت ( شَيْئاً فَرِيًّا ).

إلى غير ذلك من كلامها وهجرانها (٢) إلى أن ماتت ، وإيلافها (٣) على ترك كلامه ، وإيصائها بدفنها ليلا ، لئلاّ يصلّي عليها.

وتظلّم أمير المؤمنين عليه‌السلام في أحوال التمكّن من منعهم فدك ، وقوله المشهور : وكانت لنا فدك من جميع ما أظلّه الفلك ، فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت نفوس آخرين ، ونعم الحاكم الله.

وتظلّم الأئمّة من ذرّيتهما عليهما‌السلام ، والأبرار من ذريتهم إلى يومنا هذا.

ومنها : قتال بني حنيفة وقتلهم وسبي ذراريهم وقسمة فيئهم ، مع ظهور إسلامهم وإقرارهم به ، وعقد الجمع والجماعات في مساجدهم ، والمجاهرة بشعار الاسلام ، وذلك ضلال لا ريب فيه على منصف ، ولا عذر بدعوى منع الزكاة ، لأنّ الظاهر إسلامهم ، ومنع الزكاة غير معلوم ، ولو كان معلوما لم يقتض ردّة إلاّ بعد العلم بكونه صادرا عن استحلال ، لحصول الإجماع على أنّ مانع الزكاة وتارك الصلاة محرّما ليس بمرتدّ ، ولا سبيل إلى ذلك.

ولو كان إليه سبيل لكان مختصّا بالأغنياء من العقلاء البالغين ، دون الفقراء

__________________

(١) في النسخة : « أبيه ».

(٢) في النسخة : « كلامه وهجرانه ».

(٣) في النسخة : « وإيلاقها ».

٣٤٣

والنساء والولدان وذوي النقص عن الكمال.

وفي عموم الانتقام والشهادة بالردّة على [ ال ] جميع دلالة على ظلم المنتقم والراضي به وجهلهما بالأحكام وإباحته الدماء والأموال ووطىء الحرائر بغير عقد واسترقاق المولودين على الفطرة والحرية لغير وجه وإسقاط الاقتصاص من جاني ذلك ودرء الحدّ عن خالد فيما (١) أتاه من الفجور بزوجة مالك بن نويرة ، والاقتصاص منه بمن قتله بغير حقّ يقتضي كفره إن كان مستحلا ، وفسقه إن كان محرّما.

ومنها : نصّه على عمر من غير مشاورة الصحابة ، ومراغمته كثيرا منهم من ذلك ، وايجابه الانقياد له وإن كرهوا ، وذلك خطأ ظاهر ، لأنّ قوله ليس بحجّة يجب اتّباعها باتفاق.

ومن ذلك : تعمّد الكلام في الصلاة ، مع حصول الإجماع بتحريمه ، مع ما يدلّ عليه من قبيح الفعل الفارط المستدرك بالكلام في الصلاة.

وأمّا الأحداث الواقعة من عمر بن الخطاب في ولايته.

فعلى ضروب :

منها : تفضيله عائشة وحفصة في العطاء من غير سبب يوجب ذلك لهما من سدّ ثغر أو حماية بيضة أو عناء في الاسلام ، وفيه منع لمستحق وإعطاء في غير حقّ.

ومنها : حرمان آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما جعله الله لهم من الخمس المأخوذ في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وولاية أبي بكر ، مع تحريم الصدقة عليهم ، وذلك غاية في القصد إلى الإضرار بهم والمبالغة في ظلمهم.

ومنها : اقتراضه من بيت المال ، وفيه استباحة التصرف في غير الملك بغير إذن ، لتعذر الإذن في بيت المال ، لفقد العين في مستحقّه ، وتجويز حصول الحاجة بالأمّة إليه في حال لا يستطيع أداءه لفقره ، أو حصول الموت دونه ، حسب ما روي من وفاته وعليه

__________________

(١) في النسخة : « فما ».

٣٤٤

من بيت المال عشرة آلالف درهم.

ومنها : إسقاط الحدّ والاقتصاص عن خالد بن الوليد بما أتاه إلى بني حنيفة ، بعد تقدّم الإنكار منه في ولاية أبي بكر ، وشهادته على خالد بالفسق ، وإيلائه على الانتصار منه متى يمكن ، وذلك منه إخلال بواجب يقتضي فسق المخلّ.

ومنها : إسقاط الحدّ والتعزير [ عن المغيرة ] بن شعبة ، وجلد ثلاثة من المسلمين حدّ المفتري بتلقينه زيادا الرجوع عن الشهادة ، بقوله : ما كان الله ليفضح رجلا من أمّة محمد على يديك ، فعلم زياد غرضه مع قلّة دينه ، فقال : رأيته بين الشعب الأربع ورأيت نفسا عاليا ، ولم أر الميل في المكحلة ، فأسقط حدّ المغيرة الّذي لو لا هذا التلقين لكان ثابتا من حيث علمنا وكلّ ناظر : أنّ الشهود لم يحضروا من البصرة إلى المدينة ليقيموا الشهادة إلاّ عن يقين بما يشهدون به ، ولذلك سبقوا زيادا بالشهادة ، علما منهم بمشاركته.

وأمّا إسقاطه التعزير عنه ، فقد ثبت بشهادة الأربعة مخالطة المغيرة للمرأة ، وهذا فعل يوجب التعزير بشاهدين ، فضلا عن أربعة ، ولم يفعله ، ولأنه أسقط التعزير عن زياد لكونه معرضا وحده لمخالطه.

