أربع رسائل كلاميّة

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

أربع رسائل كلاميّة

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-964-X
الصفحات: ٣٢٨

المرصد الأوّل

في معنى « سبحان الله »

قال : ( معنى « سبحان الله » : تنزيهه تعالى عن السوء وبراءته من الفحشاء ).

أقول : التنزيه لغة : التباعد عن المياه (١) ، يقال : سقيت إبلي ثمّ نزّهتها ، وهذا هو المراد هنا ، ولهذا أشفع المصنّف هذه اللفظة بقوله : « وبراءته » ؛ لأنّها أختها فإنّ البراءة من الشيء البعد عنه والتخلّص منه.

إن قلت : إنّ كلام المصنّف خرج مخرج المدح لله سبحانه ، وهو إنّما يكون متعلّقا بما يمكن إثباته للممدوح ، ثمّ لا يوصف به لكماله ، والسوء والفحشاء مستحيلان عليه تعالى ، ولا مدح بنفي المستحيل.

قلت : هذا مستحيل نظرا ، أي وقوعه ، وليس بمستحيل بالنظر إلى ذاته بل لعدم الداعي ؛ على أنّه يستعمل في الارتفاع عن المتنزّه عنه مطلقا ، سواء كان واجبا أو جائزا ، فإنّ الله تعالى تمدّح بنفي الرؤية في قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) (٢) ، مع

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٤٢٢ ؛ المصباح المنير ٢ : ٣٠٦ ، « ن. ز. ه‍ ».

(٢) الأنعام (٦) : ١٠٣.

٢٤١

استحالتها عليه على المذهب الحقّ.

إن قلت : السوء والفحشاء مؤدّيان بعود المعنى إلى كونه لا يفعل قبيحا ولا يخلّ بواجب ، فكان من حقّه أن يصفه بذكر ما يناسب العدل ، لا بما وصفه من السلوب.

قلت : هذه أكبر سوء من ذينك ، فإنّه لو لم يتنزّه عن هذه لزمته تلك ؛ فإنّه لو لا نفي الحدوث والإمكان والحاجة والعجز والجهل لما انفكّ من فعل القبيح غالبا ؛ لمكان الجهل والحاجة ، وكذلك سائرها ، على أنّ نفي الحاجة يستلزم نفي البواقي ، فلو اقتصر المصنّف رحمه‌الله عليه جاز ، غير أنّه يكون غاية في الإيجاز إلاّ أنّ إدراك الملزوم من لازمه لا يتفطّن له إلاّ الفكر المستقيم.

ثمّ اعلم : أنّ سلب هذه المذكورات عنه تعالى مبنيّ على إثبات الوجوب له ، فإنّ كلّ واحدة منها تنافي الوجوب الثابت له ، فيجب نفيها ، ضرورة أنّ ثبوت أحد المتنافيين لذات ما يستلزم نفي الآخر عنها من غير عكس.

فائدة :

لمّا نزل قوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) (١) قالت اليهود : إنّ الله فقير يستقرض منّا ونحن أغنياء. عن الحسن ومجاهد (٢). فأنزل سبحانه : ( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا ) (٣).

وعن عكرمة والسدي ومقاتل ومحمّد بن إسحاق :

أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، فدخل مدراسهم فوجد ناسا كثيرا منهم قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال : فنحاص بن عازورا فدعاهم إلى الإسلام والصلاة والزكاة ، فقال فنحاص : إن كان ما تقول حقّا فإنّ الله إذا لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنيّا لما استقرضنا أموالنا! فغضب أبو بكر وضرب وجهه فأنزل الله هذه الآية (٤).

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٤٥ ؛ الحديد (٥٧) : ١١.

(٢) حكاه عنهما في مجمع البيان ٢ : ٤٦٠ ؛ التبيان ٢ : ٢٨٧.

(٣) آل عمران (٣) : ١٨١.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٤٦٠.

٢٤٢

وكلامهم هذا سخيف جدّا ، مردود عقلا وسمعا.

أمّا سمعا : فللآية المذكورة.

وأمّا عقلا : فلأنّه لو كان المراد وصول القرض إليه لاستحال الإقراض ؛ لاستحالة الإشارة الحسّيّة عليه ، فيكون الحثّ قد تعلّق بممتنع الحصول ، بل المراد ذوي الحاجات ، وأرباب الفاقات الذين فرضت لهم الصدقات ، واستحبّت لهم الصلات ؛ فإنّهم عيال الله سبحانه.

إن قلت : الخلق كلّهم عياله ، فما وجه تخصيصهم.

قلت : وجهه ثبوت الفرق بين القادر المأمور بالمشي والعاجز عن السلوك في مذاهبها.

قوله : ( والعجز والجهل ).

أقول : لأنّهما صفتا نقص ، وهو كاذب على الواجب.

فسلبهما عنه تعالى لازب وواجب ، ولنحسن الإشارة هنا إلى بيان سلب العجز والجهل على الإطلاق الذي لازمه في الأحياء عموم القدرة والعلم ، فهنا مطلبان :

المطلب الأوّل : في عموم القدرة

فنقول : ذات الله سبحانه مجرّدة لا تخصيص له بشيء دون آخر ، بل الأشياء إليه على السواء ؛ ولأنّ علّة تعلّق قدرته بالأشياء إمكانها ، فحيث وجدت العلّة وجد المعلول ؛ لامتناع تأخّر معلول الموجب عنه ، ولمّا شاعت العلّة التي هي الإمكان شاع التعلّق الذي هو المعلول وهو المطلوب.

