أربع رسائل كلاميّة

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

أربع رسائل كلاميّة

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-964-X
الصفحات: ٣٢٨

مرتين أو مرارا فإن قام كان ذلك وإلاّ فحّج الشيطان فبال في أذنه » (١).

[٢٨] وعن أبي حمزة الثمالي قال : رأيت عليّ بن الحسين عليه‌السلام يصلّي فسقط رداؤه عن منكبه ، فلم يسوّه حتّى فرغ من صلاته ، قال : فسألته عن ذلك فقال عليه‌السلام : « ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا يقبل منه من صلاته إلاّ ما أقبل منها بقلبه ». فقلت : جعلت فداك هلكنا ، فقال : « كلاّ إنّ الله يتمّ ذلك بالنوافل » (٢).

[٢٩] وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّهما قالا : « إنّما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها ، فإن أوهمها كلّها ، أو غفل عن أدائها لفّت فضرب بها وجه صاحبها » (٣).

[٣٠] وعن عبد الله الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السهو ، فإنّه يكثر عليّ ، فقال : « أدرج صلاتك إدراجا ». قلت : وأيّ شيء الإدراج؟ قال : « ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود » (٤).

[٣١] وروى محمّد بن يعقوب بإسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّقوا الظلم ؛ فإنّه ظلمات يوم القيامة » (٥).

[٣٢] وعن أبي جعفر عليه‌السلام : « ما من أحد يظلم بمظلمة إلاّ أخذ الله عزّ وجلّ بها في نفسه ، أو من ماله » (٦).

[٣٣] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه ، أو على عقب عقبه ». قال الراوي ـ وهو عبد الأعلى ، مولى آل سام ـ : يظلم هو فيسلّط على عقبه أو على عقب عقبه؟ فقال : « إنّ الله تعالى يقول : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٣٤ / ١٣٧٨ ؛ ورواه الصدوق في الفقيه ١ : ٣٠٣ / ١٣٨٥ ، وليس فيه : « أو مرارا ».

(٢) التهذيب ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ / ١٤١٥.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٤٢ / ١٤١٧ ؛ الكافي ٣ : ٣٦٣ / ٤ ، باب ما يقبل من صلاة الساهي.

(٤) التهذيب ٢ : ٣٤٤ / ١٤٢٥ ؛ الكافي ٣ : ٣٥٩ / ٩ ، باب من شكّ في صلاته كلّها و ... في المصدرين : « عبيد الله » بدل عبد الله ».

(٥) الكافي ٢ : ٣٣٢ / ١٠ و ١١ ، باب الظلم.

(٦) الكافي ٢ : ٣٣٢ / ١٢ ، باب الظلم.

٨١

ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) » (١).

[٣٤] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من الأنبياء ـ وكان في مملكة جبّار من الجبابرة ـ أن ائت هذا الجبّار فقل له : إنّي لم أستعملك على سفك الدماء ، واتّخاذ الأموال ، وإنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين ؛ فإنّي لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّارا » (٢).

[٣٥] وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ الله عزّ وجلّ ، جعل للشرّ أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرّ من الشراب » (٣).

[٣٦] وعن أبي جعفر عليه‌السلام : « إنّ الكذب هو خراب الإيمان » (٤).

[٣٧] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من لقي المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من نار » (٥).

باب :

[٣٨] وعنه عليه‌السلام : « لا يفترق رجلان على الهجران إلاّ استوجب أحدهما البراءة واللعنة ، وربّما استوجب ذلك كلاهما ». قال معتّب : جعلت فداك هذا الظالم فما بال المظلوم؟ قال : « لأنّه لا يدعو أخاه إلى صلته » (٦).

[٣٩] وعنه عليه‌السلام قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا هجرة فوق ثلاث » (٧).

[٤٠] وعن داود بن كثير ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « قال أبي عليه‌السلام ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثا لا يصطلحان إلاّ كانا خارجين من

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٣٢ / ١٣ ، باب الظلم والآية في النساء (٤) : ٩.

(٢) الكافي ٢ : ٣٣٣ / ١٤ ، باب الظلم.

(٣) الكافي ٢ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ / ٣ ، باب الكذب ، ورواه عن أبي عبد الله بتفاوت في ٦ : ٤٠٣ / ٥ ، باب أنّ الخمر رأس كلّ إثم وشرّ.

(٤) الكافي ٢ : ٣٣٩ / ٤ ، باب الكذب.

(٥) الكافي ٢ : ٣٤٣ / ١ ، باب ذي اللسانين.

(٦) الكافي ٢ : ٣٤٤ / ١ ، باب الهجرة.

(٧) الكافي ٢ : ٣٤٤ / ٢ ، باب الهجرة.

٨٢

الإسلام ، ولم يكن بينهما ولاية ، فأيّهما سبق إلى كلام صاحبه كان السابق إلى الجنّة يوم القيامة » (١).

