أربع رسائل كلاميّة

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]

أربع رسائل كلاميّة

المؤلف:

محمّد بن جمال الدّين مكّي العاملي الجزيني [ الشهيد الأول ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-964-X
الصفحات: ٣٢٨

[ الفصل الأوّل

في ماهيّة التكليف وتوابعها ]

قال : ( أمّا الأوّل : فالتكليف تفعيل من الكلفة أعني المشقّة ).

أقول : يعني بالأوّل القسم الأوّل من الفصل الأوّل وهو مدلول « ما ».

قال : ( وعرفا : إرادة واجب الطاعة شاقّا ابتداء معلما. وفيه نظر ؛ لأنّ الإرادة سبب التكليف لا عينه ، ولهذا يقال : أراد الله تعالى الطاعة فكلّف بها ؛ ولانتقاضه في عكسه بالتكليف باجتناب المنهيّات فإنّه كراهة لا إرادة ؛ ولأنّه يخرج منه التكليف بالمشتهى طبعا كأكل لحم الهدي ، ونكاح الحليلة ، وما لا مشقّة فيه أصلا ، كتسبيحة وتحميدة ، وأيضا الإعلام إنّما هو شرط في تكليف واقع لا مطلق التكليف ).

أقول : ما ذكر من وجوه حلّ لأحد طرفي النظر ، والطرف الآخر يظهر بما نضعه من الاعتذارات.

قوله : ولانتقاضه في عكسه إلى آخره.

قلت : إذا أرادوا تطريد حدّ تركوه على ترتيبه ، وأدخلوا عليه حرف « كلّ » ، أو غيره من صيغ العموم ، ونظروا فإن وجدوا شيئا خرج من الكلّية ، حكموا بانتقاضه في

١٠١

طرده ، كما لو عرّف الحيوان بالإنسان ، فإنّ الكلّيّة كاذبة ، وإن أرادوا تعكيسه قدّموا مؤخّره وأدخلوا عليه الحرف ـ كما عرفت ـ فإن سلّم انعكس وإلاّ فلا ، كما لو عرّف الإنسان بالحيوان وحده.

وقد ذكر المنطقيّون انعكاس الموجبة الكليّة إلى الموجبة الجزئيّة ، وليس هو المراد هنا ، ومع ذلك فيجوز انعكاسها كنفسها بدليل خارجي ، وأشار إليه في منتهى الوصول (١).

والدليل هنا ـ وهو وجوب إدخال ما من المحدود فيه وإخراج ما ليس منه عنه ـ قائم ، فنسخت كلّية العكس في الحدود اجمع. وما ذكره في نقض عكسه ـ بأنّه كراهة فيه ـ توقّف ، فإنّ الإرادة كافية عنها ، إذ لا طريق إلى إثباتها سوى الافتقار إلى الترجيح ، والإرادة صالحة له ، فإن رجّحت الفعل كانت إرادة الفعل ، وإن رجّحت التّرك كانت إرادة الترك ، فلا أمر معقول سواها ، نعم يسمّى ذلك كراهة اصطلاحا ، وهو غير ضائر هنا.

وما ذكر من المشتهى طبعا ونحوه فذلك صحيح ، غير أنّه يعتذر لهم بأنّهم أجروا النادر مجرى المعدوم.

أو أنّ المراد بالمشقّ (٢) ما كان في جنسه مشقّة ولو في بعض الأحيان أو على بعض الأعيان ، فإنّا نعلم أنّ من التكاليف الشاقّة ما ترتفع المشقّة عنه لذلك ، ولا يخرج من كونه تكليفا شاقّا ؛ لوجود ذلك في جنسه.

نعم ما ذكر من شرط الإعلام لا محيص عنه إلاّ بأنّ الإعلام لا يجب ذكره في تعريف الماهيّة ؛ لخروجه عنها بكونه شرطا لها ، فتركه غير مخلّ بشيء منها ، ولو وجب الشروط في التعاريف نقص هذا التعريف ؛ لعدم اشتماله على باقي شروط التكليف.

وما ذكر من اشتراط الواقع من التكليف دون غيره بالإعلام. فلقائل أن يمنع من تسميته قبل الوقوع تكليفا إلاّ على سبيل المجاز ؛ تسمية للشيء بما يؤول إليه مثل

__________________

(١) مخطوطة ولم توجد لدينا.

(٢) كذا في المخطوطة والصواب : بالشاقّ.

١٠٢

( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) (١) لصحّة السلب قبل الوقوع ، وتخصيص الإعلام من بين الشروط بالذكر ، لأنّه جزء من مفهوم حقيقة التكليف ، ولا يبعد ذكره في الشروط وإن كان جزءا ، فإنّ كلاّ من أجزاء الماهيّة مشروط بالآخر اشتراط معيّة.

قال : ( فالأولى أن يقال : التكليف هو بعث عقلي أو سمعي على فعل أو كفّ ابتداء للتعريض بالثواب ).

أقول : البعث : جنس يشمل القول والفعل ، ويشمل الإلزام كما في الواجب والحرام ، وعدمه كبقيّة الأقسام. وفي ذكره للعقلي والسمعي تنبيه على تقسّمه إليهما.

وعلى أنّ العقلي بعث منه سبحانه ولو بواسطة.

وفي قوله : على فعل أو كفّ التفات إلى جانب الكراهة المتعلّق بالترك. والابتداء يخرج بعث النهي ونحوه ، فإنّه لا يسمّى تكليفا.

