أربع رسائل كلاميّة

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

أربع رسائل كلاميّة

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-964-X
الصفحات: ٣٢٨

وقال عليه‌السلام : « من بات وفي قلبه غشّ لأخيه المسلم بات في سخط الله ، وأصبح كذلك حتى يتوب » (١).

وقال عليه‌السلام : « من اغتاب امرأ مسلما بطل صومه ، ونقض وضوؤه ، وجاء يوم القيامة تفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة ، يتأذّى بها أهل الموقف » (٢).

وقال عليه‌السلام : « من خان أمانة في الدنيا ولم يردّها إلى أهلها ، ثمّ أدركه الموت مات على غير ملّتي ، ويلقى الله وهو عليه غضبان » (٣).

قلت : لأنّ من ملّته عليه‌السلام وجوب أداء الأمانة لقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٤).

فمن لم يؤدّها فقد أخلّ بشيء من الملّة. والظاهر من الملّة أنّه مات على غير الإسلام ، فيحمل على المستحلّ.

وقال عليه‌السلام : « من شهد شهادة زور على أحد من الناس علّق بلسانه مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار » (٥).

وقال عليه‌السلام : « من سمع فاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها » (٦).

قلت لاشتراكهما في إشاعتها ، أحدهما بفعلها ، والآخر بحكايتها ، فيدخل في عموم ( الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ) (٧).

وقال عليه‌السلام : « من احتاج إليه أخوه المسلم في قرض ، وهو يقدر عليه فلم يفعل حرّم الله عليه ريح الجنّة » (٨).

قلت : هو محمول على منع القرض في موضع الضرورة ، وقد سلف.

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٨ / ١.

(٢) الفقيه ٤ : ٨ / ١.

(٣) الفقيه ٤ : ٩ / ١.

(٤) النساء (٤) : ٥٨.

(٥) الفقيه ٤ : ٩ / ١.

(٦) الفقيه ٤ : ٩ / ١.

(٧) النور (٢٤) : ١٩.

(٨) الفقيه ٤ : ٩ / ١.

٢٢١

وقال : عليه‌السلام : « أيّما امرأة لم ترفق بزوجها وحملته على ما لا يقدر عليه وما لا يطيق لم يقبل الله منها حسنة ، وتلقى الله وهو عليها غضبان » (١).

باب :

روى الشيخ في التهذيب بإسناده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا يزال الشيطان ذعرا من المؤمن ، هائبا له ما حافظ على الصلوات الخمس ، فإذا ضيّعهنّ اجترأ عليه » (٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « ليس من عبد إلاّ يوقظ في كلّ ليلة مرّة أو مرّتين أو مرارا ، فإن قام كان ذلك ، وإلاّ فحج الشيطان فبال في أذنه » (٣).

قلت : كان ذلك نوع اكتفاء ، أي كان ذلك القيام مسلبا عنه الشيطان ، أو مجلبا له الإحسان ونحوه. والله أعلم.

وعن أبي حمزة الثمالي قال : رأيت عليّ بن الحسين عليه‌السلام يصلّي فسقط رداؤه عن منكبه فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته ، قال : فسألته عن ذلك فقال عليه‌السلام : « ويحك ، أتدري بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا يقبل منه من صلاته إلاّ ما أقبل فيها بقلبه ».

فقلت : جعلت فداك هلكنا ، فقال : « كلاّ إنّ الله يتمّ ذلك بالنوافل » (٤).

وعن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّهما قالا : « إنّما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها ، فإنّ أوهمها كلّها ، أو غفل عن أدائها لفّت فضرب بها وجه صاحبها » (٥).

قلت : يمكن أن يراد بالملفوفة هنا ناقصة الثواب ، لا العارية عنه ؛ لإجزائها عند الفقهاء إلاّ من شذّ من العامّة وبعض الصوفية ، كيف؟ وقد حصلت بنيّة التقرّب المستلزمة للثواب مع تمام العمليّة.

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٩ / ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٣٦ / ٩٣٣.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٣٤ / ١٣٧٨ ؛ ورواه الصدوق في الفقيه ١ : ٣٠٣ / ١٣٨٥ ، وليس فيه : « أو مرارا ».

(٤) التهذيب ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ / ١٤١٥.

