أربع رسائل كلاميّة

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

أربع رسائل كلاميّة

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-964-X
الصفحات: ٣٢٨

قال : ( اللازم الثاني : وهو مسبّب عن اللازم الأوّل ، وهو شغل اللسان بتنزيه الله تعالى عمّا وصفه الظالمون ، وتحميد بما حمده الحامدون ؛ بحيث لا يفتر عن ذكر الله تعالى باللسان كما لم يفتر عن ذكره بالجنان. قال الله سبحانه : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) (١) وصف الملائكة بهذا الوصف الشريف ؛ لينبّه البشر على اقتفائه ، ويتشرّفوا باصطفائه ، فهنالك تصير ألسنتهم مخزونة إلاّ عن ذكره ، وألفاظهم موزونة إلاّ فيما يتعلّق به ، وهو السرّ في الأمر بالصمت إلاّ عن ذكر الله ).

أقول : هذا اللازم الثاني وهو مسبّب عن شغل النفس بالفكر في عظمته ، فإنّ من لازمه لزمه شغل لسانه في تنزيهه وتحميده.

ووجه الملازمة إنّما يحدث من اللسان وغيره من أفعال الجند الذين هم الجوارح ، مسبّب عن أمر السلطان الذي هو القلب المعنيّ به العقل.

نعم ربّما يتوقّف للجوارح عمل بدونه نادرا كالهذر والعبث الصادرين عن السهو والغفلة ، ويجب رفع « الراء » من « يفتر » ؛ لأنّه خبر لا نهي ، وشاهده « كما لم يفتر » ، ولو كان نهيا كان « كما لا يفتر ».

وقوله : فهنالك تصير ألسنتهم مخزونة إلى آخره نتيجته دوام شغل اللسان فيما ذكر ، وهي لازمه لزوما بيّنا.

قال : ( اللازم الثالث : استخدام القوى والأركان فيما أمر به من عبادته ، بحيث لا يكون لها انقطاع ولا اضمحلال ، فيشغل العين بالنظر في عجائب مصنوعاته ، والبكاء من خشيته ؛ لما يراه من التقصير في طاعته. والأذن بسماع كلامه العزيز لتلقّي أوامره ونواهيه ، والتفهّم لمقاصده ومعانيه. واليد

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٢٠.

١٦١

بالبطش فيما خلقها له من أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو جهاد في سبيله ، أو إعانة ضعيف ، أو إغاثة ملهوف ، أو وضع في محالّها من هيئات المصلّي. والرجل بالسعي في بقاعه التي أمر بالسعي إليها ، ورغّب في العكوف عليها. وأشرفها بيته وكعبته المقدّسة ، وحرم نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام ، ومشاهد الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، والجوامع والمساجد ، ومجالس العلم ، وزيارة الإخوان في الله تعالى. وإن لم يكن هناك ما يحتاج إلى البطش والتنقّل ، شغلها بالسكينة والوقار ، مستشعرا في جميع ذلك عظمة بارئه وكمال منشئه ، معتقدا أنّ جميع ذلك من أعظم نعمه وأكبر مننه فحينئذ يحتاج إلى أن يشكره على حسن توفيقه لشكره ، وهلم جرّا. ولمّا خطر هذا لداود على نبيّنا وعليه السلام وناجى به ربّه ، أجابه : « إذا علمت أنّ ذلك منّي فقد شكرتني » (١) ).

أقول : هذا هو اللازم الثالث للشكر ، وهو أيضا مسبّب عن اللازم الأوّل ؛ لما علمت في اللازم الثاني من ترتّب أفعال الجوارح الخارجة على البواعث الباطنة.

والأركان هنا هي الجوارح لا العناصر. والقوى هنا المنافع المركوزة فيها بحيث لا يوصف الاستخدام بالارتفاع ، فتوصف العبادة بالانقطاع.

وقد قسّم الله سبحانه شعبا من مكتملات الإيمان على الجوارح. فكلّف العين بالزجر عن الحرام ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) (٢) ، وبالنظر في آثار الأنام ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) (٣).

وكلّف الأذن بالمنع من سماع كلام العاصين ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٨ : ٣٦.

(٢) النور (٢٤) : ٣٠.

(٣) الروم (٣٠) : ٩.

١٦٢

الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) ( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٢) ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) (٣).

وكلّف اليد بالبطش فيما خلقها له من التطهير للصلاة في قوله : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) (٤).

وبالأمر والنهي في قوله : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (٥).

وبالجهاد [ في قوله ] : ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) (٦) الآية.

وبالإعانة والإغاثة في قوله : ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (٧) ونحوه.

وبالوضع من هيئات المصلّي كمحاذاة الأذنين في التكبير والسجود ، والركبتين في التشهّد والركوع.

وكلّف الرجل بالمشي في الطاعات دون المعصيات فقال : ( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) (٨) ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ) (٩).

( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (١٠) ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) (١١).

وأمّا حرم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فلقوله : « من حجّ ولم يزرني فقد جفاني ، ومن جفاني جفوته يوم القيامة » (١٢) ونحوه.

__________________

(١) الأنعام (٦) : ٦٨.

(٢) الزمر (٣٩) : ١٨.

(٣) المؤمنون (٢٣) : ١.

(٤) المائدة (٥) : ٦.

(٥) آل عمران (٣) : ١٠٤.

(٦) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤٧) : ٤.

(٧) المائدة (٥) : ٢.

(٨) لقمان (٣١) : ١٨.

(٩) لقمان (٣١) : ١٩.

(١٠) الحجّ (٢٢) : ٢٩.

(١١) الجمعة (٦٢) : ٩.

(١٢) علل الشرائع ٢ : ١٧٠ ، باب ٢٢١ ، ح ٧.