وفي البعث إشارة إلى مادّة التكليف ، وفي العقلي والسمعي إلى صورته ، والباعث دخل التزاما. وقد يراد بالباعث العقل والسمع ، فيكون الفاعل منطوقا لا مفهوما ، وعلى هذا تكون الصورة في الفعل والكفّ المذكورين ، وفي التعريض بالثواب إلى غايته.

هذا ما اختاره رحمة الله عليه. وأرى فيه نظرا من وجهين :

الأوّل : أنّ الفعل والكفّ قسمي المكلّف به لا قسما من التكليف ؛ بل هما ما تعلّق به التكليف ؛ فإنّ التكليف إنّما هو مجرّد الأمر الوارد من الحكيم تعالى. وتسميته للأفعال تكليفا مجاز من باب تسمية المسبّب باسم السبب ، كما سمّيت أوامر ، على ما حقّق في الأصول ، فذكرها في التعريف لا موجب له.

الثاني : أنّ قوله : للتعريض بالثواب ، عليه نقض في عكسه بالمعرفة.

والنظر الأوّل المعرّف لوجوب النظر ؛ فإنّه لا يقع التقرّب الذي هو مناط الثواب بهذين ؛ لامتناع التقرّب قبلهما.

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٣٠.

١٠٣

قال : ( والكلام إمّا في حسنه ، وهو ظاهر من حدّه ؛ ولأنّ الإنسان مدني بطبعه لا يستقلّ بأمر معاشه ، فلا بدّ من التعاضد بالاجتماع المفضي إلى النزاع ، فلا بدّ من نبيّ مبعوث بقانون كلّي يعد على طاعته بالثواب ، ويوعد على معصيته بالعقاب ؛ ليحمل النوع على تجشّم المشاقّ ، ولزوم الميثاق ، وذلك ممتنع بدون معرفة الصانع وما يثبت له وينفى عنه ، وتعظيمه وإجلاله مؤكّد لذلك ، والطريق إليه التكرار الموجب للتذكار ، بنصب عبادات معهودة في أوقات مخصوصة يذكر فيها الخالق بصفات جلاله وكماله ، والانقياد لسنّته ).

أقول : أمّا قوله : ظاهر من حدّه. في تسمية ما ذكره حدّا نظر ؛ فإنّ الحدّ بالذاتيّات كما قرّر في المنطق ، والفعل والكفّ والتعريض عوارض على ما عرفت ، فيكون رسما ، إلاّ أن يكون ذلك تجوّزا ؛ لاشتراكهما في الحدّ اللغوي الذي هو مطلق المنع.

قوله : ولأنّ الإنسان إلى آخره. شروع في بيان علّة ثانية لحسنه ، وهي ما ذكر الأوائل من طريق وجوب بعث الأنبياء.

أنّ الإنسان مدنيّ بطبعه ، أي خلق لا كغيره من الحيوان لا ضرورة له تلجئه إلى الاجتماع ، وهذا ظاهر في الطير والوحش ، فإنّ إلف النوع بالنوع منها طبيعيّ لا ضروريّ ؛ لعدم احتياجه في تحصيل رزقه وإصلاحه إلى ظهير كما في الإنسان ، فإنّ رزقه وكسوته أمور صناعيّة لو صرف عمره في تحصيل آلات صناعتها نفد قبله ، ولضعف في زمان ذلك لعدم الرزق الموجب لضعف القوى الموجب لعدم التحصيل ، وذلك دور لتوقّف بقاء القوى على الرزق الموقوف عليها ، أمّا مع الاجتماع فالتوقّف يسير لا يخلّ بما ذكرناه.

فإذا عرفت ضرورة الاجتماع ـ ولا شكّ أنّه مجبول على الشهوة والغضب ـ فكلّ من أشخاصه يرى ما له حقّا وما لغيره باطلا ، ويحبّ الغبن ويكره الانغبان ، فأفضى

١٠٤

الاجتماع إلى النزاع ، فوقع الهرج الذي هو الفتنة ، والمرج الذي هو الاختلاط في الشرّ.

وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « سيكثر الهرج » قيل : يا رسول الله وما الهرج؟ قال : « القتل » (١).

إذا عرفت هذا فتركهم من قانون يرجعون إليه عند وقوعه مفسدة لا تصدر من الحكيم ، فيجب القانون وهو الشريعة ، وهو أمر كليّ ينطبق على جزئيّات تعرف منه أحكامها ، ويسمّى دستورا أيضا.

ولو فرض نصبه إلى مجموعهم لزم الفساد ؛ لعدم اجتماع قلوبهم ، وإلى بعضهم لزم الترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ من كونه من الجانب القدسي.

ولمّا كانت الإشارة الحسّيّة محالا عليه تعالى ، اقتضت حكمته خلق شخص ذي وجهين : إلهيّ يتلقّى به الوحي من ربّ العاملين ، وإنسانيّ يخاطب به المكلّفين ، وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا بدّ من تمييزه عن بني نوعه بما يوجب قبول قوله ، وهو خرق العادة بمعجز على يده ، مطابق لدعوته ، يمتنع تعلّق قدرة البشر بمثله.

قوله : ليحمل النوع على تجشّم المشاقّ أي تكلّفها ، يقال : تجشّمت الأمر إذا تكلّفته.

ولزوم الميثاق : المداومة عليه ، والميثاق : العهد ، وهو الوصاة بحفظ المأمور وترك المزجور. ونعني به اللزوم الظاهر ، وهو اللساني ؛ فإنّ الاعتقادات القلبيّة لا يمكن الحمل عليها ؛ لظهور النفاق في كثير.

هذا إن فسّر الحمل بالجبر ، كما في الاستسلام حالة الحرب.