(٥) التهذيب ٢ : ٣٤٢ / ١٤١٧ ؛ الكافي ٣ : ٣٦٣ / ٤ ، باب ما يقبل من صلاة الساهي.

٢٢٢

وعن عبد الله الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السهو فإنّه يكثر عليّ ، فقال : « أدرج صلاتك إدراجا ». قلت : وأيّ شيء الإدراج؟ قال : « ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود » (١).

وروى محمد بن يعقوب بإسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله : اتّقوا الظلم ؛ فإنّه ظلمات يوم القيامة » (٢).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام : « ما من أحد يظلم بمظلمة إلاّ أخذ الله عزّ وجلّ بها في نفسه ، أو من ماله » (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه ، أو على عقب عقبه ». قال الراوي ـ وهو عبد الأعلى مولى آل سام ـ : يظلم هو فيسلّط على عقبه أو عقب عقبه؟ فقال : « إنّ الله تعالى يقول : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) » (٤).

قلت : قال الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : « معنى ليخش : إن أخلفه في ذرّيّته ، كما صنع بهؤلاء اليتامى » (٥).

وأقول : إنّ سؤال الراوي وارد على الآية أيضا ، فلا بدّ من التأويل بمنع الألطاف الزائدة على الواجب ، أو يكلهم إلى أنفسهم فلم يتوفّقوا لما يرفع ذلك عنهم. ولقائل أن يقول : الزائد من الألطاف على الواجب لا يجوز كونه لطفا في واجب ، فإنّ لطف الواجب واجب ، وإذا كان لطفا فيه ندب ، فتركوه ، فتركوا الندب ، لم يعاقبوا بالتسليط.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٤٤ / ١٤٢٥ ؛ الكافي ٣ : ٣٥٩ / ٩ ، باب من شكّ في صلاته كلّها و .... في المصدرين : « عبيد الله » بدل عبد الله ».

(٢) الكافي ٢ : ٣٣٢ / ١٠ و ١١ ، باب الظلم.

(٣) الكافي ٢ : ٣٣٢ / ١٢ ، باب الظلم.

(٤) الكافي ٢ : ٣٣٢ / ١٣ ، باب الظلم ، والآية في سورة النساء (٤) : ٩.

(٥) مجمع البيان ٣ : ١٢ ذيل الآية ٩ من سورة النساء (٤) ورواه عن أبي عبد الله في الكافي ٥ : ١٢٨ / ١ ، باب أكل مال اليتيم ؛ ومرسلا في الفقيه ٣ : ٣٧٣ / ١٧٥٩.

٢٢٣

قلنا : جاز كون التسليط منفردا ، إمّا بعوض من الظالم يوازي ظلمه ، وتكون العقوبة في تعجيل ألم الظالم ، فلا ظلم من الله سبحانه.

والقول السديد : هو المليح الصواب الخالي من الخلل المطابق للشرع.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّ من الأنبياء ـ وكان في مملكة جبّار من الجبابرة ـ أن ائت هذا الجبّار فقل له : إنّي لم أستعملك على سفك الدماء ، واتّخاذ الأموال ، وإنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين ؛ فإنّي لم أدع ظلامتهم وإن كانوا كفّارا » (١).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ الله عزّ وجلّ ، جعل للشرّ أقفالا ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرّ من الشراب » (٢).

قلت : ويعضده ما روي عنه عليه‌السلام : « شارب الخمر زمامه بيد الشيطان ، لو أمره أن يسجد للأوثان سجد » (٣).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام : « إنّ الكذب هو خراب الإيمان » (٤).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من لقي المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من نار » (٥).

باب :

وعنه عليه‌السلام : « لا يفترق رجلان على الهجران إلاّ استوجب أحدهما البراءة واللعنة ، وربّما استوجب ذلك كلاهما ». قال معتّب : جعلت فداك ، هذا الظالم فما بال المظلوم؟ قال : « لأنّه لا يدعو أخاه إلى صلته » (٦).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٣٣ / ١٤ ، باب الظلم.

(٢) الكافي ٢ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ / ٣ ، باب الكذب ، ورواه عن أبي عبد الله بتفاوت في ٦ : ٤٠٣ / ٥ ، باب أنّ الخمر رأس كلّ إثم وشرّ.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٣٤٧. فيه : « والسكران زمامه » بدل « شارب الخمر زمامه ».

