تقريب المعارف

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

تقريب المعارف

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: الشيخ فارس تبريزيان « الحسّون »
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المحقّق
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٠

مسلم ، ورشقوا أصحابه بالسهام ، فجرحوا قوما وقتلوا آخرين ، وحملوا على أصحابه من كلّ جانب ، وعائشة على جملها محفحفا (١) ، وعلى هودجها الدروع بارزة بين الصفّين تحرّض على القتال.

فحينئذ أذن عليه‌السلام لأنصاره بالقتال ، فلم يكن إلاّ قليلا حتّى صرع الله طلحة والزبير ناكثين غادرين ، وقتل أنصار الجمل ، وولى الباقون مدبرين ، وعقر جمل الفتنة ، وأخذت عائشة ، ونادى مناديه عليه‌السلام : بأن لا يتبع منهزم ، ولا يجهز على جريح ، ولا يعرض لمن ألقى سلاحه أو دخل داره ، وقسّم ما حواه العسكر من كراع وسلاح ومال ، دون النساء والولدان ، ولم يعرض لما خرج عنه من أموال المحاربين وأهليهم ، وعفا عن الانتقام من عائشة ومن سلم من أنصارها ، وأنفذها إلى المدينة في صحبة النساء.

فهذه جمل أحوال أهل الجمل باتفاق الناقلين ، ليست من النكير في شيء ، وظاهرها الطلب بثأر عثمان على مذاهب الجاهلية ، ومنازعة أمير المؤمنين عليه‌السلام الأمر رغبة في الخلافة ، دون الانتصار لحقّ أو دفع الباطل ، وخطأهم في ذلك ظاهر من وجوه :

أمّا عائشة ، فإذا كان المعلوم من حالها عداوة عثمان ، والتعريض به ، والتأليب عليه ، واستمرارها على ذلك إلى أن قتل ، واغتباطها بقتله ، وما سمعته من تولّي طلحة للخلافة ، فلمّا بلغها ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام للأمر رجعت عن ذلك كلّه إلى خلافه. علم أنّ الحامل لها على الطلب بدم عثمان عداوة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، دون الانتصار له.

ولو سلم رأيها في عثمان ، لكان الواجب عليها الرضى بما فعلته الصحابة وأولو البصائر الّذين بهم انعقدت إمامة عثمان وإمامة من تقدّمه عندها (٢) ، الّتي لا يتمكن منها

__________________

(١) كذا.

(٢) في النسخة : « يقدّمه عندهما ».

٣٠١

إلاّ بتولّي الأمر لمثل هذا قبل القيام بأمر الأمّة عند اختيار القوم له بعد عثمان ، من حيث كان سببا يقتضي تمكينه من تنفيذ ما جعل إليه تنفيذه ، وإن لم يكن له وجها لاستحقاقه الإمامة الثابتة له من قبل الله سبحانه ، وإن جهل العاقدون واعتقدوا استحقاقه لها من غير وجهه ، وذلك يعيّن عليه فرض الدخول في الشورى وتقلّد الأمر ، للوجه الّذي ذكرنا ، فكيف يجعل قدحا من النصّ عليه أو تصويبا للمتقدّم دونه.

[ مسألة التحكيم وتحميلها على أمير المؤمنين عليه السلام ]

وأمّا تحكيمه عليه‌السلام الحكمين ، فقد علم كلّ مخالط لأصحاب السيرة وناقلي الآثار أنّ ذلك لم يقع بإيثاره ، بل المعلوم من حاله عليه‌السلام إرادة الحرب والمناجزة لمعاوية وكراهية التحكيم ، وإنّما الجأه أصحابه إلى النزول على حكم معاوية فيما أراده وكادهم به من إيثار التحكيم ، وتوعّدوه على استدامة الحرب بالقتل ، فلم يجد بدّا من إجابتهم ، إذ هم الأنصار الّذين بهم يقاتل على عدوّه ، فإذا قعدوا عن نصرته واضطرّوه إلى مراد خصمه يضيق عليه فرض الرجوع إليهم ، وإلاّ صاروا عونا عليه مع محاربيه ، فلا يتمّ له أمر ، ويعرض نفسه (١) ومن أطاعه للهلكة بغير شبهة ، وفعل يقع على هذا الوجه عذر فاعله فيه واضح.

على أنّه عليه‌السلام ما أجاب إلى [ طلبهم ] (٢) والحال هذه إلاّ بشرط الرجوع إلى الكتاب والسنّة الثابتة ، لعلمه بأنّهما لا يدلاّن على حقّ لمعاوية ، بل هما دليلا إمامته وفرض طاعته والانقياد له ، فلم يرجع بتحكيمه عليه‌السلام إلاّ إلى الحجّة الّتي لو ابتدأ بها قبل الحرب لكان مصيبا ، وكذلك فعل قبل المحاربة ، وذلك شبهة المخالفين عليه من أصحابه.

