الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحجّ وأن يكون من أهل الآفاق ، وقدم مكة ففرغ منها ثمّ أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحجّ منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع ، وذلك ما استيسر من الهدي يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيّام ، وسبعة إذا رجع إلى بلده ، وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين واختلف في صيام أيّام التشريق.

فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة ، ورابطها ثمانية شروط :

الأوّل : أن يجمع بين الحجّ والعمرة.

الثاني : في سفر واحد.

الثالث : في عام واحد.

الرابع : في أشهر الحجّ.

الخامس : تقديم العمرة.

السادس : لا يمزجها ، بل يكون إحرام الحجّ بعد الفراغ من العمرة.

السابع : أن تكون العمرة والحجّ عن شخص واحد.

الثامن : أن يكون من غير أهل مكة.

وتأمّل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها. (١)

وهذا هو الذي منع عنه بعد رحيل الرسول ، لا غير.

ونهى عنه عمر بن الخطاب وتبعه عثمان ومعاوية ومن بعدهم.

__________________

١. الجامع لأحكام القرآن : ٢ / ٣٩١.

٤٦١

السابع :

التبريرات المختلقة للحظر المفروض

لمّا كان النهي عن متعة الحجّ ، يضاد صريح الكتاب ، وعمل النبي وسنّته ، وعمل أكابر أصحابه ، حاول غير واحد تأويل النهي ، بوجوه نذكر منها وجهين :

١. فسخ الحجّ إلى العمرة

ربما يقال : انّ المنهي ، هو فسخ الحجّ إلى العمرة التي يأتي بعدها فمن أحرم للحجّ ، فله أن يأتي بأعماله ثمّ ينشئ إحراما آخر للعمرة ، فليس له أن يعدل عن حجّ القران إلى حجّ التمتع ، وهذا هو الذي ينقله بدر الدين العيني الحنفي عن بعضهم ، وإليك نصّه : قال عياض وغيره جازمين بأنّ المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحجّ إلى العمرة ، لا العمرة التي يحجّ بعدها.

ولمّا كان التأويل بمكان من الوهن ـ حيث تدفعه النصوص السابقة عن جابر وابن عباس وعمران بن حصين وسعد بن أبي وقاص ، كما تدفعه نصوص العلماء على أنّ المنهي عنه هو الجمع بين العمرة والحجّ ـ ردّ عليه بدر الدين الحنفي وقال : قلت : يرد عليهم ما جاء في رواية مسلم في بعض طرقه التصريح بكونه متعة الحجّ ، وفي رواية له انّ رسول الله أعمر بعض أهله في العشر ، وفي رواية : جمع بين حج وعمرة ، ومراده التمتع المذكور وهو الجمع بينهما في عام

٤٦٢

واحد. (١)

قلت : ويخالف هذا التأويل ، كلمات المحرّم :

الف : أنّي أخشى أن يعرّسوا بهن في الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجاجا.

ب : انّي لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجاجا.

ج. كرهت أن يكونوا معرسين بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحج تقطر رءوسهم.

د : انّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم.

فان هذه الكلمات صريحة في أنّ النهي عن الجمع بين العمرة والحج ، بل ليس للوافد إلاّ الحجّ ، ثمّ الإتيان بالعمرة في العام المقبل ، لاستكراهه التعرس بالنساء بين العملين أو ليفيض الزائر في عامة الشهور إلى مكة المكرمة.

٢. اختصاص التمتّع بالصحابة

إنّ في الفقه الإسلامي بابا باسم خصائص النبي والأمور أو الأحكام المختصة به ، وقد ذكرها العلامة الحلّي برمّتها في كتاب « تذكرة الفقهاء » أوائل كتاب النكاح ولم تسمع إذن الدنيا ، خصائص الصحابة وانّ لهم خصائص كخصائص النبي مع أنّ حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأوّلين كحكمه على الآخرين ، وحلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

لكن لما كان تحريم التمتع ، والمنع عن الجمع بين العمرة والحجّ ، يضاد الكتاب والسنّة القطعية حاول بعضهم تأويله قائلاً بأنّ الجمع بينهما من

__________________

١. عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري : ٤ / ٥٦٨.