(٤) الكافي ٢ : ٣٣٩ / ٤ ، باب الكذب.

(٥) الكافي ٢ : ٣٤٣ / ١ ، باب ذي اللسانين.

(٦) الكافي ٢ : ٣٤٤ / ١ ، باب الهجرة.

٢٢٤

وعنه عليه‌السلام قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا هجرة فوق ثلاث » (١).

وعن داود بن كثير ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « قال أبي عليه‌السلام ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثا لا يصطلحان إلاّ كانا خارجين من الإسلام ، ولم يكن بينهما ولاية ، فأيّهما سبق إلى كلام صاحبه كان السابق إلى الجنّة يوم القيامة » (٢).

قلت : يلزم من خروجهما من الإسلام خروجهما من الإيمان ؛ لأنّ الخارج من الأعمّ خارج من الأخصّ ، كما أنّ الداخل في الأخصّ داخل في الأعمّ ؛ لما علم من أنّ عدم الأعمّ أخصّ من عدم الأخصّ.

ويحمل خروجهما بذلك من الإسلام على الخروج من الإسلام الكامل ، أو على الاستحلال بأن يعتقد عدم مشروعيّة التواصل المجمع عليه ، ومن أنكر مجمعا عليه خرج من الإسلام.

وعن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهما عن دينه ، فإذا فعلا ذلك استلقى على قفاه ومدّ يده ـ ثمّ قال ـ : فزت ، فرحم الله امرأ ألّف بين وليّين لنا. يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا » (٣).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « لا يزال إبليس فرحا ما تهاجر المسلمان ، فإذا التقيا اصطكّت ركبتاه ، وتخلّعت أوصاله ، ونادى : يا ويله ما لقي من الثبور » (٤).

قلت : الصكّ ، الضرب باعتماد شديد ، ومنه الصكك ، وهو أن تصطكّ ركبتا الرجل.

والويل : قيل : واد في جهنّم (٥). نعوذ بالله منهما.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٤٤ / ٢ ، باب الهجرة.

(٢) الكافي ٢ : ٣٤٥ / ٥ ، باب الهجرة.

(٣) الكافي ٢ : ٣٤٥ / ٦ ، باب الهجرة.

(٤) الكافي ٢ : ٣٤٦ / ٧ ، باب الهجرة.

(٥) مجمع البيان ١ : ١٤٦ ، ذيل الآية ٧٩ من سورة البقرة (٢).

٢٢٥

والثبور : الهلاك. ومنه ( فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ) (١) أي هلاكا ، إذا قرأ كتابه فيقول :

وا ثبوراه وا هلاكاه.

وعنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا وإنّ التباغض الحالقة ، لا أعني حالقة الشعر ، ولكن حالقة الدين » (٢).

قلت : الظاهر أنّ الحالقة هي القاطعة المذهبة ، لقوله : لا أعني حالقة الشعر ، وهو من التحليق ، وهو الارتفاع كأنّها رفعت الأجل ونحوه.

وعنه عليه‌السلام : « اتّقوا الحالقة ؛ فإنّها تميت الرجل ». قلت : وما الحالقة؟ قال : « قطيعة الرحم » (٣).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « في كتاب عليّ عليه‌السلام ثلاث خصال لا يموت صاحبهنّ أبدا حتّى يرى وبالهنّ : البغي ، وقطيعة الرحم ، واليمين الكاذبة ، يبارز الله بها. وإنّ أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم ، وإنّ القوم ليكونون فجّارا فيتواصلون فتنمو أموالهم ويثرون ، وإنّ اليمين الكاذبة ، وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها » (٤).

قلت : الوبال : الثقل وكلّ ثقيل و ... وهو ما يغلظ على النفس.

والوبل ، المطر العظيم القطر.

والبغي : هو الطلب ، وهو هنا طلب الفساد والعمل به.

والثروة : الاتّساع في الأموال والآجال ، وأصله من عين ثرّة إذا كانت كثيرة الماء ، قال الأخطل :

لعمري لقد لاقت سليم وعامر

على جانب الثّرثار راغية البكر(٥)

والثرثار ، نهر معيّن.

