أربع رسائل كلاميّة

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

أربع رسائل كلاميّة

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-964-X
الصفحات: ٣٢٨

قوله : ( ومن ذلك تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع ما جاء به من الحشر والنشر والمعاد ، والجنّة والنار ، والصراط والميزان والحور والولدان ).

أقول : أمّا أنّ هذه المعدودات نعما فبيّن ، ويزيده وضوحا ما مرّ به من كلامنا عند ذكر الملك.

وأمّا لفظة « التصديق » فيحتمل أن يكون المراد تصديقنا لدعواه الذي هو سبب في حصول السعادة الأبديّة والخلوص عن [ الشقاوة ] السرمديّة ؛ فهو من أجلى النعم.

ويحتمل أن يكون المراد تصديق الله جلّ وعزّ له بإظهار المعاجز ، وهذا أشدّ مطابقة لمعنى الشكر ، فإنّه لمّا كان بمحض فعله استحقّ الشكر عليه ، بخلاف ما وقع منّا ؛ إذ الإنسان لا يستحقّ الشكر على نفسه ، فحينئذ يضعّف الأوّل.

إلاّ أن يقال : الشكر هناك على أسباب التّصديق التي هي من فعله تعالى كالعقل ، ونصب طرق الاستدلال ، والتوفيق إلى غير ذلك.

ويؤيّده قول داود عليه‌السلام فيما مرّ : « كيف أشكرك والشكر نعمة منك » (١).

وهنا لطيفة تحسن الإشارة إليها ، هي أنّ البارئ سبحانه لا يصحّ أن يشكر نفسه ولا غيره لعدم النفع والضرر في حقّه.

إن قلت : أليس يوصف به تعالى : ( لَغَفُورٌ شَكُورٌ )؟ (٢).

قلت : سلّمت ، ولكن قد قيل إنّ معناه مجازاة العبد على طاعته من غير أن ينقصه شيئا من حقّه ، فجعل المجازاة على الشكر شكرا في مجاز اللغة توسّعا ، أنظر إلى قوله تعالى : ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (٣) ونحو ذلك والله ولي التوفيق.

__________________

(١) مرّ في الصفحة ٢٦٠.

(٢) فاطر (٣٥) : ٣٤.

(٣) الشورى (٤٢) : ٤٠.

٢٦١
٢٦٢

المرصد الثالث

في معنى « لا إله إلاّ الله »

قال : ( ومعنى « لا إله إلاّ الله ». تنزيهه عن الشريك والمثل والضدّ والندّ والمناوئ والمنافي ).

الإله من تحقّ [ له ] العبادة.

وقال عليّ بن عيسى الرمّانيّ : هو المستحقّ للعبادة (١) ، وأبطله العلاّمة الطبرسيّ بأنّه لو كان كذلك لما كان سبحانه إلها في الأزل ؛ لأنّه لم يفعل في الأزل ما يستحقّ به العبادة. قال :

ومعنى قولنا : « تحقّ له العبادة » أنّه قادر على ما إذا فعله استحقّ به العبادة ، كخلق الجسم والحياة ، والقدرة والشهوة وغيرها من أصول النعم التي لا يقدر عليها غيره (٢).

هذا و « الشريك » هو المشارك للبارئ تعالى في وجوب الوجود ، أو في استحقاق العبادة. ونفيه من (٣) قوله سبحانه : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) (٤). وأمثاله.

__________________

(١) حكاه عنه بلفظة : « من قال ... » في مجمع البيان ١ : ٥٤.

(٢) مجمع البيان ١ : ٥٤ ـ ٥٥ ؛ جوامع الجامع ١ : ٥.

(٣) أي « ونستفيد نفي الشريك من ».

(٤) محمّد (٤٧) : ١٩.

٢٦٣

و « المثل » هو المساوي في الحقيقة.

والدليل على نفيه مخالفة ذاته المقدّسة لسائر الذوات ، ويدلّ على المخالفة أنّ ذاته لو ماثلت ذاتا فلا بدّ من كونها ممكنة ، وحينئذ يلزمه ما يلزمها أو بالعكس ، وهو محال ، ولقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (١).

وأمّا « الضدّ » فعرض يعاقبه عرض آخر في محلّه وينافيه ، ونفي العرض والمحلّ عنه تعالى يستلزم نفيه (٢).

و « الندّ » هو المساوي في الرتبة ، ومثله « النظير » ، ونفيه مفهوم ممّا مرّ.

و « المناوئ » هو المنازع والممانع ، ونفي المساوي عنه تعالى يستلزم نفي المناوئ لوجوب وجوده المستلزم قصور كلّ ما عداه عنه سبحانه.

و « المنافي » ما خالف الطبيعة اللازمة للجسم الممتنعة عنه تعالى.