ولهذا لمّا عدل الحكمان عن موجب الكتاب والسنّة لم يمض حكمهما ، وتجهّز لحرب

__________________

(١) في النسخة : « ويعرض عنه نفسه ».

(٢) في النسخة غير مقرؤة ، واثبتنا ما استظهرناه.

٣٠٢

معاوية ، وسار بأصحابه إليه ، حتّى شغل عنه بالخوارج ، فلمّا فرغ منهم كتب إلى البلاد مستنفرا ، وكرّر الدعوة والاستنفار على عدوّه في عدّة مقامات ، ولم تزل هذه حاله إلى أن عوجل دون ذلك صلوات الله عليه مرضيّا فعله وسيرته.

فأيّ شبهة في التحكيم ، أو فيما ذكروه قبله يمنع من النصّ عليه ، أو تقتضي تصويب المتقدّمين له! لو لا جهل الخصوم بمواقع الأدلّة والشبهة!!

٣٠٣
٣٠٤

[ بطلان خلافة المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه السلام

وأمور متفرقة ]

٣٠٥
٣٠٦

وليس لأحد أن يقدح في ثبوت إمامته عليه‌السلام عن الأدلّة الواضحة ـ عقلا وسمعا وفعلا وقولا ـ بما يدّعي من إمامة المتقدّمين عليه وفساد القول بالأمرين ، لأن هذه الدعوى باطلة على ما اقتضته الأدلّة من مذاهبنا الصحيحة ، وعلى ما اجتنبوه من المذاهب الفاسدة.

[ بطلان خلافة القوم على مقتضى مذهبنا ]

فأمّا فسادها من مذاهبنا الصحيحة فمن وجوه :

أحدها : ثبوت إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام حسب ما دللنا عليه ، إذ كان ثبوتها يسقط فرض النظر في إمامتهم فضلا عن صحّتها ، ويقتضي القطع على فسادها.

وليس لأحد أن يقول : لم كنتم [ أولى ] بأن تمنعوا من إمامة المتقدّمين على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لدعوى إمامته عليه‌السلام ممن منع من ثبوت إمامته ، لصحة إمامتهم.

لاستناد ثبوت إمامته عليه‌السلام إلى العقول والأفعال الّتي لا تحتمل (١) ، والكتاب والسنّة المتقدّمة على ما معه يدّعى (٢) ثبوت إمامة القوم من الاختيار المتعلّق بفعل الأمّة بعد النبي الّذي لا حكم له مع النصّ ، ولا يحسن فعله مع تقديره ، ولا يتوهم مع أدلة العقل وبرهان الفعل ، ولا قدح بدعواه في ذلك ، كما لا قدح بخلق الموذيات وذبح الحيوان وإيلام الأطفال في حكمته تعالى ، لوجوب تقدّم النظر في إثبات فاعل لهذه الأشياء على النظر في حسنها من قبحها ، وتقديمه يقتضي إثبات فاعل حكيم لا يجوز معه فعل القبيح ولا إرادته ، فيسقط لذلك القدح ، ويجب القطع على الحسن ، وثبوت الفرض الحكمي في ذلك ، وإن لم يتميّز كذلك يجب تقديم النظر فيما يدّعى من النص على ما يدّعى

__________________

(١) كذا.

(٢) كذا.

٣٠٧

من الاختيار ، للوجه الّذي ذكرناه ، ومتى يفعل ذلك يعلم ثبوت إمامته عليه‌السلام بالعقل والسمع ، فيعلم به فساد إمامة المتقدمين عليه.

وليس لأحد أن يقول : دعوى ثبوت النصّ على الاختيار وصفته والمختارين وصفتهم تمنع من النظر في دعوى النصّ على الإمامة.

لأنّ مدّعي ذلك لا يستند (١) إلى كتاب ولا سنّة معلومة ، وإنّما يعوّل (٢) على أخبار آحاد ، أو فعل الصحابة يوم السقيفة ، ويزعم أنّ ذلك كاشف عن النص على الاختيار وصفته ، وخبر الواحد لا يوجب العلم ولا يصح به العمل ، ومجيز العمل به لا يجيزه في مسألتنا هذه ، لعموم بلواها ، وفعل الصحابة لا حكم له ، ولا داعي الى النظر فيه مع دعوى برهان العقل ، وثبوت النص من الكتاب والسنّة المجمع عليهما على إمامة علي عليه‌السلام بغير شبهة عند متأمّل.

ولأن الأمّة في الآيات اللاّتي ذكرناها والأخبار المعلومة رجلان : قائل إنّها لا تحتمل النص ، وهم القائلون بإمامة القوم على اختلافهم ، وقائل إنّها دلالة على النص ، وهم الشيعة بأسرهم ، وكلّ من قال ذلك قطع على فساد إمامتهم.

