الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

الثاني : الاختلاف في توالي الليالي وعدمه ، فصريح رواية البخاري : « انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي بصلاته ناس ثمّ صلّى من القابلة » انّ الليالي كانت متوالية ، وصريح رواية أبي ذر انّها كانت غير متوالية ، فقد صلّى معهم في الليلة الرابعة والعشرين ، والسادسة والعشرين ، والثامنة والعشرين.

الثالث : الاختلاف في مواضع الليالي ، فالمتبادر من أغلبها أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بهم في أوائل الشهر ، وصريح رواية أبي ذر انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بهم في العشر الآخر.

ومع هذا الاختلاف كيف نؤمن بصحّة ما فيها من المضامين؟!

٢. عدم إناطة التشريع برغبة الناس

إنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها » يعرب عن أنّ التشريع تابع لإقبال الناس وأدبارهم ، ولا أقلّ لإقبالهم ، فلو أظهر الناس رغبتهم إلى العمل ربّما يفرض عليهم مع أنّ الملاك في فرض شيء على كلّ الناس ، هو وجود مصلحة ملزمة في الشيء ، سواء أكان هناك رغبة من الناس أم لا ، فتشريعه سبحانه ليس تابعا لرغبة الناس أو أعراضهم وإنّما يتبع الملاكات الواقعية ، فالمصلحة الملزمة تستتبع تشريعها ، وعدمها عدمه ، ولمّا وقف شراح الصحيحين على هذا الإشكال مالوا يمينا ويسارا لحلّه.

قال ابن حجر في شرح جملة : « إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم » انّ ظاهر هذا الحديث انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توقع ترتّب افتراض الصلاة في الليل جماعة على وجود المواظبة عليها ـ ثمّ قال : ـ وفي ذلك إشكال.

إنّ ابن حجر وإن أحجم عن بيان مقصوده من الإشكال ولكن يمكن أن يكون إشارة إلى أمرين :

٤٠١

١. انّ الأحكام تابعة للملاكات الواقعية لا لرغبة الناس فيها ولا عنها.

٢. انّ في الشريعة المقدسة أمورا واظب عليها النبي والمسلمون كالمضمضة والاستنشاق ، ولم تفرض عليهم ، كما أنّ هناك أحكاما رغب عنها كثير من المسلمين حتى في زمن النبي فضلا عما بعده ومع ذلك بقي حكمه على ما كان ، وهذا كحكم الجهاد الذي تقاعس عنه بعض المسلمين حتّى واجهوا تقريعه سبحانه وتبكيته حيث قال ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ). (١)

إنّ بعض أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام كالإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام نقلا كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه الذين كانوا مصرّين على إقامة نوافلهم بالجماعة مع الرسول ، وليس فيه أيّ إشارة إلى هذا التعليل ، فقالا :

« إنّ رسول الله حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس انّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل. ». (٢) ترى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب هذا النقل علل عدم حضوره لإقامة النوافل جماعة بأنّه أمر غير مشروع لا انّه خشي أن يكتب عليهم.

٣. مخالفة التعليل لنداء المعراج

أخرج أصحاب الصحاح والسنن عن أنس بن مالك قال : فرضت [ الصلاة ] على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة أسري به الصلوات خمسين ، ثمّ نقصت حتّى جعلت خمسا ثمّ نودي يا محمد انّه لا يبدّل القول لدي وإنّ لك بهذه الخمس

__________________

١. التوبة : ٣٨.

٢. الفقيه : ١ / ٨٧ ، كتاب الصوم.

