الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

١٢. محمّد بن جابر ، عن عبد الله بن بدر قال : نزل القرآن بالمسح ، فأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغسل فغسلنا. رواه الطبراني في الكبير (١).

وفي سنده محمد بن جابر وهو ضعيف ، كان أعمى واختلط عليه حديثه ، وقال عنه عمرو بن علي : كثير الوهم ، متروك الحديث ، وقال البخاري : ليس بالقوي ، يتكلّمون فيه ، روى مناكير (٢).

١٣. وعن ابن عباس : أنّ أعرابيا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله كيف الوضوء؟ فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوضوء فغسل يده اليمنى ثلاثا ، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ويديه ثلاثا ، ومسح برأسه وظاهر أذنيه مع رأسه ، ثم غسل رجليه ثلاثا ، ثم قال : هكذا الوضوء ، فمن زاد فقد تعدّى وظلم. رواه الطبراني في الكبير (٣).

وفي سنده سويد بن عبد العزيز ، قال عنه البخاري : في بعض حديثه نظر ، وقال أحمد : ضعيف ، متروك ، وقال النسائي : ليس بثقة (٤).

قد عرفت مكانة هذه الروايات من حيث ضعف رواتها وعدم وثاقتهم ، ومع ذلك كلّه فلنا حول هذه الروايات صحيحها وضعيفها تأمّلات :

١. يكفي في عدم صحّة الاحتجاج أنّها مخالفة لكتاب الله سبحانه ، ولا قيمة لرواية مهما صحّ سندها إذا كانت معارضة للكتاب ، ولا يمكن أن يقال أنّها ناسخة له ، لما عرفت أنّ الكتاب لا ينسخ بالرواية خصوصا الآحاد منها ، مضافا

__________________

١. مجمع الزوائد : ١ / ٢٣٤.

٢. تهذيب الكمال : ٢٤ / ٥٦٤ برقم ٥١١٠.

٣. مجمع الزوائد : ١ / ٢٣١ ؛ المعجم الكبير : ١١ / ٦٢ ، الحديث ١١٠٩١ ونقله الأخير بسنده الكامل.

٤. ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٥١ برقم ٣٦٢٣.

٨١

إلى أنّ سورة المائدة هي السورة الأخيرة التي اتّفقت الأمّة على عدم نسخ شيء منها ، فهل يمكن أن ينزل الوحي في أواخر عمر النبي بالمسح ثم ينسخه بالغسل؟!

على أنّ حبر الأمّة وعيبة الكتاب والسنّة : عبد الله بن عباس كان يحتجّ بالكتاب على المسح ، ويقول : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمم وجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين؟!

وكان يقول : الوضوء غسلتان ومسحتان ، ولمّا بلغه أنّ الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصارية تزعم أنّ النبي توضّأ عندها فغسل رجليه ، أتاها يسألها عن ذلك ، وحين حدّثته به قال ـ غير مصدّق بل منكرا ومحتجا ـ إنّ الناس أبو إلاّ الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح.

٢. أنّها لو كانت حقّا لا ربت على التواتر ، لأنّ الحاجة إلى معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة عامّة لرجال الأمّة ونسائها ، أحرارها ومماليكها ، وهي حاجة ماسّة لهم في كلّ يوم وليلة ، فلو كان هناك حكم غير المسح بين الحدّين حيث دلّ عليه الكتاب ، لَعَلِمَهُ المكلّفون في عهد النبوة وبعده ، وكان مسلّما بينهم ، ولتواترت أخباره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل عصر ومصر ، فلا يبقى مجال لإنكاره ولا الريب فيه ، ولمّا لم يكن الأمر كذلك ظهر لنا الوهن المسقط لتلك الأخبار عن درجة الاعتبار.

معالجة روايات الغسل

قد عرفت دلالة القرآن الكريم على المسح وتضافر السنّة عليه ، فيبقى السؤال عن كيفيّة معالجة الروايات الدالة على الغسل ، فنقول هناك علاجان :

٨٢

أ. نسخها بالقرآن

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في فترة من عمره الشريف يغسل رجليه بأمر من الله سبحانه ، ولعلّ الحديث المعروف : « ويل للأعقاب من النار » ورد في تلك الفترة ، ولكن لمّا نزل القرآن الكريم بالمسح نُسِخَت السنّة بالقرآن الكريم.