١٦٣

ومشاهد الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ؛ فلما فيه من ذكر الله بذكر وسائطه ، ولقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : « يا أبا الحسن إنّ الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعا من بقاع الجنّة وعرصة من عرصاتها ، وإنّ الله جعل قلوب أسخياء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليكم ، وتحتمل المذلّة والأذى فيكم ، فيعمرون قبوركم ، ويكثرون زيارتها تقرّبا منهم إلى الله ومودّة لرسول الله أولئك يا عليّ المخصوصون بشفاعتي ، الواردون حوضي ، وهم غدا زوّاري في الجنّة.

يا عليّ من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان على بناء بيت المقدس ، ومن زار قبوركم عدل ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام ، وخرج من ذنوبه حين يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمّه.

فابشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم وقرّة العين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. ولكن حثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم كما تعيّر الزانية بزناها ، أولئك شرار أمّتي ، لا تنالهم شفاعتي ، ولا يردون حوضي » (١).

ومن تكليف الرجل زيارة الإخوان ؛ لقوله عليه‌السلام : « لا تهاجروا ، ولا تناجشوا ، ولا تقاطعوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا » (٢).

وكلّف الوجه بالسجود في قوله : ( ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) (٣).

وسيأتي في الفصلين الأخيرين جانب من ذلك.

فهذه مراتب الإيمان ومكمّلاته ، فمن لقي الله موفيا كلّ جارحة بما فرض عليه فهو كامل الإيمان.

قال المصنّف : وإن لم يكن هناك ما يحتاج إلى البطش والتنقّل. يعني باليد والرجل. شغلها بالسكينة والوقار.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٧ : ١٢١ ، ذيل الحديث ٢٢ ، نقلا عن فرحة الغرى.

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٩٨٣ / ٢٥٥٩ ؛ صحيح البخاري ٥ : ٢٢٥٦ / ٥٧٢٦.

(٣) الحجّ (٢٢) : ٧٧.

١٦٤

اعلم أنّ السكينة هيئة جسمانيّة تقتضي إفاضة الدعة على موطّنيها.

والوقار هيئة نفسانيّة ، فلا تعطف هنا عليها إلاّ على القول بالترادف.

وقوله : مستشعرا في جميع ذلك عظمة بارئه وكمال منشئه ، أي مستدركا ذلك ؛ فإنّ الاستشعار هو طلب الإدراك الذي هو العلم ، فإذا اعتقد أنّ جميع ما حصل له في نفسه وجوارحه من أكبر نعمه احتاج إلى شكر جديد على هذا التوفيق بهذا الشكر ، فإذا شكره على هذه النعمة الثانية كان الشكر عليها نعمة ثالثة ؛ لتوفيقه وهكذا.

ويكفي في هذه المراتب اعتقاد أنّ النعم منه كما تضمّنه الحديث السالف.

قال : ( وحينئذ نقول : هذه العبادات وخصوصا الصلاة فإنّها مشتملة على اللوازم الثلاثة المنبعثة عن الاعتقاد القلبي ، ولا معنى للشكر عند الخاصّة إلاّ ذلك. أو نقول : إنّ الشكر يكون بفعل هذه الأمور أقرب إلى الوقوع وأبعد من الارتفاع ، وهو معنى اللطف في الشكر. ولعلّ القائل عنى ذلك ، وهو في الحقيقة شعبة من المذهب الأوّل ؛ فإنّ الأوّل يزعم أنّها لطف في التكليف العقلي مطلقا ، وهذا يقول بأنّها لطف في نوع منه ، وهو الشكر وإن لم يكن الشكر بعينه على المصطلح العامّي. وبهذا التوجيه يعرف حال بقيّة الأحكام من حيث إنّ الندب كالتكملة للفرض ، واجتناب الحرام والمكروه يوجب صيانة اللوازم عن تطرّق النقص. وهو مذهب حسن ).

أقول : قد عرفت أنّ اللوازم الثلاثة : شغل النفس بالفكر ، واللسان بالذكر ، والجوارح بالفعل. وظاهر أنّ العبادات مشتملة على اللوازم الثلاثة.

ولا معنى للشكر عند الخاصّة إلاّ ذلك ، يعني سوى اللوازم الثلاثة.

واعلم أنّ غاية الشيء من علله الخارجة عنه ، فكيف يكون بين هذه اللوازم شكرا؟

والخاصّة : هنا العلماء الشيعة وحدها ، فإنّ هذا المذهب مشهور عن الكعبي ، وهو معتزلي المذهب.

١٦٥

أو نقول : فعلى هذه اللوازم يقرب من وقوع الشكر ويبعد من عدمه فيكون لطفا فيه ، ولعلّ القائل ـ يعني الكعبي ـ عنى ذلك. وهذا شعبة من مذهب اللطف ؛ لأنّ صاحب اللطف جعل الوجه اللطف في العقلي مطلقا سواء كان شكر نعم أم لا ، وهذا جعله لطفا فيما هو شكر خاصّة.

والشكر في الاصطلاح العامّ : هو الاعتراف بالنعمة ، ولمّا كان فعل التكليف السمعي لازما له أطلق الكعبي عليه الشكر مجازا واتّساعا.

فإذا توجّه لك أنّ القيام بالواجب لطف في الشكر عرفت اللطف في الثلاثة الأخر ؛ فإنّ الندب كالتكملة للفرض فيكون لطفا مندوبا ، إذا حملنا التكملة على ما لا يجب كما سلف.

واجتناب الحرام والمكروه يوجب صيانة اللوازم الثلاثة القلبي واللساني والجوارحي عن تطرّق النقض ، وهذا المذهب استحسنه المصنّف رحمه‌الله.