فعلى هذا يجب على كلّ مكلّف أن ينظر في مقتضى هذه الآيات والأخبار المعلومة ، ليعلم هل يدلّ على النص كما تزعم الشيعة ، أو لا يحتمله كما يزعم مخالفوهم ، من حيث كان تقدير كونها دالة على الإمامة يمنع من النظر في فعل الصحابة ، لحصول الخوف المتقدّم للنظر فيها على النظر في أدلّتنا وارتكاب الخطر المرتفعين مع تقديم النظر فيها على فعل الصحابة ، الّذي لا يتقدر فيه ضرر (٣) ، لما يأمن كونها محتملة للنصّ ، ومتى فعل الواجب عليه من تقديم النظر المتكامل الشروط علم دلالتها على النصّ المرتفع به احتمال فعل الصحابة ، للدلالة على إمامة القوم ، فقطع لذلك على فسادها.

__________________

(١) في النسخة : « لا يستنده ».

(٢) في النسخة : « يقول ».

(٣) في النسخة : « ضرور ».

٣٠٨

على أنّ لما أسلفناه من البرهان العقلي على إحالة كون الاختيار طريقا إلى الإمامة يسقط فرض النظر عن كلّ مكلف في إمامة القوم ، لوقوف صحّتها على الاختيار المعلوم فساد كونه طريقا إليها ، ويقتضي قبحه ، لتعلّقه بما ثبت قبحه بالعقول.

ومنها : قيام الأدلّة على وجوب كون الإمام على صفات : من العدالة في الظاهر والباطن وماضي الزمان ومستقبله ، والتقدّم في العلم والفضل والشجاعة والزهد على الكافة.

وذلك يبطل إمامة القوم من وجهين :

أحدهما : أنّه لا أحد من الأمّة قطع على ثبوت هذه الصفات لواحد منهم ، فتجب له فساد إمامتهم ، لعدم القطع فيهم بما يجب ثبوته للإمام.

الثاني : أنّه لا أحد قال بوجوب (١) هذه الصفات إلاّ قطع على فساد إمامتهم ، فإذا كانت ثابتة بالأدلّة الواضحة وجب بها القطع بصحّة فتيا الدائن بها.

ومنها : أنه لا يخلو دليل إمامتهم من أن يكون نصّا ، أو دعوة ، أو ميراثا ، أو اختيارا ، وقيام. (٢) الدلالة على أنّها لا سبيل على تميّز عين الإمام إلاّ بمعجز أو نصّ يستند إليه ، فتبطل الدعوة والميراث والاختيار على كلّ وجه.

ويبطل النصّ ، لأنّه لا أحد قطع بما قلناه إلاّ منع من ثبوته للقوم ، ولأنّ الإجماع سابق لدعوى هذه المذاهب عدا الاختيار ، وأنه لم يحتج بها يوم السقيفة ولا بعده من ترشّح للإمامة أو ادعيت فيه ، وإذا خلت أعصار الصحابة والتابعين وتابعيهم من دعوى هذه المذاهب ، وجب القطع على فسادها.

ولأن فساد إثبات الإمامة بالدعوى معلوم بأول نظر ، لأنه إثبات ما لا دليل عليه إلاّ مجرد الدعوى الّتي لا تميّز حقّا من باطل ، ولأنه لا دليل على كون الدعوة طريقا من كتاب ولا سنّة ، وما لا دليل على إثباته يجب نفيه.

__________________

(١) في النسخة : « يوجب ».

(٢) في النسخة : « وقيامه ».

٣٠٩

ولأن القول بالدعوى يقتضي وجود عدّة أئمة ، والاجماع بخلاف ذلك ، أو سقوط فرض الإمامة ، أو حصول فساد لا يتلافى ، من حيث صحّ أن يدّعي الإمامة في وقت واحد عدة نفر في صقع أو بأصقاع ، وثبوت الكلّ يقتضي عدّة أئمّة ، [ و ] فساد الكلّ يسقط فرض الإمامة ، وإثبات بعض دون بعض اقتراح في الاثبات والنفي ، لعدم الفرق ، ويقتضي أن يغلب ظنّ بعض المكلّفين كون أحدهم أهلا للإمامة دون غيره ، ويغلب ظنّ آخرين بخلاف ذلك ، فيفضي إلى فساد لا يتلافى.

ولأن الميراث منتقض بإجماع الأمّة على اعتبار صفات الإمام ، واستحقاق الميراث من لم يتكامل فيه ، بل لم تثبت له صفة منها ، ولأنه لا دليل على كون الميراث طريقا إلى الإمامة ، وما لا دليل عليه يجب القطع بنفيه.

ولأنّ الاختيار مفتقر إلى نصّ معلوم على تسويغه ، ولا سبيل على ذلك ، ولأن الإمامة لا يملك التصرف فيما يستحقّه الإمام بحقّ الولاية على الأمّة ، فمحال أن تثبت إمامته باختيار ، لأن ذلك يقتضي تمليكه ما لا يملكه المختارون له ، وذلك فاسد بأوائل العقول.