هذا وقد ذهب [ الأوائل ] إلى نفي قدرته تعالى عمّا وراء مقدور واحد بالشخص (١). واحتجاجهم بدخول الصدورين المستلزم للتركيب ، أو خروجهما المستلزم للتسلسل ، معارض بمثله في الصدور الواحد.

__________________

(١) للمزيد راجع كشف المراد : ٢٨٣ ؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ : ٣٧٥.

٢٤٣

وذهب إبراهيم بن سيّار إلى نفي قدرته تعالى عن القبيح (١) ؛ لاستلزامه الجهل أو الحاجة لو فرضنا وقوعه ؛ إذ لا مجال فيه.

والجواب : أنّ من الممتنع إمّا امتناعه ذاتيّ وعدم القدرة عليه ظاهر ، ومنه ما هو غيريّ ، وهذا هو المراد هنا ، فإنّ الامتناع منه للصارف.

وذهب عبّاد إلى استحالة وجود ما علم الله عدمه ، واستحالة عدم ما علم وجوده ، ولا قدرة على مستحيل (٢).

والجواب : أنّ هذه الاستحالة عارضة فلا تزيل الإمكان الذاتي ؛ ولأنّه يلزم نفي قدرة كلّ مختار ، وهو ضروري البطلان.

وذهب الكعبي إلى نفي قدرته تعالى عن مثل مقدور العباد ؛ لأنّ فعلهم إمّا طاعة أو سفه أو عبث ، ويستحيل وقوع ما كان كذلك منه تعالى فلا قدرة (٣).

والجواب : أنّ هذه صفات عارضة تحصل بقصد الفاعل وليست لازمة للفعل بدليل انفكاكها عنه.

وأجاب نصير الدين القاشي ( رحمة الله عليه ) بأنّه :

إن أريد بالعبث ما ليس بطاعة منعنا عدم جوازه منه ، فإنّ أفعاله كلّها كذلك ؛ وإن أريد الفعل المنفيّ عنه الغاية الصحيحة عقلا وشرعا فالحكم ممنوع ، فإنّ المباحات جميعها خارجة عن الأقسام الثلاثة المذكورة بهذا التفسير (٤).

وذهب المرتضى والشيخ أبو جعفر والجبّائيان إلى نفي قدرته تعالى عن عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم اجتماع قادرين على مقدور (٥).

والجواب : المنع من استحالة اللازم ؛ لأنّ قدرة الربّ متعلّقة بقدرة العبد حدوثا وبقاء ، وقدرة العبد متعلّقة بعين مقدوره ، فقدرة الربّ متعلقة بعين مقدور العبد ؛ إذ المتعلّق بالمتعلّق بشيء متعلّق بذلك الشيء.

__________________

(١) حكاه عنه في الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ : ٣٧٥.

(٢) حكاه عنه في اللوامع الإلهيّة : ١١٩ ؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل ٥ : ٦٣.

(٣) حكاه عنه في اللوامع الإلهيّة : ١١٩ ؛ تلخيص المحصّل : ٣٠١.

(٤) حكاه عنه في إرشاد الطالبين : ١٩٢ ؛ اللوامع الإلهيّة : ١٢٠.

(٥) حكاه عنهم في إرشاد الطالبين : ١٩٢ ـ ١٩٣ ؛ تلخيص المحصّل : ٣٠١ ؛ اللوامع الإلهيّة : ١٢٠.

٢٤٤

فائدة :

الفرق بين عين المقدور ومثله أنّ عينه هو أن يكون فعلا واحدا بالشخص تتعلّق إرادة الله والعبد به في وقت واحد ، وأمّا المثل فهو كون الفعل من جنس فعل العبد ، ولم تتعلّق إرادتاهما معا ، ولا إرادة أحدهما وكراهة الآخر به في الوقت الواحد.

المطلب الثاني : في عموم العلم

وبيانه : أنّه إن صحّ منه تعالى أن يعلم كلّ معلوم وجب له ذلك ؛ لأنّه حيّ وصفاته نفسيّة.

ونفى قوم من الأوائل علمه بذاته ، فالعالم والمعلوم متغايران ، ولمّا امتنع على الواجب التكثّر امتنع عليه العلم به (١).

جوابهم : الاكتفاء بالمغايرة ولو بوجه. والذات هنا من حيث عالميّتها مغايرة لمعلوميّتها ؛ ولأنّ العلم يعلم بنفسه.

ونفى قوم منهم علمه بغيره وإن كان عالما بذاته ؛ لأنّه يكون محلا للصور ؛ إذ العلم صورة مساوية للمعلوم حالّة في العالم (٢).

جوابهم : العلم نسبة وإضافة ، فسقط كلامهم.

ونفى بعضهم علمه بالمتغيّرات الشخصيّة ، وإلاّ لتغيّرت ذاته لتغيّر علمه بتغيّر معلومه (٣).

