أربع رسائل كلاميّة

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

أربع رسائل كلاميّة

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-964-X
الصفحات: ٣٢٨

[ الفصل الثاني

في متعلّق التكليف ]

قال : ( الفصل الثاني في متعلّقه ، وهو المسئول عنه بـ « كيف » باعتبار « ما » ).

أقول : « اللام » في متعلّقه مكسورة ، أي ما يتعلّق بالتكليف ، وهو المسئول عنه بلفظة « كيف » أي ، كيف التكليف؟

واعلم أنّ الكيفيّة لغة : هي الصفة والحال التي عليها الشيء. واصطلاحا : هيئة قارّة في محلّ لا يوجب اعتبارها نسبة إلى أمر خارج عنه. وأنواع الكيف أربعة مذكورة في المطوّلات.

والمراد بكيفيّة التكليف التي هي صفته ، التي يقع عليها من الوجوب والتحريم ومقابلهما.

وفي كون الإباحة تكليفا خلاف ينشأ من أنّ المباح هو المأمور بفعله وتركه على سبيل التخيير ، أو الذي خلا عنه الأمر والنهي ، فعلى الأوّل هو من الأحكام الشرعيّة ، وعلى الثاني لا. وتتفرّع أفعال البهائم ، فتوصف بالإباحة على الثاني دون الأوّل.

واعلم أنّ المصنّف لم يبحث عن المفهومات الخمسة أنفسها مجرّدة عن اعتبار معروضاتها ، بل جعل البحث في الصفة التي هي أحد الخمسة باعتبار الموصوف الذي

١٢١

هو نفس التكليف. وهذا هو معنى قوله : المسئول عنه بـ « كيف » باعتبار « ما » ، ولهذا لمّا قسّم ذكر الواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح.

وعنى بالندب المندوب ، وهو مصدر أقيم مقام الفعل مثل : ( هذا خَلْقُ اللهِ ) (١) أي مخلوقه. ولم يفرد بالذكر الصفة التي هي الوجوب والتحريم وغيرهما ، فذكر المفروضات مقصود بالقصد الثاني ، ولهذا قال في متعلّقه : باعتبار « ما » ولم يقل : فيما التكليف ، باعتبار متعلّقه ، فافهم ذلك.

قال : ( فهو إمّا أن يستقلّ العقل بدركه ، أو لا. والأوّل : العقلي ، فإمّا أن يكون بلا وسط وهو الضروري ، أو بوسط وهو النظري. والثاني : هو السمعي. ثمّ إمّا أن يكون التكليف بمجرّد الاعتقاد علما أو ظنّا ، أو به وبالعمل. وكلّ واحد منهما إمّا فعل يستحقّ بتركه الذمّ ، وهو الواجب ، أو لا يستحقّ ، فإمّا أن يستحقّ بفعله المدح وهو الندب ، أو لا ، وهو المباح. أو ترك يستحقّ بفعله الذمّ ، وهو الحرام ، أو لا يستحقّ ، فإن استحقّ بتركه المدح فهو المكروه ، أو لا ، وهو المباح ).

أقول : هذا حصر متعلّق التكليف في الأقسام المذكورة.

واعلم أنّ أقسام الاعتقاد المجرّد عن العمل خمسة ، وهي الأوّليّة الآتي ذكرها على الظاهر.

وأمّا أقسام الاعتقاد المنضمّ إلى العمل فخمسة وعشرون حاصلة من ضرب أقسام الفعل الخمسة في الاعتقادات الخمسة ، فإنّ الواجب مثلا تارة يكون سببه علما عقليّا ضروريّا ، وتارة عقليّا نظريّا ، وتارة سمعيّا ضروريّا ، وتارة سمعيّا نظريّا ، وتارة ظنّا ، وكذا سائرها ، وسنتلوها عليك مفصّلة إن شاء الله.

__________________

(١) لقمان (٣١) : ١١.

١٢٢

إذا عرفت هذا ففي دخول القسم الأوّل ـ وهو مجرّد الاعتقاد العقلي الضروري في التكليف ـ منع ؛ فإنّ العلوم الضروريّة من فعل الله فينا على وجه لا يمكننا دفعه عنّا بشكّ ولا شبهة ، وما هذا شأنه يمتنع التكليف به ، والباقي من الكلام ليس فيه سوى رسوم تلك الأحكام.

قال : ( فلنذكر هنا أقسامها الأوّليّة : فالأوّل : العلم العقلي الضروري بكلّ من الأحكام الخمسة. فبالواجب : كالصدق والإنصاف ، وشكر النعمة ، والعلم بوجوب ردّ الوديعة ، وقضاء الدين ، ودفع الخوف ، والعزم على الواجب. والعملي منه فعل مقتضى ذلك كلّه ).

أقول : يمكن أن يراد بأقسامها الأوّليّة الخمسة المذكورة التي أشرنا إليها أوّلا ، وستسمع ذلك واضحا قريبا إن شاء الله.

ويمكن أن يراد بالأقسام الأوليّة كلّ فرد فرد ممّا أدرجه في الخمسة المذكورة ، من الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة.

وقوله : فالأوّل العلم العقليّ الضروريّ بكلّ من الأحكام الخمسة ، يعضد الاحتمال الأوّل.