وأقول : في الحكم بكونها لطفا في الشكر نظر ؛ للزومه الدور ، فإنّه لا ماهيّة معقولة هنا ، سوى الاعتقاد القلبي ـ الذي هو الاعتراف بالنعمة ـ ولوازمه الثلاثة ، فتكون اللوازم لطفا منه تستدعي سبقها عليه ، وكونها لوازم تستدعي تأخّرها عنه ، وهو دور ظاهر.

إن قلت : لا نسلّم أنّ تأخّر اللازم على الإطلاق للزوم الجزء للكلّ مع تقدّمه عليه.

قلت : هذا مسلّم في اللازم الداخل ، أمّا الخارج فلا ، واللوازم الثلاثة خارجة ، فاستمرّ الدور.

قال : ( المذهب الثالث لجمهور الأشعريّة ، وهو أنّ الأحكام إنّما شرّعت لمجرّد الأمر والنهي لا لغاية أخرى ، بناء على هدم قاعدة الحسن والقبح العقليين ، وأنّ أفعال البارئ جلّ ذكره معلّلة بالأغراض ، بل على عدم الحاجة إلى العبادة أصلا ).

أقول : هذا المذهب يمكن بناؤه على أصول أربعة :

١٦٦

الأوّل : أنّه لمّا اعتقد الأشعري أنّ حكم العقل لا حكم له في التحسين والتقبيح ، وأنّ البارئ يفعل لا لغرض ، وأنّ العباد لا حاجة بهم إلى العبادة ، بل جوّزوا مثوبة الجاحد وعقوبة العابد ؛ لم يمكنهم عند ذلك أن يجعلوا للعبادة وجها سوى الأمر والنهي ؛ لأنّهم أسقطوا العلل العقليّة ، ولم يجعلوا الأوامر معلّلة بشيء منها.

قال : ( ولعلّ الباعث على هذا القول ليس هو هذا البناء ، وإنّما نظر إلى القول بالشكر فاستحقر جميع العبادات بالنظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى ، وأنّها لا توازي ذرّة من جبال نعمه ، ولا قطرة من بحار كرمه.

ونظر إلى القول باللّطف فوجده غير مطّرد في حقّ من ثبتت عصمته ، أو ظنّ قيام غيره من الألطاف مقامه ، وسمع قوله تعالى : ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) (١) ).

أقول : هذا [ هو ] الأصل الثاني الذي عليه مذهب الأشعري ، وهو أنّه نظر إلى المذهبين السالفين فلم يرتض بهما ، بل وجّه الطعن إلى كلّ واحد منهما.

أمّا الشكر : فإنّه لا يوازي أقلّ نعمة ، ولا أصغر منه.

وأمّا اللّطف : فمن ثبتت عصمته ، أو ظنّ قيام غيره مقامه لا حاجة به إليه.

وسمع هذا القائل الآية الكريمة ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) ، فلو طلبنا لفعله وجها وغاية لكان ذلك في معنى السؤال ، ونحن نقول لا يلزم من عدم موازاة الشكر للنعم عدم كونه وجها ؛ ويكون بحسب المقدور والميسور ، وما خرج عن ذلك خصّ المقدور عنه بمنفصل عقلي ، والعصمة لمّا كانت لطفا يفعله الله بالمكلّف جاز كون العبادة سببا في ذلك اللطف ، أو قسما من السبب ، ومن ظنّ غناه عنه بغيره لا تنفعه الآية ؛ [ و ] لمّا لم يوصله إلى المطلوب فيه ، لم يعتقد الغنى عنه. وقد تقدّم حصر اللّطف فيه.

( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) ليس نهيا ؛ لعدم الجزم فيكون خبرا ، فإن تعلّق بدار الدنيا

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٢٣.

١٦٧

لزم الكذب في خبره تعالى ؛ لأنّ من جعل الأوامر وجها فقد سئل عندهم ، وإن تعلّق بدار الآخرة لم يدلّ على نفي السؤال ، فلا تنفعه الآية في إسقاط اعتبار.

قال : ( أو تكافأ عنده الوجهان المذكوران ، فرجع بصره خاسئا وفكره حسيرا ، فاقتصر على مجرّد الأمر والنهي اللذين لا يعلم غايتهما ).

أقول : هذا هو الأصل الثالث الذي يمكن بناء مذهب الأشعري عليه ، وهو أنّه لمّا لم يحكم ببطلان شيء من المذهبين السالفين ، بل قام كلّ منهما عنده في حيّز الرجحان اقتصر كذلك على مجرّد الأمر والنهي ؛ لعدم علمه لغايتهما ، لا لأنّه لا غاية في نفس الأمر لهما ، بل قصرت عنها بصيرته ، وحسرت لديهما فكرته ، فعظمت فيها حيرته. والفرق بين هذا الأصل وما قبله أنّ هذا مبنيّ على قيام كلّ من المذهبين ، والأوّل على القدح فيهما من الجانبين.

قال : ( ويمكن أيضا أن يشير بهما إلى قصر العبادة على التوجّه إلى المعبود ؛ فإنّ اللطف والشكر وإن كانا بالقرب إليه إلاّ أنّ إسقاط الوسائط من البين أقرب ).

أقول : هذا هو الأصل الرابع الذي يحتمل بناء مذهب الأشعري عليه ؛ فإنّه لمّا كانت العبادة تقرّب إلى اللطف على المذهب الأوّل ، وإلى الشكر على المذهب الثاني ، وهما يقرّبان إلى الله سبحانه وتعالى كان إسقاطهما من صرحة الاعتبار أولى ؛ لأنّه أقرب إليه تعالى ، ولهذا كانت عبادة الأوثان كفرا ، وإن تقرّبوا بها إليه كما حكاه الكتاب العزيز في قوله : ( ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) (١).