٤٦٣

خصائص أصحاب النبي ، حتّى عزوه إلى أبي ذر ، حسب ما رواه مسلم.

أخرج مسلم عن أبي ذر انّه قال : كانت متعة الحجّ لأصحاب محمد خاصّة. (١)

وفي رواية أخرى : لا تصلح المتعتان إلاّ لنا خاصة يعني : متعة النساء ومتعة الحجّ. (٢)

وقد أيّدوه ببعض الآثار التي قال في حقّها ابن قيم الجوزية : إنّ تلكم الآثار الدالّة على الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصحّ عمّن نسب إليه البتة ، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرّع المعصوم. (٣)

وفي صحيح الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال : متعتنا هذه يا رسول الله لعامنا هذا أم لا بد؟ قال : لا بل لا بد أبد.

وفي صحيحة أخرى عن سراقة : قام رسول الله خطيبا فقال : ألا إنّ العمرة قد دخلت في الحجّ إلى يوم القيامة. (٤)

وقد مرّ نقل البخاري انّ العرب كانت تعدّ العمرة في أشهر الحجّ قبل الإسلام من أفجر الفجور ، وقد نهض النبي بأمر من الله بإعادة السنّة الإبراهيمية إلى الساحة ، فاعتمر أربع عمر كلّها في أشهر الحجّ.

٣. عزوه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطروء النسيان على الصحابة

قد تعرفت على مدى صحة التأويلين السابقين وبعدهما عن النصوص الواردة في الموضوع فهلم معي نقرأ ما انتحله ابن أبي سفيان حيث نسب النهي عن

__________________

١ و ٢. الجمع بين الصحيحين : ١ / ٢٧١ رقم ٣٦٨.

٣. زاد المعاد : ١ / ٢٠٧.

٤. مسند أحمد : ٤ / ١٧٥ ، سنن البيهقي : ٤ / ٣٥٢.

٤٦٤

الجمع بين العمرة والحجّ إلى رسول الله ، ولما سأل أصحاب النبي عن هذا النهي وواجه استنكارهم له ، رماهم بالنسيان.

أخرج أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان انّه قال لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل تعلمون انّ رسول الله نهى عن كذا أو كذا ، وركوب جلود النمور؟ قالوا : نعم ، قال : فتعلمون انّه نهى ان يقرن بين الحجّ والعمرة؟ فقالوا : أمّا هذا فلا ، فقال : أما إنّها معهن ولكن نسيتم. (١)

ولو كان المسئول شخصا أو شخصين من أصحاب النبي لكان احتمال تطرق النسيان إليه أو إليهما مبرر ، ولكنّه سأل أصحاب النبي ، الظاهر في أنّ المسئول كان جماعة كثيرة ، فهل يحتمل أن يتسرب النسيان إلى هؤلاء ، الذين طالت صحبتهم مع النبي ولا يذكره إلاّ ابن أبي سفيان الذي أسلم عام الفتح وقصرت صحبته وقلّ سماعه؟!

كيف وقد كان مع النبي ألوف من الصحابة رأوا بأمّ أعينهم عمل النبي وقوله وحثّه وترغيبه إلى الجمع بين العمرة والحجّ ، والإحلال بينهما من المحظورات.

قال ابن قيم : لما عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحج علم الناس انه حاج فتجهّزوا للخروج معه ، وسمع بذلك مَنْ حول المدينة فقدموا يريدون الحج مع رسول الله ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، فكان من بين يده ومن خلفه وعن يمينه وشماله مدّ البصر. (٢)

__________________

١. سنن أبي داود : ٢ / ١٥٧ رقم الحديث ١٧٩٤.

٢. زاد المعاد : ١ / ١٧٥ ، طبع مصر.

٤٦٥

خاتمة المطاف

في أمور :

الأوّل : اتّفقت كلمة شرّاح الصحيحين على أنّ المراد من « رجل » في قوله : « وقال رجل برأيه » هو عمر بن الخطاب ، قال القسطلاني في شرح قوله : « قال رجل برأيه ما يشاء » هو عمر بن الخطاب لا عثمان بن عفان ، لأنّ عمر أوّل من نهى عنها فكان من بعده تابعا له في ذلك.