وقد عرفت أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم ينسخ منها شيء.

ب. إشاعة الغسل بعد نزول القرآن من قبل السلطة

لا شكّ أنّ القرآن دعا للمسح ، ولكن المصلحة لدى الخلفاء والحكام اقتضت إلزام الناس على غسل الأرجل بدل المسح لخبث باطن القدمين ، وبما أنّ قسما كبيرا منهم كانوا حفاة ، فراق في أنفسهم تبديل المسح بالغسل ، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص :

روى ابن جرير عن حميد ، قال : قال موسى بن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة أنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه وذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وإنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فقال أنس : صدق الله وكذب الحجّاج قال الله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّها (١).

وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيد الغسل ، وتؤاخذ من يقول

__________________

١. تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٧ ؛ تفسير الطبري : ٦ / ٨٢.

٨٣

بالمسح ، حتّى إنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلاّ خفية ، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه : اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا اجتمعوا ، قال : هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا : لا ، إلاّ ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضّأ ومضمض واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ، ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثم صلّى (١).

( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ). (٢)

__________________

١. مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٣٤٢ ، المعجم الكبير : ٣ / ٢٨٠ برقم ٣٤١٢.

٢. هود : ١.

٨٤

خاتمة المطاف

الآن حصحص الحق

لقد بانت الحقيقة وظهرت بأجلى مظاهرها وذلك بالأمور التالية :

١. تصريح الكتاب بمسح الأرجل وأنّ غسلها لا يوافق القرآن الكريم.

٢. إنّ لفيفا من أعلام الصحابة وسنامها ـ الذين هم عيبة السنّة وحفظة الآثار ـ كانوا يمسحون وينكرون الغسل أشدّ الإنكار ، وقد وقفت على رواياتهم الكثيرة البالغة حدّ التضافر.

٣. إنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وفيهم : الإمامان الباقر والصادق عليهما‌السلام بيّنوا وضوء رسول الله ، وانّه كان يمسح الأرجل بدل غسلها ، وقد مرت كلماتهم.

٤. إنّ ما دلّ على غسل الأرجل ففيه الصحيح ، والضعيف ، بل الضعاف أكثر من الصحاح ، فعلى الفقيه معالجة تعارض الروايات الدالّة على الغسل ، بعرضها على الكتاب أوّلا وعلى السنّة الدالة على المسح ثانيا.

٥. إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » فالتمسّك بأقوالهم وأحاديثهم امتثال لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يصدر إلاّ عن الحق ، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة ، ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.

٨٥

مضافا إلى أنّ عليا ـ باب علم النبيّ ـ هو المعروف بالقول بالمسح ، ويقول الرازي في الاقتداء بعليّ : « ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهمّ أدر الحق مع علي حيث دار » (١).

٦. إذا كان الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّتها الشرعيّة فلما ذا اختصّت هذه النعمة الكبرى بالأئمّة الأربعة دون سواهم ، وكيف صار السلف أولى بها من الخلف؟!

هذا ونظيره يقتضي لزوم فتح باب الاجتهاد في أعصارنا هذه والإمعان في عطاء الكتاب والسنّة في حكم هذه المسألة ونظائرها ممّا ستمرّ عليك في هذا الكتاب متجردا عن قول الأئمّة الأربعة ونظرائهم.

أنّ الاجتهاد رمز خلود الدين وصلاحيته للظروف والبيئات وليس من البدع المحدثة ، بل كان مفتوحا منذ زمن النبيّ وبعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أغلق لأمور سياسية عام ٦٦٥ ه‍.

قال المقريزي في بدء انحصار المذاهب في أربعة : فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة ٦٦٥ ه‍ حتى لم يبق في مجموع أقطار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها ، وأنكر عليه ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلّدا لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم. (٢)

__________________

١. مفاتيح الغيب : ١ / ١١١.

٢. راجع الخطط المقريزية : ٢ / ٣٣٣ ـ ٣٤٤.