قوله : ( وفيه بطلان قول النصارى واليهود والثنوية وعبّاد الأصنام والأوثان والصلبان والكواكب ).

أقول : الضمير المستكنّ في « فيه » يمكن أن يتعلّق بتنزيهه ، والأظهر تعلّقه بنفي الإلهيّة عن غير الله سبحانه.

وأمّا النصارى فقالوا : إنّ الله تعالى واحد بالجوهريّة ثلاثة بالأقنوميّة ، وهم القائلون باتّحاد البارئ سبحانه مع المسيح عليه‌السلام ، وهم فرق :

منها : « الملكائيّة » أصحاب ( ملكا ) الذي ظهر بالروم ، وأكثر الروم على دينه.

ومنها : « النسطوريّة » أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون.

ومنها : « اليعقوبيّة » أصحاب يعقوب الذي قال بانقلاب الكلمة لحما ودما ، فصار الإله هو المسيح.

__________________

(١) الشورى (٤٢) : ١١.

(٢) أي نفي الضدّ.

٢٦٤

ولهم اختلافات في كيفيّة اتّحاد البارئ تعالى بالمسيح عليه‌السلام (١) ، هي بالمطوّلات أنسب وقد حكم الله ( جلّ وعلا ) بكفرهم في قوله : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) (٢).

وأمّا اليهود فقولهم بالولد يستلزم الاثنينيّة ، وهم على نيّف وسبعين.

من رؤسائها : « العنانيّة » أتباع عنان بن داود رأس الجالوت ، يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد ، ويقتصرون على أكل الطير والسمك ، ويصدّقون عيسى في مواعظه لا في نبوّته.

ومنها : « العيسويّة » وهم أتباع أبي عيسى بن إسحاق بن يعقوب الأصفهاني ، وكان في زمن المنصور.

ومنها : « اليوذعانيّة » أصحاب يوذعان الهمذاني ، ومن هؤلاء فرقة تسمّى الموشكانيّة أصحاب موشكان ، إلاّ أنّه قاتل اليوذعان وقتل بقمّ ؛ والموشكانية أثبتوا نبوّة المصطفى إلى سائر الناس ما خلا اليهود (٣).

ومنها : « السامرة » وظهر فيهم رجل يقال له : الألفان ادّعى النبوّة ، وزعم أنّه الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره واليهود على انتظاره ، وهو الذي بشّرت به التوراة ؛ وافترقت السامرة إلى دوستانية ومعناها الفرقة المفترية الكاذبة ، وإلى كوستانيّة وهي الجماعة الصادقة.

ومن هذه الأربع فرق انشعبت طوائف اليهود ، وأجمعوا بأسرهم على أنّ في التوراة بشارة بواحد بعد موسى ، وافتراقهم إمّا في تعيينه أو في الزيادة عليه (٤).

تنبيه : إنّما لزم هؤلاء اللقب أعني اليهود ؛ لقول موسى عليه‌السلام : ( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) (٥) أي رجعنا فإنّه يقال : هاد الرجل إذا رجع وتاب.

__________________

(١) لمزيد التوضيح راجع الملل والنحل ١ : ٢٢٠ ـ ٢٢٨.

(٢) المائدة (٥) : ٧٣.

(٣) للمزيد راجع الملل والنحل ١ : ٢١٥ ـ ٢١٧.

(٤) للمزيد راجع الملل والنحل ١ : ٢١٧ ـ ٢١٩.

(٥) الأعراف (٧) : ١٥٦.

٢٦٥

وأمّا الثنويّة : فهم الذين أثبتوا أصلين قديمين هما : النور والظلمة ، والمجوس وإن كانوا من الثنويّة إلاّ أنّهم قالوا بحدوث الظلام (١).

فمن الثنويّة « المانوية » أصحاب ماني بن قاين الذي ظهر بعد عيسى عليه‌السلام ، وكان يقول بنبوّته.

ومنها : « المزدكيّة » أصحاب مزدك ، وحكي : أنّ قولهم كقول المانويّة إلاّ أنّهم يقولون : النور يفعل بالقصد والاختيار ، والظلمة بالخبط والاتّفاق ، بخلاف المانوية.

وكان مزدك ينهى عن المباغضة والقتال ، ولمّا كان أكثر ذلك يقع بسبب النساء والأموال جعل الناس فيها سواء كما في الماء والكلأ (٢).

ومنها : « الديصانيّة » أصحاب ديصان ، و « المرقونيّة » و « الكيونيّة » و « الصاميّة » وهؤلاء هم الذين عبدوا النار. و « التناسخيّة » (٣) وتفصيل مذاهبهم لا تحتمله هذه اللمعة.