[٤١] وعن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهما عن دينه ، فإذا فعلا ذلك استلقى على قفاه ومدّ يده ، ثمّ قال : فزت ، فرحم الله امرأ ألّف بين وليّين لنا. يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا » (٢).

[٤٢] وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « لا يزال إبليس فرحا ما تهاجر المسلمان ، فإذا التقيا اصطكّت ركبتاه ، وتخلّعت أوصاله ، ونادى : يا ويله ما لقي من الثبور » (٣).

[٤٣] وعنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا وإنّ التباغض الحالقة ، لا أعني حالقة الشعر ، ولكن حالقة الدين » (٤).

[٤٤] وعنه عليه‌السلام : « اتّقوا الحالقة ؛ فإنّها تميت الرجال ». قلت : وما الحالقة؟ قال : « قطيعة الرحم » (٥).

[٤٥] وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « في كتاب عليّ عليه‌السلام ثلاث خصال لا يموت صاحبهنّ أبدا حتّى يرى وبالهنّ : البغي ، وقطيعة الرحم ، واليمين الكاذبة ، يبارز الله بها. وإنّ أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم ، وإنّ القوم ليكونون فجّارا فيتواصلون فتنمو أموالهم ويثرون ، وإنّ اليمين الكاذبة ، وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها » (٦).

[٤٦] وعن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن بارّا واقتصر على الجنّة ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٤٥ / ٥ ، باب الهجرة.

(٢) الكافي ٢ : ٣٤٥ / ٦ ، باب الهجرة.

(٣) الكافي ٢ : ٣٤٦ / ٧ ، باب الهجرة.

(٤) الكافي ٢ : ٣٤٦ / ١ ، باب قطيعة الرحم.

(٥) الكافي ٢ : ٣٤٦ / ٢ ، باب قطيعة الرحم.

(٦) الكافي ٢ : ٣٤٧ / ٤ ، باب قطيعة الرحم.

٨٣

فإن كنت عاقّا فظّا غليظا فاقتصر على النار » (١).

[٤٧] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان يوم القيامة كشف غطاء من أغطية الجنّة فوجد ريحها من كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام إلاّ صنفا واحدا ، وهم العاقّ لوالديه » (٢).

[٤٨] وعن أبان بن تغلب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ليلة أسري بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا ربّ ، ما حال المؤمنين عندك؟ قال : يا محمّد ، من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي. وما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي عن وفاة عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته. وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلح له إلاّ الغنى ، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلح له إلاّ الفقر ، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وما يتقرّب عبدي إليّ بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه ، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن سكت ابتدأته » (٣).

باب :

[٤٩] روى الصدوق (٤) أيضا بإسناده إلى إسحاق بن عمّار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر من أسلم بلسانه ، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تذمّوا المسلمين ، ولا تتّبعوا عوراتهم ، فإنّ من اتّبع عوراتهم تتبّع الله عزّ وجلّ عورته ، ومن تتبّع الله عزّ وجلّ عورته يفضحه ولو في بيته » (٥).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٤٨ / ٢ ، باب العقوق.

(٢) الكافي ٢ : ٣٤٨ / ٣ ، باب العقوق.

(٣) الكافي ٢ : ٣٥٢ / ٨ ، باب من أذى المسلمين واحتقرهم.

(٤) لعلّ هذا من سبق القلم والصحيح : « روى الكليني أيضا » لأنّ ما قبله من الروايات برواية الكليني ؛ ولم نعثر في أحاديث هذا الباب على رواية الصدوق إلاّ الحديث الأوّل والثاني ، والأوّل بسند آخر.

(٥) الكافي ٢ : ٣٥٤ / ٢ ، باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم ؛ ورواه الصدوق بسند آخر في عقاب الأعمال : ٢٨٨ / ١.

٨٤

[٥٠] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أذاع فاحشة كان كمبتدئها ، ومن عيّر مؤمنا بشيء لم يمت حتّى يرتكبه » (١).

[٥١] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من لقي أخاه بما يؤنّبه أنّبه الله عزّ وجلّ في الدنيا والآخرة » (٢).

باب :

[٥٢] وبإسناد الصدوق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « الجلوس في المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم يحدث ». قيل : يا رسول الله ، وما الحدث؟ قال : « الاغتياب » (٣).

[٥٣] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) » (٤).

[٥٤] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كفّارة الاغتياب؟ قال : تستغفر لمن اغتبته كلّما ذكرته » (٥).

[٥٥] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه » (٦).

[٥٦] وعن المفضّل بن عمر قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه ، وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس ، أخرجه الله عزّ وجلّ من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان » (٧).

__________________

(١) عقاب الأعمال : ٢٩٥ / ٢ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٦ / ٢ ، باب التعيير.

(٢) الكافي ٢ : ٣٥٦ / ١ ، باب التعيير.

(٣) أمالي الصدوق : ٣٤٢ / ١١ ، المجلس ٦٥ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ / ١ ، باب الغيبة والبهت.