٨٦

إكمال

آية الوضوء وكيفية غسل الأيدي

أنّ آية الوضوء نزلت لتعليم الأمّة كيفية الوضوء والتيمّم ، والمخاطب بها جميع المسلمين عبر القرون إلى يوم القيامة ، ومثلها يجب أن تكون واضحة المعالم مبيّنة المراد ، حتّى ينتفع بها القريب والبعيد والصحابي وغيره.

فالآية جديرة بالبحث من جانبين :

الأوّل : مسألة كيفية غسل اليدين ، وأنّه هل يجب الغسل من أعلى إلى أسفل أو بالعكس؟

الثاني : حكم الأرجل من حيث المسح أو الغسل.

فلنشرع في البحث في الجانب الأوّل.

قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ). (١)

اختلف الفقهاء في كيفية غسل اليدين ، فأئمّة أهل البيت وشيعتهم ، على أنّ الابتداء بالمرفقين إلى أطراف الأصابع وانّ هذه هي السنّة ، وحجتهم على ذلك هو ظاهر الآية المتبادر عند العرف ، فإنّ المتبادر في نظائر هذه التراكيب هو الابتداء من أعلى إلى أسفل ، فمثلا إذا قال الطبيب للمريض : اغسل رجلك بالماء الفاتر إلى الركبة ، يتبع المريض ما هو المتداول في غسل الرجل عند العرف ، وهو الغسل

__________________

١. المائدة : ٦.

٨٧

من أعلى إلى أسفل. أو إذا قال صاحب الدار للصبّاغ ، أصبغ جدران هذه الغرفة إلى السقف ، فيتبع الصبّاغ ما هو المألوف في صبغ الجدران من الأعلى إلى الأسفل ولا يدور بخلده ، أو بخلد المريض من أنّ مالك الدار أو الطبيب استخدم لفظة « إلى » لبيان انتهاء غاية الصبغ والغسل عند السقف والرجل بل لتحديد المقدار اللازم لهما.

وأمّا كيفية الغسل فمتروك إلى ما هو المتّبع والمتداول في العرف ، وهو ـ بلا ريب ـ يتبع الأسهل فالأسهل ، وهو الابتداء من فوق إلى تحت ، وما هذا إلاّ لأنّ المتكلّم بصدد تحديد العضو المغسول ، وهو اليد مع قطع النظر عن كيفية الغسل من حيث الابتداء والانتهاء ، فإذا كان هذا هو المفهوم ، فليكن الأمر كذلك في الآية المذكورة من دون أن نتكلّف بشيء من الوجوه التي يذكرها المفسّرون في تأييد أحد المذهبين.

نعم ، إنّ أساس الاختلاف في الابتداء بالمرفقين إلى أصول الأصابع أو بالعكس عندهم إنّما هو في تعيين متعلّق « إلى » في الآية الكريمة ، فهل هو قيد « للأيدي » أي المغسول ، أو قيد للفعل أعني : « واغسلوا »؟

فعلى الأوّل تكون الآية بمنزلة قولنا : « الأيدي إلى المرافق » يجب غسلها ، وإنّما جاء بالقيد لأنّ اليد مشترك تطلق على أصول الأصابع والزند والمرفق إلى المنكب ، ولما كان المغسول محددا إلى المرافق قيّدت اليد بقوله ( إِلَى الْمَرافِقِ ) ، ليفهم أنّ المغسول هو هذا المقدار المحدد من اليد ولو لا اشتراك اليد بين المراتب المختلفة وانّ المغسول بعض المراتب لما جاءت بلفظة « إلى » فالإتيان بها لأجل تحديد المقدار المغسول من اليد.

٨٨

وعلى الثاني ، أي إذا قلنا بكونه قيدا للأمر بالاغتسال ، فربّما يوحي إلى ضرورة الابتداء من أصول الأصابع إلى المرفقين ، فكأنّه سبحانه قال : « الأيدي » اغسلوها إلى المرافق.

ولكن لا يخفى ما في هذا الإيحاء من غموض ، لما عرفت من أنّ المتّبع في نظائر هذه الأمثلة ما هو المتعارف وهو الابتداء من الأعلى إلى الأسفل.