٤٠٢

خمسين. (١)

قال العسقلاني : وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء انّ الله تعالى قال : هنّ خمس وهنّ خمسون لا يبدل القول لديّ ، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟! (٢)

ثمّ ذكر الشارحان العسقلاني والقسطلاني توجيهات وتمحلات لا تغني ولا تسمن من جوع ، وقد حكى القسطلاني في إرشاد الساري عن صاحب شرح التقريب تلك التمحلات وانّه قال : ومع هذا فإنّ المسألة مشكلة ولم أر من كشف الغطاء عن ذلك. (٣)

٤. رغبة الصحابة لا يكون ملاكا للتشريع في حقّ الأجيال

لو افترضنا انّ الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح بإقامتها جماعة ، أفيكون ذلك ملاكا للفرض على غيرهم ولم تكن نسبة الحاضرين إلى الغائبين إلاّ شيئا لا يذكر ، فان مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم ذاك كان مكانا محدودا لا يسع إلاّ ما يقارب ستة آلاف شخص أو أقل ، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة : كان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٣٥ مترا في ٣٠ مترا ثمّ زاده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعله ٥٧ مترا في ٥٠ مترا. (٤) أفيصحّ جعل اهتمامهم كاشفا عن اهتمام جميع الناس بها عبْر العصور إلى يوم القيامة.

__________________

١. صحيح البخاري : ١ / ٧٥ ، باب كيف فرضت الصلوات في الاسراء ، سنن الترمذي : ١ / ٤١٧ ، باب كم فرض الله على عباده من الصلوات ، الحديث ٢١٣ ، واللفظ للترمذي.

٢. فتح الباري : ٣ / ١٠.

٣. إرشاد الساري : ٣ / ٤٢٨.

٤. الفقه على المذاهب الخمسة : ٢٨٥٠.

٤٠٣

٥. القدر المتيقّن من فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لو افترضنا صحّة مضامين هذه الروايات لكن الظاهر من روايات الصحيحين انّ النبي خرج في جوف الليل فصلّى في المسجد وهو كناية انّه صلّى في المسجد ، النوافل الليلية ، وهي لا تتجاوز عن ثماني ركعات ، فسواء أقلنا انّه خرج ليلة واحدة أو ليلتين أو ثلاث أو أربع فقد خرج في جوف الليل لإقامة النوافل الليلية فاقتدى به من اقتدى من الصحابة ، فعندئذ يكون الثابت من فعل النبي هو هذا المقدار وأين هذا من إقامة صلاة التراويح في عامة شهر رمضان في كلّ ليلة عشرين ركعة ، ترويحة بعد أربع ركعات فتكون ستمائة ركعة إذا كان الشهر تاما.

فلو قلنا بأنّ التشريع ثبت بفعل النبي فإنّما ثبت هذا المقدار القليل فما الدليل على الأكثر منه؟ يقول عبد الرحمن الجزيري في كتابه « الفقه على المذاهب الأربعة » :

روى الشيخان أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من جوف الليل ليالي من رمضان ، وهي ثلاث متفرقة : ليلة الثالث ، والخامس ، والسابع والعشرين ، وصلّى في المسجد ، وصلّى الناس بصلاته فيها ، وكان يصلّي بهم ثماني ركعات ويكملون باقيها في بيوتهم فكان يسمع لهم أزيز ، كأزيز النحل.

وقال : ومن هذا يتبين انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّ لهم التراويح والجماعة فيها ولكن لم يصلّ بينهم عشرين ركعة كما جرى عليه من عهد الصحابة ومن بعدهم إلى الآن. (١)

وممّن التفت إلى هذا الإشكال ، القسطاني ، قال :

__________________

١. الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٢٥١.

٤٠٤

١. انّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.

٢. ولا كانت في زمن الصديق.

٣. ولا أوّل الليل.

٤. ولا كلّ ليلة.

٥. ولا هذا العدد.

ثمّ التجأ في إثبات مشروعيتها إلى اجتهاد الخليفة ، وسيوافيك الكلام فيه.

وقال العيني : إنّ رسول الله لم يسنّها لهم ولا كانت في زمن أبي بكر ، ثم اعتمد في شريعته إلى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلّون خلفه ليلتين. (١)

وقال الشاطبي : وممّن نبّه بذلك من السلف الصالح ، أبو أمامة الباهلي قال : أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنّما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فان أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال ( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ). (٢)

فلم يبق هنا مبرر لأزيد ممّا ثبت من عمل النبي إلاّ عمل الخليفة وسوف نتكلم فيه.