ونحن نقول : على هذا إذا حكمنا بأنّ وجوب السمعيّات لمجرّد الأمر واعتبرنا مجرّد الأمر وجها فقد أدخلنا الواسطة. نعم ، لو قال الأشعري : وحيث لا لوجه البتّة ، أمر ولا غيره أمكن على أصله المتقدّم ذلك.

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٣.

١٦٨

تذنيب : وقوله : يشير بهما إلى قصر ، يريد أنّه يشير إليهما ، أي إلى إبطالهما ، فكلامه رحمه‌الله يشتمل على إيجاز الحذف ك ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (١) ، وعلى القلب كقول بعضهم :

وإذا انبذت به الحصاة رأيته

ينزو لوقعتها ، طمور الأخيل (٢)

قال : ( المذهب الرابع لبعض المعتزلة ، أنّ الوجه هو ما يتضمّن ترك الفعل من المفسدة ، وترك القبيح من المصلحة ؛ وذلك لأنّ ترك العبادات مقرّب إلى المعاصي ، ومبعّد من الطاعات العقليّة ، ولا نعني بالمفسدة إلاّ ذلك. وترك القبيح بالعكس ، وهو معنى المصلحة. ولمّا كان الترك مستلزما للمفسدة ، وترك المفسدة واجب ، ولا يتمّ إلاّ بزوال الترك الحاصل بالفعل أو عند الفعل ، وجب الفعل. وكذلك نقول : ترك القبيح لطف ، وكلّ لطف واجب ، فيكون الترك واجبا ، فيلزمه تحريم الفعل ؛ لأنّه لا يحصل الترك الواجب عنده ، لتنافيهما ).

أقول : هذا كلام مبين مستغن أكثره عن مبيّن. وإنّما قال : ولا يتمّ إلاّ بزوال الترك الحاصل بالفعل ، أو عند الفعل ؛ لأنّ حصول زوال الترك قد يكون مسبّبا عن الفعل كفعل العلّة الذي يلزمه المعلول ، وقد يحصل عنده ولم يكن سببه ـ كأحد المعلولين الحاصل عند الآخر ـ وليس سببا له ، وهنا زوال الترك حاصل بالفعل ، أو عند الفعل.

والمعنى أنّ ترك المفسدة لا يقع إلاّ بزوال ترك الفعل ، وزوال الترك لا يقع إلاّ بالفعل فيجب. وكذا الكلام في ترك القبيح ، فإنّه لمّا كان واجبا لكونه لطفا حرم نقيضه وهو الفعل.

قال : ( وهو في الحقيقة ضغث من المذهب الأوّل ، إلاّ أنّه لم يجعل نفس

__________________

(١) يوسف (١٢) : ٨٢.

(٢) لسان العرب ٤ : ٥٠٢ ، « ط. م. ر ».

١٦٩

فعل الواجب لطفا ، بل به يحصل اللطف ، وفعل القبيح ليس لطفا في القبائح العقليّة ، بل تركه لطف في الواجبات العقليّة ).

أقول : الضغث ملء الكفّ من حشيش أو شماريخ ونحوها ، ونعني به هنا بعضا من جملة.

وهذا القول نوع من اللطف ، لكنّ القائل باللطف جعل نفس فعل الواجب والندب وترك الحرام والمكروه لطفا في العقل. وهذا جعل الفعل سببا في اللطف الذي هو زوال الترك ، فإذا زال الترك حصل منه زوال المفسدة التي هي القرب من المعصية والبعد من الطاعة.

ولم يجعل هذا ترك القبيح السمعي لطفا في ترك القبيح العقلي ، بل جعله لطفا في الواجب العقلي ؛ لأنّه قال : ترك القبيح لطف في حصول القرب من الطاعة والبعد من المعصية العقليّين اللذين هما المصلحة المذكورة.

وقوله : وفعل القبيح ليس لطفا في القبائح العقليّة ، الذي أظنّه فيه أنّه وقع من غلط الكتّاب ، فإنّ أصحاب اللطف لم يجعلوا فعل القبيح لطفا ، بل تركه لطفا في ترك الحرام كما قرّر المصنّف ذلك عنهم.

قال : ( ولعلّه نظر إلى مذهب الشكر بعين من قبله ، وإلى مذهب الأمر والنهي بعين الهدم ، ورأى غلبة القوى الشهويّة والغضبيّة على نوع الإنسان بحيث لو خلّي وطبعه لجمح به في المهالك باتّباع مقتضى الشهوة والغضب المعبّر عنهما بالحرام والمكروه. وترك الأفعال الحسنة معدّ لذلك ، ومسلّط عليه ، فجعل تلك الأفعال قيودا له ، لئلاّ يرتطم في المهلكات ويقتحم في التبعات ، فكان الغرض الذاتي عنده ترك مقتضى الطبع ، وترك العبادات ينافيه ، فكان الترك منافيا للغرض ، فوجب أو ندب الاشتغال بالفعل المحصّل للترك المذكور ).

١٧٠

أقول : كأنّه نظر إلى مذهب الشكر بعين أهل اللطف ، وقد سلف كون هذا المذهب ضغثا من اللطف ، فلم يرتض الشكر.

ونظر إلى مذهب الأشعريّة فرآه مشتملا على هدم تحسين العقل وتقبيحه ، وهدم تعليل أفعال الباري بالأغراض ، وهدم كون الأفعال حسنت وقبحت لوجوه تقع عليها ، فلم يرتضه لفساد مبناه عنده.

وقوله : ورأى إلى آخره ، إشارة من المصنّف إلى أنّ هذا لم يرتض اللطف على الوجه المرتضى للأوّلين كما عرفت ، بل قال : القوّة الشهوية المؤدّية إلى مناسبة الحيوان الأعجم.