جوابهم : أنّه تعالى فاعلها أو أسبابها بالاختيار فوجب علمه بها.

ونقل الكعبي عن هشام : أنّه تعالى لا يعلم الحوادث قبل وجودها ؛ لأنّه يلزم الجبر ونفي قدرة الربّ ، إذ لو علمها بالوجوب أو العدم فواجب وممتنع ، كما قال عبّاد في القدرة.

__________________

(١) للمزيد راجع إرشاد الطالبين : ٢٠٠ ؛ اللوامع الإلهيّة : ١٢٢.

(٢) حكاه عنهم في إرشاد الطالبين : ٢٠٠ ؛ اللوامع الإلهيّة : ١٢٣.

(٣) للمزيد راجع تلخيص المحصّل : ٢٩٥ ـ ٢٩٨.

٢٤٥

وجوابه : جوابه.

إن قلت : قوله تعالى : ( إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) (١) وقوله : ( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) (٢) ونحوهما ، يدلّ على أنّه لا يعلم الشيء إلاّ بعد وقوعه.

قلت : الاستقبال يأتي بمعنى الماضي كقوله : ( فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ ) (٣) أي قتلتم ، هذا.

وقد روى الحسين بن بشار قال : سألت الرضا عليه‌السلام : أيعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون أو لا يعلم إلاّ ما يكون؟ فقال : « إنّ الله هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء ، قال الله عزّ وجلّ : ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٤) » (٥).

ومنهم : نفى علمه بالمعدوم إلاّ لتميّز ، فيكون ثابتا وهو محال (٦).

جوابهم : لو لم يكن معلوما لاستحال منه تعالى إيجاده على وجه الإتقان.

ومنهم : من نفى علمه بما لا يتناهى لوجوب تعدّد العلوم بتعدّد المعلوم ، والمعلوم غير متناه فكذلك العلوم (٧).

جوابهم : العلم إضافة يجوز عدم التناهي فيها أيضا ، على أنّ العلم الواحد يجوز تعلّقه بمعلومات.

ومنهم : من نفى علمه بجميع الأشياء وإلاّ لعلم بعلمه وعلم علمه فيتسلسل (٨).

جوابهم : علمه بعلمه بالذات نفس علمه ، وبنوع من الاعتبار غير علمه.

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٤٣.

(٢) محمّد (٤٧) : ٣١.

(٣) البقرة (٢) : ٩١.

(٤) الجاثية (٤٥) : ٢٩.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٠٨ / ٨.

(٦) تلخيص المحصّل : ٢٩٦.

(٧) المباحث المشرقيّة ٢ : ٤٩٧.

(٨) حكاه عنهم في تلخيص المحصّل : ٢٩٨.

٢٤٦

[ ما يستحيل عليه تعالى ]

قوله : ( والجسميّة والعرضيّة ).

أقول : ذهبت الحشويّة إلى تجسيمه تعالى (١).

فمنهم : من جعله جسما ذا أبعاد ثلاثة حتّى وصفوه بالرّجلين حيث قالوا : وضع رجله على صخرة بيت المقدس ، فمنها ارتقى إلى السماء! ووصفوه بالأنامل حيث قالوا ، إنّ محمّدا قال : وجدت برد أنامله على قلبي (٢).

وعن بعضهم : أنّ له جوارح من لسان وعين وأذن حتّى قالوا : اشتكت عيناه فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتّى رمدت عيناه (٣).

وعن داود الظاهري : أعفوني عن الفرج واللحية وسلوني عن ما وراء ذلك (٤).

وحكى الأشعري عن محمّد بن قيس أنّه حكى عن مضر وكهمس وأحمد الجهيمي : أنّهم أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة (٥).

ورووا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « لقيني ربّي فصافحني وكافحني » (٦).

وزعمت طائفة من المقاربة أنّ الله خاطب الأنبياء بواسطة ملك اختاره وقدّمه على جميع الخلق واستخلفه عليهم (٧).

وما روي من البكاء المذكور ومن أنّه ضحك الجبّار حتّى بانت نواجذه ، وأنّه كتب التوراة بيده ـ إلى غير ذلك ـ محمول على ذلك الملك ، ويجوز في العادة أن يبعث ملكا واحدا من جملة خواصّه ويلقي عليه اسمه ويقول : مكان هذا فيكم مكاني (٨).

__________________

(١) حكاه عنهم في الملل والنحل ١ : ١٠٦.

(٢) للمزيد راجع الملل والنحل ١ : ١٠٥ و ١٠٦.

(٣) للمزيد راجع الملل والنحل ١ : ١٠٦.

(٤) حكاه عنه في الملل والنحل ١ : ١٠٥ و ١٠٦.

(٥) حكاه عنهم في الملل والنحل ١ : ١٠٤.

(٦) رواه في الملل والنحل ١ : ١٠٦.

(٧) الملل والنحل ١ : ٢١٧.

(٨) الملل والنحل ١ : ٢١٧.

٢٤٧

وقيل : إنّ صاحب هذه المقالة بنيامين النهاوندي (١).

وبالجملة فهذا القول وإن لم يكن صوابا في نفسه فهو أسوأ ممّا مرّ قبله.