ولا عذر بأن يقال : للإمام أن يلقّن ما يدرأ به الحدّ عن المسلم سترا عليه ، لأن المغيرة ليس بذلك أولى من ثلاثة نفر من أفاضل المسلمين ، فلو كان الغرض الستر على المسلم لكان الشهود بذلك أولى ، لكونهم ثلاثة والمغيرة واحدا ، ولهذا كان عمر يقول : ما لقيت المغيرة قطّ إلاّ خفت أن أرجم بحجارة من السماء ، لعلمه بأنّه أسقط عنه حدّا واجبا ، وجلد ثلاثة بغير حقّ.

ومنها : تحريمه ما يعترف بتحليله حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نكاح المتعة ، بقوله على المنبر : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضلالا ، وأنا محرّمهما ، وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج ، فأما متعة الحج فإنّي أكره أن تروح الناس إلى منى شعثا غبرا ويروح المتمتعون مدهنين متطيّبين ، وأما متعة النساء فلا يزال أحدكم يرى في أهله مالا وولدا لا يعرف أباه كهذا ، ورفع صبيّا على يده.

٣٤٥

وهذا القول منه يدل على ثبوت تحليل المتعة ـ إلى أن حرمها هو ـ من وجوه :

منها : أنّ التحريم لو كان ثابتا عن نبيّ الهدى عليه الصلاة والسلام لاستغنى ثبوته عن تحريمه الّذي لا يفيد شيئا ، كاستغناء سائر المحرّمات.

ومنها : أنّه صرّح فيه بقوله : كانتا حلالا أنا أحرّمهما ، فنسب التحليل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأضاف التحريم إلى نفسه ، وليس إليه منه شيء.

ومنها : أنه أطلق القول بتحريم المتعتين ، وقد أجمع المسلمون ونطق القرآن بمتعة الحجّ ، وكونها عبادة في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الآن ، فدلّ ذلك على مساواة متعة النساء لها في هذا الحكم ، وتخصّص تحريمها بقوله في تلك الحال ، لخروج القول منه بتحريمهما مخرجا واحدا.

ومنها : أنه علّل تحريم كلّ منهما بشيء رآه عنده صلاحا ، ولا يجوز تحريم الحلال الشرعي ولا إسقاط العبادة بالرأي على مذهب أحد من الأمّة.

ومنها : أنّها لو كانت حراما في زمنه عليه السلام لاستغنى بثبوت المفسدة في المحرمات الشرعية من تعليل ظاهر الفساد ، وسكوت الحاضرين ليس بشيء يعتدّ به ، لاحتماله ، ولأنه لم يدلّ على تحريم متعة الحج ، فكذلك متعة النساء.

وممّا يدلّ على إباحة هذا الضرب من النكاح إلى أن حرّمه إجماع الأمّة على تحليله في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدم دليل على تحريمه ، وتعذّر إثبات أحد يعرف له مذهب في تحريمه مدّة زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلافة أبي بكر وصدر من ولايته ، وذلك يقتضي تخصّص التحريم به ، وتحريم المعلوم تحليله فسق.

ومنها : تحريمه المغالاة في المهور مع تقرير الشرع بإباحتها ، ورجوعه عن ذلك بقول امرأة ، وقوله : كلّ أحد أفقه من عمر حتّى النساء.

ومنها : ابتداعه صلاة موظّفة ذات صفة مخصوصة في شهر رمضان ، وعقده الجماعة بها ، مع وقوف العبادات الشرعية فرضا ونفلا على المصالح المفتقر بيانها إلى نصّه تعالى ، وهو مفقود فيها ، فثبت أنّها بدعة.

ولأنه عليه‌السلام لم يجمع بهم منذ بعث وإلى أن قبض في صلاة نافلة ، ولو كان

٣٤٦

الجمع شائعا وفيه مصلحة لفعله أو نصّ عليه.

ولأنهم قد رووا عنه عليه‌السلام أنه قال : أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان نافلة جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجمعوا ليلا في شهر رمضان في النافلة ، ولا تصلّوا الضحى ، فانّ قليلا من سنّة خير من كثير في بدعة ، ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالة سبيلها في النار.

وقد أجمعوا أنه قال : لا عمل إلاّ بنيّة ، ولا نيّة إلاّ بعمل ، ولا عمل ولا نيّة الاّ بإصابة السنّة.

وقال عليه‌السلام : من رغب عن سنّتي عند اختلاف أمّتي (١).

واتّفقوا أنّ عمر قال : ـ وقد رأى الناس مجتمعين لهذه الصلاة والمصابيح تزهر إنّها لبدعة ، ونعمت البدعة.

وقد نقل أصحاب السير وغيرهم : أنّ أهل الكوفة سألوا عليها عليّا عليه‌السلام أن ينصب لهم إماما لصلاة التراويح ، فنهاهم عنها وعرّفهم أنّها بدعة وخلاف السنّة ، فنصبوا لهم إماما بغير أمره واجتمعوا لها ، فأنفذ الحسين عليه‌السلام ومعه الدرّة ، فلمّا رأوه وقد دخل المسجد ومعه الدرّة تبادروا الباب وصاحوا : وا عمراه.

وإذا ثبت نهي النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه الصلاة ، ووصفها بالبدعة ، ووصفها ... (٣) وصيّه عليه‌السلام بذلك ، مع اتفاق الأمّة على وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ بدعة بالضلال ، ثبت منعها وضلال الآمر بها.