والغضبيّة المؤدّية إلى مناسبة السباع لو خلّي طبعه بهما أوقعه في الحرام والمكروه اللذين هما مقتضاهما.

ورأى ترك الأفعال الحسنة معدّا لذلك الاتّباع ومقوّيا عليه ، فجعل الربّ الحكيم تلك الأفعال قيودا لذي الطبع.

لئلاّ يرتطم في المهلكات ، أي يرتبك عليه أمره ، فلا يقدر على الخروج منه.

والاقتحام : الدخول على الشدّة. ونعني بالتبعات ذوات التبعات ، وهو من إيجاز الحذف ، وهو ما يتبع الإنسان عليه ليستوفى منه.

فالغرض الذاتي عند هذا القائل ترك أعمال الشهوة والغضب. وترك العبادات ينافي ذلك الترك ، والمنافي لا يجتمع مع منافيه ، وبفعل العبادات يحصل ذلك الترك ، فوجب الفعل أو ندب.

ونحن نقول هنا : إنّ مقتضى الطبع مرسل في المهالك ، وفعل العبادات موجب لدفع ذلك فيجب ؛ إذ آلة الواجب واجبة ، وسقط وجه الندب على ما قرّر صاحب هذا المذهب ، فإنّ المهلكات والتبعات لا تتصوّر عند ترك الندب حتّى تدفع بفعله. نعم يثبت وجهه على المذهب الأوّل أنّه لطف في فعل الندب العقلي.

قال : ( ولعلّ صاحب هذا الرأي ممّن يرى أنّ المطلوب في النهي إنّما هو إيجاد الضدّ ؛ بناء على أنّ الترك غير مقدور ، وهذا القدر يصلح أن يكون

١٧١

متمسّك أصحاب هذين المذهبين الأخيرين. فلنذكر حجّة من قبلهما ).

أقول : لمّا كان المقصود بالذات ترك المقتضيات ، والترك لا يكون أثرا ، فكان الأثر فعل العبادات. والمانع من تعلّق القدرة بالأعدام المعتزلة (١) إلاّ أبا الهذيل منهم فإنّه يقول بجوازه (٢) ، وقد حقّق في الأصول.

واختلف البهشميان (٣) في جواز خلوّ القادر من الأخذ والترك ، فجوّزه أبو هاشم ، ومنعه أبوه (٤) ، فعلى جواز الخلوّ الأخذ والترك ضدّان ـ كما ذكر المصنّف ـ وعلى عدمه نقيضان.

قال : ( وقد احتجّ الأوّلون بوجهين : الأوّل : أنّ معنى اللطف حاصل فيها فيكون لطفا. أمّا الصغرى ؛ فللعلم الضروري بقرب المتّصف بها من الطاعة وبعده من المعصية. والكبرى ظاهرة ).

أقول : احتجّ القائلون باللطف بوجهين : أحدهما لميّ ، والآخر خلفي.

فالأوّل قال : معنى اللطف حاصل فيها ، وهذه صغرى دليل حذفت كبراه لظهورها ، وهي كلّ ما حصل فيه معنى اللطف فهو لطف.

ينتج من الشكل الأوّل أنّ العبادات لطف ، وبيّن الصغرى بأنّ الضرورة قضت بقرب من اتّصف بها من الطاعة وبعده من الطاعة وبعده من المعصية. والكبرى غنيّة عن البيان.

[ قال ] : ( وعليه نبّه البارئ جلّ ذكره بقوله :

( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٥)

__________________

(١) مناهج اليقين في أصول الدين : ٧٧.

(٢) مناهج اليقين في أصول الدين : ٧٨.

(٣) الجبائية والبهشميّة أصحاب أبي علي محمّد بن عبد الوهّاب الجبائي ، وابنه أبي هاشم عبد السلام ، وهما من معتزلة البصرة ، انفردا عن أصحابهما بمسائل وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل. الملل والنحل ١ : ٧٨ ـ ٨٠.

(٤) مناهج اليقين في أصول الدين : ٨١ ـ ٨٢.

(٥) هود (١١) : ١١٤.

١٧٢

و ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١)

و ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٢)

و ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) (٣)

و ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٤)

و ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) ـ إلى قوله ـ ( لِلْعُسْرى ) (٥)

و ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ) (٦)

و ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٧) ).

قوله : وعليه نبّه ، الضمير المستكنّ في « عليه » يعود إلى اللطف ، أي نبّه على اشتمال الصغرى على اللّطف بالآيات المذكورة ، وإنّما أتى بلفظ « نبّه » لأنّ الضروري قد يكون تصوّر أطرافه خفيّا فيحتاج إلى كشف ، فإذا كشف جزم الذهن بثبوت محموله لموضوعه من غير احتياج إلى وسط ، واشتمال الآيات على اللطفيّة ظاهر بأدنى تأمّل.

قال : ( الثاني إبطال كلّ من الأقوال الأخيرة. أمّا مذهب الأمر والنهي ؛ فلأنّه بناء على ما سلف ، وعلى فقد وجه الفعل. ونحن نقول : إنّهما فرع الوجه فلا يكونان مؤثّرين فيه ، وإلاّ لجاز الأمر بالقبيح فينقلب حسنا ، والنهي عن الحسن فينقلب قبيحا ، وإنّه باطل ).

أقول : هذا شروع في إبطال كلّ من المذاهب الثلاثة ، فإذا بطلت ثبت المذهب

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٤٥.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٣.

(٣) التوبة (٩) : ١٠٣.

(٤) المائدة (٥) : ٦.

(٥) الليل (٩٢) : ٥ ـ ١٠.