٦. صلاة التراويح بين اللغوية وعدم التشريع

إنّ التشريع الإلهي مصون من اللغو ، فالمشرّع هو الله سبحانه ، وفعله نزيه

__________________

١. عمدة القارئ : ١١ / ١٢٦.

٢. الاعتصام : ٢ / ٢٩١.

٤٠٥

من اللغو والعبث ، فعندئذ تتوجه الأسئلة التالية إلى مشروعية نوافل رمضان جماعة في عصر الرسول :

١. إنّ إقامتها جماعة في عصر الرسول لم تخل عن صورتين :

كانت إقامتها كذلك أمرا مشروعا وسنّ سبحانه لنبيّه أن يقيمها جماعة.

لم تكن مشروعة وكانت الجماعة مختصة بالفرائض.

فلو كانت مشروعة ، فلما ذا أهمل النبي تلك السنّة في حياته بل كان عليه أن يجسّد مشروعيتها حينا بعد حين على وجه لا يخشى عليها الافتراض مع أنّه لم يفعل كذلك طيلة عمره ، بل خرج مغضبا ورادعا عن هذا الأمر؟!

وهذا يعرب عن كون الواقع هو الأمر الثاني ، وانّ إقامة النوافل مطلقا ، أو نوافل شهر رمضان جماعة ، كان أمرا غير مشروع ، ولذلك صارت متروكة في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصر الخليفة الأوّل وسنين في خلافة الثاني ، ثمّ بدا له ما بدا.

٢. إذا كانت إقامة صلاة التراويح جماعة ، أمرا مشروعا في الشريعة الإسلامية ، فطبع الحال يقتضي أن تكون محددة من جانب الوقت ، وأنّه هل تصلّى في أوائل الليل أو أواسطه أو أواخره ، كما يجب أن تحدد من حيث عدد الركعات ، حتّى لا يكون المصلّون على غمّة من الأمر.

فإذا كان النبي قد صلّى ثماني ركعات في المسجد ، وأتمها في بيته ، فلما ذا لم يحدّد الركعات ، ويبقى الأمر مكتوما حتّى حدّده عمر بن الخطاب بعشرين ركعة من دون أن ينسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يحتجّ بفعله؟ فإنّ فعل الصحابة وقولهم ما لم يسندهما إلى المعصوم ليسا بحجّة إلاّ على نفسه.

٣. كيف يتدخل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة ، فأدخل فيها ما ليس منها ، ليتساوى ـ في رأيه ـ أهل المدينة وأهل مكة في الفضيلة والثواب ، فإنّ فتح

٤٠٦

هذا الباب لعمر بن عبد العزيز وأقرانه ، يجعل الشريعة المقدسة شرعة لكلّ وارد ، والعوبة بيد الحكام يحكمون فيها بآرائهم.

٤. ثمّ إنّ عمر بن عبد العزيز جعل عدد ركعاتها (٣٦) ركعة ، بحجّة أنّ أهل مكة يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرّة ، فرأى أن يصلّى بدل كلّ طواف أربع ركعات.

فلو صحّ هذا ( يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات ) ، يجب أن يجعل عدد ركعاتها أربعين ركعة ، لأنّ أهل مكة كانوا يطوفون بعد كلّ أربع ركعات مرّة ، ومن المعلوم أنّهم كانوا ـ حسب هذا التعبير ـ يطوفون بعد عشرين ركعة طوافا آخر ، فيبلغ عد مرات طوافهم خمسة ، فلو أقيم مكان كلّ طواف أربع ركعات ، لصارت الزيادة مع الأصل أربعين ركعة ، عشرون ركعة بدل الطواف مضافة إلى عشرين ركعة مسنونة بالأصل.

نعم على ما نقله ابن قدامة من أنّ الطواف كان بين كلّ ترويحة ، يبلغ عدد مرات الطواف أربعة ، فيصير عدد الركعات ستا وثلاثين.