ولا يمكنهم الامتناع من موجب هذه الروايات ، لأن فيها معلوما يجب العمل به باتفاق ، ومظنونا يجب عليهم العمل به كسائر أخبار الآحاد.

ولا ينجي من ذلك قولهم : إنّها عبادات ذات أفعال وأذكار وأحكام تقرّر الشرع

__________________

(١) كذا.

(٢) في النسخة : « نهى الصلاة النبي ».

(٣) كلمة غير مقرؤة.

٣٤٧

بحسنها.

لأن الصلاة الشرعيّة ليست ذات القراءة والركوع والسجود والتسبيح فقط ، وإنّما تكون كذلك إذا وقعت على الوجه المشروع ، بدليل قبح صلاة الظهر قبل الزوال ، أو إلى غير القبلة ، أو مع إخلال بعض الشروط والأحكام ، أو مع تكاملها لغير الوجه المشروع ، وقبح النافلة في وقت الفريضة المضيّق.

وإذا لم تكن التراويح مشروعة ، خرجت من قبل العبادات إلى حيّز البدع وإن كانت ذات أفعال مخصوصة مثلها تكون عبادة إذا وقعت على الوجه المأمور به.

ومنها : وضعه (١) على الخراج أرضيهم ، مع ثبوت النصّ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والعمل بخلاف ذلك ، وهذا نسخ لما شرعه ، ونسخ شرعه المؤبّد ضلال.

ومنها : نقله مقام إبراهيم عليه السلام من الموضع الّذي نقله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه ، وردّه إلى حيث كان في الجاهلية ، وهذا كالّذي قبله.

ومنها : أخذه الأموال من عمّال البلاد بالتهمة الّتي لا إقرار بها ولا بيّنة ولا علم ، ولا إقرارهم على الأعمال فيما بعد.

ومنها : إقدامه على ضرب كثير ... (٢) كثرة من المسلمين وأهل الذمة بالدرّة ، ومن غير ذنب ، كأبي هريرة وغيره ، وذلك ظلم ، لكونه ضررا خالصا.

ومنها : تقليده معاوية رقاب المسلمين وأموالهم ، مع ظهور حاله وتهمته على الدين وأهله ، وإقراره على الولاية مع استبداده بالأموال ، واتخاذ أعداء الاسلام بطانة ، والسيرة بخلاف السنّة.

ومنها : شويرة (٣) الشورى ، وردّ أمر الإمامة إلى ستة نفر : علي ، وطلحة ، والزبير ، وعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، وقوله فيهم : هؤلاء أفضل أمّة محمّد ،

__________________

(١) كذا.

(٢) كلمة غير مقرؤة.

(٣) كذا في النسخة.

٣٤٨

وسمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يشهد لهم بالجنّة ، وقبض وهو عنهم راض ، وكلّ يصلح لهذا الأمر ، ولا يصلح له سواهم ، فليختاروا رجلا منهم ، فاذا رضوا به فهو الإمام ، ثم قال : فان بايع رجلان لرجل ورجلان لرجل ، وفي رواية أخرى : فان رضي رجلان برجل ورجلان برجل ، فالحقّ في الفرقة الّتي فيها عبد الرحمن ، واقتلوا الثلاثة الأخر ، وإن اتّفق الخمسة وخالف واحد فاقتلوه ، وإن اتفق أربعة وخالف اثنان فاقتلوهما ، [ فإن ] مضت عليهم ثلاث فلم يبرموا أمرهم فاضربوا أعناقهم ، ومن طريق آخر : فاهدموا عليهم البيت ، ووكّل بهم صهيبا الرومي ومعه الرجال بالسلاح لإنفاذ أمره.

فقيل له : ما يمنعك من علي وفي رواية أخرى : ما يمنعك من واحد منهم فقال : أكره أن أتحمّلها حيّا وميّتا ، فقال له المغيرة بن شعبة : فما يمنعك من ابنك عبد الله فقال له : ويلك والله ما أردت الله بذلك ، كيف أستخلف رجلا لم يحسن أن يطلّق امرأته! فقيل له : فألا أدخلت فيهم العباس فقال : العباس طليق ، وهذا أمر لا يصلح لطليق.

ومن طريق آخر : أنّه قيل له : ما يمنعك (١) من واحد منهم ، فقال : من قيل : علي في قرابته [ وسابقته ] (٢) وصهره وبلائه (٣) ، فقال : فيه بطالة وفكاهة (٤) ، ومن طريق آخر : فيه دعابة ، ومن آخر : أنّهم إن ولّوها الأصلع (٥) سلك بهم الطريق ، ومن آخر : و [ أ ] ما أنت يا علي فو الله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض ليرجحهم ، فقام علي موليا ، فقال عمر : والله إنّي لأعلم لكم مكان رجل لو ولّيتموها إيّاه لحملكم على المحجّة البيضاء ، قالوا : من هو قال : هذا المولي من بينكم ، قالوا : فما يمنعك من ذلك قال : ليس إلى ذلك سبيل.

قيل : فأين أنت عن طلحة قال : فابن الزهو والنخوة ، ومن طريق آخر : طلحة

__________________

(١) في النسخة : « يمنّك ».

(٢) في النسخة جاءت كلمة غير مقرؤة ، وأثبتنا ما استظهرناه.

(٣) في النسخة : « وتلايه ».

(٤) في النسخة : « بطالة وفكالة ».