أضف إلى ذلك : أنّه لو سلمنا أنّ حرف الجر قيد للفعل ، لا نسلم أنّه بمعنى « إلى » الذي هو لانتهاء الغاية ، بل يحتمل أن يكون بمعنى « مع » أي الأيدي اغسلوها مع المرافق ، وليس هذا بعزيز في القرآن والأدب العربي.

يقول سبحانه ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ). (١)

وقال سبحانه ـ حاكيا عن المسيح ـ ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ) (٢) ، أي مع الله.

وقوله سبحانه ( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) (٣) ، أي مع قوتكم.

ويقال في العرف : ولى فلان الكوفة إلى البصرة ، أي مع البصرة ، وليس في هذه الموارد من الغاية أثر.

وقال النابغة الذبياني :

ولا تتركني بالوعيد كأنّني إلى

الناس مطليّ به القار أجرب

أراد مع الناس أو عند الناس.

وقال ذو الرمة :

بها كلّ خوار إلى كل صولة

ورفض المذرعات الترائب

__________________

١. النساء : ٢.

٢. آل عمران : ٥٢.

٣. هود : ٥٢.

٨٩

وقال امرؤ القيس :

له كفل كالدعص لبّده الندى

إلى حارك مثل الغبيط المذأب

أراد مع حارك. (١)

وعلى ضوء ذلك فليست « إلى » لبيان الغاية ، بل لبيان الجزء الواجب من المغسول سواء أكان الغسل من الأعلى أو من الأسفل.

هذا والدليل القاطع على لزوم الابتداء من الأغلى إلى الأسفل هو لزوم اتّباع ما هو المألوف في أمثال المورد كما سلف.

وقد نقل أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنحو التالي :

أخرج الشيخ الطوسي بسنده عن بكير وزرارة بن أعين ، أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بطست أو بتَوْر (٢) فيه ماء ، فغسل كفّيه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها ، واستعان بيده اليسرى بكفّه على غسل وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليسرى في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع لا يردّ الماء إلى المرفقين ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكفّ لا يردّ الماء إلى المرفق كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ولم يجدد ماء. (٣)

( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ

وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ). (٤)

__________________

١. رسائل الشريف المرتضى : الرسالة الموصلية الثالثة : ٢١٣ ـ ٢١٤.

٢. التوْر : إناء صغير.

٣. تهذيب الأحكام : ١ / ٥٩ برقم ١٥٨.

٤. المائدة : ٦.

٩٠

٢

المسح على الخفّين

اختيارا

في الحضر والسفر

٩١
٩٢

٢

المسح على الخفّين

اختيارا

في الحضر والسفر

حكي عن كثير من الصحابة والتابعين جواز المسح على الخفّين ، في الحضر والسفر اختيارا من دون ضرورة تقتضيه ، وانّ المكلّف مخيّر بمباشرة الرجلين بالغَسْل ، والخفّين بالمسح ، مع اتّفاقهم على عدم جواز المسح على الرجلين مكان الغَسْل اختيارا واضطرارا.

غير انّ لفيفا من الصحابة وأئمّة أهل البيت قاطبة ، أنكروا جواز المسح على الخفّين ، أشدّ الإنكار كما ستوافيك كلماتهم وفي مقدّمتهم :

١. الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢. حبر الأمّة عبد الله بن عباس.

٣. أمّ المؤمنين عائشة.

٤. عبد الله بن عمر ، وإن حكي عنه العدول أيضا.

٥. الإمام مالك على إحدى الروايتين ، فقد أنكر جواز المسح على الخفّين في آخر أيّامه.