ولأنه يقتضي وجود عدّة أئمّة ، أو انتقاض فرض الإمامة ، أو فساد لا يتلافى ، لأنه لا يخلو أن يكون العاقدون للإمامة جميع العلماء مع تسليم الكافّة لهم من العامة ، أو بعضهم.

ووقوفه على الكلّ يقتضي إيقاف الأمر إلى تجميع علماء الأمّة وعامّتها في مكان واحد للاختيار ، ويتّفق رأيهم على واحد بعينه ، وذلك كالمتعذّر ، لأنّ تقدير اتفاق دواعيهم إلى ذلك ، وقطع الأغراض الدينيّة والدنيويّة ، وانقياد أهل كلّ مصر وإقليم لأهل مصر واحد غير جائز في العادة ، ولو جاز اتفاق ذلك ـ مع بعده ـ لكانت الحال في التعذر على ما بيّناه ، لتعذّر المتّهم بهذا الشأن والباعث عليه والجامع للكفاية له.

وإذا تعذر حصوله بجميع الأمّة لم يبق إلاّ تعلّقه ببعضها ، وفعل بعضها ليس بحجّة ، ولو كان حجّة لاقتضى صحة أن يغلب ظنّ علماء كلّ إقليم بأنّه لا يصلح للأمة إلاّ من يليهم أو يلي غيرهم.

٣١٠

فإمّا أن يعقد كلّ لمن يغلب ظنّه بصلاحه للإمامة ، أو لا يعقد حتى يتفقوا ، واتفاقهم محال على ما بيّناه وفرضنا من ورائه (١) ، من حيث كانت غلبة ظنّ كلّ فريق من العلماء بأنّه لا يصلح للإمامة إلاّ من يليهم أو يلي غيرهم دون ما عداه ، يمنع من رجوعه إلى غيره من العلماء بغير (٢) خلاف بين المجتهدين.

وعقد كلّ فريق لمن غلب ظنّه بصلاحه للإمامة فاسد من وجوه :

أحدها : أنّ فيه إثبات عدّة أئمة في وقت واحد ، والاجماع بخلاف ذلك.

ومنها : أنه يؤدّي على استحلال بعضهم قتال بعض ، لظنّه به خروجه ممّا وجب عليه الدخول فيه من طاعة إمامه ، كما قالوا مثل ذلك في إمامة أبي بكر وعمر وعثمان المعقودة ببعض الأمة ، وهذا ظاهر الفساد ، ولما فيه من إراقة الدماء ، وخراب الديار ، والانقطاع عن جميع المصالح الدينيّة والدنيوية ، فبطل القول بالاختيار ، لما يؤدّي إليه من الفساد.

ولا يجوز أن يكون النصّ طريقا إلى إمامتهم ، لقصوره على دعوى الشذوذ ، وتعذر معرفة الدائن به منذ أزمان ، وفساد وقوف الحقّ في ملّتنا على فرقة لا تعرف في أكثر الأزمان ، ولاستناد دعوى مبنيّة على (٣) خبر واحد لا يجوز إثبات الإمامة به باتفاق ، ولو ثبت لم يدل ، كخبر الأحجار والصلاة :

من حيث كان وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسجد قبا ـ على ما رووه ـ على حجر وقوله (٤) : أبو بكر ، وثانيا وقوله : عمر ، وثالثا وقوله : عثمان ، ورابعا وقوله علي عليه‌السلام ، لا يفيد بظاهره الإمامة ولا دليله ، لأنّه لو كان فيه حجّة لاحتج به القوم يوم السقيفة ، ولاحتج به أبو بكر في خلافة عمر ، ولاستغنى به عمر عن الشورى ، ولاحتجّ به عثمان يوم الدار ، وذلك يدل على أنه مفتعل أو لا حجّة فيه.

__________________

(١) كذا في النسخة.

(٢) في النسخة : « بعين ».

(٣) في النسخة : « إلى ».

(٤) في النسخة : « أو قوله ».

٣١١

وصلاة أبي بكر لو كانت بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن فيها حجّة ، لأنها لم تتمّ له ، لخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باتفاق ، وعزله وتولّي الصلاة بنفسه ، مع ما هو عليه من شديد المرض ، وذلك يدل على أنّ تقدّمه لم يكن عن أمره فلذلك تلافاه ، أو بأمره ونسخه الله ، كقصّة البراءة.

ولو سلّم أنّ تقديمه للصلاة كان بأمره عليه‌السلام وأنّه تولاّها بنفسه ـ وإن كان فاسدا ـ لم يدل على الفضيلة فضلا عن الإمامة ، لصحة عقد الصلاة عندهم بالفاسق ، وعندنا بمن ظاهره العدالة وإن كان فاسقا عند الله ، ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء عندهم من بعده قد قدّموا للصلاة من لا يصلح للإمامة ولا يرشّح لها ولا رشّح باتفاق.

