أربع رسائل كلاميّة

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

أربع رسائل كلاميّة

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-964-X
الصفحات: ٣٢٨

لانسداد باب إثبات النبوّة ).

أقول : وجه توقّف معرفة الوجه على حكم العقل بالحسن والقبح ، وعلى كون الحسن والقبح لذات الفعل ، أو لوجه يلحقها ظاهرا ، فإنّه لو لا ذلك لجاز إيجاب الفعل لا لغاية.

فإذا قيل : يكون عبثا قبيحا.

قلنا : جاز كون الشارع لا يقبّح ذلك ، والعقل لا يحكم له فيه ، فلا يطلب الوجه حينئذ. وكذا إذا قلنا : إنّ حسن الفعل وقبحه لذات الفعل لم تطلب الوجه. وإن قلنا :

له وجه يقع عليه فيحسن لأجله أو يقبح ، احتجنا إلى معرفة الوجه ، فظهر أنّ البحث في الوجه يتوقّف على هاتين.

إذا عرفت ذلك فنقول : حكم العقل بحسن بعض الأشياء كالصدق النافع ضروريّ ، ويقبح بعضها كالكذب الضارّ ضروري ، وببعضهما كالصدق الضارّ ، والكذب النافع نظري ؛ ومن ثمّ نكّر المصنّف أشياء لعدم عموم النكرة في الإثبات.

قوله : والمنازع إن لم يكن مكابرا إلى آخره.

جواب سؤال مقدّر ، هو أنّ العلم بذلك لو كان ضروريّا لما وقع النزاع فيه لكنّه وقع ، لزم من استثناء نقيض التالي نقيض المقدّم ، وهو أنّه ليس ضروريّا.

فأجاب رحمه‌الله بأنّ النزاع ليس بعدم ضروريّة حسن شيء أو قبحه ، بل لأحد أمرين : إمّا لمكابرة ومجاحدة لسانا ، مع اعتقاد صحّة ما قلناه إيقانا ، أو لعدم تصوّر الأكبر المحكوم به ، والأصغر المحكوم عليه ، فإنّ تصوّر الطرفين قد يكون خفيّا عن الذهن فيقف عن الحكم لذلك ، فإنّ من استفهم عن نصف ربع عشر العشرين يقف عن الجواب ، ولو استفهم عن نصف نصف الدرهم لسارع إليه.

قوله : ولأنّهما لو انتفيا عقلا لانتفيا سمعا ، لانسداد باب إثبات النبوّة ، لكنّهما لم ينتفيا سمعا اتّفاقا لم ينتفيا عقلا التزاما.

بيان الملازمة : أنّ الطريق إلى صحّة السمع صحة النبوّة ، والطريق إليها المعجز الحاكم بها ، والطريق إلى خلقه لتصديقه عدل الله وحكمته المستفاد من غنائه المستفاد

١٤١

من وجوبه. فلو كان التحسين والتقبيح إنّما هما من الشارع حتّى صدّق بخلق المعجز من ليس بنبيّ ، فإذا قيل : تصديق الكاذب قبيح ؛ لأنّه كذب ، قال : إنّ تقبيح الأشياء بوضعي ، وأنا لم أضع القبيح على كذبي.

فإذا جوّز العاقل ذلك لم يبق له طريق إلى إثبات النبوّة ، فيبطل السمع المتوقّف عليهما.

قال : ( الثانية : هل حسن الأشياء وقبحها للذات ، أو للوجه اللاحق للذات؟ البصريّون من العدليّة على الأوّل ، والبغداديّون على الثاني ؛ لتعليل كلّ منهما بعلل عارضة ؛ ومن ثمّ أمكن كون الشيء الواحد بالشخص حسنا وقبيحا باعتبارين ، كضرب اليتيم ؛ وعلى هذا يترتّب النسخ ).

أقول : حجّة الأوّلين لم يذكرها المصنّف لكنّه أدرجها فيما يأتي. وملخّصها أنّا متى علمنا كون الشيء صدقا وإنصافا علمنا حسنه ، ومتى لا فلا ، فدلّ الدوران على أنّه لو كان له وجهة غير كونه صدقا لتخلّف العلم بحسنه عمّن جهل ذلك الوجه ، ولأمكن الانقلاب في الأحكام فيصير الحسن قبيحا وبالعكس.

والقبيل الآخر يلتزمون بهذا ولم يجعلوه محالا ، وسيأتي ذلك في حجّتهم.

حجّة الآخرين : أنّ الحسن والقبح يعلّلان بعلل عارضة ، فيعلّل حسن الخبر وقبحه بمطابقته وعدمها ، وهما عارضان. ولو كانا ذاتيّين امتنع تعليلهما بالعارض ، نتج من الشكل الثاني كونهما ليسا ذاتيّين ، ولأجل تعليلهما بالعوارض أمكن كون الشيء الواحد حسنا باعتبار قبيحا باعتبار ، فإنّ ضرب يتيم واحد في زمان واحد من ضارب واحد مع قصد التأديب مليح ، ومع قصد الإهانة قبيح. وإنّما قيّد الوحدة بالشخص كما ذكرناه ؛ لتخرج الوحدة بالجنس والنوع ، فإنّ جنس الفعل ينقسم إلى حسن وقبيح.

وكذا نوعه كالخبر ينقسم إلى مطابق فيحسن ، وإلى غيره فيقبح.

قوله : وعلى هذا يترتّب النسخ. شروع منه في حجّة أخرى للبغداديّين ، وهي أنّ النسخ هو تغيير الأحكام بتغيير المصالح ، فيكون الفعل حسنا في زمان دون آخر ،

١٤٢

ولمكلّف دون آخر ، فيجب على الحكيم تعالى تغيير الأحكام لذلك ، ولو كان الحسن والقبح ذاتيين لم يتوجّه النسخ ؛ لامتناع زوال الذاتي عمّا هو ذاتي.