(٥) في النسخة : « الأطبح ».

٣٤٩

رجل متكبّر ، أنف في الأرض وأنف في السماء ، وهذا أمر لا يصلح لمتكبّر ، ومن آخر : وأمّا أنت يا طلحة أفلست القائل إن قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لننكحنّ أزواجه من بعده فما جعل الله محمدا بأحقّ ببنات عمّنا منّا ، فأنزل الله فيك : ( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) (١) الآية قيل : فأين أنت عن الزبير فقال : وعقة لقس مؤمن الرضى كافر الغضب شحيح ، ومن طريق آخر : وأمّا أنت يا زبير فو الله ما لان قلبك يوما ولا ليلة ، وما زلت جلفا جافيا.

قيل : فأين أنت عن عبد الرحمن قال : هو رجل على ضعف ، وهذا أمر لا يصلح لضعيف ، ومن طريق آخر : وأمّا أنت يا عبد الرحمن فإنّك رجل تحبّ قومك.

قيل : فأين أنت عن عثمان قال : لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب المسلمين ، ولو فعلها لقتلوه ، ومن طريق آخر : وأمّا أنت يا عثمان فو الله لروثة خير منك.

قيل : فما يمنعك من سعد قال : صاحب مقنب وقتال لا يقوم بقرية لو ولي أمرها ، ومن طريق آخر : إنّه صاحب صيد وقنص ، وهذا أمر لا يصلح لصاحب صيد.

ثم قال : إنّ هذا الأمر لا يصلح له إلاّ القوي في غير عنف ، رقيق في غير ضعف ، جواد في غير سرف ، والله لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا ما تخالجني فيه الشكوك ، أو : لم يخالجني فيه شك ، وفي بعض الروايات : لو كان أبو عبيدة حيّا لولّيته.

وردّ أمر الصلاة إلى صهيب ، وقبض ، فاجتمعوا للاختيار ، ولم يكن سعد حاضرا في رواية ، فقال عبد الرحمن : أنا عديل الغائب ، فأيّكم يهب سهمه فيختار فأمسكوا ، فقال : أنا أهب سهمي في الإمامة على أن أختار من شئت ، فأمسكوا ، فقال : لا بدّ من أحد الأمرين ، وعضد الحاضرون قوله ، فأجاب القوم إلى ردّ الأمر إليه ، وأمسك أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : ـ والناس معه ـ ما لك يا أبا الحسن ، إمّا أن تسقط حقّك من الإمامة وتختار من شئت ، أو ترضى بما رضي به أصحابك ، فلم يجد بدّا من الرضى ، فاستظهر

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٥٣.

٣٥٠

على عبد الرحمن بأخذ الميثاق لتحكمن بالكتاب والسنّة ، فبدأ به ، فقال : امدد يدك أبايعك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر ، فقال عليه‌السلام : أبايعك ـ وفي الرواية الأخرى : آخذها ـ على أن أسير فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه ، فردّ يده وأتى عثمان ، فقال له مثل قوله لعلي عليه‌السلام ، فأجابه إليه ، فبايعه ، وأخذ الحاضرين بالبيعة له فبايعوه ، وامتنع علي عليه‌السلام ، فقال له عبد الرحمن : بايع وإلاّ ضربت عنقك ، في تاريخ البلاذري وغيره.

ومن طريق آخر : أنّ عليا عليه‌السلام خرج مغضبا ، فلحقه أصحاب الشورى ، فقالوا له : بايع وإلاّ جاهدناك ، فقال له : يا عبد الرحمن خئونة (١) خنت دهرا ، ومن طرق أخر عن الطبري وغيره : نصعت الخئونة (٢) يا بن عوف ، ليس هذا أول يوم تظاهرتم علينا فيه ، ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) ، والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك ، والله كلّ يوم ( فِي شَأْنٍ ) ، فقال له عبد الرحمن : لا تجعل على نفسك سبيلا ، إنّي قد نظرت وشاورت الناس ، فإذا هم لا يعدلون بعثمان.

وروى الطبري : أن الناس لمّا بايعوا عثمان تلكّأ علي عليه‌السلام ، فقال له عبد الرحمن : فمن ينكث ( فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ) ، فرجع علي عليه‌السلام فبايع.

ومن غير طريق الطبري : أنّ عبد الرحمن قال لعلي عليه‌السلام : قد قلت ذلك لعمر ، فقال له عليه‌السلام : أولم يكن ذلك كما قلت.

فلمّا يئس علي من رجوعهم إلى الحقّ خطبهم ، فذكر مناقبه وذرائعه إلى الإمامة والنص عليها في مقام (٣) بعد آخر ، يقرّرهم على كلّ فضيلة ونصّ ويناشدهم الله تعالى ، فيقرّون.

هذه صورة الشورى ، قد ذكرناها جمل ما يحتاج إليه.

__________________

(١) كذا.

(٢) كذا.

(٣) في النسخة : « والنصّ عليها بها في مقام واحد ».

٣٥١

والطعن على عاقدها من وجوه :

منها : أنّه مخالف بذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله على مذهبي القائلين بالنصّ والاختيار ولمن نصّ عليه ولجميع الأمّة ، وذلك ضلال بغير شبهة.

فأمّا مخالفته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلأنّ الشيعة تقول : إنّه عليه‌السلام نصّ على رجل بعينه حسب ما دللنا عليه ، ومن خالفها يدّعي أنه عليه‌السلام لم ينص على أحد ، وترك أمر الإمامة إلى الأمّة بأسرها لتختار من شاءت ، والشورى بخلاف الأمرين بغير شبهة.