[ بطلان خلافة القوم على مقتضى مذهبهم ]

وأمّا فساد إمامة القوم على مقتضى مذاهب القائلين بها مع تقدير تسليمها فهو : أنّهم متّفقون على أنّه لا يصلح للإمامة إلاّ : الرجل ، الحرّ ، المسلم ، العدل ، العالم ، الشجاع ، السديد الرأي ، العابد ، الزاهد ، القرشي على رأي الجمهور ، فإذا تكاملت هذه الصفات لم تثبت إمامته إلاّ بنصّ من الله تعالى ، واختيار من كافّة العلماء ، وتسليم من الباقين ، مستند إلى نصّ منه تعالى على صفة الاختيار والمختارين ، أو دعوة إلى نفس الموصوف ، ومتى اختلّ شيء من الصفات لم يصلح المرء للإمامة ، وإن دعي أو اختير لها لم تنعقد إمامته ، وإن تكاملت لشخص ولم يحصل نصّ عليه لاختيار ولا دعوة لم تنعقد إمامته ، وإن انعقدت بشيء من ذلك فوقع منه فسق انفسخ العقد وبطلت إمامة المعقود له.

ونحن بمشيئة الله وعونه نبيّن أنّ الصفات لم تتكامل لواحد من الثلاثة ، ثم نسلّمها ونبيّن أنّه لم يحصل على إمامته نصّ ولا اختيار ولا دعوة ، وأنّه لو كانت صحيحة لكان قد وقع منهم في حال ولايتهم من القبائح ما يقتضي فسخها ، ونبيّن أنّه لم يقم دليل على كون

٣١٢

الاختيار (١) ، فسقط بكلّ واحد من هذه دعوى صحّة إمامتهم ، والمنّة لله.

[ عدم تكامل صفات الإمامة للقوم ]

أمّا الحريّة والقرشيّة وظاهر الاسلام :

فقد علم ما يقدح به الشيعة في أنسابهم وإسلامهم ، ويرديه من حيث ميلادهم ، وصحّة ذلك يوجب القطع على نفي الحريّة والقرشيّة والاسلام ، ووروده فقط يمنع من القطع بثبوت ذلك المفتقر صحّة الإمامة إلى ثبوته قطعا.

وأمّا العدالة :

فقد وقع منهم في حال حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يمنع منها ، لفقد العلم بحصول التوبة منه ، وثبت من أحداثهم بعده عليه‌السلام المعلوم حصول الإصرار عليها ما يمنع كلّ واحد من ذلك على أيسر الأمر من العدالة ، ويقتضي فساد الولاية.

أمّا الواقع منهم في حياته عليه‌السلام :

فما روي من قصّة التنفير به عليه‌السلام ليلة العقبة ، والمعاهدة على نزع الأمر من أهله ، وقد ورد ذلك من طريقي الخاصّة والعامة ، وعن جميع المنفرين والمعاقدين ، والثلاثة من جملتهم ، وذلك ضلال لم تثبت منه توبة.

ومنه : انهزامهم يوم أحد وخيبر وحنين ، وكون المنهزم فاسقا ، والنصّ بالتوبة عن المنهزمين في أحد وحنين مختصّ بالمؤمنين ، وليسوا كذلك قطعا ، وإنّ قطعنا نحن على نفي الإيمان عنهم بالأدلّة ، ولفقد ذلك في هزيمة خيبر.

ومنه : احجامهم (٢) عن الحرب في جميع المواطن المحتاج فيها إلى معاونة النساء والصبيان ، وذلك إخلال بواجب.

ومنه : تعقّب عمر ما قاضى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنها ليست دينه ،

__________________

(١) كذا.

(٢) في النسخة : « احكامهم ».

٣١٣

بل هو خير لك يا عمر وللمسلمين (١) ، وقوله أثر ذلك : ألم تعدنا دخول مكّة آمنين محلّقين ، وردّه عليه : لم أعدكم العام وستدخلها إن شاء الله ، ومضيّه إلى أبي بكر منكرا بعد ما قال وقيل له بقوله له : أرأيت ما فعل صاحبك ـ يعني رسول الله عليه‌السلام ـ والله لو أنّ لي سيفه لضربت به وجهه. ولا شبهة في كفر المتعقّب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشاكّ في وعوده ، أو المنكر لما شرعه ، والمضيقة بالصحبة على المخاطب ، وبمثل هذه الكلمة الأخيرة حكموا على بني حنيفة بالكفر والردّة على المسلمة.

ولهذه الأحاديث نظائر كثيرة ، إيرادها مخرج لنا عن الغرض ، من أرادها وجدها في كتاب الفاضح والمسترشد للطبري ، والمعرفة للثقفي ، وغيرهما.