وراغية البكر ، أراد أنّ بكر ثمود رغا فيهم فهلكوا ، فضربته العرب مثلا.

__________________

(١) الانشقاق (٨٤) : ١١.

(٢) الكافي ٢ : ٣٤٦ / ١ ، باب قطيعة الرحم.

(٣) الكافي ٢ : ٣٤٦ / ٢ ، باب قطيعة الرحم.

(٤) الكافي ٢ : ٣٤٧ / ٤ ، باب قطيعة الرحم.

(٥) لسان العرب ٤ : ١٠٢ ، « ث. ر. ر ».

٢٢٦

والبلقع ، الخراب.

وعن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن بارّا واقتصر على الجنّة ، فإن كنت عاقّا فظّا غليظا فاقتصر على النار » (١).

قلت : الفظاظة : الجفوة وخشونة الكلام.

والغلظة ، قساوة القلب وعدم رحمته.

والظاهر من قوله : « واقتصر » في الموضعين ، أنّ هاتين الخصلتين يحصلان بهما.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان يوم القيامة كشف غطاء من أغطية الجنّة فوجد ريحها من كانت له روح من مسيرة خمسمائة عام إلاّ صنفا واحدا ، وهم العاقّ لوالديه » (٢).

وعن أبان بن تغلب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ليلة أسري بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا ربّ ، ما حال المؤمنين عندك؟ قال : يا محمّد ، من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي. وما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي عن وفاة عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته. وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلح له إلاّ الغنى ، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلح له إلاّ الفقر ، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك. وما يتقرّب عبدي إليّ بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه ، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وإن سكت ابتدأته » (٣).

قلت : وفي بعض النسخ زيادة : « إن شئت شاء ، وإن شاء شئت » والتردّد على الله سبحانه محال ؛ لأنّه ينشأ من عدم العلم بوجوه المصالح ، فيحمل على إضمار شيء

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٤٨ / ٢ ، باب العقوق.

(٢) الكافي ٢ : ٣٤٨ / ٣ ، باب العقوق.

(٣) الكافي ٢ : ٣٥٢ / ٨ ، باب من أذى المسلمين واحتقرهم.

٢٢٧

هو : « لو كنت ممّن يتردّد ونحوه ما تردّدت في شيء مثل تردّدي في وفاة المؤمن لعظم حاله عندي ، يكره الموت وأنا أكره مساءته ، وهذان يوجبان التردّد في وفاته لو كنت ممّن يتردّد ».

ووجدنا بخطّ المصنّف ـ رفع الله درجته ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ مؤمنا أقسم على ربّه أن لا يميته ما أماته أبدا ، ولكن إذا حضر أجله بعث الله عزّ وجلّ ريحين ، ريحا يقال لها : المنسية ، وريحا يقال لها : المسخية ، فالمنسية تنسيه أهله وماله ، والمسخية تسخي نفسه عن الدنيا حتّى يختار ما عند الله » (١).

وقوله : إنّ من عبادي إلى آخره يجري مجرى جواب سؤال مقدّر تقريره : لو كان للمؤمن عند الله منزلة لم يفقر بعضهم حتّى يذوق غصص الاحتياج ، ولم يغن بعضهم حتّى يطغى بسبب غنائه.

فالجواب : أنّ الله عالم بمصالح عباده ، فيعلم أنّه لو أغنى الفقير أو أفقر الغنيّ ، لزم منه الفساد أضعافا ، ذلك بأن يحدث من الفقر أنواع السرقات والخيانات ، ومن الغنى أنواع المعاصي والطغيانات.

وقوله : كنت سمعه وبصره ولسانه ويده هذه استعارة لجعل تصرّفات هذه الجوارح مخصوصة بالله تعالى ، إذ من المحال أن يكون البارئ عزّ وجلّ عبارة عن هذه الجوارح ، أو حالاّ فيها ، ولكن لمّا بذل العبد جهده في طاعة الله وفني عن كلّ ما سواه حتّى فني عن نفسه ، وعن كلّ مرام استحقّ من الله هذا المقام.