وأمّا مخالفته لأبي بكر ، فلأنه نصّ عليه بالخلافة شاءت الأمّة أم أبت ، وليست الشورى كذلك.

وأمّا مخالفته لسائر فرق الأمّة ، فلا شبهة في مخالفته بالشورى للقائلين بالنصّ والدعوة والميراث ، والاختيار عند القائلين به عقده مردود إلى جميع العلماء ، وتسليم العامة في قصير الزمان أو طويله ، ولا أحد منهم يجيز عقدها ببعض العلماء ، ولا تخص بولايته واحدا من واحد ، ولا إماما من مأموم ، ولا يعيّن مقدار زمانه ، والشورى بخلاف ذلك.

هذا كلّه لانّها مقصورة على اقتراح عمر دون سائر الأمّة ، مع كونه واحدا منها ، ولم يجعل الله له ذلك دونها على رأي أحد ، ومقصورة على نفر من الأمّة تخيّرهم برأيه معدودين لا تجوز الزيادة عنده فيهم ، ولا أمارة على ثبوت الإمامة باختيارهم فضلا عن دليل ، ومنحجز عليهم في الاجتهاد ، وترجيح فرقة ابن عوف على الأخرى وتضيّق زمان الاختيار ، مع إجماع الأمّة على أنّه لا يحجز في رأي مجتهد ولا تعيين لمدّة زمانه ، ولا دليل على قبول رأي مجتهد دون مجتهد.

ومنها : شهادته للقوم بالجنّة والرضوان من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وصلاح كلّ منهم للإمامة دون سائر الصحابة ، ثم نقض ما أبرم ، وأكذب ما أخبر من وجوه :

أوّلها : وصفه كلا منهم بصفة تمنع من صلاحه للإمامة ، هذا بالدعابة ، وهذا

٣٥٢

بالبخل ، وهذا بالكبر ، وهذا بالصيد واللعب ، وهذا بمحبّة أعداء الدين ، وهذا بالضعف ، وهذا تفصيل يقتضي نقض تلك الجملة بغير شبهة ، مع وضوح برهان الكذب في أحد الخبرين ، وكونه معذورا إن كان صادقا في التفصيل بتعريض من لا يصلح للإمامة للاختيار لها ، إذ لا فرق بين أن يقلّدها من لا يصلح لها وبين أن يعرضه لها.

ومنها : أنّه شهد لعبد الرحمن بالضعف ، وجعله عيارا على القوم ، ومن كان ضعيفا في دينه أو رأيه ـ إذ ضعف الحال معلوم خلافه ـ لا يجوز أن يجعل عيارا على الأمّة.

وثالثها : أنّه لم يصف أحدا من القوم ـ برواية أحد ـ إذ وصف به عليا عليه‌السلام : من قوّة الإيمان ، والبصيرة بالأمر ، وسلوكه بمن تبعه المحجّة البيضاء ، فكان ينبغي أن لا يعدل به عن الأمر ، لشكه بل قطعه في كلّ منهم بخلاف ذلك ، أو بجعله على أقلّ الأحوال عيارا عليهم ، ولا يجعل من شهد له بالضعف في الرأي والدين بمطلق القول عيارا عليه ، ويعرض بقتله من أول قوله إلى آخره ، لأنّه المظنون خلافه من دون الجماعة ، ليقدم النصّ عليه ، ومن لم يزل يسمع منه من التظلم التقدّم عليه والترشّح للأمر دونه ما لم يسمع من غيره ، بقوله : وإن خالف واحد فاقتلوه بعينه ، ثم ظنّ مشاركة الزبير له لكونه ابن عمّته ولما كان من التحيّز إليه يوم السقيفة والغضب له وتجريد السيف واستمراره على ولايته ، فقال : وإن اتفق اثنان وأربعة فاقتلوا الاثنين ، ثم ظنّ مشاركة طلحة للزبير في الرأي [ لما ] بينهما من الأخوّة ، فقال : فان بايع رجلان لرجل ورجلان لرجل فكونوا مع الثلاثة الّذين فيهم عبد الرحمن واقتلوا الثلاثة الأخر ، ظنّا منه أنّ عبد الرحمن لا يفارق عثمان ، للصهر الّذي بينهما ـ عبد الرحمن زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وأمّها أمّ أروى أمّ عثمان ، فهي أخته لأمّه ـ وسعد ابن عم (١) عبد الرحمن ، فأولئك الثلاثة حزب ، وهؤلاء حزب ، فبيّن الأمر من أوله إلى آخره على قتل علي عليه‌السلام.

ولم يخف ذلك عليه عليه‌السلام ، لأنه قال لابن عباس : إنّ القوم قد عادوكم بعد نبيكم لعداوتهم له في حياته ، ألا ترى إلى قول عمر : إن يبايع اثنان لواحد واثنان لواحد

__________________

(١) في النسخة : « ابن عم بن ».

٣٥٣

فالحقّ حقّ عبد الرحمن واقتلوا الثلاثة الأخر ، أما والله ما أراد غيري ، لأنّه علم أنّ الزبير لا يكون إلاّ في حيزي ، وطلحة لا يفارق الزبير ، فلم يبال إذا قتلني والزبير أن يقتل طلحة ، أما والله لئن عاش عمره لأعرّفنه سوء رأيه فينا قديما وحديثا ، ولئن مات ليجمعني وإيّاه يوم يكون فصل الخطاب.