وأمّا الواقع منهم بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبل الاستخلاف فضروب كثيرة :

منها : تخلّفهم عن جيش أسامة بن زيد بن حارثة رضي‌الله‌عنه ، مع تأكيد الأمر عنه عليه‌السلام ـ إلى أن فاضت نفسه ـ بانفاذه ، ولا فرق بين خلافه عليه‌السلام في ما أمر به من المسير مع أسامة ، وبين خلافه فيما أمر به من الصلاة والزكاة والإمامة ، وذلك فسق لا شبهة فيه ، ودعوى خروج أبي بكر من البعث لا يفي شيئا ، لثبوت الرواية به من كافّة الشيعة ، وقد بيّنا كون ما تواتروا به صدقا ، وقد نقله الجمهور من أصحاب الحديث.

[ ولو ] سلّم خروجه من البعث لكان إقراره عمر وأبا عبيدة والمغيرة وسالما على التخلّف ومنعهم من النفوذ فسقا يمنع من عدالته ، إذ لا فرق بين أن يخالف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو يمنع من نفوذه ، ولأن فسق عمر ومن شاركه في العقد لأبي بكر لخروجهم عن البعث بإجماع ـ كاف في تفسيق الجميع ، لأنه لا أحد فرّق بين القوم في العدالة أو الفسق ، ولا يسوغ ذلك اجتهادا ، لأنّه لا حكم للاجتهاد مع ثبوت النصّ ، لكونه فرعا له ، ولأنّ تسويغه (٢) في إبطال النصّ يقتضي فساد الشريعة جملة ، وذلك

__________________

(١) العبارة كذا وردت في النسخة.

(٢) في النسخة : « تسويفه ».

٣١٤

كفر ، وتخصيص [ مخالفة ] النص في موضع دون موضع اقتراح لا يقول به أحد.

ومنه : رغبتهم عن تولّي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتشاغلهم عن تغسيله وتجهيزه والصلاة عليه بأمر الدنيا إلى ... من ... (١) ويعيد من سلم الرغبة عن الصلاة على المبرز في الفضل والعبادة في الملّة ، فضلا عن ... (٢) ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه ، وهذا خبيث جدا.

ومنه : منازعتهم إلى السقيفة لانتهاز الفرصة ، من غير توقّف على حضور العلماء ، ولا مشاورة أحد من بني هاشم ، ولا مكاتبة لأحد من علماء الأمصار ، ولا انتظار لحضورهم ، وذلك إخلال بواجب عند المختارين.

ومنه : طلبهم الإمامة يوم السقيفة من غير جهتي النصّ والاختيار على ما نبيّنه ، وتوصلهم فيها إلى رئاسة الدنيا بما يجب كونه خالصا لله تعالى ، من قولهم : نحن السابقون ، ونحن المهاجرون ، ونحن الّذين فعلنا في الاسلام كذا ، ولا شبهة في فساد عمل يقرّب به إلى منافع الدنيا ، وفساد ذلك مع وجوبه عليهم يقتضي التفسيق بغير شبهة.

ومنه : رضى كلّ واحد منهم بتقليده الأمر بفعل من ليس فعله حجّة من الملّة على ما نبيّنه ، ولا شبهة في فسق من قبل العقد له بمن لا يمضي به العقد عند أحد منهم ، وإذا ثبت فسق القوم المعرّضين للإمامة قبل ثبوت العقد لهم بها لم يصح العقد لعدم [ ال ] شرط المتفق عليه من وجوب عدالة المعقود له.

وأمّا العلم بما يحتاج إلى الإمام فيه :

فبرهان تعرّيهم منه واضح من وجوه :

منها : أن لم يحفظ عن نبيّ الهدى صلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ يوصفهم به ، مع نصّ على أحوال الصحابة في قوله :

أقرأكم أبيّ.

__________________

(١) كلمات غير مقرؤة.

(٢) كلمة غير مقرؤة.

٣١٥

وأفرضكم زيد.

وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ.

وأقضاكم علي.

وأنا مدينة العلم وعلي بابها.

وعلي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيث ما دار.

وقوله لفاطمة عليها‌السلام : زوّجتك أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم علما.

وإخراجه صلى‌الله‌عليه‌وآله القوم من القراءة وعلم الفرائض والأحكام والحلال والحرام دليل على تعرّيهم من الجميع.

ومنها : أنّهم لو كانوا من علماء الصحابة وفقهائهم ، لكانت حالهم في ذلك أظهر من حال علي عليه‌السلام ، ومعاذ ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وزيد ، وأمثالهم الّذين اشتهر حالهم في علم الفتيا ، وسلّم الكلّ لهم التقدّم في العلم ، لقوّة سلطانهم ، والتزام طاعتهم ، والانقياد لهم ، وكثرة شيعتهم إلى الآن ، وفي فقد ذلك دليل على أنّهم لم يكونوا من العلماء.

ولا يقدح في هذا ما روي عنهم من الفتيا في أعيان أحكام ، وحصول الخلاف منهم في مسائل.

لأنّ المروي عنهم من ذلك لا يقصر عنه أدنى المتعلّمين ، ولا يعجز عنه بعض أتباع الفقهاء ، لقلّة عدده وتعرّيه من حجّة واضحة ، وخلوّ أكثره من برهان ، وما يحتاج إليه الإمام من العلم غير ذلك ، من وجوب علمه بالأصول العقليّة والشرعيّة وجملة النصوص الشرعية ، ليصح منه الاجتهاد عندهم.