وإن فسّر بالحثّ والترغيب ـ ليقع المحمول عليه بالاختيار ـ عمّ الحمل القلب.

والحامل هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموعد بالثواب على الطاعات والعقاب على الخطيئات.

فإن لم يعتقد المكلّف صانعا دائم الثبوت موصوفا بصفات الكمال منفيّا عنه

__________________

(١) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ٧ : ٣١٠.

١٠٥

متعلّقات صفات الجلال لم يحصل تكلّف المشاقّ والدوام على الميثاق.

ثمّ إنّ تعظيم الربّ وإجلاله مؤكّد لذلك اللّزوم ، والطريق إلى التعظيم والإجلال هو التذكار المسبّب عن التكرار الذي هو بنصب عبادات ، فنصب العبادات موجب للتكرار الموجب للتذكار الموجب للزوم الميثاق المشروط بمعرفة الصانع ، وما يثبت له وينفى عنه.

وقوله : يذكر فيها الخالق بصفات جلاله وكماله إشارة إلى الأذكار اللسانيّة والقلبيّة في العبادات الواجبة والندبية.

قوله : والانقياد لسنّته عطف على قوله ليحمل النوع إلى آخره. والمعنى ليحمل النوع على تجشّم المشاقّ ولزوم الميثاق والانقياد لسنّته ، وفي ذلك ميل إلى مذهب اللطف أيضا.

تذنيب

التعظيم : كلّ قول أو فعل أو تركهما يوضّح عن ارتفاع حال الغير مع القصد إليه ، وهو هنا اعتقاد أو قول ونحوهما. إنّ الله لا تحيط العقول بكنه ذاته ولا بحقيقة صفاته.

والإجلال مرادف له ، فإنّ الجليل المرتفع عن مشابهة الممكنات ؛ ومن ثمّ قبح التعظيم أو التبجيل لغير المستحقّ لعدم المطابقة ، وفي معنى هذين مزيد كلام ذكرناه في شرح الأسماء.

قال : ( فيحصل من ذلك غايات ثلاث : الأولى : رياضة القوى النفسانيّة بمنعها عن مقتضى الشهوة والغضب ، وعن الأسباب المثيرة لهما من التخيّل والوهم والإحساس ، والفعل المانع عن توجّه النفس الناطقة إلى جناب القدس ومحلّ الأنس ).

أقول : الرياضة لغة : تمرين البهيمة على الحركات المناسبة وإذا كانت النفس في

١٠٦

ميدانها غير مسخّرة للقوّة العاقلة كانت كالبهيمة قبل روضها ، تقودها الشهوة تارة ، والغضب تارة لأجل إثارة الوهم والتخيّل لهما إلى ملائمهما ، فيختلف تحرّكها لأجل اختلاف دواعيها ، فتكون أمّارة بالسوء.

وأمّا بعد روضها بغلبة القوّة العاقلة العمليّة حتى صارت النفس مؤتمرة بأوامرها منتهية من زواجرها انتظمت حركاتها ، فتكون مطمئنّة.

وإن خرجت القوّة الحيوانيّة عن طاعة القوّة العاقلة في بعض الأحيان ، ثمّ فاءت ولامت نفسها على ذلك ، كانت لوّامة ، وقد أشار في الذكر الحكيم (١) إلى الثلاثة في مواضع.

فرياضة النفس نهيها عن هواها وأمرها بطاعة مولاها ، ( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) (٢).

وجناب القدس ومحلّ الأنس. إشارة إلى الالتفات إلى الحقّ تعالى ، فإنّ من قاد نفسه في تلك الطرائق وصرفها عن تلك العوائق ، طهرت عن الكدورات ، وأنست بمحبوبها في الخلوات.

بقي أن نعرف معنى الخيال والوهم والإحساس والعقل.

فالخيال قوّة مركوزة في التجويف الأوّل من الدماغ ، وفعلها حفظ الصورة المحسوسة بعد غيبتها عن الحسّ ، ويمكن أن يريد به المتخيّلة ، وهي قوّة مركوزة في التجويف الأوسط في الدماغ ، وفعلها التصرّف في ما في الوهم والحافظة ، وقد يستعين العقل بها في المعقولات ؛ لأنّها آلة الوهم الذي هو آلة العقل.

والوهم : قوّة مركوزة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ ، وفعلها إدراك المعاني

__________________

(١) في قوله تعالى : ( وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي ) يوسف (١٢) : ٥٣. وفي قوله تعالى : ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) الفجر (٨٩) : ٢٧. وفي قوله تعالى : ( وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) القيامة : (٧٥) : ٢.

(٢) النازعات (٧٩) : ٤٠ ـ ٤١.

١٠٧

الجزئيّة غير المحسوسة ، كإدراك الحيوان معنى في المفترس يوجب الهرب ، وهي بمنزلة عقل الإنسان.

والإحساس : يمكن أن يريد به مطلقه من المدرك بالحسّ الظاهر كالآلات الخمس ، والباطن كالقوى الخمس ، وأن يريد به الحسّ المشترك خاصّة ، وهو قوّة مركوزة في الجزء الأوّل من التجويف الأوّل من الدماغ ، وفعلها إدراك المحسوسات التي تدركها الحواسّ الظاهرة.

أمّا الفعل : فهو مبدأ التغيير في آخر ، أو إخراج الشيء من الإمكان إلى الوجوب ، أو إيجاد الشيء بعد أن كان مقدورا ـ هكذا قيل ـ وفي الأوسط انقلاب الحقائق ، وفي الأخير التعريف بالمضايق ؛ لتعريفهم القادر بمن صحّ منه الفعل. وفعله منع القوى العقليّة ، فإنّ النفس إذا فعلت المشتهى مرّة بعد أخرى توطّنت عليه ويعسر انجذابها إلى مقابله.