(٤) أمالي الصدوق : ٢٧٦ / ١٦ ، المجلس ٥٤ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٧ / ٢ ، باب الغيبة والبهت. والآية في النور (٢٤) : ١٩.

(٥) الفقيه ٣ : ٢٣٧ / ١١٢٤ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٧ / ٤ ، باب الغيبة والبهت.

(٦) أمالي الصدوق : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ / ١٧ ، المجلس ٥٤ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٨ / ٧ ، باب الغيبة والبهت.

(٧) أمالي الصدوق : ٣٩٣ / ١٧ ، المجلس ٧٣ ، وليس فيه : « فلا يقبله الشيطان » ؛ الكافي ٢ : ٣٥٨ / ١ ، باب الرواية على المؤمن.

٨٥

[٥٧] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « لا تبدي الشماتة لأخيك فيرحمه‌الله عزّ وجلّ ويحلّها بك ». وقال : « من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتّى تصيبه » (١).

[٥٨] وعن أبي حمزة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سمعته يقول : « إنّ اللعنة إذا خرجت من في صاحبها تردّدت ، فإن وجدت مساغا وإلاّ رجعت على صاحبها » (٢).

[٥٩] وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل » (٣).

[٦٠] وعن معروف بن خرّبوذ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « صلّى أمير المؤمنين عليه‌السلام بالناس الصبح بالعراق ، فلمّا انصرف وعظهم وبكى وأبكاهم من خوف الله عزّ وجلّ ، ثمّ قال : أما والله لقد عهدت أقواما على عهد خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّهم ليصبحون ويمسون شعثا غبرا خمصا ، بين أعينهم كركب المعزى ، يبيتون لربّهم سجّدا وقياما ، يراوحون بين أقدامهم وجباههم ، يناجون ربّهم ويسألونه فكاك رقابهم من النار. والله لقد رأيتهم مع هذا وهم خائفون مشفقون » (٤).

تمّت الرسالة والحمد لله ربّ الأرباب ، ومذلّل الصعاب ، ومالك الرقاب ، والصلاة والسلام على نبيّ الأمّة ، وآله خير آل ، وأصحابه خير الأصحاب ، و [ سوّد ] ذلك هزيع ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة خلت في جمادى الأولى سنة سبع وستّين وسبعمائة.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٥٩ / ١ ، باب الشماتة.

(٢) عقاب الأعمال : ٣٢٠ / ١ ؛ الكافي ٢ : ٣٦٠ / ٦ ، باب السباب.

(٣) الكافي ٢ : ٣٢١ / ١ ، باب سوء الخلق.

(٤) الكافي ٢ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ / ٢١ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

٨٦

(٢)

الرسالة اليونسيّة

في

شرح المقالة التكليفيّة

للعلاّمة البياضي

٨٧
٨٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تفضّل بوجود خليقته لمعرفته وعبادته ، وتطوّل بوجود شريعته لإنفاذ إرادته على أيدي سفرته ، وجعل الغاية إلى ذلك لطف تذكرته وشكر نعمته والتعريض لجنّته ، وصلواته على من استدارت رحى العالمين على رءوسهم ، واستنارت دجى العالمين بتكميل نفوسهم ، وخصوصا سيّد النبيّين وخاتمهم وآله المنيبين وقائمهم صلاة تقوم بقرضهم ، ومدحة تدوم بفرضهم.

وبعد : فلمّا وضع الشيخ السعيد أبو عبد الله الشهيد ـ زاد الله في درجته ، وأسكنه بحبوحة جنّته ـ المقالة الموسومة بـ « التكليفيّة » دائرة على خمسة فصول سنيّة ، فيها مباحث جليّة ، ومن الإسهاب خليّة ، وإشارات وتلويحات خفيّة ، وترغيبات وترهيبات حفيّة. أشار إليّ من ظنّ طاقتي بحلّها ونهضتي لفلّها ، ولم يدر فاقتي على أقلّها ، وبهظتي بقلّها ؛ فشرعت فيه ملتمسا من الرحمن الغفران والإحسان ، ومن نوع الإنسان ستر النقصان والنسيان ، وبالله [ نستمدّ ] الطول.

قال : ( بسم الله الرحمن الرحيم ).

أقول : في [ البدء ] بالبسملة وجوه مشهورة ، قد أوردنا منها طرفا في شرح الأسماء. وأشهرها ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه ب ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فهو أبتر » (١).

__________________

(١) تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٥ / ٧ ؛ الكشّاف ١ : ٣ ـ ٤ ؛ كنز العمّال ١ : ٥٥٥ / ٢٤٩١.

٨٩

واعلم أنّ هذا [ الحكم ] مخصوص بمنفصل عقلي ؛ فإنّ البسملة كلام ولا يفتقر إلى بسملة ؛ لامتناع التسلسل [ بأن يبتدئ ] غيرها بها ، فهو فيها بنفسها.