قال : ( إذا لحظ ذلك فنقول : لو لا الوجه المخصوص لكان ترجيح الواجب بخصوصه على الحرام ليس أولى من عكسه ، وبطلان التالي ظاهر ، فحينئذ نشرع في بيان الوجه مفصّلا في ثلاثة مباحث ).

أقول : يريد باللحظ هنا مجازه ، وهو الفهم القلبي ؛ لأنّه حقيقة في نظر العين ، واللّحاظ ـ بفتح الفاء ـ مؤخّر العين ممّا يلي الصدغ ، وـ بكسرها ـ من لاحظته إذا رعيته.

والضمير في ذلك يعود إلى أنّ للأفعال وجوها ؛ إذ لولاها لكان تخصيص الواجب بالوجوب دون التحريم ، والحرام بالتحريم دون الوجوب ترجيحا من غير مرجّح ؛ لعدم الأولويّة. أمّا مع الوجوه فالأولويّة حاصلة.

وعنى بالتفصيل المذكور في الأبحاث الثلاثة وجه العملي العقلي الضروري ، والعملي العقلي النظري ، والعملي السمعي. وكان ينبغي أن يكون لها رابع ؛ لأنّ السمعي ينقسم إلى ضروري ونظري كما سلف منه رحمه‌الله ، ولكن لمّا كان الوجه فيهما واحدا لم يقسّمه إليهما.

قال : ( [ المبحث ] الأوّل : وجه الضروري ، هو اشتماله على المنافع والمضارّ التي لا يمكن مفارقتها إيّاه كالصدق والإنصاف. ومن جعلها لذاته علّلها بنفس كونها صدقا وإنصافا إلى آخره ؛ لدوران العلم بأحكام تلك الأفعال والتروك مع العلم بها وجودا وعدما. فلو كان هناك وجه آخر امتنع ذلك بالنسبة إلى الجاهل بذلك الوجه ؛ ولأنّه لو كان غير ذاتي لأمكن الانقلاب في الأحكام ، وإنّه محال ).

أقول : هذا ظاهر ، وقد أسلفنا فيه كلاما عند ذكر حجّة البصريّين ، وأسلفنا أن

١٤٣

البغداديّين لا يحكمون بمحاليّة الانقلاب المذكور ، كما في ضرب اليتيم.

نعم في قوله : لا يمكن مفارقتها إيّاه ، إلمام بمذهب البصريّين لكنّه ليس على الإطلاق ، بل كلامه في الضروري العقلي دون النظري منه ، فحينئذ ينشعب من ذلك مذهب ثالث هو أنّ الضروريّ حسنه وقبحه ذاتيّ ؛ لامتناع المفارقة ، والنظري غيري.

قال : ( المبحث الثاني في النظري. ولوجوبه وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّه شرط في العلم بالثواب والعقاب على الضروري ، وشرط الواجب المطلق واجب.

أمّا الصغرى : فلأنّ العلم بالجزاء موقوف على معرفة المجازي ، ومعرفة قدرته الذاتيّة العامّة ؛ لتوقّف المجازاة عليها. ومعرفة علمه كذلك ؛ حذرا من النقص ، أو الإيفاء لغير الفاعل. ومعرفة حياته ؛ ليصحّ عليه الوصفان.

ومعرفة قدمه ووجوب وجوده ؛ ليمتنع عدمه وعدم صفاته ، وتمتنع الحاجة عليه ؛ حذرا من أخذ المستحقّ ، ويمتنع شبهه للحوادث. ومعرفة وحدته ؛ لامتناع اجتماع واجبين ومعرفة عدله ؛ ليؤمن إخلاله بالواجب ، ويحكم بحسن أفعاله. وتعليلها بالأغراض ، وبعث الأنبياء ، ونصب الأوصياء ؛ لتوقّف التكليف بالسمعي عليه.

وهنالك يعلم كيفيّة الجزاء ، وما يمكن إسقاطه منه كعقاب الفاسق وثواب المرتدّ. والجزاء موقوف على المعاد. وهذا القدر وما يتعلّق به هو المبحوث عنه في المعارف العقليّة.

وأمّا الكبرى : فلأنّه لولاه لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا ، أو التكليف بالمحال ).

أقول : هذا هو المبحث الثاني من الثلاثة الموضوعة لتفصيل الوجه. وقد ذكر

١٤٤

لوجوب العملي من العقلي النظري ثلاثة أوجه :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ وجه العلم العقلي النظري هو كونه شرطا في العلم بالجزاء على الضروريّ ، يعني على الفعل الذي حسنه أو قبحه ضروريّ لا على مجرّد العلم الضروريّ ؛ فإنّه لا جزاء للعبد عليه ؛ لكونه ليس من كسبه ، فالعلم بالجزاء موقوف على معرفة المجازي ، يعني بمعرفته وجوده ؛ لامتناع وقوع فعل بدون فاعل.

ومعرفة قدرته ؛ ليصحّ منه فعل الجزاء. وعمومها ؛ لئلا يخرج بعض أفراده عن الوقوع ؛ لعدم مقدوريّته.

ومعرفة علمه. وعمومه ؛ لئلا يقع النقص أو الإيفاء لغير المستحقّ بسبب الجهل الكلّي أو الجزئي.

هذا ولو اقتصر المصنّف على ذكر العمومين كفى عن ذكر أصل الصفتين ؛ إذ يلزم من وجود الملزوم وجود اللازم.

وظهر من هذا ، الاكتفاء بذكرهما عن ذكر الحياة.

ومعرفة قدمه ووجوب وجوده ؛ ليمتنع عدمه ، إذ لو جوّز عدمه جوّز عدم الجزاء ، وكذا عدم صفاته.

وامتناع الحاجة عليه حذرا من أخذ المستحقّ ، لكن ينبغي أن يقيّد امتناع الحاجة عليه إلى نوع المستحقّ لجوازها إلى غيره فلا يأخذه ، فهذا هو الشرط لامتناع مطلق الحاجة.