ورابعها : أنه عرض للأمر من يظنّ به الفساد في الدين من تقديمه أعداءه من آل أبي معيط على رقاب المسلمين.

وخامسها : أمره بقتل الستة تارة ، وبقتل اثنين أخرى ، وبقتل ثلاثة أخرى ، وبقتل الجميع إن لم يبرموا أمرهم إلى ثلاث من غير حدث ، وهذا عظيم ، لكونه نصّا على قتل أهل الجنّة والأفاضل [ من ] الصحابة من غير حدث ، إذ لا يجوز على رأي أحد قتل المخالف فيما طريقه الاجتهاد ، ولا يسوغ في الشريعة استحلال دم من لم يصحّ اجتهاده في ثلاث ، ولا يقوم برهان على كون الحقّ في اجتهاد عبد الرحمن دون علي عليه‌السلام المقول فيه : علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيث ما دار ، ولا يجوز عند أحد من المجتهدين رجوع العالم إلى مثله ، ولا ترك اجتهاده له ، ولا يمكن أحدا إقامة برهان على أنّ إصابة عبد الرحمن الحقّ باجتهاده دون من خالفه مع فساد ذلك يقتضي استحلال دم المقطوع له بالثواب ، إذ كان القطع بثوابه مانعا من استحقاقه العقاب الّذي قتل قسط منه (١) لو كان الاجتهاد مسوّغا ذلك ، فكيف والمعلوم خلافه.

وبعد ، فاذا قتل الستة الّذين هم عنده الصالحون للإمامة دون سائر الصحابة ، من يرى يقوم بأمر الأمّة أو ليس هذا منه نقضا للاختيار وفساد الإمامة ، أو إيجاب ذلك لغير أهله رأي مصيب لمن يأمر بقتل رؤساء القبائل وأعلامها؟

أو لا يعلم أو يظنّ أنّ الإقدام على قتل علي عليه‌السلام وهو سيّد بني هاشم ومن له في الإسلام ما ليس لغيره من المآثر ، وعثمان وهو سيّد بني أميّة ، وطلحة وهو سيّد بني تيم ، والزبير وهو سيّد بني أسد ، وسعد وعبد الرحمن وهما سيّدا بني زهرة ـ صبرا على

__________________

(١) كذا في النسخة.

٣٥٤

رؤوس الأشهاد من غير استحقاق ـ فتح لباب فتنة صماء وطخية عمياء ، لا يرجى صلاحها ولا يؤمّل فلاحها!

وكيف لا يظنّ ذلك من وصف عثمان بما آل أمره إليه وكيف لم يصرفه عن الأمر مع ما فيه من عظيم الوزر ما صرفه عن ولاية عثمان من الخوف لتقديم آل أبي معيط وأي شبه بين تقديم رئيس على رئيس وبين قتل الرؤساء بغير استحقاق من المبالغة في الفساد!

أو ليس هذا من أوضح برهان على سوء رأيه في أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقبح نظره لهم ، وقصده إلى فساد أمرهم!

فأيّ عدالة تكون مع هذه الحال ، بل أيّ إسلام عند متأمّل لها!

ومنها : وصفه لأمير المؤمنين بالفكاهة والبطالة ، وهذه حال الخليع ، المتهالك في المجون ، البعيد عن الرصانة والوقار ، المعلوم ضرورة من حاله ضدّ ذلك من الهيبة والوقار ... (١) والحلم ، ويكفي في ظهور كذبه فيما وصف به عليا عليه‌السلام أنّه لا يمكن أحدا من الخلق أن يضيف شيئا واحدا يدلّ على فكاهته وخلاعته ، بل لم يزل الخلق يعتذرون المعدول عنه بتشدّده في الحق ، وحمله القريب والبعيد والولي والعدوّ على موجبه ، إلاّ أن يريد بذلك حسن الخلق والبشر بأهل الإيمان ، المنافي لفظاظته (٢) وغلظته على المؤمنين ، فيكون ذلك عائدا بالقدح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الموصوف به في القرآن ، والمعلوم من حاله بظاهر الأفعال والمتفرد (٣) من دينه عليه‌السلام ، فيؤول الحال إلى قبيح من الأول.

ومنها : وصفه لعبد الرحمن بالضعف ، وجعله عيارا على الأمّة ، ومعلوم أنه لم يرد بضعفه الفقر ، لحصول العلم بسعة حاله ، ولا ضعف الجسم ، لأنه لا يمنع ضعف الجسم إذا

__________________

(١) كلمة غير مقرؤة.

(٢) في النسخة : « لفظاظته هو ».

(٣) كذا.

٣٥٥

صحّ الرأي والدين وقوّة القلب في الحرب من تولّي الأمر ، فلم يبق إلاّ ضعفه في الرأي والدين ، ومن كان كذلك لا يجوز لمن عرفه أن يجعله عيارا على الأمّة كافة ، ويأتمنه على أمرها ، ويوجب الانقياد له ، وإن أبى ذلك آب قيل : ... (١) بصواب الرأي وعصمة الدين.

ومنها : إخراجه العباس ره ، مع عظم قدره في الاسلام ، وحسن رأيه فيه في جميع الأحوال ، وتخصيصه بقربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له ، وتكامل ما يعتبرونه من الشروط في الإمامة له ، وتقديم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له على جميع أصحاب الشورى ، عدا علي عليه‌السلام.