حجّتهم : الأجسام والعلم صورة مساوية للمعلوم حالّة في ذات العالم فتحصل صورة الأجسام فيه فيكون جسما (٢).

والجواب : المنع من كون العلم صورة ، على أنّه لو كان جسما لاستلزم التركيب المستلزم للافتقار المستلزم للإمكان المنافي للوجوب الذاتي الثابت له تعالى.

هذا مع ورود السمع المطابق للعقل المؤكّد له في ذلك عن سادات العلماء عليهم‌السلام.

فمنه عن محمّد بن حكيم قال : وصفت لأبي الحسن ما يقول هشام الجواليقي ، وهشام بن الحكم فقال : « إنّ الله لا يشبهه شيء » (٣).

وعن محمّد بن الفرج ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أسأله عمّا قال هشام بن الحكم في الجسم ، وما قال هشام بن سالم في الصورة ، فكتب عليه‌السلام : « دع عنك حيرة الحيران ، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، ليس القول ما قال الهشامان » (٤).

والخبر المروي لو صحّ لزم جهل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بربّه لما صحّ عنه عليه‌السلام « والله جلّ جلاله قال : ما آمن بي من فسّر كلامي برأيه ، وما عرفني من شبّهني بخلقي » (٥).

قال صاحب الملل والنحل : « وهذه الأخبار أكثرها مقتبسة من اليهود ، فإنّ التشبيه فيهم طباع » (٦).

ومنهم من قال : إنّه جسم لا كالأجسام (٧) ، وكأنّهم لمّا قالوا : إنّه قائم بذاته ،

__________________

(١) الملل والنحل ١ : ٢١٧.

(٢) راجع تلخيص المحصّل : ٢٩٤.

(٣) الكافي ١ : ١٠٥ / ٤ ، باب النهي عن الجسم والصورة ؛ التوحيد : ٩٧ / ١ ، باب أنّه عزّ وجلّ ليس بجسم ولا صورة.

(٤) الكافي ١ : ١٠٥ / ٥ ، باب النهي عن الجسم والصورة ؛ أمالي الصدوق : ٢٢٨ / ١ ، المجلس السابع والأربعون.

(٥) الاحتجاج ٢ : ٤١٠ ، باب أجوبة الإمام الرضا عليه‌السلام لأسئلة أبي الصلت.

(٦) الملل والنحل ١ : ١٠٦.

(٧) حكاه عنهم في تلخيص المحصّل : ٤٥.

٢٤٨

اعتقدوا أنّ كلّ قائم بذاته جسم ، وحينئذ فالمنازعة لفظيّة.

قوله : ( والجوهريّة ).

أقول : الجوهر إما مادّيّ وهو المتحيّز المستحيل عليه القسمة ، وإمّا مجرّد وهو الذي إذا وجد كان لا في موضوع ، وهو بكلا التعريفين غير صادق عليه تعالى لوجوب وجوده واستحالة تحيّزه.

قوله : ( والتحيّز ).

أقول : جماعة المشبّهة قالوا بتحيّزه ؛ لأنّه يستحيل في العقول وجود مجرّد عن الأحياز (١).

جوابهم : تحيّز الباري إمّا واجب فالحيّز قديم ، أو ممكن فالباري متغيّر.

قوله : ( والحلول في محلّ ).

أقول : ذهبت الغلاة إلى حلوله في أمير المؤمنين (٢). ومن الصوفيّة من أحلّه بقلوب العارفين (٣). وأحلّه بعض النصارى بعيسى بن مريم عليهما‌السلام (٤).

والدليل على نفيه عنه : أنّه لو حلّ فإمّا في محلّ واحد فيكون أصغر الأشياء ، أو في محالّ متعددة فيكون مركبا.

قوله : ( أو جهة ).

أقول : اتّفقت المجسّمة على كونه في جهة (٥). والكراميّة خصّصوه بجهة فوق (٦).

والدليل على نفيها عنه تعالى : أنّ الجهة لمّا كانت مقصد التحرّك ومتعلّق الإشارة فلا بدّ أن تكون موجودة ، فهي إمّا قديمة ويتعدّد القديم ، أو حادثة. فإن كان حلول الباري

__________________

(١) حكاه عنهم في الملل والنحل ١ : ١٠٣ ؛ تلخيص المحصّل : ٤٥٠ و ٢٦١.

(٢) راجع الملل والنحل ١ : ١٧٣ و ١٧٦.

(٣) راجع تلخيص المحصّل : ٢٦١.

(٤) راجع تلخيص المحصّل : ٢٦١.

(٥) للمزيد راجع تلخيص المحصّل : ٢٦٣ ؛ الملل والنحل ١ : ١٠٨.

(٦) للمزيد راجع تلخيص المحصّل : ٢٦٣ ؛ الملل والنحل ١ : ١٠٨.

٢٤٩

تعالى فيها صفة كمال لزمه النقص قبل إحداثها ، وإن كان صفة نقص استحال اتّصاف الواجب تعالى به.

استدلّت الكراميّة بعروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الجهة العليا ، ولو لا اختصاصه تعالى بها لانتفت الفائدة (١).