٩٣

قال الرازي : وأمّا مالك فإحدى الروايتين عنه انّه أنكر جواز المسح على الخفّين ، ولا نزاع انّه كان في علم الحديث كالشمس الطالعة فلو لا انّه عرف فيه ضعفا وإلاّ لما قال ذلك ، والرواية الثانية عن مالك انّه ما أباح المسح على الخفّين للمقيم وأباحه للمسافر مهما شاء من غير تقدير فيه. (١)

وروى النووي في « المجموع » عن مالك ست روايات ، إحداها : لا يجوز المسح ، الثانية : يجوز ولكنّه يكره ، الثالثة : يجوز أبدا وهي الأشهر عنه والأرجح عند أصحابه ، الرابعة : يجوز مؤقتا ، الخامسة : يجوز للمسافر دون الحاضر ، السادسة : عكسه. (٢)

٦. أبو بكر محمد بن داود الظاهري ، وهو ابن داود الذي ينسب إليه المذهب الظاهري. (٣)

هذا هو موقف الصحابة والتابعين وإمام الظاهريّة في المسألة ، والمهم هو دراسة الأدلّة ، فإنّ الإجماع غير محقّق في المسألة وقد عرفت وجود الاختلاف بينهم ، وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نرى من الأجدر أن نشير إلى نكتة مهمة في المقام.

إنّ الاختلاف في الرأي إنّما يكون سائغا إذا كان نتيجة الاجتهاد في فهم الأدلّة ، كاختلاف المصلّين في غَسْل الأرجل ومَسْحِهما ، لأجل الاختلاف في عطف ( أَرْجُلَكُمْ ) في قوله سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ـ حيث اختلفوا ـ في أنّها هل هي معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) فلا بد من مسحهما أو على « الوجوه والأيدي » المذكورتين في الجملة السابقة فلا بد من

__________________

١. التفسير الكبير : ١١ / ١٦٣.

٢ و ٣. المجموع : ١ / ٥٠٠.

٩٤

غسلهما؟ فبذلك صار المسلمون على طائفتين مختلفتين في حكم الأرجل.

وهذا النوع من الاختلاف إنّما يتصوّر فيما إذا كان في المسألة دليل من الكتاب والسنّة قابل للاجتهاد وبالتالي قابل للاختلاف في الاستظهار ، وأمّا إذا لم يكن فيها أيّ دليل لفظي ، غير ادّعاء رؤية عمل النبي وانّه كان يمسح على الخفّين فالاختلاف في مثلها عجيب جدّا ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتوضّأ أمام الناس ، ليله ونهاره وكان الناس يتسابقون بالتبرّك بماء وضوئه ، ومع ذلك صارت الصحابة بعد رحيله على صنفين ، بين مثبت للمسح على الخفّين مطلقا ، وناف كذلك ، ومفصل بين الحضر والسفر ، مع أنّ الطائفة النافية كانوا هم الذين يلازمونه طيلة حياته ، في إقامته وظعنه كعلي وعائشة وكانوا يعدّون شعارا بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا دثارا.

وعلى كلّ تقدير فالمتّبع هو الدليل ، وإليك دراسة أدلّة النافين ، فقد احتجّوا بالكتاب والسنّة واتّفاق أئمّة أهل البيت.

١. الاحتجاج بالكتاب العزيز

قال سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ). (١)

فظاهر الآية فرض مباشرة الأرجل نفسها والمسح على الخفّين ليس مسحا على الأرجل ، والآية ، في سورة المائدة المشتملة على آية الوضوء ، وهي آخر سورة نزلت على النبي كما نصّت عليه أمّ المؤمنين عائشة.

روى الحاكم عن جبير بن نفير ، قال : حججت فدخلت على عائشة وقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت : نعم ، قالت : أما إنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم

__________________

١. المائدة : ٦.

٩٥

فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم من حرام فحرّموه.

ثمّ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه.

ونقل أيضا عن عبد الله بن عمرو ، انّ آخر سورة نزلت ، سورة المائدة. وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وأقرّه الذهبي وصححه. (١)

وعلى هذا فليس لنا العدول عمّا في هذه السورة من الأحكام إلاّ بدليل قطعي يصحّ نسخ الكتاب به إذا قيل بجوازه في الحضر أو السفر اختيارا ولو مدة قصيرة.

قال الرازي : أجمع المفسرون على أنّ هذه السورة ( المائدة ) لا منسوخ فيها البتة إلاّ قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) فإنّ بعضهم قال هذه الآية منسوخة ، وإذا كان كذلك امتنع القول بأنّ وجوب (٢) غسل الرجلين منسوخ.