وحاصل المقصود ، أنّ المراد تخلية القلب من كلّ شيء سوى الله ، وذلك إنّما هو بالفناء عن كلّ ما عداه ، ولهذا الفناء قال بعض الصوفية : ما في الجبّة إلاّ الله ، وليس المراد الحلول والاتّحاد لامتناعهما ، بل لأنّ العبد فني عن كلّ شيء سوى الله حتّى فني عن نفسه فلا يشعر بها ، فصارت تصرّفاته بتلك الجوارح متوجّهة إليه ، وتردّداتها في

__________________

(١) معاني الأخبار : ١٤٢ ـ ١٤٣ ، باب معنى الريح المنسية والمسخية.

٢٢٨

مهمّاته مقصورة عليه ، ولهذا قال في النسخة الأخرى : « إن شئت شاء ، وإن شاء شئت » أي لا توجد من أحدهما مشيئة تخالف مشيئة الآخر ، بل لهم مرتبة أعلى من هذه ، وهي رفع مشيئة العبد بالإطلاق ؛ لأنّ له مع الأولى تصرّف بخلاف هذه.

ولهذا قيل لبعضهم : ما تريد؟ قال : أريد أن لا أريد ، يعني أريد أن تفني إرادتي ، فلا أريد شيئا البتّة ، وفي ذلك زوال الأمراض عن القلوب ، وترك الاعتراض بحكم الربّ المحبوب. أدرجنا الله في مراتب السالكين ، وأخرجنا من مذاهب الهالكين ، بمحمّد وآله وصحابته والتابعين ، سلام الله عليهم أجمعين.

باب :

روى الصدوق (١) أيضا بإسناده إلى إسحاق بن عمّار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر من أسلم بلسانه ، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تذمّوا المسلمين ، ولا تتبّعوا عوراتهم ، فإنّ من اتّبع عوراتهم تتبّع الله عزّ وجلّ عورته ، ومن تتبّع الله عزّ وجلّ عورته يفضحه ولو في بيته » (٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أذاع فاحشة كان كمبتدئها ، ومن عيّر مؤمنا بشيء لم يمت حتّى يرتكبه » (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من لقي أخاه بما يؤنّبه أنّبه الله عزّ وجلّ في الدنيا والآخرة » (٤).

قلت : أنّبه ، أي لامه وعنّفه وأزرى عليه وأعتبه. ومنه قول السيّد الحميري :

وعاذلة هبّت بليل تؤنّب ...

__________________

(١) لعلّ هذا من سبق القلم والصحيح : « روى الكليني أيضا » لأنّ ما قبله من الروايات برواية الكليني ؛ ولم نعثر في أحاديث هذا الباب على رواية الصدوق إلاّ الحديث الأوّل والثاني ، والأوّل بسند آخر.

(٢) الكافي ٢ : ٣٥٤ / ٢ ، باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم ؛ ورواه الصدوق بسند آخر في عقاب الأعمال : ٢٨٨ / ١.

(٣) عقاب الأعمال : ٢٩٥ / ٢ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٦ / ٢ ، باب التعيير.

(٤) الكافي ٢ : ٣٥٦ / ١ ، باب التعيير.

٢٢٩

يعني بالعاذلة : أمّه.

باب :

وبإسناد الصدوق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « الجلوس في المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم يحدث ». قيل : يا رسول الله ، وما الحدث؟ قال : « الاغتياب » (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من قال في مؤمن ما رأته عيناه ، وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (٢) ».

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام ؛ قال « سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كفّارة الاغتياب؟ قال : تستغفر لمن اغتبته كلّما ذكرته » (٣).

قلت : يحتمل كلّما اغتبته ؛ لقوله تعالى : ( سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) (٤) أي يذكرهم بسوء أو يعيبهم. ويحتمل كلّما خطر ببالك أو بلسانك ، والأوّل أظهر ؛ لأن الخطور بذينيك لا يوجب كفّارة جديدة. إذا لم يستصحب غيبة.

نعم ، إن كان المقصود بالكفّارة هنا التوبة أمكن ، ويجب تجديدها كلّما ذكره ، كما هو مذهب أبي علي (٥) ، وعدمه كما هو مذهب أبي هاشم (٦).

وتشكّك النصير الطوسي رحمه‌الله في ذلك (٧).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، والبهتان أن

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٣٤٢ / ١١ ، المجلس ٦٥ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ / ١ ، باب الغيبة والبهت.