٧. الاختلاف الكبير في عدد ركعاتها

اختلف الفقهاء في عدد ركعات صلاة التراويح ، فقال الخرقي في مختصره : وقيام شهر رمضان عشرون ركعة ، يعني صلاة التراويح.

وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي : والمختار عند الإمام أحمد عشرون ركعة ، وبهذا قال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي. وقال مالك : ستة وثلاثون ، وزعم أنّه الأمر القديم ، وتعلّق بفعل أهل المدينة. (١)

__________________

١. المغني : ٢ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٤٠٧

وقد اعتمد من جعله عشرين ركعة على فعل الخليفة عمر ، في حين اعتمد من جعله ستّا وثلاثين ركعة على فعل عمر بن عبد العزيز.

قال عبد الرحمن الجزيري في « الفقه على المذاهب الأربعة » : إنّ عددها ليس مقصورا على الثماني ركعات التي صلاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم ، بدليل أنّها يكملونها في بيوتهم ، وقد بيّن فعل عمر ، أنّ عددها عشرون ، حيث إنّه جمع الناس أخيرا على هذا العدد في المسجد ، ووافقه الصحابة على ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز ، فجعلت ستا وثلاثين ركعة ، وكان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكة في الفضل ، لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرة ، فرأى عمر بن عبد العزيز أن يصلّى بدل كلّ طواف أربع ركعات. (١)

وربما يظن القاري أنّ الاختلاف ينحصر بهذين القولين ، ولكن الاختلاف في عدد ركعاتها أوسع من ذلك بكثير إلى حدّ قلّ نظيره في أبواب العبادات.

فمن قائل : إنّ عدد ركعاتها ١٣ ركعة ، إلى آخر : أنّها ٢٠ ركعة ، إلى ثالث :

أنّها ٢٤ ركعة ، إلى رابع : أنّها ٢٨ ركعة ، إلى خامس : أنّها ٣٦ ركعة ، إلى سادس : أنّها ٣٨ ركعة ، إلى سابع : أنّها ٣٩ ركعة ، إلى ثامن : أنّها ٤١ ركعة ، إلى تاسع : أنّها ٤٧ ركعة ، وهلمّ جرّا. (٢)

إنّ العبادة الجماعية كصلاة التراويح ، التي تقيمها الأمّة الإسلامية في رمضان كلّ سنة ، تطلب لنفسها أن تكون مبيّنة الحدود في لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١. الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٢٥١ ، كتاب الصلاة ، مبحث صلاة التراويح.

٢. فتح الباري : ٤ / ٢٠٤ ، إرشاد الساري : ٣ / ٤٢٦ ، عمدة القاري : ١١ / ١٢٦. وقد تكلّفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتّتة.

٤٠٨

محددة من جانب الركعات وغيرها من الجهات لكن تسرّب الفوضى إليها من وجوه شتّى ، يكشف عن عدم نص من الرسول في الموضوع ، ولا وجود رغبة منه إلى إقامة الأمّة لها بعد رحيله ، فإنّ السنّة المؤكدة ، أو السنّة المرغوبة فيها تكون بعيدة عن الغمّة.

٤٠٩

٧

صلاة التراويح جماعة في كلام عمر

لم تنعقد الجماعة لنوافل شهر رمضان في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصر الخليفة الأوّل وسنين من عصر الخليفة الثاني ، بل كان المسلمون يصلّون نوافل شهر رمضان في البيوت والمساجد فرادى.

نعم بدا للخليفة الثاني جمع المصلّين المتفرقين في المسجد على إمام واحد.

ويدلّ على ما ذكرنا ما أخرجه الشيخان في هذا المضمار.

أخرج البخاري عن أبي هريرة انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من قام شهر رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، قال : ابن شهاب : فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر. (١) وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه. (٢)

قوله : « فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ».

فقد فسّره الشرّاح بقولهم : أي على ترك الجماعة في التراويح ، ولم يكن رسول

__________________

١. صحيح البخاري : ٣ / ٤٤ ، باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم.