ففي صحيح مسلم انّ ابن الزبير كان ينهى ، وابن العباس يأمر بها فسألوا جابرا فأشار إلى أنّ أوّل من نهى عنها عمر. (١)

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : هو عمر بن الخطاب ، لأنّه أوّل من نهى عن المتعة ، فكان من بعده من عثمان وغيره تابعا له. (٢)

الثاني : أخرج مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثني إلى اليمن فوافقته في العام الذي حجّ فيه ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا موسى كيف قلت حين أحرمت؟ قال : قلت : لبيك إهلالا كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : هل سقت هديا؟ فقال : لا ، قال : فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثمّ أحل. (٣)

__________________

١. إرشاد الساري : ٤ / ١٦٩.

٢. شرح النووي : ٨ / ٤٥١.

٣. شرح صحيح مسلم للنووي : ٨ / ٤٥٠.

٤٦٦

هنا سؤال هو انّ علي بن أبي طالب وأبا موسى علّقا إحرامهما بإحرام النبي ، فأمر عليّا بالدوام على إحرامه ، وأمر أبا موسى بجعله عمرة فما هو الفارق بين الإحرامين؟

أقول : قد أجاب عنه النووي في شرحه وقال : إنّ عليّا كان معه هدي كما كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهدي فبقي على إحرامه كما بقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّ من معه هدي ، وأبو موسى لم يكن معه هدي فتحلّل بعمرة كمن لم يكن معه هدي ولو لا الهدي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجعلها عمرة. (١)

الثالث : انّ في حظر متعة الحجّ لعبرة لمن سبر التأريخ ، وحاول الوقوف على الوقائع التي جرت فيه ، فهذا هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حجّ ومعه آلاف من أصحابه ومن تبعه من الأعراب حيث أمر فيه بإدخال العمرة في الحجّ والإحلال بينهما وقد شهد به الكبير والصغير والداني والنائي ، وبالرغم من ذلك فقد غلب منطق القوة على قوة المنطق عقب رحيله حتى صار التمتع بالعمرة إلى الحجّ من المحرمات التي يعاقب عليها مرتكبها أشدّ العقوبة ، مع أنّ هذه المسألة لم تكن مصدر تهديد للسلطات الحاكمة.

فإذا كان هذا هو حالها فما ظنك بالمسائل السياسية التي تهدّد المنافع الشخصية للبعض ، فلا غرو في أن يقف أصحاب الآراء والأهواء بوجه الحقّ الذي أمر به النبي.

وبذلك يسهل على القارئ الكريم الوقوف على مغزى مخالفة بعض الصحابة للحقّ المشروع لعلي عليه‌السلام في الخلافة.

__________________

١. شرح صحيح مسلم : ٨ / ٤٥٠.

٤٦٧

إنّ كثيرا من الباحثين من أهل السنّة يأوّلون ما ورد من النصوص حول خلافة الإمام أمير المؤمنين في أوائل البعثة وأواسطها وأواخرها ويفسرونها بالدعوة إلى نصرة علي ومحبّته ، يقول الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر في وقته في رسالته إلى السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي :

إنّ أولي البصائر النافذة والرؤية الثاقبة ينزّهون الصحابة عن مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شيء من ظواهر أوامره ونواهيه ولا يجوّزون عليهم غير التعبّد بذلك ، فلا يمكن أن يسمعوا النص على الإمام ثمّ يعدلوا عنه أوّلا وثانيا وثالثا ، وكيف يمكن حملهم على الصحّة في عدولهم عنه مع سماعهم النصّ عليه؟ ما أراك بقادر على أن تجمع بينهما. (١)

وما ذكره شيخ الأزهر نابع من حسن ظنه بالصحابة كافة ، ولكن لو سبر أخبارهم لوقف على أنّهم خالفوا النصوص في موارد كثيرة ، ومنها متعة الحجّ على الرغم من أنّها لم تشكّل تهديدا لمصالحهم بل كانت مجرد استهجان للتحلّل بين العمرة والحجّ.