قلنا : لا نسلّم نفي الفائدة على تقدير عدم الاختصاص ؛ لما رواه يونس بن عبد الرحمن ، قلت لموسى الكاظم عليه‌السلام : لأيّ علّة عرج الله بنبيّه إلى السماء ، ومنها إلى سدرة المنتهى ومنها إلى حجب النور وخاطبه وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان؟ قال عليه‌السلام :

إنّ الله لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان ، ولكنّه جلّ وعزّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عظمته ما يخبر به بعد هبوطه (٢).

قوله : ( والاتّحاد ).

أقول : ذهب قوم من الأوائل إليه والنصارى ، وهو أيضا مذهب لبعض الصوفيّة ، فإنّ العارف عندهم إذا وصل نهاية مراتبه انتفت هويّته ، وصار الموجود هو الله وحده ، ويسمّون تلك المرتبة : الفناء في التوحيد (٣).

والدليل على امتناعه : أنّ الذات ـ المتّحد الله سبحانه بها ـ لا جائز أن تكون واجبة ؛ لما مرّ غير مرّة ، فهي إذن ممكنة. فإمّا أن توصف ذاته تعالى بعد الاتّحاد بالوجود خاصّة ، فلا أثر حينئذ للذات الممكنة معها ، وإلاّ لما تخلّف الإمكان عنها لو كانت موجودة ، أو توصف بالإمكان خاصّة ، فينعكس الاستدلال ويلزم زوال وجوب الواجب عنه ، وهو محال ؛ أو توصف بهما فيجتمع المتقابلان ؛ أو لا توصف بشيء منهما فيلزم عدمها ؛ لاستحالة وجود ذات خارجا لا يوصف بأحدهما.

__________________

(١) راجع تلخيص المحصّل : ٢٦٣.

(٢) علل الشرائع ١ : ١٦٠ / ٢ ، باب ١١٢.

(٣) للمزيد راجع تلخيص المحصّل : ٢٦٠.

٢٥٠

قوله : ( والولد والصاحبة ).

أقول : ذهب اليهود إلى أنّ العزيز ابن الله ، والنصارى إلى أنّ المسيح عليه‌السلام ابنه أيضا بل قالوا : إنّهم هم أبناؤه (١) ، كما حكاه القرآن المجيد عنهم في قوله تعالى : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (٢) فأجابهم بقوله ( فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) (٣) ولو كنتم أبناءه وأحباءه لما عذّبكم ، إذ الوالد والحبيب لا يعذّب ولده وحبيبه ، كذا قاله الإمام الطبرسي رحمة الله عليه (٤).

قال قوم : إنّ الملائكة بناته.

والدليل على نفي الولد عنه قوله : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) (٥) وقوله سبحانه : ( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً * وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) (٦).

وقوله : ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) (٧).

وعلى نفي الصاحبة والولد أيضا قوله : ( تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ) (٨).

ولقد قال العالم الربّاني أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المعنى « لم يلد فيكون مولودا ولم يولد فيصير محدودا ، جلّ عن اتّخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النساء » (٩).

__________________

(١) راجع الملل والنحل ١ : ٢٢٧.

(٢) المائدة (٥) : ١٨.

(٣) المائدة (٥) : ١٨.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٣٠٤.

(٥) الإخلاص (١١٢) : ٣.

(٦) مريم (١٩) : ٨٨ ـ ٩٣.

(٧) النساء (٤) : ١٧٢.

(٨) الجنّ (٧٢) : ٣.

(٩) نهج البلاغة : ٣٦٧ ، الخطبة ١٨٦.

٢٥١
٢٥٢

المرصد الثاني

في معنى « الحمد لله »

قال : ( ومعنى « الحمد لله » : الثناء على الله عزّ وجلّ بذكر نعمه وآلائه ).

أقول : النعماء في الاصطلاح ، منهم من يطلقها على الظاهرة ويخصّ الباطن باسم الآلاء ، ومنهم من عكس.

وفي اللغة هما مترادفان (١).

ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً ) (٢).

وقول أعشى بكر بن وائل :

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ولا يخون إلا (٣)

أي لا يخون نعمة.

قوله : ( التي لا تعدّ ).

أقول : ليس المراد بنفي العدّ عنها امتناع العدّ عليها ؛ لأنّها من الأعداد قطعا ، ولا نفي العدّ عنها مطلقا ، فإنّ الله تعالى يحصيها ، بل المراد نفي العادّ ؛ لقوله تعالى :

__________________

(١) الصحاح ٤ : ٢٢٧٠ ، « ألا ».

(٢) لقمان (٣١) : ٢٠.

(٣) حكاه عنه في لسان العرب ١٤ : ٤٣ ، « ألا ».

٢٥٣

( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (١). ويومئ إلى ذلك بقوله : « ولا تحدّ » أي لا تقف عند حدّ ، بل منها ما هو دائم ، ومنها ما هو مترادف ، ومنها ما هو متواتر ؛ وليس المقصود نفي الحدّ عنها في عرف المنطق ، وهو المشتمل على الجنس والفصل فإنّ كثيرا من النعوت يحدّ بهذا المعنى.

قوله : ( فمنها : خلق الخلق من سماء وأرض وملك وفلك ).