ولأنّ إلى الإمام الأمر [ بكلّ ] معروف والنهي عن كلّ منكر ، وذلك لا يحسن من دون العلم بحسن المأمور وقبح المنهيّ ، إذ كان الحمل على فعل ما يجوز الحامل عليه كونه قبيحا والمنع مما يجوز المانع منه كونه حسنا قبيح ، وهذا يقتضي كون الإمام عالما بكلّ حسن وقبح عقليّ وسمعيّ ، وحال القوم بخلاف ذلك.

ومنها : اعتراف كلّ منهم بالجهل والقصور عن رتبة الكمال في العلم ، ورجوعه

٣١٦

إلى غيره وتقليده له ، مع اتفاقهم على اختصاص فرض التقليد بالعامي دون المتمكّن من الاستدلال :

فمن ذلك قول أبي بكر : وليتكم ولست بخيركم ، ولي شيطان يغريني ، فإن استقمت فأعينوني ، فإن زغت فقوّموني.

فأخبر أنه يزيغ عن الحقّ ويفتقر إلى تقويمهم ، ولو كان من أهل الاجتهاد لم يسغ له الرجوع إلى غيره ، لكون كلّ مجتهد مصيبا وإن أخطأ وزاغ ، وإن قصّر راجع اجتهاده فردّه إلى موجب الحكم ، ولم يحتجّ إلى مقوّم كسائر المجتهدين الّذين عند خصومنا أنّ أبا بكر أفضلهم فيه وأعلمهم ، ومن كان في هذه الرتبة فهو غنيّ بفضل بصيرته وقوّة اجتهاده عن غيره ، وفي ايقافه التقويم عند الزيغ عن الحكم على غيره دليل على كونه عاميّا.

ومن ذلك : جهله بالحكم في قصّة فاطمة عليها‌السلام ، وما يجب من قبول قولها بغير بيّنة على ما نبيّنه ، وما يلزم في المسلمة من سماع بيّنتها والحكم بها ، وعمله بما يعلم خلافه ، وعمله في الإرث بخبر واحد ، وترك ظاهر القرآن ، مع وجوب تقديمه على أخبار الآحاد بإجماع.

ومن ذلك : جهله بما يجب على بني حنيفة بمنع الزكاة عن تحريم أو استحلال ، وإجراؤه الفقراء والنساء والولدان مجرى عقلاء الأغنياء من الرجال ، مع قبح ذلك بأدنى تأمّل.

وجهله بالأبّ في قوله سبحانه ( وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) (١) ، ومعنى الكلالة وميراث الجدّة ، حتّى أفتاه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

إلى غير ذلك مما حفظ عنه من قصوره عن العلم بما يحتاج إليه المكلّف ، فضلا عن الإمام.

ومن ذلك : جهل عمر بموت النبي عليه‌السلام ، مع وقوعه مشاهدة وتضمّن

__________________

(١) عبس ٨٠ : ٣١.

٣١٧

القرآن له ، حتّى تلا عليه أبو بكر ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (١) ، فقال : كأنّي لم أسمعها ، وهذا يدل على عظيم الجهل وشديد البعد عن سماع القرآن.

ومنه : جهله بموجب الحدود التي يختصّه فرضها ، حتّى أمر مرّة برجم الحامل ، حتّى منعه من ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وروي أنه معاذ ، وقال له : إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها ، فرجع عن رجمها.

وأخرى : برجم المجنونة ـ مع إجماع الأمّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : رفع القلم عن ثلاث : عن الصبيّ حتّى يبلغ ، وعن النائم حتّى ينتبه ، وعن المجنون حتّى يفيق ـ حتّى نبّهه أمير المؤمنين عليه‌السلام على ذلك ، فرجع عنه.

وأخرى : أنه وجد على زعمه رجلا يفجر بامرأة ، فأخذهما ليجلدهما ، فلقيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : ما لك ولهما فقال : يا أبا الحسن وجدت هذا الرجل يفجر بهذه ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : عليك البيّنة ، وإلاّ فلهما في جنبك حدّان ، إلاّ أن يعفوا ، فاستعفاهما فعفوا ، فقال : لو لا علي هلك عمر.

وجهله بما يجب في المملصة (٢) حتّى أفتاه أمير المؤمنين عليه‌السلام بلزوم الدية على عاقلته ، ففضّها لوقته على بني عدي ، وقال : لو لا علي هلك عمر.

وهذه أمور لا يجهلها من له أدنى أنس بالأحكام ، فضلا عن العالم المبرز.

ومنه : جهله بالحكم في المغيرة بن شعبة ، ووجوب تعزيره باتفاق.

ومنه : تكميله الحدّ على ابنه بعد الوفاة ، وجهله بسقوط الحدّ عن الأموات.