(٦) المائدة (٥) : ٩١.

(٧) آل عمران (٣) : ٢٠٠.

١٧٣

الأوّل ، وهذا هو قياس الخلف الذي عرّفه المنطقيّون بأنّه : إثبات المطلوب بإبطال نقيضه. والخلف هو المحال. يقال : « سكت ألفا ونطق خلفا » (١).

وتقريره هنا : لو صحّ شيء من المذاهب الأخيرة لزم المحالات الآتية ذكرها ، وما استلزم المحال فهو محال ، فالمذاهب الأخيرة محال ، فإذا بطلت ثبت نقيضها وهو المطلوب.

وأنا أقول : إنّه لا تناقض بين المذاهب الأربعة ؛ لجواز الخلوّ منها أجمع ، ويكون الوجه شيئا آخر لا نعلمه ، ولا يلزم من عدم العلم به عدمه. ويجوز الجمع ؛ لعدم المنافاة بينها ؛ إذ يجوز اشتمال كلّ عبادة على كلّ واحد منها ، والنقيضان لا يجتمعان ، ولا يرتفعان.

وقد أبطلوا مذهب الأمر والنهي بأمرين اثنين :

[ الأمر ] الأوّل قولهم : مذهب الأمر والنهي بناء على ما سلف ، يعنون به هدم تحسين العقل وتقبيحه ، وهدم تعليل أفعاله تعالى بالأغراض ، وأنّه لا وجه للفعل يوجب حسنه أو قبحه.

قالوا : ونحن نقول : إنّهما فرع الوجه ، فلا يكونان مؤثّرين فيه ، يعنون الأمر والنهي فرع الوجه ، فإنّه لو لا اشتمال الواجب على الرجحان في نفسه والحرام على المرجوحيّة ، لمكان تعلّق الأمر بالأوّل والنهي بالثاني ترجيحا من غير مرجّح ، فظهر بذلك فرعيّتهما على الوجه فلو أثّر في إسقاطه لسقطا ؛ إذ كلّ فرع عاد على أصله بالإبطال عاد على نفسه به.

وأقول : للأشعري منع امتناع الترجيح بلا مرجّح من المختار ، فيسقط المبنى ، فيسقط الوجه ، فيسقط الفرع.

الأمر الثاني : لو لا الوجه لجاز الانقلاب المذكور أيضا ، وهو محال عندهم.

__________________

(١) في المستقصى في أمثال العرب ٢ : ١١٩ / ٤١٥ : « سكت ألفا ونطق خلفا : أي رديئا. أطال رجل الصمت عند الأحنف حتّى أعجبه ، ثمّ تكلّم فقال له : يا با بحر! أتقدر أن تمشي على شرف المسجد؟ فقال ذلك ».

١٧٤

ونحن نزيدهما ثالثا ، فنقول : لو كان الوجه مجرّد الأمر لوجب المندوب ، والتالي باطل ومثله المقدّم.

بيان الملازمة : وجود العلّة فيه.

وليس لأحد أن يقول : الأمر حقيقة في الوجوب ، مجاز في الندب ؛ لأنّا نقول :

إنّما اعتبرنا مجرّد الأمر لا سواه.

قال : ( وأمّا الترك ؛ فلتوجّه الخطاب بالأفعال ، ولا شعور بالترك البتّة ؛ ولأنّه لو اعتبر لوجب بيانه قبل بيان الواجب والقبيح ، ضرورة تقدّم العلّة الغائية في التصوّر ، ولكان لا يفرّق بين الساهي والمصلّي وبين الساهي عن الشرب والشارب إذا لم يفعلا تركا ).

أقول : هذا إبطالهم للمذهب الرابع ، وهو اللطف في الترك ، وقد ذكروا لإبطاله أمورا ثلاثة :

الأوّل : الخطاب بالفعل ورد على المكلّف من غير علم الترك.

الثاني : لو اعتبر الترك لوجب بيانه قبل بيان الواجب والقبيح ؛ ضرورة تقدّم العلّة الغائية في التصوّر.

وهذان الوجهان متّحدان أو متقاربان ، ومع ذلك فيهما نظر ، فإنّ كثيرا من غايات التكليف غير مشعور به للمكلّف ، كعدّة الصغيرة واليائسة ، ويكون الانقياد إلى الموجب سجيّة في ذلك أبلغ.

وقوله : ضرورة تقدّم العلّة الغائيّة في التصوّر ، إنّما هو في الربّ الملزم بالإقدام والإحجام ، لا فيمن سقطت عليه الأحكام ، وسيأتي المصنّف بالكلام في هذا المقام.

الثالث : لو اعتبر الترك لما وقع الفرق بين الساهي والمصلّي ؛ لأنّهما معا غير تاركين ، وفي رفع الفرق رفع وجوب الصلاة. ولما وقع الفرق أيضا بين الساهي عن شرب الخمر وشاربه ؛ لأنّهما لم يفعلا تركا ، وفي رفع الفرق رفع تحريم الشرب ، وهما باطلان ، فيبطل ملزومهما.

١٧٥

قال : ( وأمّا الشكر ؛ فلأنّه لغة طمأنينة النفس على تعظيم المنعم ، كما نقله بعض المتكلّمين ، أو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف كما ذكره اللغوي. وعرفا الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم ؛ لدوران الشكر معه وجودا وعدما. وظاهر مغايرة العبادة للمعنيين ؛ ولأنّ مجرّد الاعتراف القلبي كاف في معرفته سبحانه شكر العبد ، وإنّما احتيج إلى اللسان لإشعار المشكور ، فلا معنى لوجوب الزائد على الاعتراف ؛ ولأنّ الشكر يمتنع الخلوّ من وجوبه بخلاف العبادة ، فإنّها قد يقبح واجبها كصلاة الحائض ، ويجب قبيحها كأكل الميتة ؛ ومن ثمّ تطرّق النسخ إلى السمعيّات ، ولقبح الإلزام بشكر النعمة شاهدا فكذا غائبا ).