(٢) أمالي الصدوق : ٢٧٦ / ١٦ ، المجلس ٥٤ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٧ / ٢ ، باب الغيبة والبهت. والآية في النور (٢٤) : ١٩.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٣٧ / ١١٢٤ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٧ / ٤ ، باب الغيبة والبهت.

(٤) الأنبياء (٢١) : ٦٠.

(٥) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٤٢٢.

(٦) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٤٢٢.

(٧) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٤٢٢. قال. « وفي الوجوب التجديد إشكال ».

٢٣٠

تقول فيه ما ليس فيه » (١).

وعن المفضّل بن عمر قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه ، وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس ، أخرجه الله عزّ وجلّ من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان » (٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « لا تبدي الشماتة لأخيك فيرحمه‌الله عزّ وجلّ ويحلّها بك. وقال : « من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتّى تصيبه » (٣).

وعن أبي حمزة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سمعته يقول : « إنّ اللعنة إذا خرجت من في صاحبها تردّدت ، فإن وجدت مساغا ، وإلاّ رجعت على صاحبها » (٤).

وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل » (٥).

وعن معروف بن خرّبوذ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « صلّى أمير المؤمنين عليه‌السلام بالناس الصبح بالعراق ، فلمّا انصرف وعظهم وبكى وأبكاهم من خوف الله عزّ وجلّ ، ثمّ قال : أما والله لقد عهدت أقواما على عهد خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّهم ليصبحون ويمسون شعثا غبرا خمصا ، بين أعينهم كركب المعزى ، يبيتون لربّهم سجّدا وقياما ، يراوحون بين أقدامهم وجباههم ، يناجون ربّهم ويسألونه فكاك رقابهم من النار. والله لقد رأيتهم مع هذا وهم خائفون مشفقون » (٦).

هذا آخر كلامه رحمة الله عليه ، ولعنة الله على من ظلمه.

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ / ١٧ ، المجلس ٥٤ ؛ الكافي ٢ : ٣٥٨ / ٧ ، باب الغيبة والبهت.

(٢) أمالي الصدوق : ٣٩٣ / ١٧ ، المجلس ٧٣ ، وليس فيه : « فلا يقبله الشيطان » ؛ الكافي ٢ : ٣٥٨ / ١ ، باب الرواية على المؤمن.

(٣) الكافي ٢ : ٣٥٩ / ١ ، باب الشماتة.

(٤) عقاب الأعمال : ٣٢٠ / ١ ؛ الكافي ٢ : ٣٦٠ / ٦ ، باب السباب.

(٥) الكافي ٢ : ٣٢١ / ١ ، باب سوء الخلق.

(٦) الكافي ٢ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ / ٢١ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

٢٣١

قلت : الشعث ، في الرأس ، والغبرة في الوجه ، والخمص إخلاء الجوف.

وهذه غاية المقالة ونهاية الرسالة ، أدرج الله مؤلّفها في زمرة مصنّفها ، ونسأل العابرين على خصائصها ، والعاثرين على نقائصها ، التجاوز والإعراض عن الإرماض ، والنظر بعين الإغماض عن الأمراض ، فإنّي ألّفتها ، والمكان للحتوف غار [ كذا ] ، والزمان من الإنصاف عار ، ونسأل من الله الكريم ذي الفضل الجسيم أن يجعل ثوابها لدفع مقلوب اللّقى ، وإن كانت كالشيء اللّقى فإنّ الموصوف بالجليل الكبير. يجازي على القليل بالكثير.

وافق الفراغ من جمعها ضحوة الجمعة الفاخرة لعشر خلت من ربيع الآخرة سنة أربع وأربعين تزيد على ثمانمائة [٨٤٤] من هجرة سيّد المرسلين سلام الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين آمين. والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله أجمعين (١).

__________________

(١) إنهاء النسخة الخطّيّة : « تمّت الرسالة اليونسيّة في شرح المقالة التكليفيّة ضحوة نهار الثلثاء خامس عشرين شهر صفر الخير سنة اثنين وتسعمائة [٩٠٢] بقلم العبد الفقير إلى رحمة ربّه العليم القدير جعفر بن محمّد بن حمزة بن عبد الله بن زهرة الحسيني غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين ».