[ فاصرف هواها وحاذر أن تولّيه ]

إنّ الهوى ما تولّى يصم أو يصم (١)

قال : ( الثانية : دوام النظر في الأمور العالية المطهّرة عن العوارض المادّية والكدورات الحسّيّة ، المؤدّية إلى ملاحظة الملكوت ، ومعاينة الجبروت ).

أقول : المراد بالأمور العالية البارئ سبحانه وصفات كماله وجلاله ، وتسمّى صفات كماله صفات جماله وفي الدعاء : « أسألك بجمالك وجلالك » (٢) وهذه موجبة ملاحظة الملكوت.

والملكوت : هو الملك ، بني كذلك للمبالغة. والجبروت : الجبر والكبر. والتاء في الموضعين زائدة.

قال : ( الثالثة : دوام تذكّر إنذار الشارع ، ووعده للمطيع ، ووعيده

__________________

(١) من قصيدة البردة في مدح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للبوصيري. انظر شرح قصيده برده : ٣٧.

(٢) الكافي ٢ : ٥٢٧ / ١٥ باب القول عند الإصباح والإمساء ، و ٥٧٩ / ٦ باب دعوات موجزات لجميع الحوائج للدنيا والآخرة.

١٠٨

للعاصي ، المستلزم لإقامة العدل ونظام النوع مع زيادة الأجر الجزيل والثواب العظيم ).

أقول : الإنذار : هو التخويف ، واستعمال الوعد هنا مجاز ؛ لوقوعه في صحّة الوعيد ، وهو فنّ من البديع ، ومنه ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ) (١) ، ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) (٢).

هذا إن جعلنا الوعد متعلّقا بالإنذار ، وإن جعلناه كلاما معترضا جرى على حقيقته فالإنذار هو بالوعد والوعيد المذكورين ، إلاّ أنّ ذلك تفصيل الإجمال ، وتذكّر ذلك يوجب الاستقامة على الطريق الموجبة لبقاء النوع المطلوب للخالق سبحانه.

وقوله : مع زيادة الأجر العظيم والثواب الجزيل ، متعلّق بـ « يحصل » ، أي يحصل من التكرار الموجب للتذكار بالعبادات تلك الغايات ، ويحصل معها الأجر العظيم والثواب الجزيل ، وهما مترادفان.

واعلم أنّ حصول ما ذكر معلوم في كلّ من لازم الشرعيّات واجتنب المنهيّات ، وأنّ أجلّ العبادات ما كان مشفوعا بالتذكّر المناسب ؛ لأنّ فائدتها تذكّر المعبود الحقّ والمجرّد من الملائكة ، وذلك لا يتهيّأ إلاّ بالفكر ، فوجب كونها مشفوعة به ، وقد يكون لها معينات خارجيّة كالوعظ من التقيّ المعتقد فيه ، والألحان البريئة عن مخالطة الأنذال وملاقاة الأرذال ، وكلّ ذلك ممّا يؤيّد القول باللّطف.

قال : ( وإمّا في وجوبه ، فهو واجب على الله تعالى ، بناء على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، وعلى أنّه تعالى لا يفعل القبيح ، ولا يخلّ بالواجب ؛ لعلمه بقبحه ، وغنائه عنه ؛ لثبوت علمه بجميع المعلومات ، لاستواء نسبة ذاته ، وتساوي الجميع في صحّة المعلوميّة ، واستفادة علمه

__________________

(١) الشورى (٤٢) : ٤٠.

(٢) البقرة (٢) : ١٩٤.

١٠٩

على الجملة من أحكام الأفعال وغنائه من وجوب وجوده مطلقا قطعا ؛ للدور والتسلسل لو كان ممكنا ).

أقول : أمّا وجوبه على الله تعالى ؛ فلأنّه لولاه لزم الإغراء بالقبيح ، حيث خلق العبيد والإماء وجمع بينهم في البسيطة وجعلهم ذوي شهوات ، فلو لم يرسل إليهم ما يمنعهم عن فعل مقتضياتها بل أهملهم كان مغريا لهم بالقبيح ، وهو قبيح لازم عن ترك التكليف ، فيجب فعله في حكمته ، لا أنّ فوقه آمر أوجبه عليه ، كما غالط به من لا تحصيل له. وذلك مبنيّ على تحسين العقل وتقبيحه ، إذ لولاه لجاز الإخلال بالتكليف ، فإذا قيل : هو قبيح ، قال الشارع الذي قبّح الأشياء : إنّي لم أجعل ذلك قبيحا.

أمّا في بيان بطلان شرعيّتهما بعد العلم الضروري بذلك ، فله وجوه : أمتنها لزوم الدور المضمر ؛ لتوقّف صدق الرسول على المعجز الموقوف على قبح إظهاره على كذّاب ، الموقوف ذلك القبح على صدقه ، فيلزم الدور وهو خلف فيثبت نقيضه ، وهو حكم العقل بهما ، وهو المطلوب ، وسيأتي في ذلك مزيد كلام إن شاء الله.

وأمّا أنّه تعالى منزّه عن الفعل والترك للقبيح والواجب فلعلمه بقبحه ؛ لعموم علمه لاستواء نسبة ذاته ونسبة ما عداه في صحّة معلوميّته المستفاد مطلقه من أحكام فعله.