ثمّ إنّ خبر المسح على الخفّين بتقدير انّه كان متقدّما على نزول الآية ، كان خبر الواحد منسوخا بالقرآن ، ولو كان بالعكس كان خبر الواحد ناسخا للقرآن. (٣) ولا ينسخ القرآن بخبر الواحد مهما بلغ من الصحة.

٢. الاحتجاج بالسنّة

روى البيهقي عن ابن عمر قال : توضّأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة مرّة ثمّ قال : هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلاّ به ، ثمّ توضّأ مرّتين مرّتين ثمّ قال : هذا وضوء من

__________________

١. مستدرك الحاكم : ٢ / ٣١١.

٢. يريد الوجوب التعيّني لمن له خفّ.

٣. تفسير الرازي : ١١ / ١٦٣.

٩٦

يضاعف له الأجر مرتين ، ثمّ توضّأ ثلاثا ثلاثا ثمّ قال : هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي. (١)

ولا شكّ انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باشر الفعل بالرجلين دون الخف ، لأنّه لو أوقع الفعل على الخفّين لم يحصل الإجزاء إلاّ به وذلك منفي اتفاقا ، وعلى ضوء ذلك فمن توضّأ ومسح على الخفّين لا تقبل صلاته حسب تصريح الرسول.

٣. إجماع أئمة أهل البيت عليهم‌السلام

اتّفق أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام على المنع. وقد تضافرت الروايات عنهم ، نذكر منها ما يلي :

١. روى الشيخ الطوسي في « التهذيب » بسند صحيح عن زرارة بن أعين ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : في مسح الخفّين تقية؟ فقال : « ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحدا : شرب المسكر ، ومسح الخفّين ، ومتعة الحجّ ». (٢)

٢. روى الشيخ الطوسي بسنده عن أبي الورد قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه ـ رأى عليا عليه‌السلام ـ أراق الماء ثمّ مسح على الخفّين فقال : « كذب أبو ظبيان ، أما بلغك قول علي عليه‌السلام فيكم سبق الكتاب الخفّين ». فقلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال : « لا ، إلاّ من عدوّ تقية ، أو ثلج تخاف على رجليك ». (٣)

٣. روى الشيخ الطوسي عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : سمعته

__________________

١. السنن الكبرى : ١ / ٨٠ ، باب فضل التكرار في الوضوء ، ورواه ابن ماجة في سننه : ١ / ٤١٩. ولاحظ أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٥١.

٢. التهذيب : ١ / ٣٦٢ ، الحديث ١٠٩٣.

٣. التهذيب : ١ / ٣٦٢ ، الحديث ١٠٩٢.

٩٧

يقول : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيهم عليّ عليه‌السلام ، فقال : ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح الخفّين. فقال علي عليه‌السلام : « قبل المائدة أو بعدها؟ » فقال : لا أدري. فقال علي عليه‌السلام : « سبق الكتاب الخفّين. إنّما أنزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة ». (١)

٤. روى الصدوق بإسناده عن ثابت الثمالي ، عن حبابة الوالبية في حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قالت سمعته يقول : « إنّا أهل بيت لا نمسح على الخفّين ، فمن كان من شيعتنا فليقتد بنا وليستنّ بسنتنا. (٢)

وقال في مكان آخر : ـ ولم يعرف للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خفّ إلاّ خفّ أهداه له النجاشي وكان موضع ظهر القدمين منه مشقوقا ، فمسح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رجليه وعليه خفّاه ، فقال الناس : إنّه مسح على خفّيه ». (٣)

٥. روى الصدوق بإسناده عن الأعمش ، عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : « هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها ، وأراد الله هداه : إسباغ الوضوء كما أمر الله في كتابه الناطق ، غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس والقدمين إلى الكعبين مرّة مرّة ومرّتان جائز ، ولا ينقض الوضوء إلاّ البول والريح والنوم والغائط والجنابة ، ومن مسح على الخفّين فقد خالف الله ورسوله وكتابه ، ووضوؤه لم يتمّ ، وصلاته غير مجزية. ». (٤)

__________________

١. التهذيب : ١ / ٣٦١ ، الحديث ١٠٩١.

٢. الفقيه : ٤ / ٢٩٨ ح ٨٩٨.