وقوله : فبالواجب ، كالصدق ، يريد بالصدق هنا الصدق النافع ، فإنّه ضروريّ الوجوب ، بخلاف الصدق الضارّ.

والعلم بالانصاف إن تعلّق بضروري كشكر النعمة ودفع الخوف وشبههما فضروري ، وإن تعلّق بنظريّ فنظريّ. والعلم بوجوب العزم على الواجب إنّما يجب العلم بوقوع وجوبه وحضور وقته وتضييقه.

أمّا قبل ذلك فلا يجب العزم فيه على الأقوى خلافا للسيّد المرتضى رضي‌الله‌عنه في الموسّع ، وقد حقّق في الأصول (١).

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٥٨.

١٢٣

[ قوله : ] والعملي منه فعل مقتضى ذلك كلّه ، يعني به العملي من العقلي الضروري ، فالمقتضى ـ بالفتح ـ وهو فعل الصدق وفعل الانصاف وفعل الشكر ، وأخواتها ؛ لأنّ العلم بوجوبها اقتضى فعلها.

تنبيه :

الاقتضاء : صفة مفعولة لازمة لما أضيفت إليه لا فاعل لها ، كصفات القديم الذاتيّة ، فإنّ ذاته المقدّسة ليست مؤثّرة فيها ولا غيرها ، وكذا إمكان الممكن ، وزوجيّة الاثنين إلى غير ذلك ، ممّا يجري هذا المجرى. وهنا العلم بوجوب تلك المعدودات لزمه الإتيان.

قال : ( وبالندب ، كالعلم بابتداء الإحسان ، وحسن الخلق ، والصمت ، والاستماع ، واللين ، والأناة ، والحلم ، والرفق ، والعفّة ، والنصيحة ، وحسن الجوار ، والصحبة ، والمبالغة في صلة الرحم ، وصدق الودّ ، والصبر ، والرضى ، واليأس عن الناس ، وتعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل ، والإغاثة ، والإرشاد حيث يمكن بدونه ، وإجابة الشفاعة ، وقبول المعذرة ، والمنافسة في الفضائل ، ومصاحبة الأفاضل ، ومجانبة السفهاء ، والإعراض عن الجهّال ، والتواضع للأخيار ، والتكبّر على الأشرار إذا كان طريقا إلى الحسبة ، والفكر في العاقبة ، وتجنّب المريب ، والمكافأة على المعروف ، والعفو عن المظلمة ، وشرف النفس ، وعلوّ الهمّة ، واحتمال الأذى ، ومداراة الناس ، والأمر بالحسن والترغيب فيه ، والنهي عن المكروه ، والفحص عن الأمور ، وغير ذلك. والعملي فعل مقتضاها ).

أقول : هذا هو الحكم الثاني من الأحكام المندرجة في القسم الأوّل من الأقسام الخمسة ، وهو العلم العقليّ الضروري ، فالعلم بالابتداء بالإحسان ندب قضت به

١٢٤

ضرورة العقل ، وكذا سائر ما ذكر. بقي أن نشير إلى معاني هذه الكلمات بما بلغ فهمنا إليه ـ وإن كانت أو بعضها في غنى عن ذلك ـ زيادة في الإيضاح. ولنقيّد فيها ما لا يمكن إجراؤه على عمومه منها.

فابتداء الإحسان : كلّ أمر نفع أو دفع سوء رجا عليه عوضا من المسدى إليه ، كالقرض ، أو كالهبة المجرّدة عنه.

وحسن الخلق : ملازمة ما يكمّله نفسا ، كالتحلية بالضمائر القدسيّة ، وبدنا ، كاستعمال المندوب من الشرائع الصحيحة ، والآداب العقليّة المتعلّقة بالبدن ، فإنّ الخلق ملكة نفسانيّة ، تصدر الأفعال عنها بسهولة من غير رويّة.

والصمت : الكفّ عن الكلام في مواضع كراهته ، كهذره وخوف عثراته إذا لم يبلغ به ضررا.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من كثر كلامه كثر خطؤه » (١).

والاستماع : يراد به هنا الإصغاء ، وهو الميل القلبي الواصل إليه سببه بالإدراك الأدنى ، وذلك في الأمور المندوب إلى فعلها ندبا لا يبلغ إلى وجوبها.

واللين : ضدّ الصعوبة ، وهو لبعض الأشخاص ، وفي بعض الأحوال ، ويكون في الأفعال والأقوال.

والأناة : الصبر في الأمور التي لا تحمد العجلة فيها.

والحلم : عدم إعمال الغضب في النفس مع القدرة على الانتقام ، وإلاّ فهو نوع ذلّ واهتضام.

والرفق : قريب من اللين ، وهو حسن الانقياد لما يؤدّي الجميل.

والعفّة : الانزجار عمّا يوافق اللذّة من المحرّمات والمكروهات ، والانجذاب إلى ما يوافقها أيضا من الواجبات والمندوبات ، ويقابل الطرف الأوّل اللذة ، والثاني الجمود ، وهما مذمومان.

__________________

(١) نهج البلاغة : ٧٢٧ ، الحكمة ٣٤٩.

١٢٥

وللعفّة شعب : منها : الصبر ، والحياء ، والورع ، والسخاء ، والدعة ، والوقار ، والنزاهة ، وحسن السمت ، والانتظام ، والقناعة.