وامتناع شبهه للحوادث ، لا أنّ له مدخلا في الشرطيّة ؛ للعلم بصحّة وقوع الجزاء من الحوادث.

فإن قلت : لو شابه الحوادث جاز عدمه ، وعدم قدرته ، وعدم علمه قبل الجزاء ، فلا يثق بالجزاء.

قلت : قد ذكر مفصّلا فلا حاجة إلى الإجمال بعده.

وكذا معرفة وحدته ، لا [ أنّ ] لها مدخلا في الشرطيّة ؛ لأنّه إذا كان كلاّ من الإلهين موصوفا بما ذكر من الكمالات جزم المكلّف بوقع الجزاء ، ولا يضرّه التعدّد هنا ، نعم

١٤٥

يمكن عدم الجزاء إذا أوجب الفعل أحدهما ، وأوقعه المكلّف للآخر. أمّا المفعول له ؛ فلأنّه غير آمر به ، وأمّا الآمر ؛ فلأنّه غير مفعول له.

ومعرفة عدله ؛ ليؤمن إخلاله بالواجب ؛ وليحكم بحسن أفعاله ، ويلزم من حسنها كونها لغرض ؛ لقبح العبث ، وليحكم بنصب السفراء ؛ لأنّ التكليف بالسمعي موقوف عليه أي على العدل ؛ لأنّه موقوف على نصب السفراء الموقوف على العدل ، والموقوف على الموقوف على شيء ، موقوف على ذلك الشيء ، فالجزاء على السمعي موقوف عليه ، أي على السمعي الموقوف على السفراء الموقوف على العدل.

وبهذا يتّضح لك أنّ حسن أفعاله ونصب سفرائه موقوف عليه ، أي السمعي لا على العقلي الضروري كما طرّد الكلام فيه.

فإذا عرف العدل حكم بحسن التكليف السمعي ، وعلّة حسنه التعريض لثوابه ، وحسن نصب السفراء لتعريف كيفيّته. فهنالك تعلم كيفيّة الجزاء ، أي إذا علم العدل أنّ الجزاء كان ضررا لا يجب فعله ، بل يجوز إسقاطه إلاّ عقاب الكافر ؛ للإجماع ، و [ لقوله تعالى ] : ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) (١).

وإن كان نفعا : فإمّا عوض ، فلا يجب دوامه ، ولا إشعار مستحقّه به ، ولا زيادته إلاّ إذا كان على الربّ تعالى.

وإمّا ثواب ، فيجب دوامه وإشعار مستحقّه به ؛ لوجوب مقارنته للتعظيم ، ولا يجوز نقل ثواب الواجب عن مستحقّه بعوض وغيره ـ وفي المندوب خلاف ـ ولا إسقاطه.

نعم ثواب المرتدّ يسقط به ؛ لاشتراط الموافاة فيه. ولمّا لم يكن الجزاء واقعا في دار التكليف ، كان لا بدّ من دار أخرى ، وهي المعاد. وكلّ هذه المعارف عقليّة نظريّة.

فهنا تقرير الصغرى ، وهي كون العملي النظري شرطا في العلم بالجزاء على الضروري.

وأمّا الكبرى ، وهي أنّ شرط الواجب المطلق واجب ، فظاهر بما ذكره طاب ثراه.

__________________

(١) النساء (٤) : ١١٦.

١٤٦

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الواجب في الصغرى هو نفس الجزاء على الضروري.

أمّا العلم الذي جعل الشرط معلّقا به ففي وجوبه توقّف ، من أنّه لا يلزم من وجوب الجزاء وجوب العلم به ، ومن أنّ العلم بالجزاء شرط في وقوع الفعل ذي الجزاء ، ووقوع الفعل واجب ، وشرط الواجب واجب ، فالعلم بالجزاء واجب. ولا يلزم من إيقاع الفعل مشروطا بعلم الجزاء كون الإيقاع للجزاء حتّى يخرج به عن الإخلاص ، بل يكون العلم باعثا على الفعل كما في المرغّبات السمعيّة ، وعند فعله يقصد القربة التي هي موافقة الإرادة لا غيرها.

قال : ( الثاني : أنّ كلاّ من شكر المنعم ودفع الخوف واجب ، ولا يتمّ إلاّ بالمعرفة على الوجه المذكور ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

أمّا وجوب الشكر والدفع فضروري ، وأمّا توقّفه على المعرفة ؛ فلأنّ تلك الآثار الحاصلة من الحياة والقدرة وتوابعهما من المنافع ، إمّا أن تكون نعمة فيجب الشكر ، أو نقمة فيجب الدفع ، وذلك محال معرفته بدون المعارف المذكورة. وأمّا الثالث فظاهر ).

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة المذكورة لوجوب العملي العقلي النظري.

أمّا وجوب الشكر والدفع فضروري كما ذكر.

وأمّا توقّفه على المعرفة المقدّم ذكرها ؛ فلأنّ ما قصده الفاعل بتلك الآثار من كونها نعما أو نقما لا يعلم إلاّ بها. فإذا عرف الباري تعالى وصفات كماله وتنزيهه عن القبيح وغير ذلك عرف أنّها نعم ، فيجب الشكر ضرورة. وإن عرض له وساوس شيطانيّة جذبته إلى اعتقاده تعالى على خلاف ذلك حتّى جوّز أنّه قصد بالآثار الإضرار ، وجب الدفع ضرورة ، فتجب المعرفة ، وهي نتيجة ما ذكر.

ولم يصرّح بها لظهورها لوجوب ما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به ، وهو الثالث المذكور.

١٤٧

وعدّ المصنّف من الآثار الحياة والقدرة وتوابعهما ، وعنى بالتوابع ما يتوقّف حصوله عليهما ، فإنّ من توابع الحياة الإدراكات الباطنة والظاهرة والانتفاعات الخارجة ؛ إذ لولاها لانتفى ذلك كلّه. ومن توابع القدرة منافع المعاش والمعاد ، مع أنّ القدرة من توابع الحياة.