ووجدنا بخطّ المصنّف ( قدّس الله سرّه ) : قال بعض العلماء : البسملة قول من ربّنا أنزله عند رأس كلّ سورة يقسم لعباده أنّ [ هذا الذي ] وضعت لكم ـ يا عبادي ـ حقّ بأنّي أوفي بجميع ما ضمّنته في هذه السورة من وعدي ولطفي وبرّي (١).

وعن عليّ ( كرّم الله وجهه ) : « هي شفاء من كلّ داء ، وعون على كلّ دواء ، وهي أمان » (٢).

وعن الزهري : أنّها كلمة التقوى التي كانوا أحقّ بها (٣).

وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة : أنّ كلمة التقوى كلمة الوحدة (٤).

وفي كتاب الدرّ النظيم في مناقب الغرّ اللهاميم (٥) ما رواه الإمام الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنّ الله جلّ وعزّ قال له ليلة الإسراء : « إنّ كلمة التقوى علي بن أبي طالب ».

قال : ( الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثا ، ولم يدعهم هملا ، بل كلّفهم بالمشاقّ علما وعملا ).

أقول : الحمد : هو وصف المنسوب إليه بالقبول على جميل كماله وجزيل نواله.

ونفي العبث ، يدلّ [ عليه ] بفائدتين :

أحدهما : الاقتباس بالآية الكريمة : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (٦) وفيه توبيخ لمن نفى الغرض عن أفعاله تعالى ، وقد عرف من ذلك معنى العبث.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٦٥ ، ( مقدّمة المؤلّف ).

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٧٥ ، ( مقدّمة المؤلّف ).

(٣) كشف الأسرار ٩ : ٢٢٩.

(٤) كشف الأسرار ٩ : ٢٢٩.

(٥) هذا الكتاب للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي تلميذ المحقّق الحلّي ، وهو مخطوط لم يتيسّر لنا التخريج عنه. ولكن روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب سليم بن قيس الهلالي ٢ : ٦٨٦ / ١٤ و ٨٥٧ / ٤٥.

(٦) المؤمنون (٢٣) : ١١٥.

٩٠

وثانيهما : افتتاح الكتاب بما يدلّ على المأتيّ به في الكتاب ويسمّى ذلك في فنّ البديع براعة الاستهلال ؛ لقول عمرو بن مسعدة حين كتب إلى الخليفة (١) يعلمه أنّ بقرة ولدت عجلا بوجه إنسان : الحمد لله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام (٢).

ونفي الهمل : نوع تأكيد وتكميل ، وفيه ردّ على من نفى التكليف (٣). والهامل : الذي لم يؤمر ولم ينه ولم ينظر له في جلب سدى ولا [ ... ] وأصله البهيمة الهاملة إذا أرسلت للرعي أنّى شاءت.

بل كلّفهم. « بل » حرف عطف. و « كلّفهم » حمّلهم. و « المشاقّ » جمع واحده مشقّ (٤) أو مشقّة ، وتقييده بالمشاقّ [ حمل على ] الأغلب إذ لا يدلّ الشاقّ على نفي غيره إلاّ بمفهوم الخطاب ، وليس حجّة على ما علم في الأصول ، ولهذا لم يأت المصنّف في تحديده للتكليف بقيد المشقّة.

والعلم : المراد به هنا [ غير الضروري ] ؛ لامتناع التكليف بالضروري ، والقصد بالعلم الراجح منع من نقيضه [ إذ لا علم يتعيّن ] بالظنّ.

واعلم أنّ قومنا منعوا من كون المعارف مقدورة لنا ، واستدلّوا [ بروايات ] كان منها :

« ومننت على عبادك بمعرفتك » (٥) ولا يحسن المنّ بغير المفعول ؛ [ لأنّ ] المنّ وقع بخلق الآلات كالحياة والعقل والمستدلّ به. وأخّر « العمل » وذلك لتأخّره طبعا ، وليكن ذلك سجعا.

قال : ( لينزجروا عن قبائح الأفعال ، وينبعثوا على محاسن الخلال ، ويفوزوا بشكر ذي العزّة والجلال ).

أقول : « اللام » في لينزجروا مقدّرة على الفقرتين الأخيرتين وهي لام الغرض

__________________

(١) الخليفة هو المأمون ، وعمرو بن مسعدة كاتبه.

(٢) شرح الكافية البديعيّة : ٥٩.

(٣) هم الجبريّة.

(٤) كذا في المخطوطة ، والصواب : شاق.

(٥) مصباح المتهجّد : ٥١٢ ، أدعية الساعات.

٩١

الذي هو غاية التكليف وهي الوجه.

وفي ينزجروا وينبعثوا ضمير اللّطف ، وفي ويفوزوا إلى آخره ضمير الشكر ؛ أعني أنّ الشكر هو الوجه.

وفي المفاتح الثلاثة إلمام بأنّ أفعال العبيد منهم.