وأيّ أمر يصلح له طلحة مع حمقه وكبره ، والزبير مع بخله ، وعبد الرحمن مع ضعفه ، وعثمان مع سوء رأيه ، وسعد مع فكاهته ، لا يصلح له العباس!

واعتذاره ابنه مع زهده وعلمه ، وإنكاره على المشير عليه به ، واعتذاره بجهله بحكم الطلاق ، إذ ذاك يقدح في إمامته (٢) ، لحصول العلم بجهله بكثير من الأحكام الراجع فيها إلى علي تارة وإلى معاذ أخرى وإلى غيرهما من الصحابة.

والّذي يزعم أنّ طلحة أو الزبير أو واحدا من الخمسة الّذين يخيّرهم أفقه من عبد الله ، ومعظم ما يرويه الفقهاء عنه ، ولا رواية بشيء من الفقه عن بعض القوم ، وإن روي فيسير من كثير مما روي عن عبد الله ، بل لم يرو عنه نفسه بعض ما روى عن ابنه ، فان كان لا يصلح للإمامة لجهله فأبوه بذلك أولى ، لكونه أعلم منه ، بدليل تضاعف المحفوظ عنه من الأحكام ما روي عن أبيه ، وقوله معتذرا لاخراجه من الأمر ... واحد منهم بالخلائق ، إشعار منه ... (٣) إذ لو كانت الخلافة دينا ، والسيرة عادلة ، لكان الواجب المثابرة عليها ، وحث الحميم على المشاركة فيها وإن شقّ ذلك ، إذ كان الحازم في الدين لا يتملّص من الحق ، ولا يرغب بنفسه ، ولا خاصته عمّا به يتم الثواب إن شقّ بحمله

__________________

(١) كلمة غير مقرؤة وظاهرها : « ما يمسك ».

(٢) أي : إمامة عمر.

(٣) عدّة كلمات غير مقرؤة.

٣٥٦

وعظمت مئونته ، وفي تملّصه من هذا الأمر ورغبته بولده عنه ، كاشف عن بصيرته بسوء عاقبته وقبح منقلبه ، أو رغبته عن الحق وزهده فيما يستحق به الثواب ، وكلّ منهما قبيح.

ومنها : قوله إني أكره أن أتحمّلها حيّا وميّتا ، لأنّه بما فعله في الشورى متحمل لها في حياته وبعد وفاته ، إذ لا فرق بين أن ينصّ على واحد بعينه ، وبين ما فعله من حصر الأمر في ستة نفر معيرا عليهم عبد الرحمن ، منحجرا عليهم في اجتهادهم ، إذ لو كان صادقا في كراهيّة تحميلها الأزجى الأمر على الأمّة كلّها.

ومنها : تخيّره للشورى من يعلم هو وكلّ حاضر وغائب ومتجدّد في الأزمنة كون غيره أسبق إلى الاسلام ، وأفضل هجرة ، وأعلم بصيرة ، وأحسن بلاء في الاسلام ، وأعلم بالأحكام ، وأعرف بالسياسة ، وآمن على الأمّة ومن لم يعاب قطّ في شيء ، ولا قدح عليه بشيء ، كفضلاء بني هاشم ، وذوي السوابق والهجرة من قريش وغيرهم ، وعظماء الأنصار المشهود لهم بصواب الرأي وحسن المآل.

في كونهم (١) مقدوحا في أنسابهم وبواطنهم ، وتهمتهم على الاسلام وأهله.

[ بيان حال عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ]

لتناصر الخبر من طريق (٢) الشيعة وأصحاب الحديث بأنّ عثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن من جملة (٣) أصحاب العقبة ، نفروا (٤) برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأنّ عثمان وطلحة القائلان : أينكح محمد نساءنا ولا ننكح نساءه! والله لو قد مات لأجلنا على نسائه السهام!!

وقول طلحة : لأتزوجن أم سلمة ، فأنزل الله سبحانه : ( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا

__________________

(١) العبارة كذا وردت في الأصل ، ويوجد سقط ظاهر.

(٢) في البحار : « طريقي ».

(٣) في النسخة : « من الجملة ». والمثبت من البحار.

(٤) في البحار : « الّذين نفروا ».

٣٥٧

رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) (١).

وقول عثمان يوم أحد : لالحقنّ بالشام ، فانّ لي بها صديقا يهوديا.

وقول طلحة : لألحقن بالشام فانّ لي بها صديقا نصرانيا ، فأنزل الله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٢) الآية.

وقول عثمان لطلحة وقد تنازعا : والله إنّك أول أصحاب محمد تزوّج يهودية (٣) ، فقال طلحة : وأنت والله لقد قلت ما يحبسنا هاهنا ألا نلحق بقومنا.

وقد روي من طريق موثوق به ما يصحّح قول عثمان لطلحة ، فروي أنّ طلحة عشق يهودية فخطبها ليتزوّجها ، فأبت إلاّ أن يتهوّد ، ففعل.

وفيه قال الشاعر ، شعر :

يهوديّة قالت وأومت بكفّها

حرام عليك الدهر حتّى تهوّدا

وقدحوا في نسبه : بأنّ أباه عبيد الله كان عبدا راعيا بالبلقاء ، فلحق بمكة ، فادعاه عثمان بن عمرو بن كعب التميمي (٤) ، فنكح الصعبة بنت دزمهر الفارسي ، وكان بعث به إلى اليمن ، فكان بحضرموت خرازا.