وأمّا حسن الجوار والصحبة : فهما بكفّ الأذى واحتمال الأذى ، والذكر الجميل ، والبرّ ولو بالقليل ، والمبالغة في صلة الأرحام ولو بإرسال السلام وبالنفس والإهداء والثناء الجميل والدعاء ، كلّ ذلك فيما زاد على القدر الواجب.

وصدق الودّ : بموافقة القلب واللسان.

والصبر : أمّا في باب الشجاعة فقوّته على الآلام والأهوال.

وفي باب العفّة حبس النفس عن متابعة الهوى.

والرضى : طيب النفس فيما يصيبه ويفوته مع عدم التغيّر ، وهما هنا فيما لا يلزم فعله.

واليأس عن الناس : بترك الطمع فإنّ رقّه أذلّ من رقّ العبوديّة.

وتعليم الجاهل وتنبيه الغافل : وهما أيضا ممّا تكمل النفس به علما وعملا فيما دون الواجب.

والإغاثة : إغاثة الملهوف بدفع المخوف.

والإرشاد : يدخل في تعليم الجاهل.

وإجابة الشفاعة : موافقة مطلوب الشافع ، ويقرب منه قبول المعذرة. ويمكن الفرق بين الشفاعة والمعذرة بأنّ في الشفاعة نوع التزام بالذنب ، وفي المعذرة نوع حيلة لدفع الذنب.

والمنافسة في الفاضل : وهي طلب النفيس منها بالترقّي في مراتبها.

ومصاحبة الأفاضل : تثمر حصول الفضائل.

ومجانبة السفهاء والإعراض عن الجهّال : متلازمان أو متقاربان. والسفه :

الخفّة ، من قولهم : خطام سفيه.

والتواضع للأخيار : وهو استعظام ذوي الفضائل ومن دونه في الجاه والمال اعتقادا وقولا وفعلا.

١٢٦

والتكبّر على الأشرار إذا كان طريقا إلى الحسبة. فالتكبّر : مقابل التواضع ، وهو استحقار الصغار والكبار من الأشرار ، والحسبة هنا ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وسمّيت حسبة ؛ لأنّها تفعل احتسابا لله وتقرّبا إليه.

والتواضع والتكبّر هنا متعلّقان بالمندوب والمكروه ؛ إذ لو تعلّقا بالواجب والحرام لزم عدّهما في الواجب ؛ لأنّ وسيلة الشيء تكتسي صفته.

والنظر في العاقبة : وهي ما يعقب الشيء ويلزمه من حسن أو قبيح ، وهو يوجب التحرّز.

وتجنّب المريب : فإنّ ملاقاة بسرقة مثلا ، أو زنى أو غيبة توجب الريبة.

لا تصحب النطف المريب

فقربه إحدى الريب

واعلم بأنّ ذنوبه

تعدي كما يعدي الجرب

والمكافأة على المعروف : معروف.

والعفو عن المظلمة : يدخل في قبول الشفاعة والمعذرة ، إلاّ أنّه هنا قد يكون ابتداء بغير توسّط ذينك.

وشرف النفس : ارتفاعها عن الرذائل.

وعلوّ الهمّة : التوطين على عدم الرضى لنفسه بدون الغاية.

واحتمال الأذى : الصبر عليه مع القدرة على زواله ، إذا لم يؤدّ ذلك إلى الهوان.

ومداراة الناس : التلطّف بهم قولا وفعلا ، ومنه انقيادهم له ، وكفّ أذاهم عنه ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١).

والأمر بالحسن والترغيب فيه ، والنهي عن المكروه ، وهذان فيما لم يبلغ الواجب كما عرفت.

والفحص عن الأمور : هو التفتيش ، وفائدته معرفة ما يتمّ به معاشه ومعاده ، وهو قريب من الفكر في العاقبة.

والعمليّ فعل مقتضاها : يعني إدخال تلك الأمور في الوجود الخارجي.

__________________

(١) آل عمران (٣) : ١٥٩.

١٢٧

تنبيه :

العلم بجميع ما ذكر عقليّ ضروريّ على ما وضع.

واعلم أنّ في بعضها خلافا ، فإنّ العفو عن المظلمة ، قيل : جائز ، وقيل : ممنوع.

والأمر والنهي ، قيل : طريقهما العقل (١) ، وقيل : السمع (٢). وعلى كلّ تقدير فالعلم بذلك نظري عقلي أو سمعي لا ضروري.

قال : ( وبالحرام : كالعلم بقبح الكذب والظلم ، والتصرّف في ملك الغير بغير إذنه والإغراء بالقبيح ، والإخلال بالواجب ، وتكليف المحال ، وإرادة القبيح والعبث. والعملي مباشرة مقتضاها ).

أقول : هذا هو الحكم الثالث من الأحكام الخمسة المندرجة في القسم الأوّل من الأقسام ، وهو العلم العقلي الضروري.

فقبح الكذب : إشارة إلى الكذب الضارّ ، كما سلف في حسن الصدق.

وقبح الظلم : ظاهر.

والتصرّف في ملك الغير بغير إذنه : يعني بالمالك هنا ما عدا الواجب. أمّا الربّ تعالى ، فيجوز التصرّف في ملكه ما لم ينهه عنه ؛ لأنّه قد تقرّر في الأصول إباحته قبل ورود الشرع على الأقوى.