والانزجار والانبعاث متقابلان ، وكذا القبائح والمحاسن ، وهذا نوع من البديع يسمّى « المطابقة » كأنّه طابق الضدّ لضدّه ، ومنه قوله تعالى : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا ) (١).

أمّا الأفعال والخلال فبينهما عموم ، إذ كلّ فعل خلّة ، أي خصلة وصفة ، وقد لا تكون الخلّة فعلا.

والخلّة ـ بالضمّ ـ الخصلة ، وتقال على المودّة والحلو من المرعى. تقول العرب :

الخلّة خبز الإبل والحمض فاكهتها ، وجمعها خلال بالكسر ، والخلّة ـ بالفتح : الحاجة ، والخليل : الفقير ، قال زهير :

وإن أتاه خليل يوم مسغبة

يقول : لا غائب مالي ولا حرم (٢)

وبالفقر إلى الله ومودّته فسّرت خلّة إبراهيم عليه‌السلام (٣).

وفي تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « سمّاه خليله ؛ لأنّه تخلّل معانيه ، ووقف على أسراره » (٤).

هذا وقد جمع المصنّف ( أحلّه الله المحلّ الرفيع ) في الخلال والجلال نوعين من البديع :

التصحيف : وهو الاختلاف بالنقط ، ومنه قوله تعالى : ( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (٥).

__________________

(١) النجم (٥٣) : ٤٣ ، ٤٤.

(٢) الصحاح ٣ : ١٦٨٨.

(٣) مجمع البيان ٢ : ١١٦ ذيل الآية ١٢٥ من البقرة (٢).

(٤) تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٣٣.

(٥) الكهف (١٨) : ١٠٤.

٩٢

والتحريف : وهو الاختلاف بالحركات.

وهو هنا كسر الخاء وفتح الجيم.

ومنه قول رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمّ كما حسنت خلقي فحسّن خلقي » (١).

وإنّما قدّم ينزجروا على ينبعثوا ؛ لأنّ الأوّل دفع والثاني نفع ، وسلب الضرّاء أقدم من جلب السرّاء.

فعلى هذا كان الأولى تقديم الترهيب الآتي ذكره أخيرا على مقابله ، ويمكن أن يقال : إنّما قدّم الترغيب لتعلّقه بمفهومات وجوديّة ومفهومات مقابله عدميّة.

أو أنّ إرادة الضدّ وملازمته تستلزم كراهة الآخر ومجانبته ، أو أنّ المصنّف لفّ ونشر لا على الترتيب ، وهو جائز عندهم ، ومنه ( فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ) (٢).

وبالجملة لا [ ... من ] بعد بيان أنّ الواو لا تفيد الترتيب.

ثمّ نرجع ونقول : الفوز : قطع المخيف ، والمفازة : المهلكة على معنى أنّ من قطعها فاز وسمّيت مفازة تطيّرا.

ولمّا كان الشكر سببا للخلوص من المخافة والعقاب والحصول على السلامة والثواب ، كان فوزا على ما عرفت.

والشكر لله الكريم المنعم بالجسيم اعتقاد أنّ النعم منه مع ضرب من التعظيم والعزّة والمنعة (٣) والجلال والرفعة.

وتندرج في هذا اللفظ القليل صفات الثبوت والسلب على الجمع والتفصيل.

قال : ( والصلاة على من أيّد الله ببعثهم العقل الصريح ، وخصوصا نبيّنا محمّدا البليغ الفصيح ، وعلى أهل بيته وأرومته المساميح ، والطيّبين من عترته وذرّيّته المراجيح ).

أقول : الصلاة هنا الرحمة. والتأييد : التقوية ، ومنه ( داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ) (٤) يعني ذا

__________________

(١) تحف العقول : ١٦.

(٢) آل عمران (٣) : ١٠٦.

(٣) المنعة : العزّ والقوّة. المعجم الوسيط : ٨٨٨ ، « م. ن. ع ».

(٤) ص (٣٨) : ١٧.

٩٣

القوّة ، إمّا على العبادة كقول ابن عباس ، أو على الأعداء كقول غيره ، فإنّه رمى رجلا بحجر من مقلاعه في صدره فأنفذه من ظهره (١).

وفيما ذكر إشارة إلى الإقرار بنبوّة الرسل السالفين إلى الأمم الماضين ، وأنّهم جاءوا بتفصيل ما حكم به العقل إجمالا ، وبه يبطل قول ـ برهام (٢) ، حيث جعل بعث الأنبياء محالا.

والعقل : غريزة في قلب الإنسان. وهل هو العلم؟ قيل به ؛ للملازمة ، وهي ممنوعة ، ومع تسليمها لا يلزم منها الاتّحاد كما في المتضايفين.

ثمّ خصّ بالصلاة نبيّنا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع دخوله في جملتهم أوّلا. ولأجل فضيلته عليهم أفرده بالمقال كالملائكة وجبرئيل وميكال.