إذا عرفت هذا. فيرد على قولهم : نقمة فيجب الدفع شكّ هو أنّ دفع هذه الآثار إذا اعتقدها نقمة لا يمكن إلاّ بضرر أكثر منها ، وذلك أنّه لا يقع إلاّ بقبل نفسه وإعلام حواسّه ، فكيف يدفع الضرر المؤجّل بضرر معجّل.

وحلّه أنّ ما ورد يلزم من وقوع الدفع لا من اعتقاد وجوبه ، فإذا نظر الإنسان بعين بصيرته ، فعرف كمال بارئه حقّ معرفته ، انتهى به النظر إلى وجوب الشكر ووقوعه ، لا إلى وقوع الدفع حتّى يلزم المحال المذكور.

وصاحب الوساوس المؤدّية خساسة عقله وغلبة جهله إلى ذلك لا التفات إليه ، بل يترك ، وشأنه إن كان غير مركّب جهله لا يلتوي ، وبإيضاح الطريق له لا يرعوي.

قال : ( الثالث : أنّ المعرفة دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف وغيره ، ودفع الخوف واجب بالبديهية ).

أقول : هذا هو الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة المذكورة لوجوب العملي العقلي النظري ، وهو ظاهر ، فإنّ الإنسان إذا نشأ في الناس ورأى اختلافهم في الأديان عرض له لذلك الخوف ، فيجب دفعه. أمّا من نشأ في برّيّة وشبهها ، أو لم ينظر الاختلاف لغفلة أو اشتغال بمعيشة ، فلا بدّ أن يخطر الله سبحانه بباله الخوف الموجب للمعرفة. والخاطر إمّا بإلهام يخلقه الله فيه ، أو بكلام بعض الملائكة يبعثه إليه.

قال : ( تنبيه : علم من ذلك وجوب النظر ؛ لأنّ المعرفة واجبة ، والنظر طريق إليها ليس إلاّ ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. أمّا الأوّل فقد تقدّم. وأمّا الثاني : فلأنّ النظر مولّد للعلم ؛ لحصوله عقيبه وبحسبه وكمّيّته ،

١٤٨

وتخلّف العلم النظري عن تاركه ، ولو لا ذلك لجاز تخلّفه عن فاعله ، وحصوله لتاركه ، وهو باطل ضرورة ، فثبت أنّه طريق إليها ).

أقول : ما ذكره ظاهر الصحّة.

وقوله : ليس إلاّ ، معناه لا غير ، وذلك فنّ من صناعة البديع يسمّى الاكتفاء ، وهو أن تكون في العقل دلالة على بقيّة الكلام ، فيكتفي المتكلّم بالدلالة العقليّة عن ذكره.

وقد جاء منه في الكتاب العزيز السماوي ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ) (١).

وفي الشعر :

لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي

ما دمت في قيد الحياة ولا إذا (٢)

قوله : النظر مولّد ، هذا مذهب جماعة (٣). وقال آخرون : يحصل العلم عقيبه التزاما (٤) ، وآخرون : بالعادة ، ويجوز عدمه (٥). وقال فخر الدين : لا يجوز عدمه (٦).

واستدلّ المصنّف على التوليد بوجوه :

الأوّل : حصول العلم عقيبه ، وهذا كما يدلّ على التوليد يدلّ على الالتزام.

الثاني : حصول العلم بحسبه ، أي بحسب النظر وعلى وفقه ، وذلك أنّ من نظر في حدوث العالم حصل له دون علم الطبيعة وغيره ، وهذا أيضا يدلّ على الالتزام.

واعلم أنّ لفظة حسبه ـ مفتوحة السين ـ ومعناها ما ذكرناه ، والتي بسكون السين معناها

__________________

(١) الرعد (١٣) : ٣١.

(٢) شرح الكافية البديعيّة : ١٠٥.

(٣) كالمعتزلة ، راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٤٠ ؛ المحصّل للرازي : ١٣٦ ؛ شرح المواقف ١ : ٢٤١.

(٤) انظر شرح المواقف ١ : ٢٤٦.

(٥) كالأشاعرة ، راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٤٠ ؛ والمحصّل للرازي : ١٣٦ ؛ شرح المواقف ١ : ٢٤٣.

(٦) المحصّل للرازي : ١٣٦.

١٤٩

الاكتفاء ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ ) (١) أي كافيك.

الثالث : كمّيّته ، ونعني بها أنّ العلم يكثر بكثرة النظر ويقلّ بقلّته ، كالألم يكثر بكثرة الضرب ويقلّ بقلّته ، فعلم بالاستقراء تولّده له ، وهو أيضا دالّ على الالتزام.

الرابع : أنّ العلم النظري لا يحصل لمن ترك النظر ، ويحصل لمن نظر.

وفيه دلالة. على سببيّته ، ولو انتفت السببيّة لجاز العكس ، والبديهة تأباه ، وهذه الأدلّة علمت صحّتها بالاستقراء التامّ ، وهو حجّة.

فإنّ قيل : يجوز حصول العلم برياضة وشبهها ، فلا يكون الاستقراء تامّا فلا يكون حجّة.

قيل في الجواب : إنّ الحاصل بما ذكرت ليس علما نظريّا ، والكلام فيه ليس إلاّ ، وسيأتي نفي غيره من الطرق.

قال : ( وأمّا انتفاء غيره من الطرق ؛ فلأنّ المعرفة ليست شيئا من أقسام الضروري ، وما ليس بضروري نظري قطعا. وأمّا الثالث فقد مرّ.

ومن زعم حصول المعرفة بغير نظر فهو كمن رام بناء من غير آلات ، وكتابة من دون أدوات ).