ومنه : جهله بأنّ الثابت من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجوز نسخه برأي ولا اجتهاد ، حتّى أقدم على تحريم متعة النساء برأيه ، المعلوم تحليلها من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد اعترف بذلك في قوله ، ومتعة الحج ، المنطوق بها في القرآن المجمع على صحّتها.

__________________

(١) الزمر ٣٩ : ٣٠.

(٢) أملصت المرأة بولدها : أسقطت. الصحاح ٣ : ١٠٥٧ ملص.

٣١٨

ومنه : جهله بما أباحه الله تعالى من المهور ، حتّى حرّم الزيادة على مهر السنّة ، وتوعّد بالعقاب ، حتى ردّت فتياه امرأة ، فرجع فقال : كلّ أحد أفقه من عمر حتّى النساء.

ومنه : جهله بجزية المجوس ، حتّى أفتاه بها عبد الرحمن بن عوف.

ومنه : جهله بموضوع الشرائع ، ووقوف فرضها ونفلها وحرامها على علاّم الغيوب ، حتّى شرع للناس صلاة موظّفة مقنّنة لا يزاد عليها ولا ينقص منها.

ومنه : جهله بإباحة أهل الذمة الإقامة بين ظهراني (١) المسلمين ، حتّى جلاهم عن جزيرة العرب ، وقال : لا يجتمع في جزيرة العرب دينان.

ومنه : جهله بصفة الاختيار وشروطه ، حتّى شوّر (٢) الشورى ، بخلاف ما قرّره أصحاب الاختيار ، وحكم فيها بما لا يجوز في الملّة ، ولا يجهله من له أدنى فطنة وأيسر بصيرة في الاسلام ، على ما نبيّنه فيما بعد إن شاء الله.

إلى غير ذلك من الأمور الدالّة على جهله بما لا يجهله بعض المتفقّهة ، فضلا من رؤساء أهل الاجتهاد.

ومن ذلك جهل عثمان : بقبح ردّ من نفاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن دار الهجرة إليها ، ونفي حبيبه أبي ذر عنها ، وإهانة [ أوليائه ] المخلصين ، وتقريب أعدائه الفاسقين ، وأحكام التسوية في العطاء.

وقصوره عن أدنى منزلة في العلم ، لفقد ذكره في العلماء ، وعدم الإسناد إليه بشيء من الأحكام يعتدّ بمثله.

في أمثال لهذا من فزع كلّ منهم إلى علي تارة ، وإلى معاذ أخرى ، وإلى زيد بن ثابت مرّة ، وإلى ابن عبّاس أخرى ، وإلى غيرهم من علماء الصحابة عند بلوى الأحكام ، وتقليدهم إيّاهم ، وعملهم بفتياهم.

__________________

(١) في النسخة : « الظهراني ».

(٢) في النسخة : « سوّر ».

٣١٩

وهذه حال ينافي ما يعتبرونه من كون الإمام عالما ، ولو لم يكن على قصورهم عن رتبة العلماء إلاّ أنه لم يحفظ عن جميعهم ما يعلم من تفقّه شهر واحد لكفى في الدلالة على جهلهم بالأحكام ، لوجوب ظهور ذلك ، لعلوّ سلطانهم وكثرة أعوانهم.

وأمّا الشجاعة :

فمعلوم خلوّ الثلاثة منها ، وتقدّم أدنا موصوف بشيء منها عليهم ، وأنّ حالهم في مغازي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسراياه ينقسم إلى أمرين :

إمّا تخلّف عن القتال ونكوص عن النزال ، بحيث الحاجة إليهم ماسّة ، كيوم بدر والأحزاب وأمثالهما ، ممّا لا شبهة على متأمّل للأخبار في تخلّفهما في ذين اليومين وغيرهما عن مباشرة الحرب وقتال الأقران.

وإمّا فرار على العقب ، وإسلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيوم خيبر ، وردّهما فيه راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مصرّحين بالجبن ، متلاومين على الفرار ، وظهور الوهن لهزيمتهما في الاسلام ، وغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك ، وذمّهما عليه ، ووصفهما بالفرار ، ونفي محبة الله ورسوله لهما ومحبتهما له تعالى ولرسوله عليه‌السلام.

وانهزامهم يوم أحد ، وإسلامهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه من خلصائه.

وانهزامهم يوم حنين ، ورغبتهم بأنفسهم عن نصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن ثبت معه من أهله ، واختصاص (١) أبي بكر من لوم الهزيمة فيه بما لم يشركه فيه أحد ، لقوله : لن نغلب اليوم من قلّة ، ونزول القرآن بتوبيخه في قوله تعالى : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) (٢).

ورجوع عثمان من الهزيمة بعد ثلاث ، وتوبيخ النبي عليه‌السلام له بقوله : لقد

__________________

(١) في النسخة : « وإنقاص ».

(٢) التوبة ٩ : ٢٥.

٣٢٠