والإغراء بالقبيح : هو جذب الغير إليه وترغيبه فيه.

والإخلال بالواجب ، وتكليف المحال : وهذا عند العدليّة.

وإرادة القبيح : وهي صرف العزم الجازم إلى فعله منه أو من غيره.

والعبث : فعل لا غرض فيه. فالعلم بتحريم هذه الأشياء ضروري عقلي.

إن قلت : فإرادة القبيح غير مؤاخذ بها ، فلا تكون حراما ، فلا يكون العلم بتحريمها

__________________

(١) نسبه الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر : ٥٨ إلى الشيخ الطوسي رحمه‌الله.

(٢) كالسيّد المرتضى في جمل العلم والعمل : ٤٢.

١٢٨

علما ؛ لعدم المطابقة فضلا عن كونه ضروريّا.

قلت : غير المؤاخذ به منها ، إنّما هو ما يخطر بالنفس من الوساوس والهواجس المتعلّقة بالمعاصي ، أمّا إذا صمّم العزم على القبيح ، وعقد القلب عليه ، مع إمكان التحفّظ منه ، فلا نسلّم أنّه غير مؤاخذ به ، بل عليه جزاء لصيرورته حينئذ من أفعال القلوب ، كما اختاره صاحب مجمع البيان فيه عند تفسير ( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) (١) الآية.

وأقول : يعضد ذلك قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (٢) أي يسأل عمّا يفعل بهذه الجوارح من الاستماع والإبصار لما لا يحلّ ، والإرادة لما يقبح.

هكذا ذكره الشيخ رحمه‌الله في تبيانه (٣) ، على أنّ عدم المؤاخذة لا يدلّ على عدم التحريم ؛ لجواز العفو عندنا ، كما هو ظاهر الحديث : « إنّ الله تجاوز لهذه الأمّة عن نسيانها وما حدّثت به أنفسها » (٤).

قال : ( وبالمكروه ـ وهو ما قابل الندب ـ كالبخل ، وسوء الخلق ، والهذر.

وعمليّه فعله. والمباح من الفعل والترك ما لا رجحان فيه البتّة ).

أقول : هذان تمام الأحكام الخمسة المندرجة في القسم الأوّل الذي هو الضروري العقلي ، وليس فيه موضع بحث على ما ترى.

قال : ( الثاني : العقلي النظري ).

أقول : هذا هو القسم الثاني من الأقسام الخمسة الأوّل ، فقال فيه :

( كالعلم بحدوث العالم ، ووجود الصانع ، وإثبات صفات كماله

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٤٠١ ذيل الآية ٢٨٤ من البقرة (٢).

(٢) الإسراء (١٧) : ٣٦.

(٣) التبيان ٦ : ٤٧٧ ذيل الآية ٣٦ من سورة الإسراء (١٧).

(٤) التبيان ٢ : ٣٨٢.

١٢٩

وعدله ، ونبوّة الأنبياء ، وإمامة الأوصياء. وعمليّه فعل مقتضى النظري ).

فنقول : دليل حدوث العالم تغيّره ، ووجود الصانع حدوثه ، وإثبات صفات كماله : وجوبه ، وعدله : غناؤه ، ونصب الأنبياء والأوصياء : عدله. ونعني بحدوث العالم الذي هو نظري ما لم نشاهد حدوثه وتجدّده ؛ لأنّ في أجزاء العالم ما علم حدوثه ضرورة.

وعمليّة فعل مقتضى النظري : يعني أنّ النظر اقتضى كون هذه المذكورات بهذه الحال ، فإذا اعتقدها كذلك فقد عمل بمقتضى النظر. والعمل هنا قلبي لا غير.

إذا عرفت هذا ، فالمصنّف ذكر في هذا القسم من الأحكام الخمسة الواجب ، ولم يذكر قسيميه من الندب والحرام والكراهة والإباحة ، كما استوفى تقاسيم الأحكام في الماضي والغابر من الأقسام.

فبالمندوب : كالعلم بالآداب العقليّة المؤدّية إلى تثقيف النفس.

وبالحرام : كالعلم بتعليم السحر والميسر.

وبالمكروه : ما يقابل المندوب ، كالتخلّق بالأخلاق المذمومة ذمّا لا ينتهي إلى التحريم ، كالحمق والرذالة والحسد والبطالة.

والعمليّ فعل مقتضى ذلك.

وبالمباح : كالكون في أحد المكانين المتساويين ، والصلاة فيه ، ونحو ذلك. وعمليّة فعله.

قال : ( الثالث : العلم السمعي الضروري ، كالعلم بضروريات الدين ، كوجوب الطهارة والصلاة ، وندب إتيان المساجد ، وحرمة الزنى والسكر ، وكراهية استقبال القمرين عند الحاجة ، وإباحة تزويج الأربع ).

أقول : هذا هو القسم الثالث من الأقسام الخمسة السالفة إلاّ أنّ في ضروريّة كراهة استقبال القمرين نظرا.

ولم يذكر المصنّف عمليّ هذا القسم. والظاهر أنّه أدرجه في تاليه ، وهو النظريّ من السمعي ؛ لكونهما فرعي أرومة واحدة.