أقول : أمّا وجه أنّ السماء نعمة فكون الرزق والجنّة فيها ؛ لقوله تعالى : ( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ) (٢) ؛ ولأنّها مقرّ النجوم التي يهتدى بها ، قال الله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (٣). ومحلّ الشمس المدبّرة للزروع والمنتفع بها في كثير من الأمور.

وأمّا أنّ الأرض نعمة فظاهر ؛ إذ عليها مستقرّنا وبناء بيوتنا الواقية لنا من الحرّ والبرد ، وهي منبت معظم أرزاقنا وسبب في سائرها ، وفيها ستر موتانا.

فقد روى ابن بابويه عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه عن عليّ بن الحسين عليهم‌السلام في قوله عزّ وجلّ : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ) (٤). قال :

جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم ، لم يجعلها شديدة الحمي والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرد فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ، ولكنّه عزّ وجلّ جعل بها من المتانة ما تنتفعون به ... (٥) إلى آخر الحديث.

هذا. ووجه النعم في « الملك » أنّ الملائكة تستغفر لنا بقوله تعالى : ( وَيَسْتَغْفِرُونَ

__________________

(١) إبراهيم (١٤) : ٣٤.

(٢) الذاريات (٥١) : ٢٢.

(٣) الأنعام (٦) : ٩٧.

(٤) البقرة (٢) : ٢٢.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٥ / ٣٦.

٢٥٤

لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) (١). وتدعو أيضا ؛ لقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) (٢).

ومنهم : « السفرة » بين الله جلّ وعلا وأنبيائه الذين بهم تكمّلت الهدايات ، وعرّفونا كيفيّات العبادة.

ومنهم : « الحفظة لنا » فقد روي عن سعد بن وهب عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

إنّه ليس من عبد إلاّ وله من الله حافظ وواقية معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو يقع في بئر ، فإذا نزل القضاء خلّيا بينه وبين كلّ شيء (٣).

ومنهم : « حفظة أعمالنا » ؛ لقوله تعالى : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ * كِراماً كاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) (٤).

ووجهه في حصر العمل أمّا الخير ، فلأنّ المكلّف إذا علم أنّ عمله محفوظ غير مضيّع رغب في الاستزادة منه ، وأمّا الشرّ فلأنّه إذا علم أنّ عمله غير مفرّط فيه ولا مهمل كان ذلك صارفا له عن الدوام عليه ، أو الإكثار منه.

قوله : ( وفلك ).

أقول : الفلك أعمّ من السماء ؛ لأنّه شامل لها ولما عداها ، واسم السماء مختصّ بالسبع ، فحينئذ يمكن عود الفلك إلى ما عداها تفصّيا من التكرار ، فإنّ الأفلاك كثيرة كالفلكين العظيمين ، أعني فلك الثوابت ، والفلك الأطلس ، وكالأفلاك الثابتة لكلّ كوكب من السبعة ، وغيرها من فلك جو زهر القمر ، وفلكي عطارد اللذين أحدهما : الحامل والآخر : المدير ، إلى غير ذلك ، فإنّ جملة الفلك أربعة وعشرون فلكا ، ذكر ذلك الإمام الأعظم نصير الدين ( تغمّده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنّته ) (٥).

قوله : ( وخلق العقل الفارق به بين الصحيح والفاسد والحقّ والباطل ).

__________________

(١) الشورى (٤٢) : ٥.

(٢) الأحزاب (٣٣) : ٤٣.

(٣) الكافي ٢ : ٥٩ / ٨ باب فضل اليقين.

(٤) الانفطار (٨٢) : ١٠ ـ ١٢.

(٥) كشف المراد : ١٥٧.

٢٥٥

أقول : العقل غريزة في قلب الإنسان ، والعلم لازم له ، وليس هو هو كما ذهب إليه بعضهم ، وإنّما سمّي عقلا تشبيها بعقال الناقة ، ووجه المشابهة أنّ الحاصل له العقل يمتنع من القبائح كما يمتنع البعير المعقول من السير ، وقد ظهر من هذا أنّه تعالى لا يوصف بالعقل إذ لا يعقله شيء من فعل القبيح ، بل تركه اختيارا منه لعلمه بقبحه وبفنائه عنه ، هذا.

والفارق هو القاسم ، ومنه فرق الشعر ، ومنه الفرقان أيضا.

والظاهر أنّ الصحيح والصدق مترادفان.

وقد قال الفاضل ( رضوان الله عليه ) في كتاب الأسرار :

إنّ الصدق ما إذا نسبته إلى المخبر عنه طابقه ، والحقّ ما إذا نسب المخبر عنه إليه طابقه ، فعلى هذا الحقّ والصحيح في الإضافة متقابلان ، والمتبادر إلى الفهم أنّهما مترادفان (١).

قال الشيخ أبو جعفر : والصحيح هو الحقّ بعينه ، أمّا الفاسد والباطل فعند المحقّقين أنّهما مترادفان. وعند الحنفيّة هما غيران (٢).

قوله : ( وابتعاث الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ).