وأمّا النصوص التي تتعرض لمصالحهم الشخصية ، فقد كانوا يخالفونها في حياته فكيف بعد رحيله؟! والموارد التي لم يتعبّد السلف من الصحابة بالنصوص فيها أكثر من أن تذكر في ذلك المجال ، وكفانا في ذلك ما قام به السيد شرف الدين العاملي في كتابه القيّم « النص والاجتهاد » فقد جمع شطرا وافرا من اجتهادات الصحابة مقابل النص ، وقد أنهاها إلى ٦٦ موردا ، نقتصر منها على هذا النموذج :

__________________

١. المراجعات : ص ٢٣٤ ، المراجعة ٨٣.

٤٦٨

رزية يوم الخميس التي حيل فيها بين النبي وما كان يرومه من كتابة أمر بالغ الأهمية ، فإنّها من أشهر القضايا وأكبر الرزايا أخرجها أصحاب الصحاح والسنن ونقلها الإمام البخاري في صحيحه ، بسنده إلى عبيد الله بن عتبة ابن مسعود عن ابن عباس ، قال : لمّا حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إنّ النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ، قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا ، فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (١)

ويكشف عن ذلك الحوار الذي جرى بين الخليفة وابن عباس الذي نقله على وجه التفصيل شارح نهج البلاغة ابن أبي الحديد في شرحه ، يقول :

قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين.

قال : لكنّي أدري.

قال : ما هو ، يا أمير المؤمنين؟

قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتُجْحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت. (٢)

__________________

١. صحيح البخاري : ١ / ٣٠ ، باب كتابة العلم.

٢. شرح نهج البلاغة : ١٢ / ٥٣ ، في شرح قوله : لله بلاد فلان.

٤٦٩

وبما انّ المقام لا يقتضي التبسّط فلنقتصر على ذلك.

الرابع : المعروف انّ الخليفة حرم متعة الحجّ لاستلزامه التحلّل بين العمرة والحجّ ، وهذا ممّا كان يستهجنه الخليفة ويعرب عنه قوله :

« إنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجا » ، وقوله : « كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم ».

وعلى ذلك فقد رخص في الإفراد والقران ، أمّا الفارد فلأنّ العمرة يؤتى بها بعد الحجّ ، وأمّا القران فان الحاج بما انّه يهل بالعمرة والحجّ معا فلا يتحلّل بين العملين.

ولكنّه بالنسبة إلى سائر أقواله فقد منع عن حجّ القران أيضا ، وذلك لأنّه كان يصر بفصل الحجّ عن العمرة مستدلا بأنّه ليس لأهل هذا البلد ضرع ولا زرع. (١) وكان ينادي بقوله : « فافصلوا حجّكم عن عمرتكم فإنّه أتم لحجّكم وأتمّ لعمرتكم » (٢) ومعنى ذلك حرمان أكثر الناس من العمرة التي دعا إليها سبحانه بقوله ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ) ، إذ ربما لا تتهيّأ الأسباب لإقامة الآفاقي في مكة المكرمة حتّى يحول الحول فيأتي بالعمرة نزولا لنهي الخليفة.

وما أبعد عمل الخليفة وما يرويه ابن عباس ، ويقول : والله ما أعمر رسول الله عائشة في ذي الحجّة إلاّ ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، وقال كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض. (٣)

الخامس : قد روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ما مرّ من احتدام النزاع بين

__________________

١ و ٢. مرّ كلامه ص ٤٠٨ ، ٤١٠ ، ٤١١.

٣. صحيح البخاري : ٣ / ٦٩.

٤٧٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولفيف من صحابته في إدخال العمرة في الحجّ والتحلّل بعد الأولى.

روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : « لمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرئيل عليه‌السلام عند فراغه من السعي وهو على المروة ، فقال : إنّ الله تعالى يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي. فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الناس بوجهه ، فقال : يا أيّها الناس هذا جبرئيل ـ وأشار بيده إلى خلفه ـ يأمرني عن الله عزّ وجلّ أن آمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي فآمرهم بما أمر الله به.

فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نخرج إلى منى ورءوسنا تقطر من النساء. وقال آخرون : يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره. فقال : « يا أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما صنع الناس ، ولكنّي سقت الهدي ولا يحلّ من ساق الهدي حتّى يبلغ الهدي محلّه » فقصر الناس وأحلّوا وجعلوها عمرة.

فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال : بل للأبد إلى يوم القيامة وشبّك بين أصابعه. وأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (١). (٢)

السادس : انّ رسول الله أقام بالمدينة عشر سنين فلما نزل قوله سبحانه : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (٣)

__________________

١. البقرة : ١٩٦.

٢. التهذيب : ٥ / ٣٠ ، باب ضروب الحجّ ، الحديث ٣.

٣. الحج : ٢٧.

٤٧١

أمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول الله يحجّ في عامه هذا فاتبعه من حضر المدينة وأهل العوالي والاعراب.

واختلفت كلمة أهل السنّة في كيفية حجّه إلى أقوال ووجوه :

١. انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قارنا لا مفردا. وهذا خيرة ابن قيم الجوزية ، وأقام على مختاره ما يربو على ٢١ دليلا. (١)

٢. انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّ حجّا مفردا لم يعتمر فيه واحتجّوا برواية عائشة في الصحيحين انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بالحجّ.

٣. انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّ متمتّعا تمتعا حلّ فيه من إحرامه ثمّ أحرم يوم التروية بالحجّ مع سوق الهدي.

٤. حجّ متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي.

هذه الوجوه ذكرها ابن قيم الجوزية وبسط الكلام في أدلّة القائلين ونقدها. (٢) وأمّا ما هو الحقّ حسب روايات أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام فموكول إلى محلّه وقد استدلّ صاحب الحدائق على أنّه لم يكن متمتعا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ». (٣)

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ

قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ). (٤)

__________________

١. زاد المعاد ١ / ٢١٦ ـ ٢٢٠.

٢. لاحظ زاد المعاد : ١ / ٢٢٢ ـ ٢٣٢.

٣. الحدائق : ١٤ / ٣١٣.

٤. سورة ق : ٣٧.

٤٧٢

١٢

متعة النساء

أو

الزواج المؤقت

٤٧٣
٤٧٤

تمهيد

الغريزة الجنسية

بين التحديد والإباحة الغربية

أنّ العلاقة الجنسية علاقة طبيعية راسخة في وجود كلّ إنسان في مقطع زمنيّ خاص ، بنحو لا تجد لها مثيلا في سائر العلاقات ، وفي ظلّها تنفتح مشاعر الحب والعطف والحنان وتتعاظم المسئولية بغية إرساء دعائم الأسرة التي هي أوّل نواة المجتمع الإنساني الكبير.

أنّ تلبية الغريزة الجنسية تعدّ من حاجات الإنسان الملحّة ، ومن ضروريات الحياة ، التي لا يختلف فيه اثنان. وليست حاجته إلى الزواج بأقلّ من حاجته إلى الطعام والشراب.

أنّ الشريعة الإسلامية بما أنّها خاتمة الشرائع ، ونبيّها خاتم الأنبياء ، وكتابها خاتمة الكتب ، قد تناولت هذا الجانب من شخصية الإنسان وأشبعته بسنن وقوانين تنسجم مع سائر غرائزه الكامنة في وجوده.

وقد بلغت عناية الشريعة بالدعوة إلى تلبية الغريزة المذكورة حدا أن عدّ

٤٧٥

النكاح ، سنّة إلهية والإعراض عنه إعراض عن الشريعة كما يجسّده حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النكاح سنّتي فمن أعرض عن سنّتي فليس مني ». (١)

وهذا يعرب عن قدسية الزواج في الإسلام وانّه أرفع من أن يكون تبادلا بين الإنسان والمال كما طاب لبعض الجدد المتأثرين بالغرب أن يسمّيه. (٢)

ومهما حرص الإنسان على حياة التبتّل والعزوف عن الزواج ، فإنّه يظل يشعر بفراغ كبير لا يسدّه شيء سوى الزواج.

وانطلاقا من هذه الأهمية فقد شرّع الإسلام قوانين رائعة في تنظيم الغريزة الجنسية وسوقها في الاتجاه الصحيح الذي يكفل للإنسان إشباع غريزته الجنسية ، بأسلوب يتجاوب مع سائر ميوله وغرائزه ويحفظ له كرامته وشرفه ، قال سبحانه ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ). (٣)

فقد سمح له في غير واحد من الآيات ، أن يلبّي حاجته الجنسية بطرق ثلاثة :

١. النكاح الدائم.