٣. الفقيه : ١ / ٤٨ ، الحديث ١٠ من أحاديث حدّ الوضوء. ولاحظ سنن البيهقي : ١ / ٢٨٢ ففيها ما يؤيد مضمون ذلك الحديث.

٤. الوسائل : ١ / ٢٧٩ ، الحديث ١٨ من الباب ١٥ من أبواب الوضوء.

٩٨

٦. ما تضافر عن علي عليه‌السلام أنّه كان يحتج على القائل بالجواز ، بأنّ الكتاب سبق المسح على الخفّين. (١)

ما يدعم القول بالمنع

إنّ هناك وجوها تدعم القول بالمنع نذكرها تباعا :

٧. ما روي عن ابن عباس ( رض ) قال : سلوا هؤلاء الذين يروون المسح هل مسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول المائدة؟ والله ما مسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول المائدة ، ولئن أمْسَحُ على ظهر عنز في الصلاة أحب إليّ من أن أمسح على الخفّين. (٢)

٨. وما روي عن عائشة أنّها قالت : لئن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح على خفّين. (٣)

نعم نقل غير واحد انّ عليا وعائشة رجعا عن القول بالمنع ، إلى القول بالجواز.

غير انّ قولهم بالمنع ثابت عند الجميع ورجوعهم عمّا قالا ، خبر واحد لا يصح الاعتماد عليه في المقام.

على أنّ الإمام عليّا وعائشة كانا مع النبي ليله ونهاره ، فكيف يمكن أن يقال : خفي عليهما كيفية وضوء النبي فأفتيا بالمنع ولمّا تبيّن الحق ، عدلا عن قولهما؟!

٩. انّ الأخذ بالجواز لو كان متأخّرا عن نزول المائدة كان ناسخا للقرآن الكريم ، والقرآن لا ينسخ بخبر الواحد ، وقد اتّفق الأصوليون إلاّ من شذّ على ما

__________________

١. سنن البيهقي : ١ / ٢٧٢ ، عمدة القارئ : ٣ / ٩٧ ، نيل الأوطار : ١ / ٢٢٣.

٢. المبسوط للسرخسي : ١ / ٩٨ ، تفسير الرازي : ١١ / ١٦٣ وفي لفظ الرازي : لأمسح على جلد حمار.

٣. المبسوط : ١ / ٩٨.

٩٩

ذكرنا ، فلا محالة يكون الحديث معارضا للقرآن الكريم وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « إذا روي لكم عني حديث فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فاقبلوه وإلاّ فردّوه ». (١)

١٠. اتّفق فقهاء السنّة على أنّ مسح البشرة لا يغني عن الغسل ، فالقول بأنّ المسح على الخفّين يغني عن غَسْل الرجلين أمر عجيب يخالف العقل الصريح.

١١. الاختلاف الشديد بين الفقهاء في الجواز وعدمه يوجب سقوط الروايات المجوزة والمانعة فلا محيص من الرجوع إلى ظاهر كتاب الله.

١٢. انّ المسح على الخفّين اختيارا مكان الغسل أو المسح لو كان أمرا مشروعا ، لعرفه الصحابة كلّهم ولم يقع بينهم نزاع ولبلغ مبلغ التواتر مع انّا نرى أنّ النزاع كان بينهم على قدم وساق.

كلّ ذلك يدلّ على عدم الجواز ، وعلى فرض ثبوت المسح على الخفّين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمكن الجمع بينه وبين الآية الكريمة بالوجهين التاليين :

أ. أن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح على الخفّين في فترة خاصة قبل نزول آية الوضوء في سورة المائدة ، والكتاب نسخ ما أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا يمكن الجمع بين جواز المسح على الخفّين ، ولزوم مباشرة الرجلين ، وما روي عن علي عليه‌السلام متضافرا بأنّه سبق الكتاب الخفّين يشير إلى ذلك ، وأنّ المسح على الخفّين كان رخصة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترة من الزمان ، غير أنّ الكتاب نسخ هذه الرخصة.

ب. انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح على خفّ أهداه له النجاشي وكان موضع ظهر

__________________

١. التفسير الكبير : ١١ / ١٦٣.

١٠٠