قوله : وغناه ، أي منزّه عن القبيح لعلمه بقبحه ، ولغناه المستفاد من وجوبه ؛ للزوم الدور والتسلسل من إمكانه.

وقوله : مطلقا. يمكن عوده إلى وجوبه ، أي وجوبه مطلقا لا يتّصف بزوال في وقت أو في حال ، ويمكن عوده إلى غنائه يعني في ذاته وصفاته ، والحمل عليهما صالح في الاستخدام.

وقد استخدم المصنّف ـ والله أعلم ـ في قوله أوّلا : غنائه فإنّها تعطف على علمه ، أي لعلمه ولغنائه كما ذكرناه ، وتعطف على قبحه أي لعلمه بقبحه ، وتكون دلالة اللفظ على الغنى التزاميّة.

والموجب لما قلناه أنّ نفي القبيح موقوف على ثلاثة أشياء : العلم بقبحه ، والغنى

١١٠

عنه ، والعلم بالغنى عنه ؛ فإنّ الجاهل بغنائه عن القبيح قد يفعله لاعتقاد حاجته.

قال : ( إذا تمهّد ذلك ، فلو لم يجب التكليف على الله تعالى ، لزم عدم وجوب الزجر عن القبائح بل كان مغريا بها. والتالي باطل ؛ لاستحالة فعل القبيح ، والإخلال بالواجب عليه تعالى ، فكذلك المقدّم ).

أقول : قد سلف منّا ما يغني عن إيضاح ذلك ، فليراجع.

ثمّ قال : ( ولا تمنع الملازمة بعلم المدح والذمّ ؛ لأنّهما مخصوصان بما يستقلّ العقل بدركه ، لا بباقي السمعيّات ، ومع ذلك فكثير من العقلاء لا يعبأ بهما ، ويفعل بمقتضى الشهوة والغضب فيتحقّق الإغراء حينئذ ).

أقول : قوله : ولا تمنع الملازمة بعلم المدح والذمّ ، جواب سؤال مقدّر ، تقريره :

أنّ العلم بالمدح على الحسن ، والذمّ على القبيح كاف في الإقدام على الأوّل ، والإحجام عن الثاني ، فيحصل الزجر بذلك العلم ، فتوسّط الأمر والنهي عار عن الفائدة. والجواب من طريقين :

[ الطريق ] الأوّل : أنّ ما ذكرت من العلم الباعث والزاجر لا يطّرد ، بل هو فيما يستقلّ العقل بدركه خاصّة ، فيبقى القسم الآخر خاليا عن ذلك ، فليكن الأمر والنهي له ؛ لئلاّ يلزم الإغراء فيه.

الطريق الثاني : أنّ كثيرا من العقلاء لا يلتفت إليهما ، ويفعل مقتضى شهوته من غير نظر فيهما ، وإن نظر قدّم قضاء وطره عليهما ، فلو لا التكليف السمعيّ وما يترتّب عليه من المثوبات والعقوبات لعدم الانزجار الموجب للبأس عن كثير من الناس ، فصدّقت الملازمة حينئذ.

واعلم أنّ في هذين الجوابين نظر ؛ من حيث استلزامهما خروج بعض الأشخاص من علّة التكليف السمعي ، وهم المكتفون بالعلم بالمدح والذمّ عن الأمر والنهي ، وكذا يخرج ما يستقلّ العقل بدركه على ما عرفت ، فلا يكون التكليف السمعيّ عامّا إلاّ أن يقال : ما يستقلّ العقل بدركه ، والمكتفون بالمدح والذمّ جاء السمع مؤكّدا له ، مع

١١١

اشتماله على الإعلام بالثواب والعقاب وتفاصيلهما ودوامهما ، وذلك لا يستقلّ العقل بدركه على رأي بعضهم في بعضهم.

قال : ( وأمّا المكلّف فهو الباعث ، إمّا بخلق العقل الدالّ ، أو بنصب النبيّ المخبر. وأمّا المكلّف ، فهو الكامل العقل. وتسمية الصبيّ بالمكلّف مجاز ).

أقول : هذان القسمان المختلفان من الأقسام الثلاثة الداخلة في الفصل الأوّل ، وهي البحث عن ماهيّة التكليف ، ومن الفاعل والقابل. فقوله : والبعث إمّا بخلق العقل الدالّ ، أي الدالّ على القسم العقلي من التكليف ، أو بنصب النبيّ المخبر ، إشارة إلى القسم السمعي الموقوف على النبيّ.

وقوله : وتسمية الصبيّ بالمكلّف مجاز ، جواب سؤال ، هو أن ما ذكرت منقوض في طرده بالصبيّ ؛ فإنّه مكلّف بالعقليّات على وجه الوجوب ، وكثير من السمعيّات على وجه الندب مع عدم كمال عقله.

وأجاب بأنّ إطلاق التكليف عليه مجاز ؛ بدليل صحّة السلب. وصدق التكليف أعمّ من كونه حقيقة أو مجازا.

ونحن نقول : نمنع من كون الصبيّ غير كامل العقل بالنسبة إلى ما كلّف به ، فإنّ العقل مناط التكليف لا يصحّ بدونه ، فتسميته بالنسبة إلى ما كلّف به حقيقة ؛ بدليل امتناع السلب بالنسبة إلى ذلك القدر.

قال : ( وحسنه مشروط بأربعة : الأوّل : ما يتعلّق به ، وهو أمور ثلاثة : أ : الإعلام به ، أو التمكين منه. ب : تقدّمه على الفعل زمانا يمكن المكلّف فيه الاطّلاع عليه. ج : انتفاء المفسدة فيه. ومنه يعلم اشتراط نصب اللطف في كلّ فعل أو ترك لا يقع امتثاله إلاّ به ؛ إذ لولاه لزمت المفسدة المنفيّة ).