أقول : الابتعاث ـ بالباء الموحدة تحت ، والتاء المثناة فوق ـ أخذا من قول العالم بالبلاغة أمير المؤمنين في الموعود بالشفاعة سيّد المرسلين : « ابتعثه بالنور المضيء ، والبرهان الجليّ ، والمنهاج البادي ، والكتاب الهادي » (٣) يعني ـ صلّى الله عليه ـ بالنور نور النبوّة ، وبالبرهان المعجزات ، وبالمنهاج الشريعة ، وبالكتاب القرآن.

وأمّا كون الأنبياء والأوصياء نعمة فيجري مجرى إيضاح الواضحات.

إن قلت : إن لفظة « ابتعاث » لا تنطبق على الأوصياء ، بل على الأنبياء خاصّة.

قلت : الخاصّة ممنوعة ، فانّ النبيّ كما بعث من الله سبحانه بواسطة الملك ، بعث

__________________

(١) الأسرار الخفيّة ، قسم الإلهيات ، المقالة الأولى ، المبحث الرابع في أحكام الجواهر.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) نهج البلاغة : ٣٠١ ، الخطبة ١٦١.

٢٥٦

الوصيّ منه بواسطة النبيّ ؛ لعموم قوله تعالى : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) (١).

وقد قال الثعلبي في تفسيره : لمّا نزلت ( بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (٢) الآية ، أخذ النبيّ بيد عليّ وقال : « من كنت مولاه فعليّ مولاه » (٣).

فلمّا شاع ذلك بلغ الحرث بن النعمان الفهري (٤) فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال ـ بعد كلام ـ هذا شيء منك أم من الله؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي لا إله إلاّ هو إنّه من أمر الله » فولّى الحرث وهو يقول : اللهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فرماه الله بحجر على هامته فخرج من دبره. وأنزل الله سبحانه ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) (٥) ـ (٦) الآية.

قوله : ( وختمهم ).

أقول : هذه اللفظة تحتمل أن تكون مفتوحة التاء فتكون إخبارا ، أو أن تكون ساكنة فتكون عطفا على ابتعاث الأنبياء المعطوفين على خلق العقل المعطوف على خلق الخلق ، أمّا على تقدير الإخبار فلا كلام فيه ، وأمّا على تقدير العطف فتحتاج إلى بيان النعمة في الختم المذكور.

فنقول : وجه النعمة في ختم الأنبياء تقريب المكلّف إلى ما وعد به وتوعّد فيكون له بذلك باعثا وزاجرا ، وفيما نقل أن الله تعالى أوحى إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنّي مننت عليك بعشر خصال : منها : أنّي جعلتهم ـ يعني أمّته عليه‌السلام ـ آخر الأمم كيلا يطول مكثهم تحت التراب » (٧).

__________________

(١) النجم (٥٣) : ٣ ـ ٥.

(٢) المائدة (٥) : ٦٧.

(٣) حكاه عن الثعلبي في مجمع البيان ٣ : ٣٨٢ و ٣٨٣.

(٤) كذا في الأصل ولكن في المصدر : « النعمان بن الحرث ».

(٥) المعارج (٧٠) : ١.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ١١٩.

(٧) لم نعثر عليه.

٢٥٧

قوله : ( المفتتحين بسيّد الوصيّين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، المختتمين بسيّد الأمناء أبي القاسم المهدي عليه‌السلام ).

أقول : هنا مقدّمة ، هي أنّ الأمناء أعمّ من الأوصياء لوجود الأمانة بدون الوصاية كما في الأنبياء والأولياء بخلاف الوصاية ؛ لأنّ كلّ وصيّ أمين ، فحينئذ يلزم من قوله رحمه‌الله في أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنّه « سيّد الوصيّين » وقوله في المهدي عليه‌السلام : « إنّه سيّد الأمناء » أن يكون كلّ منهما عليهما‌السلام سيّدا للآخر ومسوّدا.

وقد يجاب : بأنّه لمّا كان السيّد هو الكبير المطاع ، ولا شكّ أنّ كلاّ منهما كبير ومطاع ، إذ لا خلاف بينهما في شيء من الأحكام ، بل كلّ ما قضى به أحدهما التزمه الآخر ؛ لعلمه بأنّه الحقّ ؛ ولأنّ كلاّ منهما يجوز أن يكون سيّدا باعتبار ؛ ولأنّ إثبات السيّدية للإمام قائم الزمان عليه‌السلام قد لا يدخل فيه أمير المؤمنين ، بل من الجائز أن يخصّص العموم بولد الحسين عليه‌السلام.

تنبيه :

لمّا كانت أسماء الأئمّة عليهم‌السلام وعددهم مشهورة عند الشيعة ، اكتفى المصنّف ( رضوان الله عليه ) بذكر أوّلهم وآخرهم طلبا للاختصار ؛ ولأنّ كلّ من دان من الفرق بإمامة القائم عليه‌السلام دان بإمامة آبائه عليهم‌السلام ، ومن خرج عن واحد منهم عليهم‌السلام خروجا كلّيا لم يقل بإمامته عليه‌السلام فلا جرم لم يكن الاكتفاء بذكر الطرفين مغنيا ؛ لتجهيل الواسطة ، بل لتعريفها.