٢. النكاح المؤقت.

٣. ملك يمين.

ومهما يكن من أمر فالذي دعانا إلى عقد بحث في النكاح المؤقت هو انّ الإخلاء والألدّاء أجحفوا بحقه في كتاباتهم.

__________________

١. جامع أحاديث الشيعة : ٢٥ / ٣٨ رقم ٣٦٤١٢.

٢. الزواج المؤقت عند الشيعة للكاتبة شهلا حائري : ٤٥.

٣. النور : ٣٢.

٤٧٦

أمّا الألدّاء فقد نظروا إليه بعين الحقد والحسد ، نظرة الضّرة ، إلى الضّرة ، فصوّروا محاسنه معايب.

وأمّا الإخلاء فقد أكثروا فيه اللغط والتهويش ، وأخذوا بالقضاء والإبرام من دون تدبر وتبصر وعدل وإنصاف ، حتّى تجاوز بعضهم وعدّه زواجا أقرب إلى الدعارة والزنا ، ومعنى ذلك انّ صاحب الرسالة ـ والعياذ بالله ـ رخّص الدعارة في أيام قلائل لأصحابه لأجل إخماد نار الشهوة فيهم ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ).

فما تنتظر من موضوع ، خاض في تحليله وتبيينه العدو للطعن به ، والصديق للجهل بحقيقته ، أن لا تحوم حوله الشبهات. ولو أنّ الصديق درس الموضوع دراسة معمّقة ، وأحاط بما ورد فيه في الذكر الحكيم ، وأحاديث الرسول لما كان يتفوّه بتلك الكلمة القارصة.

فالذي نشير إليه في هذه العجالة ، هو انّ الإسلام عالج مشكلة الغريزة الجنسية بالدعوة إلى النكاح الدائم وجعله أساسا في حياة الإنسان ، وتلقى هذا النوع من النكاح أمرا ضروريا وطعاما روحيا لكافة بني الإنسان.

وعلى الرغم من ذلك فقد تطرأ ظروف خاصة لا يتمكن الإنسان خلالها من سلوك الطريق العام ( أي النكاح الدائم ) ، فكان لا بدّ للشريعة الإسلامية أن تقول كلمتها في هذا المضمار ، من خلال تقنين زواج خاصّ كعلاج مقطعيّ ، فمن الخطأ أن نتصور انّ دعوة الإسلام إلى الزواج المؤقت كدعوته إلى الزواج الدائم ، كلاّ ، فالزواج الدائم تلبية للحاجة الجنسية في عامة مقاطع الحياة.

وأمّا النكاح المؤقت فهو ـ كما عرفت ـ دواء وليس بطعام ، علاج لضروريات مقطعية يحول دون انتشار الفساد في المجتمع الإسلامي.

٤٧٧

إذ ربما تطرأ على الإنسان ظروف لا يتيسر من خلالها الزواج الدائم فلا يبقى أمامه سوى الأمور الثلاثة التالية :

١. كبت جماع الشهوة.

٢. التردّد على بيوت الدعارة والفساد.

٣. النكاح المؤقت بالشروط التي وضعها الإسلام.

أمّا الأوّل فمن المستحيل عادة أن يصون به أحد نفسه ـ إلاّ من عصمه الله ـ ولا يطرق ذلك الباب إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس وأين هو من عامة الناس؟! وأمّا الثاني ففيه ـ مضافا إلى هدم الكرامة الإنسانية ـ شيوع الفساد والأمراض وتداخل الأنساب فلم يبق إلاّ الطريق الثالث وهو النكاح المؤقت.

وعلى ذلك فالزواج المؤقت من أروع السنن الإسلامية التي سنّها الإسلام وأراد بها صون كرامة الإنسان.

وقد وقف الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام على عمق المشكلة ، فأدلى بكلمة قيّمة تقرع آذاننا وتحذّر المجتمع من تفاقم هذا الأمر عند إهماله لهذا العلاج ، وقال : « لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقية ».