وأمّا عابدي الأصنام والأوثان والصلبان.

فقال الشهرستاني :

وضع الأصنام إنّما هو على معبود غائب حتّى يكون الصنم على هيبته وشكله قائما مقامه ، وإلاّ فيعلم قطعا أنّ عاقلا لا ينحت خشبا بيده صورة ، ثمّ يعتقده إلهه وإله الكلّ ، ووجوده مسبوق بوجود صانعه ، لكنّهم لمّا عكفوا على التوجّه إليها وربطوا حوائجهم بها من غير حجّة وإذن من الله عزّ وجلّ ، كان عكوفهم ذلك عبادة ، وطلبهم الحوائج منها إثبات الإلهيّة لها ، وعن هذا كانوا يقولون : ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) (٤) ـ (٥).

فمنهم : « المهاكالية » ، لهم صنم يدعى « مهاكال » كبير الرأس ، له أربع أيد ، يزعمون أنّه عفريت يستحقّ العبادة العظيمة ، ويطلبون منه حاجات الدنيا ، حتّى أن الرجل يقول : زوّجني فلانة وأعطني كذا.

__________________

(١) للمزيد راجع الملل والنحل ١ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٢) لاحظ الملل والنحل ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٩.

(٣) للمزيد راجع الملل والنحل ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥٣.

(٤) الزمر (٣٩) : ٣.

(٥) الملل والنحل ٢ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

٢٦٦

ومنهم : « البركسهيكيّة » فيتّخذون صنما ، ويطلبون أحسن الشجر وأطولها ، فيجعلونه موضع تعبّدهم.

ومنهم : « الدهكينيّة » يتّخذون صنما على صورة امرأة ، وعيدهم من السنة استواء الليل والنهار ، عند دخول الشمس الميزان ، ويقرّبون فيه القرابين من غير ذبح ، بل يضربون أعناقها بين يديه ، ويقرب من ذلك ما حكاه أبو عيسى الورّاق في كتابه كتاب المقالات (١).

وقال الإمام السيّد المرتضى ( رضوان الله عليه ) :

حكى قوم ممّن يعرف أمور العالم ويبحث عن قصصهم : أنّ كثيرا من أهل الهند والصين كانوا يتقرّبون إلى الله بعبادة الكواكب ، فلمّا رأوا أفولها في بعض الأوقات أشار عليهم بعض رؤسائهم أن يجعلوا أصناما يرونها في كلّ وقت ، فاتّخذوا سبعة على عدد سبعة الكواكب التي هي سيّارة مشهورة ، وجعلوا لكلّ صنم بيتا سمّوه باسم الكوكب ، فجعلوا بيتا على رأس جبل بأصبهان ، وبيتا بمولتان وبسدوسان وكلاهما من الهند ، وبيتا بمدينة بلخ ، وبيتا بمدينة فرغانة وكلاهما من خراسان ، وبيتا بمدينة صنعاء من اليمن ، وزعم بعضهم أنّ بيت الله الحرام كان بيت زحل ، ثمّ نشأ عمرو بن لحي فساد قومه بمكّة ، واستولى على البيت ، وصار إلى مدينة البلقاء بالشام ، فرأى هناك قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها ، فقالوا : أربابا نتّخذها ، نستنصر بها فننصر ونستشفي بها فنشفى ، وطلب منها صنما فدفعوا إليه « هبل » ، فوضعه في الكعبة ، ودعا الناس إليها (٢).

وذكر المازندراني في تفسير قوله تعالى : ( وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ) (٣) : أنّ هذه أصنامهم في الأوّلين ، وجرى على وجه التشبيه في الآخرين (٤).

يقال : كان نوح عليه‌السلام يحرس تربة آدم عليه‌السلام على جبل بالهند ، وكان المسلمون يطوفون بقبره ، وحيل بين المشركين وبين الطواف فقال الشيطان للكفّار : إنّما هذا جسد ، فأنا

__________________

(١) راجع الملل والنحل ٢ : ٢٦٠ ـ ٢٦١.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٢٢٩ ـ ٢٣١.

(٣) نوح (٧١) : ٢٣.

(٤) تفسير الطبري ٢٩ : ٦٢ ؛ وانظر غرائب القرآن ( بهامش تفسير الطبري ) ٢٩ : ٥٢.

٢٦٧

أصنع لكم مثله ؛ كيما يفتخرون عليكم ، فنحت لهم خمسة أصنام يعبدونها ، فلمّا جاء الغرق اندفنت ، فأخرجها الشيطان لمشركي العرب ، فامّا « ودّ » فلكلب بدومة الجندل ، و « سواع » لهذيل بساحل البحر ، و « يغوث » لمراد ، و « يعوق » لهمدان ، و « نسر » لذي الكلاع بأرض حمير ، و « لات » لثقيف بالطائف ، و « العزّى » شجرة لسليم ، و « مناة » بقديد للأوس والخزرج وغسان (١).