١٣٠

قال : ( الرابع : النظري منه ، كالعلم بوجوب قراءة الحمد في الصلاة ، وتسبيح الركوع ، وندب القنوت ، وحرمة الأرنب وذي الناب ، وكراهية الحمر الأهليّة. والعملي مباشرة ذلك ).

أقول : هذا هو القسم الرابع من الأقسام الخمسة وهو النظريّ من السمعي ، فدليل العمل بوجوب القراءة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (١) وتسبيح الركوع « ضعوها في ركوعكم » (٢). وندب القنوت : ( وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) (٣) على ما قيل (٤) ، أو فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وحرمة الأرنب (٥) وذي الناب (٦) وكراهة الحمر ، الروايات (٧).

وقد وردت روايات في فحواها تحريم الخيل والبغال والحمير (٨) ، عورضت بأصرح منها وأشهر (٩) ، مع أصل الإباحة ، وعموم : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ ) (١٠) الآية. ولم يذكر المصنّف رحمه‌الله الإباحة في هذا الباب ، وأظنّه لظهوره ، أو من سهو الكتّاب ، وهو كثير ، كالعلم بإباحة المعاملات ، وأكل الحيوانات ، وغير ذلك من المباحات.

قال : ( الخامس : الظنّي ، كظنّ القبلة ، وطهارة الثوب ، وعدد الركعات. والعملي فعل مقتضاه ).

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٩٥ / ٣٩٤ ؛ صحيح البخاري ١ : ٢٦٣ / ٧٢٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٧٣ / ٨٣٧ ؛ مسند أحمد ٣ : ١٦٣ / ٩٢٤٥ ؛ نصب الراية ١ : ٣٦٧.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ / ٩٣٢ ؛ التهذيب ٢ : ٣١٣ / ١٢٧٣.

(٣) البقرة (٢) : ٢٣٨.

(٤) التذكرة ٣ : ٢٥٥ ذيل المسألة ٣٠٧.

(٥) الوسائل ٢٤ : ١٠٦ / ٧ و ١٠٩ / ١١ و ١١٠ / ١٤ باب ٢ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(٦) الوسائل ٢٤ : ١١٣ ـ ١١٧ باب ٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(٧) الوسائل ٢٤ : ١١٧ ـ ١٢١ باب ٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(٨) الوسائل ٢٤ : ١١٨ / ٣ و ١٢٠ / ٩ باب ٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، و ١٢١ / ١ و ١٢٢ / ٥ و ١٢٤ / ٧ باب ٥ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(٩) الوسائل ٢٤ : ١١٧ ـ ١٢٤ باب ٤ و ٥ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(١٠) الأنعام (٦) : ١٤٥.

١٣١

أقول : إنّ اعتقاد جهة القبلة يكفي فيه الظنّ ، فيكون الظنّ نفس اعتقاد الاكتفاء في العمل بالظنّ ، وكذا طهارة الثوب وعدد الركعات ؛ للزوم تكليفه ما لا يطاق في من لا يتمكّن من مشاهدة الكعبة ، أو ما يقوم مقامها. والبناء على الأصل في الثاني ، والحرج في الثالث. واعلم أنّ جميع المسائل المستنبطة من الأدلّة داخل في هذا القسم.

وقد أطلق العلماء على اعتقادها العلم ، وإن كان طريقه الظنّ ؛ لعدم المنافاة بين ظنّيّة الطريق وعلميّة الحكم كما قرّر في الأصول (١).

والحكم هنا هو اعتقاد الاكتفاء في هذه الأشياء بالظنّ ، وقد عرفت أنّ الاعتقاد المذكور علم مجزوم به ، والظنّ الواقع في طريقه لا يخرجه إلى الظنّ ، فكيف يطلق المصنّف عليه الظنّ؟! نعم يجوز حمل كلامه على المجاز تسمية للمسبّب باسم سببه. هذا مع أنّ الطريق إلى الاكتفاء بظنّ القبلة علميّ ، وهو امتناع تكليف ما لا يطاق ، فكيف يكون اعتقاد الاكتفاء بالظنّ في العمل ظنّيّا؟!.

وليس لأحد أن يقول : المراد بالظنّ العمل به ؛ لأنّ ذلك مذكور في قوله : والعمليّ فعل مقتضاه ، فاعرف ذلك ، فإنّه موضع اشتباه.

ولم يذكر المصنّف في هذا سوى ظنّ الوجوب.

واعلم أنّ ظنّ الندب كما في عدد ركعات النافلة ، وظنّ الحرمة كما في ظنّ الضرر بنوع من المأكول ، وظنّ الكراهة كظنّ كراهة المالك حقّ المارّة ، وظنّ الإباحة كما في الصحاري ونحوها لشاهد حالها بإباحة مالكها. فهذه الخمسة والعشرون الموعود بذكرها ، ولله النعمة وبه العصمة.

قال : ( تنبيه : كلّ هذه الأمور يجب اعتقادها على ما هي عليه إجمالا ، وعلى من كلّف بها تفصيلا. ويمكن خلوّ المكلّف من أكثرها إلاّ دفع الخوف الحاصل من ترك معرفة المكلّف سبحانه ، وما يتعلّق باعتقاد التروك وتركها ).

أقول : هذه الأمور أعني أقسام الاعتقادات الخمسة ، وأقسام الأحكام الخمسة

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٢٤.