أقول : المعارف منحصرة في الضروري والنظري ؛ لأنّها إن افتقرت إلى طلب فنظري ، وإلاّ فضروري. فكلّ علم أخرج من أحد القسمين دخل في الآخر ؛ للحصر المذكور ؛ فلهذا قال : قطعا.

والثالث : الذي مرّ ، هو وجوب ما لا يتمّ الواجب بدونه. ثمّ استظهر المصنّف على نفي غيره من الطرق بأن قال : من زعم حصول معرفة بغير نظر فهو كمن رام بناء من غير آلات ، وكتابة من دون أدوات ، فكما أنّه يستحيل بناء بغير أحجار وأخشاب ، وكتاب من غير كواغذ وأقلام ، ونحو ذلك من الصنائع ، فكذا يستحيل

__________________

(١) الأنفال (٨) : ٦٤.

١٥٠

حصول علم بغير نظر ؛ لأنّه من الأمور الصناعيّة المفتقرة إليه ، ولا أرى يعاجم في ذلك إلاّ من غالبه هواه وجانبه هداه.

قال : ( المبحث الثالث في وجه السمعي. ولا ريب أنّ بعض السمعيّات قد يكون وجوبه وجها لوجوب بعض آخر ، كالصلاة الموجبة للطهارة ، فجاز أن يطلق على ذلك أنّه وجهه. فالكلام في مطلق الواجبات والسنن والقبائح والمكروهات السمعيّة.

والمراد بالوجه هنا ، الغاية التي لأجلها كان ذلك الحكم. وقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال مأخذها ما سلف ).

أقول : هذا هو البحث الثالث الموضوع لتفصيل الوجه.

واعلم أنّ كلّ شيء وجب لغيره جاز إطلاق اسم الوجه على ذلك الغير كالطهارة الواجبة للصلاة ، وتصفية المغشوش للزكاة ، إلى غير ذلك.

والكلام هنا في الأحكام الأربعة السمعيّة.

وقيّد بلفظة هنا أي في وجه السمعي ؛ ليخرج وجه العقلي الضروري والنظري ، وقد عرفته ثمّة.

والأقوال الأربعة : اللطف ، والشكر ، والأمر ، واللطف في المصلحة والمفسدة ، وسيأتي إيضاح ذلك في بابه.

وقوله : مأخذها ما سلف ، يريد بما سلف ما تقدّم في الفصل الثالث في غايته.

فالقرب والبعد من الطاعة والمعصية العقليتين مأخذ اللطف ، والفوز بالاعتراف بالنعمة مأخذ الشكر ، وموافقة إرادة الله تعالى مأخذ الأمر.

ومأخذ الرابع قوله : ولمّا كان السمعي إلى آخره ، فليراجع من هناك.

قال : ( [ المذهب ] الأوّل ـ مذهب جمهور العدليّة من الإماميّة والمعتزلة ـ :

١٥١

أنّه اللطف في التكليف العقلي مطلقا انبعاثا وانزجارا. فالغاية في الواجب السمعي اللطف في الواجب العقلي ، وفي الندب السمعي الندب العقلي ، أو زيادة اللطف في الواجب العقلي ؛ فإنّ الزيادة توصف بالندب ، وفي ترك القبيح السمعي ترك القبيح العقلي ، وفي ترك المكروه السمعي ترك المكروه العقلي ، أو زيادة اللطف في ترك القبيح ، بمعنى أنّ الممتثل (١) للسمعي أقرب من العقلي ، وغيره أبعد ).

أقول : المذهب : موضع الذهاب كالمسلك والمربط ، وقد اشتهر في السير القلبي.

ويراد فيه الوجه ، فيقال : أيّ الوجوه انتجعت أي أيّ المذاهب اعتقدت.

والجمهور ـ بضمّ الجيم ـ : هم الأكثرون ممّن أضيفوا إليه.

والعدليّة : كلّ من حكم بعدل الله وحكمته وتنزيهه عمّا لا يليق برحمته.

ومن : هنا للتبيين ، مثل ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ) (٢).

والإماميّة : فرقة عظيمة من الشيعة ، وهم القائلون بإمامة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

والمعتزلة : ينسبون إلى واصل بن عطاء الغزّال ، اعتزل مجلس الحسن البصري عند مخالفته إيّاه في القول بالمنزلة بين المنزلتين.

واللطف : ما قرب من شيء وحثّ عليه ولم يكن ملجئا إليه.

إذا جاوزت هذا فذهب المذكورون إلى أنّ الوجه ـ أي الغاية ـ في التكليف السمعي هو التكليف العقلي مطلقا ، يعني الضروري منه والنظري ، وقد سلف تفصيلهما ، وليس المراد كون السمعي لطفا في وجوب الضروري حتّى يلزم الدور ، بل في العمل به ؛ فإنّ ملازمة السمعي مقرّبة إلى فعل الصدق والإنصاف وغيرها. وكذا الكلام في العقلي النظري.

وأشار بالانبعاث إلى الواجب منه والندب ، وبالانزجار إلى الحرام والمكروه ،

__________________

(١) في « ن » و « ق » : « المتمثّل ».

(٢) الحجّ (٢٢) : ٣٠.

١٥٢

فجعلوا لكلّ واحد من الأحكام الأربعة السمعيّة لطفا في مماثله من الأربعة.

نعم يمكن أن يكون الندب السمعي شرّع لزيادة التقرّب من الواجب العقلي ، ولمّا كانت تلك الزيادة غير واجبة على الحكيم تعالى ، بل هي تفضّل منه ، لم يوصف المقرّب إليها بالوجوب ، فكان مندوبا ، وكذا الكلام في شرعيّة ترك المكروه السمعي.

أقول : إنّ كلّ واحد من الأقسام السمعيّة المذكورة يجوز كونه لطفا لمماثله من الأقسام العقليّة ومخالفه ، فإنّ فعل الواجب جاز كونه لطفا لترك الحرام ، اعتبر قوله تعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) ونحوه.