أقول : هذه الأمور تتعلّق بالتكليف ، فالإعلام به شرط لئلاّ يلزم تكليف الغافل ، وهو محال عندنا.

وقوله : والتمكين منه يعني التمكين من العلم به ، فالضمير في « منه » يعود إلى

١١٢

العلم ، وإن لم يجر له ذكر ـ مثل ( حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ) (١) يعني الشمس عند جماعة من المفسّرين (٢) ـ لا إلى الإعلام ؛ فإنّ الإعلام من صفات فعله تعالى ، ولا قدرة للعبد عليه حتّى يعود التمكين إليه.

وقوله في الثاني : تقدّمه على الفعل زمانا يمكن المكلّف فيه الاطّلاع عليه. الضمير المستكن في تقدّمه هو التكليف ، ويحتمل أن يريد به تقدّم العلم به ؛ لقرينة الاطّلاع ، وحينئذ تذكّر أحد الأمرين مغن عن الآخر ، ومع ذلك فاشتراط حسنه بالإعلام إنّما هو في تكليف واقع كما ذكر الإمام الأفضل في الأبحاث المفيدة ، وكما ذكر هو فيما سلف ، فيكون التكليف غير الواقع ، أو الواقع قبل وصوله إلى المكلّف ، كما في زمان السفارة خاليا عن الحسن ، وكذا الكلام في انتفاء المفسدة إذا علم الحكيم حصولها زمان السفارة وانتفاءها زمان الوقوع.

ومن اشتراط انتفاء المفسدة يعلم وجوب اللطف في كلّ فعل أو ترك لا يمتثل إلاّ به ؛ لأنّ اللطف إذا كان مصلحة فعدمه مفسدة ، وقد اشترط في التكليف نفي المفسدة عن المكلّف وغيره ، لأنّ المفسدة تقتضي المنع منها ، ومصلحة التكليف تقتضي الأمر به فيجتمع المتقابلان ؛ لكون الفعل الواحد حينئذ مأمورا به من حيث المصلحة ممنوعا منه من حيث المفسدة.

قال : ( الثاني : الراجع إلى المتعلّق ، وهو ثلاثة أيضا : أ : إمكانه ؛ لاستحالة التكليف بالمحال عند العدليّة. ب : حسنه ؛ لاستحالة التكليف بالقبيح. ج : رجحانه بحيث يستحقّ به الثواب كفعل الواجب والندب وترك الحرام والمكروه ).

أقول : هذا الثاني من الأمور الأربعة المشروط بها حسن التكليف ، وهو راجع إلى المتعلّق ـ بنصب اللام ـ وهو التكليف نفسه ؛ لأنّ الأمور المتقدّمة في البحث الأول

__________________

(١) ص (٣٨) : ٣٢.

(٢) مجمع البيان ٨ : ٤٧٥ ذيل الآية ٣٢ من سورة ص (٣٨).

١١٣

تعلّقت بالتكليف ، فالتكليف متعلّق به.

ويحتمل أن يكون بكسر اللام لتعلّق التكليف بالمكلّفين ، لكنّ الأوّل أوجه.

وقوله : حسنه ، ينبئ على أنّ للأفعال وجوها تقع عليها ، لا يجوز الأمر منها بما ليس له وجه الحسن ، كما لا يجوز النهي عمّا له وجهه وبالعكس ، وربّما رجع ذلك إلى تحسين العقل وتقبيحه.

قوله في الثالث : رجحانه ، ليخرج به المباح ، فإنّه حسن لكن لا رجحان في فعله وتركه ، فلا ثواب ولا عقاب ، ولا المعلولان الآخران ؛ لعدم الطاعة والعصيان ، على أنّ ذكر الرجحان كاف عن ذكر الحسن ؛ لامتناع رجحان ما ليس بحسن.

وقوله : بحيث يستحقّ به الثواب ولم يذكر العقاب ؛ لأنّ التكليف من الحرام والمكروه بالهجران وهو مناط الثواب كفعل مقابلهما.

تنبيه :

ترك الحرام والمكروه إنّما يتعلّق به الثواب مع النيّة ، فلو جهل المكلّف تحريم شيء أو كراهته أو علمهما وغفل عن نيّة تركه لم يتعلّق به ثواب ؛ لعموم ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى ) (١) ، « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » (٢).

إذا عرفت هذا فهنا أقسام أربعة :

أ ـ فعل محض الواجب والمندوب ، ويقف على النيّة إجزاؤهما وثوابهما.

ب ـ ترك محض الحرام والمكروه ، ويقف عليها ثوابهما لا إجزاؤهما.

ج ـ ترك يشبه الفعل ، كالصيام والإحرام ، فيلحق بالفعل في توقّفه على النيّة فيهما ؛ لإلحاقهم الشيء بشبهه ، إمّا للنصّ عليه ، أو لاتّحاد طريق المسألتين فيه.

د ـ فعل يشبه [ الترك ] ، كإزالة النجاسة والطيب في موضعهما ، ولا يحتاج هذا إلى

__________________

(١) النجم (٥٣) : ٣٩.

(٢) التهذيب ١ : ٨٣ / ٢١٨ ؛ أمالي الطوسي : ٦١٨ ، المجلس ٢٩ ، ح ١٢٧٤ / ١٠ ؛ صحيح مسلم ١ : ١٥١٥ ـ ١٥١٦ / ١٩٠٧.