وأمّا عابدي الكواكب :

منهم من فرق الصابئة ، وهؤلاء فزعوا إلى الأشخاص والهياكل التي هي السيّارات السبعة ، فعرفوا منازلها ومطالعها واتّصالاتها ، وتقسيم الساعات عليها ، ويسمّونها أربابا وأنّ الله ربّ الأرباب (٢).

ومنهم : من زعم أنّ الشمس إله الآلهة وعن هذا قال الخليل عليه‌السلام : ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) (٣).

ومنهم : من زعم أنّها ملك ، لها عقل ، وتستحقّ السجود والتعظيم (٤).

ومنهم : عبدة القمر ، زعموا أنّه ملك أيضا ، وإليه تدبير هذا العالم السفلي (٥).

قالت الصابئة : وإنّما أرشدنا إلى هذا معلّمنا الأوّل : عاديمون وهرمس ، فنحن نتقرّب إليهم ـ يعنون الكواكب ـ ونتوكّل عليهم ، وهم أربابنا ووسائلنا وشفعاؤنا عند ربّ الأرباب (٦).

ويدلّ على نفي ربوبيّتها مع العقل آيات الأنعام حيث قال تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *

__________________

(١) للمزيد راجع الملل والنحل ٢ : ٢٣٧ ؛ ومعجم البلدان ٥ : ٢٠٤ « مناة ».

(٢) راجع الملل والنحل ٢ : ٢٥٨.

(٣) الأنعام (٦) : ٧٨.

(٤) راجع الملل والنحل ٢ : ٢٥٨.

(٥) راجع الملل والنحل ٢ : ٢٥٨.

(٦) حكاه عنهم في الملل والنحل ٢ : ٦.

٢٦٨

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١).

فقرّر مذهب الحنفاء ، وأبطل مذهب الصابئة ؛ لأنّهما طائفتان متقابلتان ، وبيّن أنّ الفطرة هي الحنيفيّة ، وأنّ النجاة متعلّقة بها ، والرسل مبعوثة بتقريرها ( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (٢).

قال ( قدّس الله روحه ) : ( وهي الشهادة التي من قالها مخلصا دخل الجنّة ).

أقول : الشهادة لغة : إمّا من شهد بمعنى حضر (٣) ومنه قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (٤) ، أو من العلم (٥) وعلى هذا يسمّى البارئ سبحانه شهيدا.

وشرعا : إخبار عن علم المخبر بثبوت حقّ لغيره ، أو نفيه عنه لا على جهة الدعوى ، هذا.

وقد روى ابن بابويه ( رحمة الله عليه ) في كتابه المسمّى بالدرّ النضيد عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « الموجبتان من مات يشهد أن لا إله إلاّ الله دخل الجنّة ومن مات يشرك بالله دخل النار » (٦).

وعن الرضا عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد إلاّ الجنّة » (٧).

وقال : « لا إله إلاّ الله كلمة عظيمة كريمة على الله عزّ وجلّ من قالها مخلصا

__________________

(١) الأنعام (٦) : ٧٦ ـ ٧٩.

(٢) الروم (٣٠) : ٣٠.

(٣) القاموس المحيط ١ : ٥٨٨ ، « ش. ه‍. د ».

(٤) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٥) القاموس المحيط ١ : ٥٨٨ ، « ش. ه‍. د ».

(٦) التوحيد : ٢٠ / ٨ ، باب ثواب الموحّدين والعارفين.

(٧) التوحيد : ٢٢ / ١٧ ، باب ثواب الموحّدين والعارفين.

٢٦٩

استوجب الجنّة ، وكاذبا عصمت ماله ودمه ، وكان مصيره إلى النار » (١).

وفي هذا الحديث دلالة على أنّ الإخلاص المذكور هو الصدق لمقابلته بالكذب.

إن قلت : إنّ الكذب لا يتصوّر في هذه الكلمة أعني : « لا إله إلاّ الله » ، فإنّها مطابقة لما في نفس الأمر ولا شيء من الكاذب بمطابق ، فلا شيء من هذه الكلمة بكاذب.

قلت : سلّمت ما ذكرته ، ولكنّ المراد بالكاذب غير المعتقد لحقيقتها ، بل هو تلفّظ بها بلسانه وقلبه يخالف مقتضاها كما قال تعالى : ( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (٢). انظر إلى قوله سبحانه : ( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ) (٣). فقد حكم البارئ ( عزّ وعلا ) بكذبهم مع مطابقة ما قالوه في نفس الأمر ، وإيّاه نستعين.