أقول : هذا إبطالهم للمذهب الثاني وهو الشكر ، وقد ذكروا لإبطاله أمورا أربعة :

الأوّل : العبادة لا تدخل في تعريف الشكر ؛ لما عرفت من تعريفه لغة وعرفا ، وما لا يدخل في تعريف الشكر فليس بشكر ، فالعبادة ليست شكرا. وهذا شكل من سالبتين ـ كما تراه ـ وقد قرّر في الميزان أنّه لا يتركّب منهما قياس.

نعم قد يقال : إنّهما موجبتان ؛ لأنّ الاعتبار بإيجابهما أنواع النسبة فيهما ، وبسلبهما نزعها عنهما لا بصورتهما.

الثاني : أنّ مجرّد الاعتراف القلبي كاف في أن يعلم الله من العبد شكره لعلمه بما في الصدور. ولمّا كان اللسان لإشعار المشكور خلا عن الفائدة في هذا الموضع.

الثالث : أنّ الشكر يمتنع الخلوّ من وجوبه ، والعبادة لا يمتنع الخلوّ من وجوبها. ينتج من الشكل الثاني الشكر ليس عبادة ، فإذا انعكست حصل منها ، العبادة ليست شكرا ؛ لأنّ سلب الشيء عن آخر يلزم منه سلب الآخر عنه ، ثمّ نبيّن الكبرى ممّا هو أبلغ من الدعوى ؛ فإنّ الخلوّ من الشيء لا يلزم الإتيان بضدّه ، وقد أتى بالضدّ في صلاة الحائض المنتقلة من الوجوب إلى التحريم ، وأكل الميتة المنقلب من التحريم إلى الوجوب.

١٧٦

ومن ثمّ تطرّق النسخ إلى السمعيّات ، يعنون لأجل انتقال الوجه ينتقل الحكم.

الرابع : يقبح في الشاهد إلزام فاعل النعمة شكر قابلها ، فالبارئ سبحانه أولى ، وهذا راجع إلى تحسين العقل وتقبيحه.

قال المصنّف : ( وفي الجميع نظر. أمّا الأوّل ؛ فلأنّه وارد في كلّ عبادة عقليّة كانت أو نقليّة ؛ فإنّ فعلها مقرّب من عبادة أخرى ، وتركها مبعّد ، مع أنّ وجوبها لا يكون معلّلا بها ، فلو صحّ هذا لزم تعليل كلّ عبادة بالأخرى ، وهم لا يقولون به ).

أقول : قد أورد المصنّف رحمه‌الله على حجّة صاحب اللطف وعلى طعنه في باقي المذاهب إيرادات :

الإيراد الأوّل على الوجه الأوّل من وجهي اللطف : أنّ ما ذكرته من التقرير والتعبيد وارد في كلّ من أفراد العبادات العقليّة والنقليّة ، فإنّ كلّ واحد منها مقرّب من عبادة أخرى ، وتركه مبعّد كذلك ، مع أنّ وجوب كلّ فرد ليس معلّلا بالآخر ، فلو جعل التقريب والتعبيد علّة لزم تعليل كلّ فرد بآخر قال : وهم لا يقولون به.

واعلم أنّ هذا إلزام من المصنّف لأصحاب هذا المذهب وإلاّ فليس من البعيد تعليل كلّ عبادة بأخرى ، ومن تتّبع ذلك علمه.

قيل : لو كان السمعي لطفا في العقلي لزم تقدّمه عليه ؛ لوجوب تقدّم اللطف على الملطوف فيه ، والتالي باطل فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.

وهذا الوجه رأيته في المنام بعد أن تجاوزت هذا المحلّ بأيّام ، وبعد ذلك وجدته وعليه جواب أعتقده صوابا ، هو أنّ السمعي لطف في وقوع العقلي من المكلّف ، لا في وقوعه عليه ، والمتقدّم على السمعي هو التالي لا الأوّل ، وقد سلف ذلك منّا أيضا عند ذكر اللطف.

قال : ( وأمّا الآيات الكريمة ؛ فإنّها تدلّ على حصول هذه الغايات عندها. وأمّا أنّ تلك الغايات هي العلّة الموجبة لأجلها فلا. والنزاع إنّما هو فيه ).

١٧٧

أقول : حصول الشيء مع غيره قد يكون عنه ؛ لحصول المعلول مع العلّة ومنه ( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) (١) وقد يكون عنده ولا أثر له فيه كحصول المعلولين مع الآخر ، والفوز عند النذير.

إذا عرفت هذا فحصول تلك الغايات عند العبادات بمقتضى الآيات المذكورات محتمل لكلّ من الأمرين ، فهو أعمّ منهما ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ المعيّن.

قال : ( وأمّا الثاني ؛ فلجواز إرادة القائل بالأمر والنهي ما فسّرناه ، فلا يرد عليه ما ذكروه ).

أقول : هذا الإيراد الثاني من المصنّف على الوجه الثاني المصحّح لمذهب اللطف بزعم أهله ، وهو إبطال ما عداه من الأقوال ليصحّ هو ، وقد أبطل صاحب اللطف مذهب الأمر والنهي بضعف مبناه ، وهو هدم قاعدة الحسن والقبح ، وهدم الغرض من فعله تعالى.

فقال المصنّف في الإيراد : جاز أن يكون الأشعري بنى ذلك على غير ما ذكرت ، بل على ما ذكرناه آنفا ، وهو إسقاط الوسائط والعجز عن إدراك الوجه وعدم صلاح اللطف والشكر له ، كما عرفت ذلك عند إيراد مذهب الأشعري ، فلا يرد عليه ضعف المبنى.