١١٤

نيّة لما تلوناه من العلّة.

والضابط أنّ كلّ فعل أو ترك ليس بذي وجهين فالمعتبر في إجزائه مجرّد وقوعه. أمّا ذو الاعتبارين فلا بدّ في إجزائه من تخصيص وقوعه بالوجه المأمور به ، وذلك إنّما هو بالقصد إليه والتعويل عليه ، وهو النيّة المائزة بين الوجه المطلوب للشارع وغيره فلزمت ، وبالله التوفيق.

قال : ( الثالث : العائد إلى المكلّف تعالى وهو أربعة :).

أقول : هذا الثالث من الأربعة المشروط بها حسنه ، وفيه أمور أربعة :

قال : ( أ : العلم بصفة الفعل ؛ لئلاّ يكلّف بغير المتعلّق. ب : العلم بقدر المستحقّ عليه من الثواب ؛ حذرا من النقص. ج : قدرته على إيصاله ؛ ليثق المكلّف بوصوله إليه. د : امتناع القبيح عليه ؛ لئلاّ يخلّ بالواجب ).

أقول : ما مرّ من ذكر رجحانه في القسم الثالث من الشرط الثاني يدخل فيه العلم بصفة الفعل التزاما ، فإنّ تحقّق وقوعه لرجحانه يستلزم العلم بصفته الموجبة لرجحان وقوعه. ولكنّ المصنّف رحمه‌الله ردف المضمر بالمظهر بيانا وإيضاحا. والمتعلّق ـ مفتوح اللام ـ على الأوجه ، وقد سبق ، ويعني بالعلم بصفة الفعل وبقدر المستحقّ علم المكلّف تعالى.

واعلم أنّ القدرة على الإيصال شرط في نفس الأمر ، ولكن لا يحصل وثوق المكلّف بالوصول المذكور بذلك ما لم ينضمّ إلى حصولها في نفسها علم العبد به ؛ إذ الوثوق موقوف عليه لا على الحصول في نفس الأمر فيصير التقدير علم العبد بقدرة التكليف على إيصاله ، وذلك من إيجاز الحذف المشهور. وجوازه في البديع مذكور. وامتناع القبيح مبنيّ هنا أيضا على تقبيح العقل وقد سلف.

قال : ( الرابع : ما يعود إلى المكلّف ، وهو أمران : أ : أن يكون قادرا على الفعل ؛ لامتناع التكليف بالمحال. ب : علمه به ، أو تمكّنه من العلم كما ذكر ).

١١٥

أقول : لا بدّ من كون الفعل مقدورا لمن خوطب به ؛ لما ذكر من العلّة ، ولم يكتف بذكر إمكانه السالف عن هذا ؛ لأنّه لا يلزم من كون الشيء ممكنا ، كونه للعبد مقدورا بخلاف العكس ، فإنّ المقدوريّة ملزومة لإمكانه ، بخلاف العكس ، فوجود الملزوم يستلزم وجود اللازم بخلاف العكس. فظهر من ذلك أنّ ذكر مقدوريّته مغن عن ذكر إمكانه ، بخلاف العكس.

والصواب أنّ ذكر أيّهما كان مغن عن الآخر ؛ لأنّ الإمكان المذكور إنّما هو بالنسبة إلى العبد ، ولهذا علّل باستحالة التكليف بالمحال ؛ لكونه ليس مقدورا ، فظهر تلازمهما ، فلا فائدة في تكرارهما سوى الإيضاح كما ترى.

وقوله : علمه به ، أو تمكّنه من العلم ؛ لما ذكر يعني به لامتناع التكليف بالمحال.

وليس المراد من قوله : لما ذكر ، ما ذكره في أوّل الشروط الأربعة من قوله : الإعلام به ، أو التمكين منه ؛ فإنّه ليس في ذلك دليل على صحّة هذا حتّى يعلّله به ، بل ذلك مجرّد دعوى ، وهو أمر مضاف إلى المكلّف تعالى وهذا مضاف إلى العبد ، ولهذا أتى بالباء الزائدة الدالّة على التعدية هناك ، وحذفها هنا ، وإنّما لم يقتصر على العلم ؛ لأنّ الجاهل بالله متمكّن من العلم به ، مع أنّه مكلّف به.

قال : ( ولا يشترط إسلامه ؛ لعموم علّة الحسن. والفساد من سوء اختيار الكافر ).

أقول : يتلخّص الكلام هنا في بحث ذي ثلاث شعب :

[ الشعبة ] الأولى : لا يشترط إسلام المكلّف ؛ لعموم علّة الحسن ، وهي التعريض للثواب الذي لا يحسن الابتداء به على ما قرّره الأصحاب ؛ ولعموم ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (١) ونحوها ممّا يطول به الكتاب. ومنع من تكليف الكفّار بالفروع النعمان (٢) ، وهو محجوج بالمعقول (٣) والقرآن.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢١.

(٢) هو أبو حنيفة. راجع بدائع الصنائع ٢ : ٤ و ١٢٠ ؛ الفتاوى الهنديّة ١ : ١٧١ و ٢١٦.

(٣) راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٥٣ و ٢٥٤.

١١٦

الشعبة الثانية : لا يشترط إسلامه ـ يعني المكلّف ـ مطلقا بالمعقولات أو المنقولات ، فإنّ اشتراط إسلامه يستلزم الدور في أحد القسمين ، فإنّه لا يصحّ على ذلك تكليفه مطلقا إلاّ إذا كان مسلما لكن إسلامه من جملة تكليفه ، ولا يصحّ إسلامه إلاّ إذا كان مسلما.