وكذا يجوز كونه لطفا لفعل مندوب أو ترك مكروه.

نعم لا يكون هذان علّة في إيجابه ، فإنّ المتوسّل إليه إذا عرّاه عن الوجوب عريت وسيلته عنه بل يكون الوجه في إيجاب السمعي فعل الواجب أو ترك الحرام العقليّين وإن كان لطفا في المندوب والمكروه إلاّ أنّه بالتبعيّة فلا مدخل لهما في علّيّة وجوبه.

وكذا الكلام في ترك الحرام يكون لطفا في ترك حرام عقلي ، أو فعل واجب عقلي ، وإن تبعه الآخران.

ووجه الندب جاز أيضا كونه لطفا في فعل ندب عقلي ، أو ترك مكروه عقلي ، وكذا ترك المكروه.

ويجوز أيضا كون فعل المندوب وترك المكروه لطفين لفعل واجب وترك حرام.

نعم لا يجوز أن يكون الوجه في شرعيّتهما هو هذه اللّطفيّة ، وإلاّ لكانا واجبين ؛ لأنّ اللطف الواجب واجب فيرتفع المندوب والمكروه السمعيّان إذا عرفت هذا.

فقال هؤلاء : إنّا وجدنا من لازم السمعيّات المذكورة قرّبه ذلك إلى العقليّات الموضوعيّة ، ومن لا فلا ، بل الواقع له البعد عنها. ولمّا كان اللطف مقرّبا كانت السمعيّات منه ، لما عرفت.

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٤٥.

١٥٣

قال : ( ولا نعني بذلك أنّ اللطف في العقلي منحصر في السمعيّات ؛ فإنّ النبوّة والإمامة ووجود العلماء والوعد والوعيد بل جميع الآلام يصلح للألطاف في العقليّات أيضا ، وإنّما هو نوع من الألطاف الواجبة يكاد أن يكون ملاكها ؛ فإنّ النبيّ والإمام والعالم إنّما يدعون إليه ، والوعد والوعيد إنّما يتوجّهان عليه ).

أقول : ليس في كون السمعيّات لطفا نفيا لغيرها ؛ فإنّ تلك الأمور مقرّبة إليها ومحثّة عليها فتكون ألطافا فيها.

وملاك الشيء ما يندرج الشيء فيه ويرتبط به ويأتي عليه ، وهو كذروة الشيء وسنامه ، ولهذا فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الترمذي لمّا عدّ لمعاذ خصال الخير قال : « ألا أخبرك بملاك ذلك؟ » قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ، وقال « كفّ عليك هذا » (١).

والتكليف السمعي نوع من تلك الألطاف المذكورة يقارب أن يكون ملاكها أي شدّها ورباطها ، وبه يتمّ وصولها ، ويؤكّد حصولها ؛ فإنّ الأئمّة إنّما يدعون إليه ، فتكون لطيفيّتهم متفرّعة عليه.

والوعد والوعيد إنّما يتوجّهان على ترك امتثاله ، ويعني به في طرف الوعيد ترك امتثال ما منع من نقيضه.

وقوله : إنّما يدعون إليه ، وإنّما يتوجّهان عليه من الحصر المشار إليه بلفظة « إنّما » نظر ؛ فإنّ الآداب العقليّة النظريّة من مكارم الأخلاق ، وغيرها يدعون أيضا إليها ، وأكثر التوعّدات معلّق عليها ، فعلى المعارف العقليّة الخلود في جنّات النعيم ، وعلى أضدادها الخلود في طبقات الجحيم.

إن قلت على الأوّل : إنّهم لمّا دعوا إلى ما ذكرت صار بدعائهم في القسم السمعي ، وكذا الكلام في المعارف وأضدادها.

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ١١ / ٢٦١٦ ، باب ما جاء في حرمة الصلاة.

١٥٤

قلت : على الأوّل يلزم الدور حينئذ ؛ لأنّه إذا لم يصر سمعيّا إلاّ بدعائهم ، وهم لا يدعون إلاّ إلى سمعي لزم ذلك.

وعلى الثاني : يلزم نفي تعذيب من غفل ومات قبل السمع ؛ لكون العذاب معلّقا بالسمع لا به.

ولقد حقّق في أنّ وجوب النظر عقلي ، وهذا واضح لا غبار عليه ، ولا إشكال يعترى إليه.

قال : ( فإن قلت : فإذن يقوم غيره من الألطاف مقامه ، فلا يجب. قلت :

ظهر ممّا بيّنّا أنّ جميع الألطاف متعلّقة به ، ومردّها إليه ، فيمتنع قيام غيره مقامه ).

أقول : هذا ظاهر على ما بيّن ، وأنت قد عرفت أنّ وجود المرشدين والتوعّدات للفاعلين قد تعلّقا بغير السمعي فلا يستقيم بناؤه عليه ؛ لعدم الأساس فيه.

والأسدّ أن يقال : لو قام غيره مقامه لما تعيّن لكنّه تعيّن بالإجماع ، ولا دور.

ينتج أن لا يقوم غيره مقامه ، وذلك أنّ تعيينه إن كان له علّة فلا يعقل سوى عدم قيام غيره مقامه ، وإن كان لا لعلّة كان عبثا لا يصدر من الحكيم تعالى.

قال : ( ومن هنا يعلم السرّ في الواجب والمستحبّ المخيّرين ؛ فإنّه لمّا كان المقصود اللطف ، وهو حاصل في كلّ من الخصال بلا مزيّة لإحداهما على الأخرى ، لم يكن لإيجاب الجميع معنى ، ولا لترك إيجاب شيء سبيل ، فتعيّن التكليف على طريق التخيير ) (١).