هذا ، ولمّا ولد قال رجال قريش لعبد المطلب : ما سمّيت ابنك؟ قال : محمّد قالوا : هذا ما هو من أسماء آبائك ، قال : أردت أن يحمد في السماء وفي الأرض (٣). حكى ذلك شارح المفصّل عن ابن دريد. ويمكن أن يكون ذلك بإخبار آمنة إيّاه ، فإنّ ابن طاوس ذكر في مهجه مسندا إليها : أنّه أتاها آت في منامها حملت بسيّد البريّة فسمّيه محمّدا ، اسمه في التوراة أحمد (٤).

وقد سمّيت رجال في الجاهليّة بمحمد منهم : ابن بلال بن أحيحة ، ومحمّد بن حمران الجعفي ، ومحمّد بن هلال بن دارم ، ومحمّد بن خولي الهمداني ، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري (٥).

والبلاغة : وصول المتكلّم في تأدية المعاني إلى حدّ له اختصاص بتوفية خواصّ التراكيب حقّها ، وإيراد أنواع الكناية والمجاز والتشبيه على وجهها.

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٤٦٩ ذيل الآية ١٧ من سورة ص (٣٨).

(٢) هكذا في المخطوطة ، وهو تحريف « براهم » الذي ينسب إليه البراهمة. للوقوف على آرائهم راجع الملل والنحل للشهرستاني ٢ : ٢٥٠ ـ ٢٥٥.

(٣) السيرة الحلبيّة ١ : ١٢٨.

(٤) مهج الدعوات : ٤.

(٥) لسان العرب ٣ : ١٥٧ ، « ح. م. د ».

٩٤

والفصاحة : خلوص الكلام عن التعقيد بألفاظ عربيّة أصليّة دائرة على ألسنة الموثوق بعربيّتهم ، جارية على قانون لغتهم. وأصلها الإظهار والإبانة : من أفصح اللبن إذا أخذت رغوته ، وفصح الأعجميّ إذا خلصت من لكنته لغته.

والذين نقلت عنهم اللغة العربية ، وبهم اقتدي : قيس وتميم وأسد ، ثمّ هذيل ، وبعض كنانة وبعض الطائيّين ، ولم تؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم ممّن سكن أطراف بلادهم.

وقيل : البلاغة والفصاحة مترادفان.

وقال السكّاكي في تلخيص المفتاح : الفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلّم ، فيقال : كلمة فصيحة ، وقصيدة فصيحة ، وشاعر فصيح. والبلاغة يوصف بها الأخيران فقط (١).

إذا عرفت هذا ، فوصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهما ظاهر في كتابه وسنّته لمن تدبّرهما.

أمّا الكتاب : فباعتبار آدابه وتلاوته.

وأمّا السنّة : فباعتبار تلويحاته وهدايته ، مثل « لا يغلق الرهن » (٢) و « المنحة مردودة » (٣).

وقد تمدّح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك في قوله : « أوتيت جوامع الكلم » (٤) « واختصر لي [ الكلام ] اختصارا » (٥).

ثمّ عطف بالصلاة على أهل بيته ، وهم آله وأرومته ، وهم أصله وشجرته.

والطيّبين من عترته وذرّيّته ، إشارة منه إلى المعصومين ، ووصفهم بالمساميح ؛ لما ذاع من كرمهم ، وبالمراجيح ؛ لما شاع من فضلهم.

__________________

(١) المطوّل للتفتازاني : ١٥.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٨١٦ / ٢٤٤١.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ / ٢٣٩٨.

(٤) كنز العمّال ١١ : ٤٤٠ / ٣٢٠٦٨.

(٥) سنن الدارمي ١ : ٢٩ باب ما أعطي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفضل.

٩٥

فائدة إيمانيّة

إنّما عنى بالطيّبين عليّا وأولاده الأحد عشر ، وقد تدخل فيهم فاطمة عليها‌السلام لطهارتها ، لا لإمامتها ؛ لأنّهم يدخلون الألفاظ الثلاثة على اختلاف تفاسيرها ، فصار مقطوعا بأنّهم آله دون غيرهم.

فقد قيل : آل الرجل من دان بدينه ؛ لقوله تعالى : ( إِلاَّ آلَ لُوطٍ ) (١). قال المفسرون : هم من تبعه في دينه (٢). وقيل : من حرمت عليهم الصدقات ؛ لإبعادهم عن الأوساخ ؛ لما خرّجه الإمامان : مسلم بن الحجّاج القشيري وأبو داود النسائي (٣) ، يسندانه في صحيحيهما إلى عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « هذه الزكاة أوساخ لا لمحمّد ولا لآل محمّد » (٤).

وأمّا العترة : فقيل : هم العشيرة وهم الأهل الأدنون (٥).

وقيل : هم الذرّيّة (٦). والمذكورون كذلك ، فدخلوا في ذرّيّته بفاطمة عليها‌السلام ، كما دخل عيسى بأمّه في ذرّيّة النبيّين على ما نطق به الكتاب المبين (٧).