١٣٢

المندرجة في كلّ واحد منها ، يجب ربط القلب بها على وجوهها المذكورة إجمالا ، وكلّ من كلّف بشيء منها يجب عليه معرفته تفصيلا ، بحيث يميّزه عن مشاركيه في جنس أو نوع ؛ لامتناع إيقاعه منه بدون ذلك.

وعلّة وجوب اعتقادها ؛ كونها حقّا ، وكلّ حقّ يجب اعتقاده.

والمراد بإمكان الخلوّ الجواز العقلي أو السمعي لا الإمكان المتساوي الطرفين ؛ لأنّ باعتباره يمكن الخلوّ من الجميع.

إذا جاوزت هذا ، فاعلم أنّ في جواز الخلوّ من الأكثر المذكور دليلا على عدمه من الأقلّ ، فالمذكور في الاستثناء إن كان من الأكثر لزم المناقضة ، وإن كان من الأقلّ لزم التكرار.

نعم يجوز أن يكون المصنّف عدل عن المفهوم إلى المنطوق ، ويكون إفراد المذكورات بالذكر من باب ترجيح الخاصّ على العام مثل : ( فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) (١).

واعلم أيضا أنّ اعتقاد التروك يجوز الخلوّ منه ، ولم يكن بذلك آثما ، نعم لا يستحقّ مع الخلوّ منه على تركها ثوابا ، أمّا تركها الذي هو من باب العمل المجازي لا يصحّ الخلوّ منه.

قال : ( واعلم أنّ العلماء شرطوا في استحقاق المدح والثواب بها إيقاعها لوجوبها مثلا ، أو وجه وجوبها ، وهما متلازمان ، وتركها لحرمتها مثلا أو وجه حرمتها ، وهما أيضا متلازمان ، فلنذكر الوجه في ذلك ).

أقول : وجه الاشتراط الموضوع المعقول والمسموع.

أمّا الأوّل : فلأنّ من قال لغيره : افعل لي كذا لأجزيك به ، فإنّه يعلم ضرورة أنّه إذا فعله لغيره لم يجب الجزاء عليه منه ، فالآتي بالمأمور به مع الغفلة عن الوجوب أو وجهه ، أو مع إرادة الضدّ كالرياء والسمعة لا يستحقّ من الله ثوابا ، ولا من المخلوقين مدحا ، وكذا لو شاب التقرّب بغيره من المنافيات ؛ لعدم تحقّق معنى الإخلاص ؛ ولقوله

__________________

(١) الرحمن (٥٥) : ٦٨.

١٣٣

تعالى : ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (١) ، ولما جاء في الحديث القدسي : « أنا خير شريك ما خولطت في شيء إلاّ تركته لشريكي » (٢).

وأمّا الثاني : فلما ذكرناه ، ولقوله : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٣). ومن السنّة « إنّما لكلّ امرئ ما نوى » (٤).

والمثل المذكور في الموضعين يشير به إلى المندوب والمكروه.

وقوله : لوجوبها أي لنفس الوجوب يوقعها من غير اعتبار ما وجبت له ، أو وجه وجوبها يوقعها للعلّة الغائيّة فيها ، وهي الوجه ، وسيأتي ذكره مفصّلا.

واعلم أنّ إتيان المصنّف هنا بـ « أو » تحتمل الترديد ؛ للشكّ فيه منه ، وتحتمل التخيير ؛ لأجل التلازم الذي ذكر ، فقصد أيّهما كان يلزمه الآخر. ووجه التلازم أنّ الوجه علّة في الوجوب ، فإن أوقعها للوجوب لزمته علّته التي هي الوجه ، وإن أوقعها للوجه لزمه معلوله الذي هو الوجوب ؛ لما عرف من التلازم بين المعلول وعلّته.

لكن يبقى الكلام في أيّهما يقصد بالقصد الأوّل ، لجواز الجهل بالتلازم الذهني المسبّب عن التلازم الخارجيّ ، أو الغفلة عنه حال الفعل ، فعلى هذا يتعيّن عليه قصد ما يستحضره منهما حال الغفلة عن التلازم المذكور ، ولكن الأشيع في الناس معرفة الوجه ، فقصده كاف على الأقوى. [ و ] في عجز الفصل الثالث من المصنّف ما يعضد ذلك.

ويمكن عدم الوجوب العيني على أحدهما ؛ لأنّه نوع حرج وعسر ، ولأنّ اللازم تابع ، فهو في نفس الأمر واقع.

ويحتمل الجمع بينهما على تقدير أن يكون « أو » بمعنى الواو العاطفة مثل ( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) (٥) ولا شكّ أنّه أكمل ، فيضمّ إلى الوجوب أحد الوجوه الأربعة

__________________

(١) الكهف (١٨) : ١١٠.

(٢) فقه الرضا : ٣٨١ ، باب التفكّر.

(٣) البيّنة (٩٨) : ٥.

(٤) صحيح البخاري ١ : ٣ / ١ ؛ صحيح مسلم ١ : ١٥١٥ ـ ١٥١٦ / ١٩٠٧ ؛ السنن الكبرى ٧ : ٣٤١.

(٥) الإنسان (٧٦) : ٢٤.