وفيه يقول حسان بن ثابت ، شعر :

ألم تر أنّ طلحة في قريش

به من الغطارفة العظام

وكان أبوه بالبلقاء عبدا

في يده الشوك في جنح الظلام

هو العبد الّذي جلب ابن سعد

وعثمان من [ ال ] بلد الشآم

وقول الآخر ، شعر :

بني دزمهر والدعي أبوهم

رجيع (٥) قد الصقت بالأكارع

__________________

(١) الأحزاب ٣٣ : ٥٣.

(٢) المائدة ٥ : ٥١.

(٣) في البحار : « بيهودية ».

(٤) في البحار : « التيمي ».

(٥) في النسخة : « رجع ».

٣٥٨

بني ... في أبوكم ...

في الوادي يفتق الضفادع

وأنتم ببيع اللحم أحذق منكم

بقرع الكماة بالسيوف القواطع

وأمّا الزبير فكان أبوه ملاّحا بجدة ، وكان جميلا ، فادعاه خويلد ، وزوّجه عبد المطّلب صفيّة.

ورووا أنّ الحسين بن زيد بن الحسن كان واليا على المدينة من قبل المنصور ، فعزل وأقيم للناس رجاء أن يطّلع عليه بجرم يعذر في عزله ، فلم يوجد له ذنب ، فلما كان في اليوم الثالث دسّوا عليه رجلا من ولد الزبير ، فضربه بنعل في يده وقال : أنت الذي صنعت بي وصنعت ، فقال له الحسني : ثكلتك أمّك ومن أنت قال : أنا من لا ينكر ولا يجهل ، أنا فلان بن فلان بن الزبير بن العوام ، قال : نعم يا بن الملاح هكذا ينبغي أن تكون ، إن أحببت أن أدلّك على سفن أبيك فعلت ، فانه كان ملاحا من أهل جدة وسفنه بها ، قال الزبيري : يا معشر المسلمين اشهدوا على ما يقول لي وقد ولدتني صفية ، قال : هي أدنتك من الظل ، ولولاها لأضحيت في الشمس.

وأمّا سعد ، فقد رووا عنه عليه‌السلام أنه قال : اتقوا دعوة سعد ، يعني على الضلال.

وثبت أنّ عليا عليه‌السلام خطب الناس في خلافته فقال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أخبرتكم بسائقها وقائدها وناعقها ، فقال له سعد بن مالك : أخبرني كم في رأسي ولحيتي طاقة من شعر قال : قد أعلمني خليلي أنّك تسألني عن هذا ، أخبرك أنّ على كلّ طاقة شعر في رأسك ملك يلعنك ، وعلى كلّ طاقة شعر في لحيتك شيطان يقرك ، وأنّ في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول الله الحسين صلوات الله عليهما.

قال : وإنّ عمر بن سعد صبي يدرج.

وقد قدحوا في نسبه بأنّ السلافة بنت مالك العذري قدمت مكة ومعها ابن لها صغير يدعى مالك بن غراب من بني عذرة ، فنزلوا على وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، فنكح وهب السلافة ، فولدت غلاما سمّاه مالكا ، فمات الغلام ، فوثب وهب بن عبد مناف ـ وقيل : هو وهيب ـ فأخذ ولد السلافة من غراب العذري ، فادعاه وخاصم

٣٥٩

فيه العذريّين.

وفي أبي وقاص مالك بن غراب العذري الملصق إلى وهيب بن عبد مناف يقول ضرار :

أمسى يناقرني لئيم واضع

عند المراغة مالك بن غراب

فافخر بعذرة ان فخرت فانهم

ولدوك واترك زهرة بن كلاب

فإذا ظلمت فصحّ فإنك منهم

يا آل عذرة عند كلّ خطاب

وأم سعد بن مالك أبي وقاص حمية ابنة سفيان بن أميّة بن عبد شمس ، وقال : إنّها ملصقة النسب بسفيان.

وأم حمية سمية أمة أبي السرح ... (١).

وأما عبد الرحمن بن عوف ، فأم عوف منبعة أمة خزاعية يقال فيها شرّ ، وهي أم العيداق ، يقال : إنّها أمة عبد المطلب بن هاشم ، ويقال : إنها أمة وحشية لبني كعب آجراها ... (٢) ، وهما عبدان لبني كعب ، قطعت يد أحدهما في سرقة.

وهذه قدوح في أنسابهم إن كانت معلومة منعت على كل حال من تأهيلهم للإمامة ، وإن كانت مظنونة فكذلك أيضا ، لدخول الظن في هذا الباب كالعلم.

ولو لم يقدح فيهم إلاّ بما وصفهم به عمر لكفى في وجوب الرغبة عنهم إلى من لا طعن عليه بشيء ، فكيف بما ذكرناه من حالهم المعلومة أو المظنونة.

هذا مع ظهور فسقهم وتهالكهم في رغبة الدنيا واطراح الآخرة على رأي الفريقين ، بحصرهم عثمان ومن معه من النساء والولدان والبهائم ، ومنعهم جميعا الماء ، وقتلهم لعثمان بعد ذلك ، وطرحه جيفة لا يتمكن أحد من أوليائه أن يدفنه ، ونكثهم بيعة علي عليه‌السلام.

إلى غير ذلك من الأحداث الّتي لا يتمكّن أحد من إضافة شيء منها إلى أحد من

__________________

(١) كلمة غير مقرؤة.

(٢) كلمة غير مقرؤة.

٣٦٠