وبهذا كان جواب الشعبي ، لمّا بلغ الحجّاج أنّه يميل إليهم فأحضر له علماء المصرين (٨) ، وقال : بلغني أنّك تقول : أبناء عليّ أبناء الرسول وذرّيّته ، والنسب لا يكون إلاّ بالآباء ، فسكت الشعبي عنه حتّى زاد في تعنيفه. ثمّ قال : هذا كلام من يجهل كلام الله ورسوله ، هؤلاء حملة الكتاب من أهل المصرين ، ما منهم إلاّ من يعلم

__________________

(١) الحجر (١٥) : ٥٩.

(٢) معجم مفردات ألفاظ القرآن : ٢٦.

(٣) هكذا في النسخة والصحيح : « أبو داود السجستاني ».

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٧٥٣ / ١٠٧٢ ؛ سنن النسائي ٣ : ١٠٦.

(٥) لسان العرب ٤ : ٥٣٨ ؛ الصحاح ٢ : ٧٣٥ ، « ع. ت. ر ».

(٦) لسان العرب ٤ : ٥٣٨ ؛ الصحاح ٢ : ٧٣٥ ، « ع. ت. ر ».

(٧) الأنعام (٦) : ٨٤ ـ ٨٥.

(٨) هما الكوفة والبصرة.

٩٦

ما أقول ، ثمّ قرأ : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) ـ إلى أن قال ـ ( وَعِيسى ) (١) وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ابني هذا سيّد » فخجل الحجّاج من الحاضرين ، وتلطّف بالشعبي (٢).

وأمّا وجه الحصر في العدد المذكور ، فالاعتماد فيه على الأحاديث القدسيّة والسنن النبويّة المشتملة على عددهم وأسمائهم وصفاتهم ، وقد دوّنها العلماء رضوان الله عليهم في كتبهم ، كعيون الرضا ، وكتاب الأوصياء ونهج الإيمان وغيرهم ، بالغة إلى حدّ لم يترك لذي فطنة فتنة ، ولا لذي إحنة طعنة.

قال : ( وبعد ، فهذه المقالة التكليفيّة مرتّبة على خمسة فصول سنيّة ).

أقول : هذه كلمة وضعت لفصل الخطاب. وقيل : هي أداة له. وفصل الخطاب بالتنبيه [ واليمين ] ، وهي لفظة بنيت ؛ لقطعها عن الإضافة ، فلو قلت : [ قمت من ] بعدك ، كسرت دالها.

واختلف في أوّل من أوتيها ، فقيل : داود النبيّ عليه‌السلام للآية الكريمة (٣) ، وهو منقول عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه. وقيل : كعب بن لؤيّ (٤).

قال أكثر أهل التفسير : إنّ فصل الخطاب الشهود والأيمان ؛ لأنّ الخصوم لا تنفصل إلاّ بذينك (٥).

وعن ابن مسعود وقتادة ومقاتل والحسن : إنّ فصل الخطاب هو العلم بالقضاء (٦).

وعلى القولين لا دلالة في الآية على موضع الخلاف.

وقيل : أوّل ناطق بها حكيم العرب قسّ بن ساعدة رحمة الله عليه ، وقد روي ذلك في حديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ووجدنا بيتا ينسب إليه ، فيه دعوى ذلك.

__________________

(١) الأنعام (٦) : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٣٣٠ ؛ الدرّ المنثور في التفسير المأثور ٣ : ٣١١.

(٣) سورة ص (٣٨) : ٢٠. ( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ).

(٤) مجمع البيان ٨ : ٤٦٩ ؛ الدرّ المنثور في التفسير المأثور ٧ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٥) مجمع البيان ٨ : ٤٦٩ ؛ الدرّ المنثور في التفسير المأثور ٧ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٦) مجمع البيان ٨ : ٤٦٩ ؛ الدرّ المنثور في التفسير المأثور ٧ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

٩٧

لقد علم الحيّ اليمانيّ أنني

إذا قيل : أمّا بعد أني خطيبها

يعني الخاطب بها أوّلا ، وإلاّ ذهب التمدّح.

وقال الإمام فخر الدين في كتابه جامع الفوائد : إنّ أوّل من تكلّم بها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ويجوز الجمع بين هذه الأقوال بكون كلّ منهما نطق بها جاهلا بغيره ؛ ولا يضرّ جهل الإمام بذلك ؛ إذ ليس مسألة دينيّة ، وهذا من توافق الخاطرين (١) المذكورين في البديع.

فهذه « الفاء » للتعقيب على حسب ما يمكن ، و « الهاء » للتنبيه ، وبقيّتها للإشارة.

والمقالة : جمع فيه مبالغة واحدة.

قوله : التكليفيّة نسبة لها إلى التكليف ، نسبة الموصوف إلى الصفة ، فيتبعه في إعرابه.