__________________

(١) التوحيد : ٢٣ / ١٨ ، باب ثواب الموحّدين والعارفين.

(٢) الفتح (٤٨) : ١١.

(٣) المنافقون (٦٣) : ١.

٢٧٠

المرصد الرابع

في معنى « الله أكبر »

قال : ( ومعنى « الله أكبر » : إثبات صفات الكمال له تعالى ).

أقول : أمّا إثباتها فيدلّ عليه ما مرّ عند ذكر عموم القدرة والعلم ، وأمّا كون هذه المعدودات كمالات فظاهرة ، والمراد أنّ البارئ سبحانه كامل لذات ؛ لا أنّه مكمل بهذه ، فإنّ هذه أمور اعتباريّة ذهنيّة لا تحقّق لها خارجا على المذهب الصحيح.

قوله : ( مثل الوجود والوجوب والقدرة والعلم والأزليّة والأبديّة والبقاء والسرمديّة والسمع والبصر والإدراك ).

أقول : أمّا تصوّر « الوجود » فضروريّ ، على خلاف فيه.

وأمّا « الوجوب » فإن نسب إلى موجود فهو تأكّد الوجود ، وإن نسب إلى معدوم فهو تأكّد العدم.

والدليل على ثبوتهما له تعالى حدوث العالم المفتقر بالضرورة إلى محدث ؛ لامتناع صدور فعل عن معدوم ، ولزوم التسلسل المحال لو كان ممكنا ؛ فثبت وجوده ووجوبه.

وأمّا « القدرة » و « العلم » فقد تقدّم إثباتهما.

وأمّا « الأزليّة » و « الأبديّة » و « البقاء » و « السرمديّة » فثبوتها له تعالى مستغن عن

٢٧١

الكشف بعد بيان وجوبه ؛ فإنّ هذه لوازم له.

بقي أن نوضّح معنى هذه الكلمات.

فنقول : « الأزليّة » نفي العدم السابق ، و « الأبديّة » نفي اللاحق ، وفسّر « البقاء » بأنّه عبارة عن خروج الذات الثابتة عن ثباتها ، و « السرمديّة » صفة له.

وقال المصنّف في قواعده : البقاء نسبة بين الوجود والأزمنة ؛ إذ هو استمرار الوجود في الأزمنة (١).

« والأبديّ » هو المستمرّ مع جميع الأزمنة ، فالباقي أعمّ منه.

و « الأزليّ » هو الذي قارن وجوده جميع الأزمنة الماضية المحقّقة والمقدّرة.

وأمّا « السمع » و « البصر » و « الإدراك » فيدلّ عليهنّ القرآن العزيز ، ومعناها في حقّه العلم بمتعلّقاتها.

قوله : ( وكونه عدلا حكيما جارية أفعاله على وفق الحكمة والصواب ).

أقول : « العدل » لغة : التسوية (٢) ؛ واصطلاحا : تنزيه البارئ سبحانه عن فعل القبيح والإخلال بالواجب.

و « الحكيم » : واضع الأشياء مواضعها.

وفي قوله : « جارية أفعاله على وفق الحكمة والصواب » إشارة إلى أنّه تعالى يفعل لغرض ، وردّا على الأوائل حيث خالفوا في ذلك محتجّين بأنّ الفاعل لغرض مستكمل به فيكون ناقصا ، والبارئ ليس بناقص فلا يفعل لغرض.

وجوابهم : المنع من كون كلّ فاعل لغرض مستكمل.

وعلى الأشاعرة حيث نفوا الغرض عنه تعالى وعن جميع الممكنات ، وأسقطوا سائر العلل الغائيّة ، وأبطلوا علم الطبّ ومنافع الأعضاء ؛ محتجّين بأنّ الغرض إن كان قديما لزم قدم الفعل ذي الغرض ، وإن كان حادثا فهو من فعله تعالى ؛ لما ثبت من أنّه لا

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) المصباح المنير ٢ : ٥٢ ، « ع. د. ل ».

٢٧٢

فاعل سواه ، وحينئذ فإن فعله لغرض آخر تسلسل ، وإلاّ لزم العبث.

وجوابهم : المنع من التسلسل ؛ لأنّ الأغراض اعتباريّة تنقطع بانقطاع المضاف إليه.

لنا ـ نحن على أنّه يفعل لغرض ـ المعقول والمنقول :

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه لو لا ذلك لزم العبث ، وهو نقص ، فيتنزّه الله عنه. ويلزم الظلم أيضا ؛ لأنّه إذا ألزم العباد مشاقّ التكليف لا لغرض ومنفعة في الدنيا والآخرة كان ظالما ضرورة.

وأمّا الثاني ؛ فالقرآن المجيد مشحون بذلك نحو قوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) ، وقوله : ( لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ) (٢) ، وقوله :

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (٣) وقوله : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٤).