١٣٤

الآتي ذكرها ، إمّا تخييرا ؛ لتعارض الأدلّة ، أو تعيينا ؛ لاجتهاد أو تقليد. وأولى منه ضمّ المجموع إلى الوجوب ؛ ليدخل في الجملة المطلوب.

نعم لو انفرد بقصد وجه منها عاريا عن الوجوب أمكن عدم الإجزاء ؛ لجواز كون ذلك الوجه ليس بغاية في نفس الأمر ، فلا يلزمه الوجوب ؛ لعدم العليّة بينهما ، فيكون قد خرج عنهما ، ولا يتوجّه هذا المحذور في الانفراد بقصد الوجوب للملازمة المذكورة ، وهذا يؤيّد الاكتفاء به كما سلف منّا اختياره ، بل نذكر ما هو أبلغ من ذلك فنقول : ربّما كان ضمّ الوجه إلى الوجوب مخلاّ بالإجزاء ؛ لكونه مخلاّ بالإخلاص الذي هو شرط الإجزاء. وبيان ذلك : أنّ الوجه هو الغاية التي لأجلها كان ذلك الحكم كما ذكره رحمه‌الله فيما يأتي.

وذكر في الفصل التالي لهذا ـ بلا فصل ـ الغايات الأربع. ومنها : المدح والثواب والخلاص من العقاب على ما ذكر. وقد قطع العلماء بكون العبادة فاسدة بقصدها ، نعم قد قال رحمه‌الله في ذكراه : « وقد ظنّ قوم أنّ قصد الثواب يخرج عنه ـ يعني الإخلاص ـ وليس بذاك. ولا نسلّم أنّ قصد الثواب يخرج عن ابتغاء الله بالعمل ؛ لأنّ الثواب لمّا كان من عند الله فمبتغيه مبتغ وجه الله » (١).

ولقائل أن يقول : الانفراد بقصد الوجوب يخرج عن الاختلاف والنزاع إلى الائتلاف والإجماع ، وذلك كاف في الترجيح.

__________________

(١) الذكرى ٢ : ١٠٤.

١٣٥
١٣٦

[ الفصل الثالث

في غاية التكليف ]

قال : ( الفصل الثالث : في غايته الحاصلة بالامتثال ، وهي المسئول عنها ب ( لم ) وهي أربع :).

أقول : غاية الشيء هي أحد علله الجاذبة إلى فعله ، فهي علّة لعليّة الفاعل ، فإذا فعل حصلت له الغاية المقصودة أوّلا ، ومن ثمّ قال الحكماء : أوّل الفكر آخر العمل.

وهي التي يسأل عنها بلفظة « لم » المكسورة اللام ، فإنّ هذه اللفظة تطلب بها العلّة.

قال : ( وهي أربع : ) يعني الغايات.

[ قال ] : ( الأولى : التقرّب إلى الله سبحانه والزلفى لديه ـ ومعناه موافقة إرادة الله تعالى ، وفعل ما يرضيه تعالى عن المكلّف ـ قرب الشرف ، لا الزمان والمكان ).

أقول : التقرّب والزلفى من المترادف ، يقال : أزلفه إذا قرّبه ، ومنه ( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) (١) أي ساعات متقاربة من الليل ، ومعناه التقرّب إلى

__________________

(١) هود (١١) : ١١٤.

١٣٧

رضاه قرب الشرف لا قرب الشرف ؛ لامتناع المكان والزمان عليه تعالى ؛ لاستلزامهما حدوث المصاحب لهما.

وقوله : وفعل ما يرضيه عن المكلّف فيه نظر ؛ فإنّ الكلام في وجه الفعل ـ الذي هو أحد الغايات المذكورة ـ لا في نفس الفعل ، فكان الأتمّ أن يقال : التقرّب إليه بفعل ما يرضيه ؛ ليكون معناه أنّه يوقع الفعل على الوجه المأمور به.

نعم يمكن الاعتذار له ، بأنّه لم يقصد بالفعل الواقع بمباشرة الجوارح ، بل جمع همّته والتوجّه إلى رضاه ، فيكون الفعل المذكور من أفعال القلوب ، إلاّ أنّ الفعل لا يطلق عليها حقيقة.

قال : ( الثانية : المدح من العقلاء ، والثواب من الله تعالى ، والخلاص من العقاب وهاتان غايتا حسنه ).

أقول : يعني بهاتين : التقرّب والمدح إلى آخره.

أمّا حصول التقرّب في الأولى ، ونيل الثواب والمدح في الثانية ، فكونهما غاية حسنه أمر ظاهر.

وأمّا الخلاص من العقاب ، ففي كونه غاية حسنه منع ؛ إذ بتقدير عدم التكليف لا يتوجّه على الإنسان عقاب حتى يتوجّه خلوصه منه بالتكليف ، فيكون ذلك غاية حسن التكليف ، وإلاّ لعوقب الطفل والمجنون والبهائم وغيرها.

نعم على تقدير عدمه لا يتوجّه تقرّب ولا مدح ولا ثواب ، فإنّه لو لا التكليف لعدمت عنه تلك الغايات.

ولا يقال : لو لا التكليف لعدم عنه الخلاص من العقاب ؛ للزوم الظلم حينئذ ، مع أنّ المباح من التكليف على القول بأنّه تكليف ليس القرب ولا المدح غاية حسنه ، فإنّه لا يعقل التقرّب والمدح بما لا رجحان فيه. وسيأتي فيه مزيد كلام إن شاء الله تعالى.