٢٣٢

(٣)

الباقيات الصالحات

للشهيد الأوّل

٢٣٣
٢٣٤

بسم الله الرحمن الرحيم

معنى سبحان الله : تنزيهه سبحانه وتعالى عن السوء وبراءته من الفحشاء ، ويدخل في ذلك جميع صفاته السلبية كنفي الحدوث والإمكان والحاجة والعجز والجهل والجسميّة والعرضيّة والتحيّز والجوهرية والحلول في محلّ أو جهة والاتّحاد والصاحبة والولد.

ومعنى الحمدلله : الثناء على الله بذكر آلائه ونعمه التي لا تحدّ ولا تعدّ.

فمنها : خلق الخلق من سماء وأرض وفلك وملك وحيوان ؛ وخلق العقل الفارق به بين الصحيح والفاسد والحقّ والباطل ؛ وابتعاث الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وختمهم بأوصياء نبيّنا محمّد المفتتحين بسيّد الوصيّين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، المختتمين بسيّد الأمناء أبي القاسم المهدي عليه‌السلام.

ثمّ خلق أصول النعم التي هي الحياة والقدرة والشهوة والنفرة والعقل والإدراك والإيجاد.

ثمّ خلق فروعها المشتهيات والملذّات ، حتّى أنّه ليس نفس يمضي إلاّ وفيه لله نعمة يجب شكرها ، حتّى أنّ شكر نعم الله من نعمه التى يجب شكرها.

ومن ذلك تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ما جاء به من الحشر والنشر والمعاد والجنّة والنار والصراط والميزان والحور والولدان.

٢٣٥

ومعنى لا إله إلاّ الله : تنزيهه عن الشريك والمثل والضدّ والندّ والمناوي والمنافي ، وفيه بطلان قول اليهود والنصارى والثنويّة وعبّاد الأصنام والأوثان والصلبان والكواكب. وهي الشهادة التي من قالها مخلصا دخل الجنّة.

ومعنى الله أكبر : إثبات صفات الكمال له تعالى ، مثل : الوجود والوجوب والقدرة والعلم والأزليّة والأبديّة والبقاء والسرمديّة والسمع والبصر والإدراك ، وكونه عدلا حكيما جارية أفعاله على وفق الحكمة والصواب ، وأنّه لا يستطيع أحد الاطّلاع على كنه ذاته تعالى ولا على صفة من صفاته ؛ فهو أكبر من أن يوصف أو يبلغه وصف الواصفين ، فلا يعلم ما هو إلاّ هو.

وهذه الكلمات الأربع تشتمل على أصول الإيمان الخمسة : أعني : التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد ، فمن حصّلها حصّل الإيمان وهنّ الباقيات الصالحات.

والحمد لله وحده والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

٢٣٦

(٤)

الكلمات النافعات

في

شرح الباقيات الصالحات

للعلاّمة البياضي

٢٣٧
٢٣٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله واهب العقول والقدر ، المجري على خلقه القضاء والقدر ، والصلاة على أشرف المرسلين من لدن الطف المرسلين محمّد المبعوث إلى أوسط أمّة ، المنعوتة لكرامته عند الله باسم أمّه (١) ، وعلى ذرّيّته المنتجبين وعترته المنتخبين ، ما فسح الضياء غماما ونسخ الضياء ظلاما.

أمّا بعد : فلمّا وقفت على تفسير الكلمات الأربع ، وأينع حماي به وأربع من تصانيف علاّمة الزمان ، المبرز على جميع الأقران المترقّي عن حضيض المجاز إلى أوج الحقيقة ، المتمسّك من الدين القيّم بأوضح طريقة ، الشيخ السعيد أبي عبد الله الشهيد.

ولمّا كان مجملا يحتاج إلى البيان ، أشار إليّ بعض الإخوان ، أن أصنع له تفصيلا بحسب الإمكان ، فأجبته إليه مع علمي بقصور علمي ، وجزمي بضعف عزمي ؛ ملتمسا من الناظر فيه ستر العيوب ؛ لوجه علاّم الغيوب ، وسأضع لهذه الفائدة أربع مراصد : بعد أن أعتمد على العزيز الواحد.

__________________

(١) إشارة إلى ( النبيّ الأمّي ).

٢٣٩
٢٤٠