قال صاحب المحصّل « فبيّن الله تعالى أنّ بعثة الرسل لقطع الحجّة » (٥) مع أنّ مذهبه أنّه لا غرض فيها.

[ فإن ] قالوا : يلزم من الاستدلال بالسمع هنا الدور ؛ لأنّه فرع عندكم على هذه المسألة.

قلنا : ذكرناه إلزاما ؛ لأنّكم ترون السمع لا يتوقّف عليها.

إن قلت : لم لا يكون « اللام » في قوله : ( لِيَعْبُدُونِ ) للعاقبة لا للغرض.

قلت : « لام » الغرض قد لا يحصل الغرض عقيبها ، كمن قال : « جئتك لتكرمني » ، فإنّه قد لا يحصل له الإكرام ، و « لام » العاقبة لا بدّ من حصول ما تعلّقت به ، كما قال

__________________

(١) الذاريات (٥١) : ٥٦.

(٢) الإسراء (١٧) : ١٢.

(٣) المؤمنون (٢٣) : ١١٥.

(٤) النساء (٤) : ١٦٥.

(٥) المحصّل : ٥١٣.

٢٧٣

تعالى : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا ) (١). وقال الشاعر : « لدوا للموت وابنوا للخراب » (٢).

فلو كانت تلك « لام » العاقبة لما خرج أحد من الدنيا إلاّ عابد ، وهو معلوم البطلان.

قوله : ( وإنّه لا يستطيع أحد الاطّلاع على ذاته ولا على صفة من صفاته ).

أقول : ذهب الجمهور من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ حقيقته تعالى معلومة للبشر ؛ لأنّ وجوده معلوم ونفس حقيقته ، ولأنّا نحكم على ذاته بالصفات وهو بدون تصوّرها محال (٣).

وجواب الأولى : أنّ وجوده المعلوم هو المشترك مع أنّه ليس بمعلوم بالكنه.

وجواب الثانية : أنّا لا نسلّم أنّ الحكم بدون التصوّر محال ؛ لوجهين :

الأوّل : أنّا نحكم على الأغذية والأدوية بأنّ لها خواصّا وآثارا مع جهلنا بحقائقها.

الثاني : أنّ الحكم لو استحال على غير المتصوّر لاستحال الحكم عليه.

سلّمنا استحالة الحكم بدون تصوّر لكن يكفي التصوّر العارضيّ ؛ فإنّا إذا علمنا أنّ العالم ممكن علمنا أنّ له مؤثرا ما ، ونحن نعقل حقيقة المؤثّر في الشاهد ، فلمّا كان مطلق المؤثّر معلوما موصوفا فيكون داخلا تحت مطلق المؤثّر ، وهذا جواب رصين.

أمّا الأوائل وضرار والجويني وأبو الحسين البصري والغزالي فقد وافقوا على أنّها غير معلومة.

والدليل على ذلك أنّ العلم بها إمّا ضروري وبطلانه ضروري ، أو كسبي وهو في التصوّرات إمّا بالحدّ المشتمل على الجنس والفصل المنفيّين عنه ، أو بالرسم وهو

__________________

(١) القصص (٢٨) : ٨.

(٢) نهج البلاغة : ٦٨٢ ، الحكمة ١٣٢. وفيه قال الإمام علي عليه‌السلام : « إنّ لله ملكا ينادي في كلّ يوم : لدوا للموت ، واجمعوا للفناء ، وابنوا للخراب ».

(٣) حكاه عنهم في تلخيص المحصّل : ٣١٤ ؛ المباحث المشرقيّة ٢ : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

٢٧٤

بالجوارح فلا يفيد الاطّلاع على الحقيقة (١). ولهذا أنّ موسى عليه‌السلام سئل بـ « ما » (٢) الدالّة على طلب الحقيقة ، أجاب بذكر خواصّه وصفاته ، فنسب إلى الجنون ، فذكر صفات أبين وقال : ( إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) (٣) ، ثبّتها لهم على استحالة الاطّلاع على حقيقته.

ولأنّه لو كانت ذاته معلومة لم يكن إلها كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : « كلّ معروف بنفسه مصنوع » (٤) وهذه مقدّمة دليل حذفت كبراه ، تقديرها : وكلّ مصنوع ليس بإله العالم ، فالناتج أنّ كلّ معروف بنفسه ليس بإله العالم ، بل نقول : صفاته الحقيقيّة غير معلومة لنا بالكنه ، فإنّا لا نعلم من قدرته إلاّ أنّها مبدأ الفعل على سبيل الصحّة ، ولا من علمه إلاّ أنّه مبدأ الإحكام والإتقان ، وذلك عنى المصنّف بقوله : ( ولا على صفة من صفاته ).