قال : ( الثالثة : القرب من الطاعة والبعد من المعصية العقليين ، وهو المعبّر عنه باللطف. وهذه الغاية حاصلة بامتثال السمعيّات لا العقليّات ).

١٣٨

أقول : القرب من الطاعة العقليّة والبعد من المعصية هما القرب إلى الله سبحانه ، فتندرج هذه في الغايات الأولى ، لكن اعتبر في القرب إلى الله واسطة هي القرب من طاعته ، وأسقطها هناك ، وهذا القرب هو المعبّر عنه باللطف ؛ لأنّهم أطلقوه على كلّ ما قرّب من طاعة أو بعّد من معصية.

قوله : وهذه الغاية : يعني القرب من العقليّات. حاصلة بامتثال السمعيّات :

يعني بفعل السمعيّات.

وقوله : لا العقليّات : يعني أنّ الواجبات العقليّة ليست غاية في نفسها ؛ لأنّ الشيء موقوف على غايته التي هي الغرض في الأمر به ، فلو كان شيئا غاية لنفسه لتوقّف على نفسه ، وهو محال.

وأقول : يمكن أن يكون العقليّ غاية في عقليّ آخر ؛ فإنّ العقل قد يقتضي بشيء يقرب إلى عقلي آخر ، كما أنّ السمعيّ كذلك ، فإنّه يقضي بالقدرة والعلم لله سبحانه ، ولزمهما الوجود والحياة ، فقد قربا إلى ذلك واستلزماه ، وهذا النوع كثير.

قال : ( الرابعة : الفوز بتعظيم المكلّف سبحانه ، والثناء عليه ، والاعتراف بنعمه ، وهو المعبّر عنه بالشكر. وهاتان الغايتان تصلحان لما عدا المباح ).

أقول : معنى الفوز قد عرفته في صدر الكتاب.

والتعظيم هنا إشارة إلى كبر الباري سبحانه في نفس عبده ، والخضوع له في تصرّفاته وأحواله ، والثناء عليه بجميل أفعاله ، والاعتراف له بجزيل نواله.

وهذه الأمور تحصل بملازمة التكليف ، وقد أشار في ذلك إلى محالّه الثلاثة ، فإلى خضوع الأركان بالتعظيم ، وإلى اللسان بالذكر الجسيم ، وإلى القلب بالاعتراف بالنعيم ، وهذه الغاية عبّروا عنها بالشكر. وفيها أيضا نوع رجوع إلى اللطف ؛ فإنّ الامتثال لمّا استلزمها كان لطفا لها.

وقوله : وهاتان الغايتان تصلحان لما عدا المباح. يعني بهما غايتي القرب والفوز ، وهما الثالثة والرابعة ، والمباح لمّا خلا عن الرجحان والمرجوحيّة لم يصلح شيء منهما غاية له.

١٣٩

واعلم أنّه لمّا حصرها بالنفي من كونهما غاية المباح دلّ بمفهومه على صلاحيّة الغاية من السالفين له.

والذي أراه أنّه لا يصلح شيء من الأربع غاية له.

فإنّه لا يعقل كون المباح سبيلا إلى التقرّب ولا إلى المدح والثواب ؛ إذ لا رضى للبارئ تعالى في فعله وتركه ، ولا سخط ولا مدح ولا ثواب في فعله وتركه ولا ما يقابلهما. وما هذا حاله كيف يكون ما ذكر غاية له؟!.

قال : ( ثمّ لمّا كان بعض المعارف العقليّة سببا لدفع الخوف الواجب أمكن أيضا جعله غاية لها. ولمّا كان السمعي إنّما يعلم بالأمر والنهي على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان ترك الواجب مستلزما للمفسدة غالبا ، وترك القبيح مستلزما للمصلحة كذلك ، ظنّ أنّهما وجهان أيضا ).

أقول : يمكن أن يكون دفع الخوف غاية لبعض المعارف العقليّة ، وذلك البعض هو ما يتوقّف عليه الموجب لدخول الجنان.

وترك الواجب المستلزم للمفسدة ، والقبيح المستلزم للمصلحة ، هو المذهب الرابع لبعض المعتزلة. وسيأتي.

وقيّد بـ « الغالب » ليخرج النادر ، فإنّ ترك الواجب قد لا تلزمه مفسدة ، كمن ترك شدّة في قراءته أو طمأنينة في ركوعه ونحو ذلك. وترك القبيح ربّما استلزم مفسدة كالإقرار بالدين المستخفي.

وفي قوله : ظنّ أنّهما وجهان دلالة على عدم حكمه بصواب ذلك ؛ ليكون الظنّ مطابقا فيكون علما ، وعدم حكمه بخطئه ليكون مخالفا فيكون جهلا.

قال : ( وتحقيق القول في ذلك يتوقّف على مقدّمتين : الأولى : أنّ العقل يحكم بحسن أشياء وقبح أشياء كما مرّ ، والعلم بذلك ضروري. والمنازع إن لم يكن مكابرا فقد خفي عليه التصوّر ؛ ولأنّهما لو انتفيا عقلا لانتفيا سمعا ؛

١٤٠