الشعبة الثالثة : جواب سؤال ورد ، وهو أنّ التكيف مشروط بعدم المفسدة ، وتكليف الكافر مفسدة ؛ لاستلزامه للعذاب الأليم بالخلود في طبقات الجحيم ، فينتظم هنا قياس من الشكل الأوّل ، هو تكليف الكافر مفسدة ، ولا شيء من المفسدة يصدر من الحكيم تعالى ، فلا شيء من تكليف الكافر يصدر من الحكيم تعالى.

والجواب : أنّ المفسدة قسمان :

مفسدة تنشأ من نفس التكليف وهذه هي المشروط نفيها.

ومفسدة تنشأ من سوء اختيار المكلّف ، وهو عدم قبوله ، وهذه ليست لازمة للتكليف ، وإلاّ لما قبل التكليف أحد ، فاشترك التكليفان في القائدة ، وهي التعريض للثواب ، على ما عرفت.

فظهر من ذلك عقم القياس المذكور ؛ لعدم اتّحاد أوسطه ؛ فإنّ المفسدة المحمولة في الأولى غير الموضوعة في الثانية فاعلم ذلك.

قال : ( ووجوبه مشروط بكمال العقل ، وبعلم ما نصبه الشارع من الأمارات ).

أقول : الضمير في وجوبه عائد إلى التكليف بنوعيه ، واشتراطه بكمال العقل ظاهر الصواب ؛ لقبح تكليف ما لا يفهم الخطاب ، وهذا يلتفت إلى تحسين العقل وتقبيحه وإلى قدرة العبد على قبيح الفعل ومليحه.

قوله : وبعلم ما نصبه الشارع من الأمارات.

اعلم أنّ الأمارات الشرعيّة من جملة النوع السمعي ، فإن لم يشترط علم وجوبهما بأمارات أخرى لم تكن القضيّة كلّية ، لخروج بعض السمعيّ من اشتراطه بأمارات سمعيّة ، وهو الأمارات أنفسها ، وإن اشترطت بأمارات أخر دار أو تسلسل ، وإن

١١٧

اشترطت بعلم صدق الرسول المستند إلى كمال المرسل فهو عقليّ. فظهر من ذلك عدم توقّف الشرعيّ عليها ، إلاّ أن يقال : لم يعن المصنّف بالأمارات المنسوبة من الشارع أنّها أوامر شرعيّة ، بل عنى أنّه نصب أمورا في عقل المكلّف دلّت على ذلك ، إمّا نوع إلهام ، أو خطور خاطر ، أو كلام ملك ، أو نحو ذلك. فالعلوم جامعة ، والقدرة واسعة.

قلت : هذا مقبول ، غير أنّه عائد إلى كمال العقل فذكره كاف.

قال : ( ولا يلزم توقّف العقلي على السمع ؛ لأنّه لا يلزم من علمه بالأمارات السمعيّة انحصار علمه ؛ لجواز حصوله بسبب آخر ).

أقول : لمّا شرط المصنّف نوعي التكليف بكمال العقل ونصب الأمارات استشعر لزوم الدور بأنّ العقلي لو شرط بالأمارات الشرعيّة ـ ولا شكّ أنّها مشروطة بالعقلي لأجل مجيء الرسول الثابت من العقل صدقه بها ـ لزم اشتراط كلّ واحد بالآخر وذلك دور ظاهر.

وعلم من هنا أنّه قصد بالأمارات أنّها أوامر شرعيّة ، ولو قصد بها الإلهام وأخويه لم يتوجّه الدور المذكور. فأجاب عن الدور : أنّه لا يلزم من علمه ـ أي علم النوع العقلي بالأمارات السمعيّة ـ انحصار علمه ؛ لجواز حصوله بسبب آخر أي حصول العلم بالعقليّ بشيء آخر غير السمعي. أمّا لو لم يكن إلى العلم بالعقلي سبيل سوى السمعي لزم الدور.

ونحن نقول : لا يلزم من وجود سبيل غيره نفي الدور ؛ لأنّ السمع إن أفاد شيئا في العقل لزم الدور فيه. وإن لم يفد سقطت شرطيّته ، إلاّ أن يقال : العقل دلّ عليه عقل آخر ، وجاء السمع مؤكّدا له.

فنقول : هذا مسلّم ، لكنّ المؤكّد ليس بشرط لحصول المشروط قبله بالسبب العقلي.

قال : ( ولعلّه إدراكه الأوّليّات والضروريّات ، والاقتدار على التصرّف فيهما لاقتناص النظريّات ).

١١٨

أقول : هذا إشارة إلى السبب الآخر. وإنّما عنونه بلعلّ المشعرة بعدم الجزم ؛ لأنّ الأسباب التي ذكرناها آنفا صالحة لذلك أيضا ، ولكن ما ذكر أكثر فعلا وأعمّ نفعا وذلك أنّ العلوم النظريّة بأسرها تنتهي إلى مقدّمات ضروريّة.

وأراد بالأوّليّات ما لا يتوقّف حصوله للعاقل على اعتقاده بحسن باطن أو ظاهر.

وأراد بالضروريّات ما يتوقّف على ذلك ، وهو الخمسة الأخر.

والاقتدار على التصرّف فيها ، يعني الضروريّات والأوّليّات والتّصرّف باستعمال القوّة المفكّرة والمتخيّلة ونحوهما ؛ ليصطاد بذلك العلوم النظرية لاحتياجها إليها وانتهائها بها على ما عرفت.

١١٩
١٢٠