مرتّبة ، الترتيب : جعل كلّ شيء في مرتبته كالبناء بوضع أكبر آلاته في قاعدته ، وأصغرها في ذروته ، وحشو ما لا وجه له منها في وسطه فلو عكس ذلك لم يكن ترتيبا بل تأليفا.

والفصول : جمع واحده فصل. والفصل لغة : القطع ، ( فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ ) (٢) أي قطعهم وسار بهم ، وفصل الصبيّ : قطعه عن الرضاعة. ويقال في عرف المنطقيّين على المميّز الذاتي. واصطلاحا : الجامع لمسائل متّحدة صنفا مختلفة شخصا.

والسنيّة : إمّا من السناء الممدود وهو الرفعة ، أو المقصور وهو الضوء ، ( يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ) (٣) ، والجمع بينهما صالح.

قال : ( الفصل الأوّل في ماهيّته وتوابعها. الفصل الثاني في متعلّقه.

__________________

(١) توارد الخواطر : اتّفاق القائلين في اللفظ والمعنى جميعا ، أو في المعنى وحده. المطوّل للتفتازاني : ٤٧٠.

(٢) البقرة (٢) : ٢٤٩.

(٣) النور (٢٤) : ٤٣.

٩٨

الفصل الثالث في غايته. الفصل الرابع في الترغيب. الفصل الخامس في الترهيب ).

أقول : ماهيّة الشيء هي ما به ذلك الشيء هو هو.

وهل هي الحقيقة؟ قيل : نعم. وقيل : الحقيقة ما دخلت في الوجود الخارجي.

والفرق بينها وبين الهويّة ، أنّ الماهيّة كلّية ، والهويّة شخصيّة ، يقال : ماهيّة الإنسان وهويّة زيد.

والتوابع : جمع تابع ، وهو ما كان مقصودا بالقصد الثاني ، ويتأخّر حصوله في نفسه عن متبوعه. واحترزنا بهذا القيد عن المقدّم ، فإنّه وإن كان مقصودا بالقصد الثاني ، إلاّ أنّه متقدّم الحصول في نفسه.

والتابع هنا هو المبحوث عنه في مطلبي « هل » و « من ».

والمراد بالمتعلّق : العلم أو الظنّ أو العمل ؛ فإنّ التكليف له تعلّق بموجبه ، وتعلّق بمن سقط الوجوب عليه.

والأوّل : تعلّق المعلول بعلّته. والثاني : تعلّق الحال بمحلّه ، وليسا مرادين هنا ؛ لما صرّح به في موضعه.

وغاية الشيء : هي ما يفعل لأجلها ، وهي إحدى علله ، فإنّها علّة لغاية الفاعل.

والترغيب : كلّ قول أو فعل بعثا على قول أو فعل أوجبا محبوبا.

والترهيب : كلّ قول [ أو فعل ] حثّا على ترك قول ، أو فعل نفى مكروها.

قال : ( ومدار هذه الفصول على خمس كلمات مفردة ، وهي : « ما » و « هل » و « من » و « كيف » و « لم ». الفصل الأوّل : يبحث فيه عن الثلاثة الأول ، وهي : ما التكليف؟ ـ ويبحث فيه عن مفهومه بحسب الاصطلاح ـ وهل يجب في حكمة الله أم لا؟. ومن المكلّف والمكلّف؟. والفصل الثاني : يبحث فيه عن مدلول كيف التكليف؟ أي على أيّ صفة يكون؟.

٩٩

والفصل الثالث : يبحث فيه عن مدلول لم يجب التكليف مثلا؟ وهو السؤال عن غايته. والفصلان الأخيران من مكمّلات هذا الفصل ).

أقول : قد جرت عادة أهل البحث بوضع تلك الكلمات الخمس ، وكأنّهم نظروا فوجدوا كلّ واحدة منها كالقطب لرحاه ، فجعلوها كالموضع الذي هو مرجع لمسائله.

وهذه ـ أعني لفظة « ما » ـ يستكشف بها عن الحقيقة ـ كما قرّر في اللغة ـ فلهذا قال عن مفهومه : يعني عاريا عمّا يلحقه من الاعتبارات.

والاصطلاح : عبارة عن اجتماع قوم في معنى عن اتّفاق. و « القوم » هنا يحتمل كونهم أهل العرف ، أو أهل هذه الصنعة.

وهذا الفصل قد اشتمل من الكلمات على مطلب « ما » و « هل » و « من ».

وقوله : يبحث فيه عن مدلول « كيف » ومدلول « لم ».

اعلم أنّ « كيف » و « لم » ليستا دليلين على ثبوت ما ذكره وإنّما قصد بقوله : مدلول ، المعنى الموضوع له اللفظ ؛ لأنّ اللفظ يدلّ عليه ، وإلاّ لكان مهملا.

وفي جعله الترغيب والترهيب مكمّلين لهذا الفصل ميل إلى مذهب اللّطف.

١٠٠