قوله : ( فهو أكبر من أن يوصف ).

أقول : أطلق المصنّف هنا العامّ وأراد الخاصّ ، فإنّه قد وصف بالصفات الثبوتيّة وغيرها ، والمراد بالوصف الدالّ على الإمكان المستلزم لمطلق النقصان ، كما وضّحه أخطب الخطباء أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال :

لا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان له وراء إذ وجد له أمام ، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان ، وإذا لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه (٥).

[ تنبيه ] هذه الكلمة أعني : « الله أكبر » كما دلّت على صفات الكمال ، دلّت على صفات الجلال ، كما ذكره المصنّف ( رضوان الله عليه ).

ويطابقه ما قال في رسالة النفل عند ذكر التكبيرات السبع : انّه : أوّل في الرواية ،

__________________

(١) حكاه عنهم في تلخيص المحصّل : ٣١٤ و ٣١٥.

(٢) أشار إلى الآية ٢٣ من سورة الشعراء (٢٦) : ( قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ).

(٣) الشعراء (٢٦) : ٢٨.

(٤) نهج البلاغة : ٣٦٥ ، الخطبة ١٨٦.

(٥) نهج البلاغة : ٣٦٦ ، الخطبة ١٨٦.

٢٧٥

يعني رواية أحمد بن عبد الله عن عليّ عليه‌السلام :

إنّ التكبير الأوّل : أن يلمس بالأخماس ، أو يدرك بالحواسّ ، أو أن يوصف بقيام أو قعود.

والثاني : أن يوصف بحركة أو جمود.

والثالث : أن يوصف بجسم أو يشبه بشبه.

والرابع : أن تحلّه الأعراض ، أو تؤلمه الأمراض.

والخامس : أن يوصف بجوهر أو عرض ، أو يحلّ في شيء.

والسادس : أن يجوز عليه الزوال ، أو الانتقال ، أو التغيير من حال إلى حال.

والسابع : أن تحلّه الخمس الحواسّ (١).

فقد ظهر اشتمال هذه الكلمة العظيمة على صفتي الجلال والإكرام.

قوله : ( أو يبلغه وصف الواصفين ).

أقول : كلّ وصف وصف الله سبحانه ممّا يدلّ على الإمكان لا يصل إليه تعالى ؛ لأنّ ذاته سبحانه لمّا خالفت سائر الذوات كان كلّ وصف انطبق على شيء منها انتفى عنه تعالى للمخالفة المذكورة.

والواصفون قد ذكرناهم وطرفا من كلامهم عند نفي الجسميّة عنه تعالى.

قوله : ( فلا يعلم ما هو إلاّ هو ).

أقول : هذه نتيجة ما مرّ ، ولهذا عقّب المصنّف ذلك بـ « الفاء ».

وعلى هذا قال ضرار بن عمرو : إنّ لله تعالى ماهيّة لا يعلمها إلاّ هو.

قال سلطان المجتهدين جمال الدين ـ جزاه الله عن الإسلام وأهله أفضل جزاء المحسنين وخصّه الله من وظائف فضله بأكمل ما أعدّه لعباده الصالحين ـ : وقول ضرار عندي قويّ (٢).

فإن عنى بالماهيّة الذات والحقيقة فهو حقّ وصواب ، وإن عنى شيئا آخر فهو جهالة.

__________________

(١) الألفية والنفلية : ١١١ و ١١٢ ، الفصل الثاني في سنن المقارنات ؛ وانظر الرواية في علل الشرائع ٢ : ٢٨ ، الباب ٣٠ ، ح ٥.

(٢) حكاه عنهما في مناهج اليقين : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٢٧٦

قوله : ( فهذه الكلمات الأربعة تشتمل على أصول الإيمان الخمسة أعني : التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد ).

أقول : أمّا « الاشتمال » وكون هذه أصولا فبيّن ، وأمّا « الإيمان » فقد اختلف العلماء فيه ، والمحرر مذهبان :

[ المذهب ] الأوّل : أنّه اعتقاد بالقلب ونطق باللسان ، أو حكمه ، وهذا اختيار المحقّق نصير الدين في تجريده (١) ، وسديد [ الدين ] سالم بن محفوظ في منهاجه (٢) ، والسيّد ضياء الدين في رسالته (٣) ، وجمال المحقّقين في كثير من كتبه (٤).

ويدلّ على أنّ الاعتقاد وحده غير كاف قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (٥) فاستيقانهم بتلك الآيات لما أنكروها بألسنتهم لم يزل كفرهم ، ويدلّ على أنّ اللسان غير كاف أيضا قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) (٦) فوجب أن يكون الإيمان عبارة عنهما معا.