أقول : ظهر من عدم قيام غير السمعي مقامه تعيينه ، ولسنا نبني عدم قيام غيره أيضا مقامه على تعيينه ليلزم الدور ، بل قد عرفت مبناه ؛ لأنّه لو كان له بدل لكان وجوبه تخييرا لا تعيينا لكنّه ليس تخييرا فلا يكون له بدل ، فإنّ البدل الاختياري يقوم

__________________

(١) وهذا العدم له وجود ذهنا ، لجواز تعليل التعيين به ؛ لكونه ذهنيّا أيضا ( هامش المخطوط ).

١٥٥

مقام المبدل بلا ضرورة ، فلا سبيل إلى تعيين المبدل ، كخصال بعض الكفّارات لمّا قام بعضها مقام بعض لم يجب الجميع ، ولم يسقط الجميع ؛ إذ لو وجب الجميع لزم العبث في الزائد ، ولو سقط الجميع خرج الواجب عن وجوبه.

إن قلت : فعلى هذا ينتفي الترتيب من بعض الكفّارات ، فإنّ كفّارة رمضان خصالها خصال كفّارة الظهار ، مع تخيير الأولى وترتيب الثانية ، فإن دلّت الرمضانيّة على تساوي الخصال الموجب للتخيير ، دلّت الظهاريّة على عدمه الموجب للترتيب ، فيكون الشيء الواحد مساويا لغيره ومخالفا له ، وهو جمع بين المتنافيين.

قلت : التساوي والاختلاف هنا ليسا ذاتيّين حتّى يكون جمعهما جمعا للمتناقضين ، بل من أحكام عارضة مستندة إلى اختيار الموجب ، فجاز أن يختار في أحد الموضعين الترتيب ، لعلمه بأنّه أثقل فيه فيكون أردع عنه ، مع أنّه يجوز أن يكون شيء مساويا لشيء من وجه ومخالفا له من آخر ، كجزء العلم المتعلّق بما تعلّق به العلم على ما قيل في موضعه ؛ فإنّ جزء العلم خالف جملته في الذات وساواها في التعلّق ، وهنا جاز أن يعلم للحكم أنّ الخصلة المتأخّرة في المرتبة لا تقوم في المصلحة مقام المتقدّمة إلاّ مع العجز عنها ، ويعلم في المخيّرة قيامها في المصلحة مقامها ، وإن كانت الأخرى مقدورة ، وليس للحصر اعتراض على التمام كما جرى لموسى عليه‌السلام مع الخضر عليه‌السلام حيث قبح في معرفته ما حسن للآخر في حكمته (١).

قال : ( [ المذهب ] الثاني : مذهب أبي القاسم الكعبي ، وهو أنّه الشكر لنعم الله سبحانه. ولا نعني به انحصار طريق الشكر فيه ، بل على معنى أنّه نوع من الشكر ، بل أشرف أنواعه ؛ فإنّ الشكر يطلق على الاعتقاد المتعلّق بأنّ جميع النعم من الله سبحانه كلّيّاتها وجزئيّاتها ).

أقول : هذا هو المذهب الثاني من الأربعة ، وهو أنّ الوجه في التكليف السمعي هو الشكر لنعم الله ، ومحالّ الشكر ثلاثة : الاعتراف الجناني ، والنطق اللساني ، والعمل

__________________

(١) الكهف (١٨) : ٦٤ ـ ٨٢.

١٥٦

الأركاني ، فلهذا لم ينحصر الشكر في السمعي.

وقوله : بل أشرف أنواعه فيه شكّ ؛ فإنّ الاعتراف بالنعم يلزمه اعتقاد وجود المنعم وحصوله على صفات الكمال ونعوت الجلال ، ومنها العدل المستلزم لنصب الرؤساء ووضع التكليف المؤدّي إلى أحسن الجزاء ، وذلك هو الإيمان الموجب لسكنى الجنان ، وعمل الجوارح موجب لارتفاع الدرجات.

ولمّا كان دخول الجنّة أصل النعم كان الموصل إليه ـ وهو الاعتراف ـ أحقّ بالشرف الجسيم ؛ فإنّ الأشرفيّة هنا ليست لذاتيهما ، بل لما هو مسبّب عنهما فكلّما كان الموصل إليه أجلّ وأعلى كان الموصل بالشرف أحجى وأولى.

وكلّيّات النعم : أنواعها وأجناسها ، وجزئيّاتها : أصنافها وأشخاصها ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (١) ، فلا تقنطوا من رحمة الله ولا تقصوها.

قال : ( ويلزمه أمور ثلاثة : [ اللازم ] الأوّل : شغل النفس بالفكر في عظمته ، والتصوّر لجلائل نعمته ، والعزم والانبعاث الدائم إلى طاعته ، وابتغاء مرضاته ، وصيانة السرّ عن الاشتغال بتصوّر غيره فضلا عن التصديق به ، إلاّ من جهة أنّه منسوب إليه وفائض عنه ).

أقول : يلزم الشكر ـ وهو الاعتقاد القلبي لنعم الله ـ ثلاثة أشياء : هي شغل النفس بالفكر في عظمته ، وشغل اللسان بتنزيهه عمّا لا يليق به ، واستخدام القوى فيما أمر به ؛ فإنّه من لازم الاعتقاد المذكور ، ونظر في جمال ذاته المطلق ، وغنائه المطلق ، وعظم نعمه التي لا يقدر العادّون قدرها ، وعزم على طاعته متى حضرت ، وانبعث على فعلها إذ حصلت ، وابتغى بذلك رضاه ، وصان نفسه عن اشتغالها بتصوّر ما سواه فضلا عن التصديق بما سواه ، أي للحكم ببعض ما سواه على بعض. نعم ، يستثنى من ذلك أنّ ما سواه منسوب إليه بالعبوديّة ، وفائض عنه بالمخلوقيّة ، فإنّه يعلم أنّه إذا نظر إلى غيره

__________________

(١) إبراهيم (١٤) : ٣٤.