قال : ( وأمّا الترك فلا يلزم من المخاطبة بالأفعال أن لا يكون الوجوب لأجل ما يتضمّن الترك من المفسدة. ووجوب سبق البيان ممنوع ، والساهي غير مكلّف ).

أقول : هذا الإيراد الثالث على الوجه الثاني الذي أبطل به صاحب اللطف المذهب الرابع ، وهو اللطف في الترك ، فقال في إبطاله : كان يجب إعلام المكلّف بالترك أوّلا.

وقال المصنّف : ذلك غير لازم ، فإنّه لا يلزم من وجوب الشيء وجوب الإعلام بغايته ، بل عدم الإعلام أولى ؛ لكون الانقياد حينئذ أدلّ على التسليم ، وأخلص من

__________________

(١) الطور (٥٢) : ٢١.

١٧٨

الاعتراض على أفعال الحكيم. وقد سلف ذلك غير بعيد ، فليراجع إذا أريد.

وقال صاحب اللطف أيضا على هذا المذهب : لو كان الوجه ما ذكرتم لما وقع الفرق بين الساهي والمصلّي والساهي والشارب إذ لم يفعلا تركا.

فقال المصنّف في ذلك : الساهي غير مكلّف ، فلا يشمله الكلام ؛ لعدم تعلّقه بالأحكام.

قال : ( ونمنع شمول التفسيرين لما يصدق عليه اسم الشكر. ونحن قد بيّنّا أنّ الشكر الخاصّ شامل للعبادات. سلّمنا ، لكنّ العبادة مشتملة عليهما.

قوله : بخلاف العبادة فإنّها قد تقبح.

قلنا : المعتبر هو كيفيّة خاصّة للعبادة التي هي شكر ، وأصلها قائم ، ولم لا يكون الباري جلّ اسمه جعل للشكر وظائف مختلفة بحسب الأشخاص والأزمنة والأحوال والأمكنة؟ مع أنّ الشكر في الشاهد يختلف بحسب المقام ، وحينئذ يتطرّق إليه النسخ والتخصيص وغيرهما ).

أقول : هذا الإيراد الرابع من المصنّف على الوجه الثاني الذي أبطل به صاحب اللطف مذهب الشكر ، وذلك أنّه لمّا قال : إنّ العبادة لا تدخل في تفسيرين ، منع المصنّف شمولهما لما يصدق عليه الشكر ، بل جعل التفسيرين أخصّ من الشكر ، والأخصّ غير شامل كما عرف في الحدود.

ثمّ قال : ونحن قد بيّنا أنّ الشكر الخاصّ شامل لها ، ويعني بالشكر الخاصّ الاعتقاد القلبي بأنّ جميع النعم من الله سبحانه ، ويلزمه شغل اللسان والجنان والأركان كما سلف ، فعمل الأركان أحد أقسام الشكر الخاصّ. وليس المراد بالخاصّ أنّه نوع تحت جنس كالإنسان تحت الحيوان ؛ فإنّ الاعتقاد مع اللوازم الثلاثة ليس كذلك ، بل المراد أنّه أنفع أنواع الشكر ؛ لوجوده مع كلّ واحد منها ، وهو بهذا الاعتبار كالجنس.

ثمّ سلّم المصنّف شمول التفسيرين لما يصدق عليه الشكر ، وادّعى أنّ العبادة مشتملة على الشكر بالتفسيرين اللذين ذكرهما صاحب اللطف.

١٧٩

قال : فإنّ العبادة مشتملة على طمأنينة النفس الذي هو التفسير اللغوي ، وعلى الاعتراف بالنعمة الذي هو التفسير العرفي ، وزادت العبادة عليهما بعمل اللسان والأركان. والذي أرى أنّ التسليم من المصنّف عار عن الفائدة فإنّه هو [ الذي ] منع شمول التفسيرين المذكور [ ين ] أوّلا ، فإنّه متى لم يشملهما التفسيران كانا مشمولين لها.

قوله : بخلاف العبادة فإنّها قد تقبح.

قال المصنّف : أصل حسن العبادة قائم ، والقبح العارض هو الحيض والمخمصة في المثال المذكور ، فلا يزول الحسن به.

ثم استظهر المصنّف وقال : يجوز أن يكون الله سبحانه جعل الشكر وظائف إلى آخر ما ذكر ، فيكون ترك صلاة الحائض في الحال شكرا ، وكذا الكلام في أكل الميتة ونحوه. وعلى اختلاف المصالح تختلف الأحكام فيقع النسخ.

قال : ( ولا قبح في الإلزام بالشكر ، ولهذا يحسن ذمّ كافر النعمة. سلّمنا قبحه شاهدا ، لكن لعدم استتباع عوض ، وفي الغائب يستتبع الثواب الجزيل فلا قبح ؛ لأنّه تعالى أمر بشكر نعمه بقوله ( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (١) و ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) (٢) ).

أقول : هذا الإيراد الخامس من المصنّف على الوجه الثاني الذي أبطل به صاحب اللطف مذهب الشكر ، وذلك أنّه لمّا قال : يقبح في الشاهد الإلزام بشكر النعمة فكذا في الغائب منع المصنّف هذا القبح. قال : ولهذا يحسن ذمّ كافر النعمة.

وأورد بعضهم شعرا يدلّ بفحواه على ذلك ، وهو :

كلّ من عوّدته الخي

ر فلم يعرف مكانه

فاقطع العادة منه

عاجلا واطلب هوانه

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٥٢.

(٢) لقمان (٣١) : ١٤.

١٨٠