المذهب الثاني : أنّه التصديق القلبي فقط ؛ لأنّه لغة كذلك (٧) ، لقوله تعالى : ( وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ) (٨) أي بمصدّق ، والأصل عدم النقل. وهذا مذهب الأشعرية (٩) ، واختيار كمال الدين ميثم في قواعده (١٠) ، وابن نوبخت ، واستقر به المقداد (١١).

ويدلّ على [ أنّ ] اللسان لا مدخل له فيه : أنّ الإيمان عرض لا بدّ له من محلّ ،

__________________

(١) كشف المراد : ٤٢٦ ، المسألة ١٥.

(٢) لاحظ إرشاد الطالبين : ٤٤٠ و ٤٤١.

(٣) لاحظ إرشاد الطالبين : ٤٤٠ و ٤٤١.

(٤) مناهج اليقين : ٣٦٧.

(٥) النمل (٢٧) : ١٤.

(٦) البقرة (٢) : ٨.

(٧) العين ٨ : ٣٨٩ « أ. م. ن ».

(٨) يوسف (١٢) : ١٧.

(٩) لاحظ إرشاد الطالبين : ٤٤٢.

(١٠) لاحظ إرشاد الطالبين : ٤٤٢.

(١١) لاحظ إرشاد الطالبين : ٤٤٢.

٢٧٧

ولا شكّ أنّ الله جلّ وعزّ لمّا أضافه إلى محلّه أضافه إلى القلب ، في قوله : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (١) ، وفي قوله : ( كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ) (٢) ، وفي قوله : ( يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) (٣).

والمراد بالصدر القلب لحلوله فيه ، ولمّا كان لغة التصديق ، ومحلّ التصديق القلب ، وأنّه سبحانه أضافه إليه أيضا ، علمنا أنّ اللسان ليس من الإيمان في شيء ، ولا يحمل عليهما معا دفعا للاشتراك والمجاز ، بل نقول : النطق باللسان مظهر له ، والأعمال الصالحة ثمرات تؤكّده.

قوله : ( فمن حصّلها حصّل الإيمان ).

أقول : يحتمل أن يكون المراد الأصول ، أي من حصّل أصول الإيمان حصّله ، والأقوى أنّ المراد به الكلمات ولهذا عقّب بقوله : « وهنّ الباقيات الصالحات » ولا ريب أنّ من حصّلهنّ حصّل الأصول لاشتمالهنّ عليها ، ومن حصّل أصول الإيمان حصّل الإيمان ، فنتج من هاتين المقدّمتين أنّ من حصّلهنّ حصّل الإيمان ، فيكون بتحصيلهنّ العلم بمعانيهنّ المذكورة ، وإثبات كلّ واحد منها بالأدلّة المشهورة ؛ ولأنّ سياق كلام المصنّف الحثّ على هذه الكلمات ، والترغيب في إدراك معانيها ، ومن جملة ذلك :

قوله : ( وهنّ الباقيات الصالحات ).

أقول : إنّما اقتصر المصنّف ـ والله العالم ـ على ذلك لاشتهار شرفهنّ ؛ ولأنّ الكتاب الإلهي ناطق بأفضليّتهنّ. قال الله ( عزّ وعلا ) : ( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) (٤) ، وقال من بالكبرياء تردّى : ( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ

__________________

(١) النحل (١٦) : ١٠٦.

(٢) المجادلة (٥٨) : ٢٢.

(٣) الأنعام (٦) : ١٢٥.

(٤) الكهف (١٨) : ٤٦.

٢٧٨

عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (١).

وليكن هذا منتهى ما أمليناه على هذه الكلمات ، ونسأل الناظر فيه الجبر عند العبور على الهفوات ، والستر عند المرور على الخطيئات.

ونصلّي على محمّد أشرف البريّات وعلى آله المنتجبين بالكرامات ، وأصحابه ذوي السعادات صلاة نامية البركات ما تعاقبت اللحظات وتصرّمت الآنات ، وسلّم تسليما.

والحمد لله ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم. (٢)

__________________

(١) مريم (١٩) : ٧٦.

(٢) إنهاء النسخة الخطّيّة : « وقع الفراغ من كتابتها بكرة نهار الخميس سلخ ذي القعدة الحرام سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة [٨٩٣] بقلم العبد الفقير الخائف المستجير ، المؤمّل من ربّه مغفرة تنجيه يوم يشغل كلّ عن فصيلته وبنيه ؛ تاج الدين بن محمّد بن حمزة بن زهرة الحسيني الحلبي الفوعي عفا الله عنه بمنّه وكرمه ، آمين ، والحمد لله ربّ العالمين ، وذلك بقرية نامطي ».

٢٧٩
٢٨٠