١٥٧

من هذين الوجهين لم يكن منصرفا عن النظر إليه تعالى ، بل ذلك من جملة العلم بربوبيّته وكمال إلهيّته.

ولهذا قال : ( وهنالك يستوعب جلال الله سبحانه الفكر بحيث يصير مقصورا عليه ليس إلاّ ، ويصير همّ العاقل شيئا واحدا ، وغايته ذلك الشيء ، فينظر فيه ، وبه ، ومنه ، وإليه ، وعليه ، ويحذف غيره من درجة الاعتبار حتّى الجنّة والنار ).

أقول : وهنالك يعني عند شغل النفس بالأمور المذكورة.

يستوعب جلال الله سبحانه الفكر ، بحيث يصير الفكر مقصورا على الجلال.

ويصير همّ العاقل شيئا واحدا ، على معنى أنّه يرجع عن تفصيل تصوّراتها إلى الجلال الموجب لها ، حتّى يكون الجلال هو الغاية المستحضرة والنهاية المعتبرة ، ولم يبق له همّ ولا همّة سواه ، ولم يوجّه فكره إلاّ إلى ذكراه ، فينظر فيه ليقف على مراتبه ؛ ليصل بذلك إلى أعلى مطالبه.

وليكن النظر في عظمته وجلاله سببا إلى التصديق بزيادة كماله.

وينظر بالجلال ، على معنى أنّه يجعله آلة في تحصيله إليه من حيث الإجمال والتحصيل ، لا من حيث التفصيل.

وينظر منه ، أي يجعل مبدأ نظره من الجلال على معنى الانتقال من المطالب إلى المبادئ معتقدا أنّما يظفر به صائر منه وفائض عنه.

وينظر إلى الجلال ، بمعنى ترجيع النظر كرّتين بعد تحصيل المنظور فيه ؛ ليرسخ في القوّة العاقلة.

وينظر عليه ، بمعنى معتمدا في نظره في الجلال عليه متبرّئا من الحول والقوّة إلاّ إليه.

ويحذف غيره من درجات اعتباره حتّى رجاء جنّته وخوف ناره ، اللذين هما سبيل العبد والأجير ، بل لا يوجّه ذلك إلاّ إلى العليّ الكبير سبحانه وتعالى عمّا يشركون.

١٥٨

قال : ( ومن هنا قال العالم الربّاني القدسي عليّ وارث النبيّ عليهما أفضل الصلاة والسلام : ما عبدتك طمعا في ثوابك ، ولا خوفا من عقابك ، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ) (١).

أقول : إنّما سمّى أمير المؤمنين عليه‌السلام العالم الربّاني ؛ لأنّ أنهار الفضائل في الدنيا من بحور فضائله ، ورياض التوحيد والعدل من بساتين خطبه ورسائله ، وقد جمع ما تفرّق فيها وتشعّب منها في كلمتين وجيزتين فقال : « التوحيد ألاّ تتوهّمه ، والعدل ألاّ تتّهمه » (٢). ومن تتبّع كلامه في نهج البلاغة عثر منه على أصول الدراية الدينيّة ، وعبر عن الأقوال في الغواية الجاهليّة.

وقد اشتهر تمدّح الإمام عليّ بميراثه لعلوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألف باب من العلم انفتح لي من كلّ باب ألف باب » (٣). وقد صرّح في كلامه بأنّ عبادته خالصة لوجهه لا يشوبها الطلب لثواب ، ولا الهرب من عقاب.

قال : ( قال الله تعالى : ( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) (٤) ، وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) (٥) ، وروى هارون بن خارجة عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ لطلب الثواب فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة ) (٦).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ١٤ / ٤.

(٢) نهج البلاغة : ٧٥٥ ، الحكمة ٤٧٠.

(٣) أمالي الصدوق : ٥٠٩ ، المجلس ٩٢ ، ح ٦.

(٤) النور (٢٤) : ٣٧.

(٥) المنافقون (٦٣) : ٩.

(٦) الكافي ٢ : ٨٤ / ٥ ، باب العبادة.

١٥٩

أقول : الآيتان فيهما حثّ على الذكر ، وترغيب عن المال والأهل.

واعلم أنّ الذكر يستعمل في معان :

منها : الذكر القلبي ، وهو استحضار جلال الله وعظمته في قلب عبده ، وهو المراد هنا.

ومنها : إذا عرض له طاعة ذكر الله ففعلها له ، وإذا عرض له معصية ذكر الله فتركها له.

ومنها : الذكر اللساني ، وهو ترطيبه بالتحميد والثناء والتمجيد والدعاء.

ومنها : القرآن : ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ ) (١).

ومنها : الرسول : ( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً ) (٢).

ومنها : أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ) (٣).

ومعنى الحديث ظاهر ، غير أنّ القسم الثاني وهو عبادة الأجير يفهم منه ثبوت واسطة ليس عبدا ولا حرّا ، والحقّ نفيها ، بل الأجير كالعبد من وجهين :

الأوّل : أنّ رقّ الطمع أذلّ من رقّ العبوديّة لكنّه مجاز.

الثاني : أنّ الأجير مملوكة منافعه كالعبد.

إن قلت : فعلى هذا يكون ذكر العبد كافيا عنه.

قلت : لفظ العبد إنّما ينصرف عند الإطلاق إلى المملوك نفسه ، فهو حقيقة فيه ، وعبوديّة الأجير مجاز كما عرفت.

أو نقول : هو محذوف المضاف وتقديره [ عبادة ] العبيد كعبادة الأجراء ، وهذا هو الأظهر.

ولا شكّ أنّ عبادة الأحرار أفضل العبادة ؛ لعدم شائبيّة الإخلاص ، فهي من مراتب الخواصّ ، وقد سلف مزيد كلام في هذا الفصل أمام الفصل الثالث بغير فصل.

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٢.

(٢) الطلاق (٦٥) : ١٠ ـ ١١.

(٣) الفرقان (٢٥) : ٢٩.

١٦٠