قوله : ( ثمّ خلق أصول النعم التي هي الحياة والقدرة والشهوة والنفرة والعقل والإدراك والإيجاد ).

أقول : أمّا كون هذه السبعة نعما فأمر جليّ ، وأمّا كونها أصولا ؛ فلأنّك متى اعتبرت وجدت سائر النعم مترتّبا عليها وجودا وعدما ، وليس المراد به ترتّبها على كلّ واحدة منها ، بل منها ما هو مترتّب على بعضها ، والبعض الآخر على الآخر ، بدليل أنّ الشهوة والنفرة لمّا كانتا كيفيّتين متضادّتين فمتى وجدت إحداهما اقتضت ما يتبعها ، وانتفت الأخرى وما يتبعها ، فلا توجد نعمة تترتّب عليهما معا.

٢٥٨

لطيفة :

هذه الأصول منها ما هو أصل لسائر الأصول أيضا ، فإنّ الوجود أصل للحياة ، فإنّها لمّا كانت عرضا يفتقر إلى محلّ موجود ؛ لامتناع قيام الموجود بالمعدوم ، ووجوده سابق لوجودها ؛ لوجوب سبق المحلّ على الحالّ فيه ، فتبيّن أنّ الوجود أصل لها ، هذا.

والحياة أصل للخمسة الباقية ؛ ضرورة كونها من الأعراض المشترطة بالحياة ، والإدراك أصل للشهوة والنفرة ؛ لأنّه ما لم يدرك الحيوان الملائم والمنافي ـ ولو بوجه ما ـ لم يشته الأوّل وينفر عن الثاني.

تنبيه :

الإيجاد الذي هو أحد الأصول المراد به الوجود ، إطلاقا لاسم السبب على المسبّب ؛ لأنّ الإيجاد هو نفس تأثير المؤثّر المتقدّم على الوجود بالعلّيّة ، والشيء قبل وجوده لا يكون منعما عليه ؛ لامتناع تعلّق النعمة بالمعدوم ؛ لأنّها المنفعة الواصلة إلى الغير على وجه الإحسان إليه ، ولا تصل إلى معدوم منفعة بالضرورة.

قوله : ( ثمّ خلق فروعها المشتهيات والملذّات ، حتّى أنّه ليس نفس يمضي إلاّ وفيه لله نعمة يجب شكرها ).

أقول : إنّما أتى المصنّف رحمه‌الله بذكر النفس ـ وإن كان سائر نعم الله سبحانه مترادفا ـ لاشتهاره وتتاليه وسرعة مجيئه وذهابه.

إن قلت : فهلاّ ذكر « الآن » الذي هو أقصر من زمان النفس المذكور.

قلت : « الآن » غير متصوّر لكثر من الناس ، على أنّه مفهوم من النفس المذكور ، فإنّه لمروره على المسافة دائما أو أكثريّا طابق جزؤه جزء الزمان الذي هو الآن.

وقوله : ( يمضي ) يحتمل أن يكون بمعنى مضى ؛ إذ النفس المستقبل لا يعدّ نعمة ، والمستقبل يأتي بمعنى الماضي ، وشاهده قوله تعالى : ( فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ ) (١). أي قتلتم.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٩١.

٢٥٩

ويحتمل أن يكون للمستقبل حقيقة من باب إعطاء المعدوم حكم الموجود ، ويعضد هذا الاحتمال أنّ المصنّف ( رفع الله درجته ) أتى بلفظة « يجب » المستقبلة ، وحينئذ فيحتمل أنّ المصنّف وضعها للمعنيين معا.

ويحتمل أن يكون للحاضر خاصّة ؛ لأنّ كلاّ من الماضي والمستقبل معدوم ، والمعدوم لا ينطبق عليه تعريف النعم.

وهذا أقوى ، إلاّ أن يقال : الماضي وإن كان معدوما فإنّ وجوب الشكر عليه باق فيلحقه حكم الموجود.

قوله : ( حتّى أنّ شكر نعم الله تعالى من نعمه التي يجب شكرها ).

أقول : هذا منزّل على الحديث : « إنّ الله أوحى إلى داود عليه‌السلام أن اشكرني على قدر نعمتي ، قال : يا ربّ كيف أشكرك والشكر نعمة منك يجب شكرها؟ قال : الآن قد شكرتني » (١).

وحكى المازندراني في تفسير قوله تعالى : ( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) (٢) : أن داود جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن ساعة إلاّ وإنسان من أولاده في الصلاة (٣).

وجاء في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) (٤) يعني نوحا عليه‌السلام كان كثير الشكر (٥).

عن الباقر والصادق عليهم‌السلام :

إنّ نوحا كان إذا أصبح وأمسى قال : اللهمّ إنّي أشهدك أنّ ما أصبح وأمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ حتّى ترضى وبعد الرضا ، وهذا كان شكره (٦).

__________________

(١) إرشاد القلوب ١ : ٢٤٢ ، الباب السابع والثلاثون.

(٢) سبأ (٣٤) : ١٣.

(٣) غرائب القرآن ( بهامش تفسير الطبري ) ٢٢ : ٤٨.

(٤) الإسراء (١٧) : ٣.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٢١٨.

(٦) مجمع البيان ٦ : ٢١٨.

٢٦٠