وهنا كلام للمفكّر الإسلامي الشهيد المطهري يقول : « السمة المميزة لعصرنا هي اتساع المسافة الزمنية بين البلوغ الجنسي ، والنضج الاجتماعي حين يصبح بمقدور المرء تأسيس عائلة ، فهل بإمكان الشبّان قضاء فترة من التنسك المؤقت ، وتحمل قيود التقشف القاسية في انتظار تمكنهم من عقد زواج دائم.

ولنفترض انّ هناك شابا مستعدا لتحمل هذا التنسك المؤقت ، فهل ستكون الطبيعة مستعدة ـ عند الامتناع عن النكاح ـ بتحمل تلك العقوبات النفسية الفظيعة والخطرة التي يصاب بها الأشخاص الذين يمتنعون عن ممارسة

٤٧٨

النشاطات الجنسية الغريزية كما يدل على ذلك اكتشافات علماء النفس الآن.

فعند ذاك انّ أمام الشبان خيارين :

١. إمّا اتّباع النموذج الغربي المنحطّ ـ أعني : الإباحة الجنسية ـ القائم على إعطاء الحرية للشبّان والشابات على قدم المساواة.

٢. أو الإقرار بشرعية الزواج المؤقت المحدد ».

هذا وقد ضمّ بعض فلاسفة الغرب في العصور الأخيرة من الذين اشتهروا بالتحرر من القيود والحرية في الرأي ، أصواتهم إلى صوت الإسلام في تشريعه الخالد للنكاح المؤقت.

فهذا هو « راسل » يرى أنّ سنن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير فان الطالب كان يستوفي علومه قبل مائة سنة أو مائتي سنة في نحو الثامنة عشرة أو العشرين فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة ، ولا يطول به عهد الانتظار إلاّ إذا آثر الانقطاع للعلم مدى الحياة ، وقلّ من يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشبان.

أمّا في العصر الحاضر فالطلاب يبدءون التخصص في العلوم والصنائع بعد الثامنة عشرة أو العشرين ، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلى زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة أو الأعمال الصناعية والاقتصادية. ولا يتسنّى لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين ، فهناك فترة طويلة يقضيها الشابّ بين سن البلوغ وبين سن الزواج لم يحسب لها حسابها في التربية القديمة.

وهذه الفترة هي فترة النمو الجنسي ، والرغبة الجامحة ، وصعوبة المقاومة للمغريات ، فهل من المستطاع أن نسقط حساب هذه الفترة من نظام المجتمع الإنساني ، كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطى؟

٤٧٩

يقول الفيلسوف الآنف الذكر أنّ ذلك غير مستطاع ، وأنّنا إذا أسقطناها من الحساب فنتيجة ذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل بين الشبان والشابات ، وإنّما الرأي عنده أن تسمح القوانين في هذه السن بضرب من الزواج بين الشبان والشابات ، لا يؤدهم بتكاليف الأسرة ، ولا يتركهم لعبث الشهوات الموبقات وما يعقبه من العلل والمحرجات. وهذا ما سماه بـ « الزواج بغير أطفال » ، وأراد أن يكون عاصما من الابتذال ومدرّبا على المعيشة المزدوجة قبل السن التي تسمح بتأسيس البيوت. (١)

ولعلّ مراده من قوله : « الزواج بغير أطفال » هو استعمال موانع الحمل ومع ذلك فالالتزام بهذا الشرط أمر ممكن ولكنّه مشكل ، وعلى فرض استعماله ، فلو أنجبا طفلا فهو ولد شرعي يلحق بالوالدين.

إنّ الاقتراح الذي عرضه الفيلسوف الإنجليزي هو ما دعا إليه الإسلام منذ أكثر من ١٤ قرنا ، ولكن الإسلام جعله في إطار تقنيني وتشريعي أضفى عليه مزيدا من الروعة والجمال وكمالا من حيث القيود والشروط.

هذه دراسة موجزة حول النكاح المؤقّت نقدّمها للقراء الكرام راجين أن يولوا عناية فائقة بهذا الموضوع ويتدارسوه من زوايا مختلفة حتّى تتبين لهم عظمة التشريع الإسلامي وانّ الأغيار جحدوا حقّه ، وغيرهم جهلوه وما عرفوه.

والله من وراء القصد

__________________

١. الفلسفة القرآنية لعباس محمود العقاد : ٨٧ ـ ٨٨.

٤٨٠