٢. صحيح مسلم : ٢ / ١٧٦ ، باب الترغيب في قيام رمضان.

٤١٠

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع الناس على القيام. (١)

وقال بدر الدين العيني : والناس على ذلك ( أي على ترك الجماعة ) ثم قال : فإن قلت : روى ابن وهب عن أبي هريرة : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد ، فقال : « ما هذا » فقيل : ناس يصلّي بهم أبيّ بن كعب ، فقال : « أصابوا ونعم ما صنعوا » ، ذكره ابن عبد البر. ثم أجاب بقوله ، قلت : فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف ، والمحفوظ أنّ عمر ـ رضي‌الله‌عنه ـ هو الذي جمع الناس على أبيّ بن كعب ـ رضي‌الله‌عنه. (٢)

وقال القسطلاني : والأمر على ذلك ( أي على ترك الجماعة في التراويح ) ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، إلى آخر ما ذكره. (٣)

وقال النووي : في شرح قوله « فتوفّي رسول الله والأمر على ذلك » معناه : استمر الأمر هذه المدة على أنّ كلّ واحد يقوم رمضان في بيته منفردا حتّى انقضى صدرا من خلافة عمر ثمّ جمعهم عمر على أبي بن كعب فصلّى بهم جماعة ، واستمر العمل على فعلها جماعة. (٤)

وأخرج أيضا عن عبد الرحمن بن عبد القاري انّه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلّي الرجل لنفسه ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط (٥) ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت

__________________

١. فتح الباري : ٤ / ٢٠٣.

٢. عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري : ٦ / ١٢٥ ، وجاء نفس السؤال والجواب في فتح الباري.

٣. إرشاد الساري : ٣ / ٤٢٥.

٤. شرح صحيح مسلم للنووي : ٦ / ٢٨٧.

٥. الرهط بين الثلاثة إلى العشرة.

٤١١

هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ، ثمّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوّله. (١)

قوله : « نعم البدعة » :

إنّ الظاهر من قوله : « نعم البدعة هذه » أنّها من سنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع ، وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء.

قال القسطلاني : سمّاها ( عمر ) بدعة ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسنّ لهم الاجتماع لها ، ولا كانت في زمن الصديق ، ولا أوّل الليل ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد ـ إلى أن قال : ـ وقيام رمضان ليس بدعة ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، وإذا اجتمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة.

وقال العيني : وإنّما دعاها بدعة ، لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسنّها لهم ، ولا كانت في زمن أبي بكر ـ رضي‌الله‌عنه ـ ولا رغب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها. (٢)

وهناك من نقل أنّ عمر أوّل من سنّ الجماعة ، نذكر منهم :

١. قال ابن سعد في ترجمة عمر : هو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان بالتراويح ، وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة. (٣)

__________________

١. صحيح البخاري : ٣ / ٤٤ ، باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم.

٢. عمدة القاري : ٦ / ١٢٦ ـ وقد سقط لفظة « لا » من قوله و « رغب » كما أنّ كلمة « بقوله » بعد هذه الجملة في النسخة مصحّف « قوله » فلاحظ.

٣. الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٨١.

٤١٢

٢. وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر : وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه. (١)

قال الوليد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة ٢٣ ه‍ : وهو أوّل من نهى عن بيع أمهات الأولاد. وأوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح. (٢)

إذا كان المفروض أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسنّ الجماعة فيها ، وإنّما سنّها عمر ، وهل يكفي تسنين الخليفة في مشروعيتها؟ مع أنّه ليس لإنسان ـ حتى الرسول ـ حقّ التسنين والتشريع ، وإنّما هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبلغ عن الله سبحانه.

إنّ الوحي يحمل التشريع إلى النبي الأكرم وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموحى إليه وبموته انقطع الوحي وسدّ باب التشريع والتسنين ، فليس للأمة إلاّ الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنّة ، لا التشريع ولا التسنين ، ومن رأى أنّ لغير الله سبحانه حقّ التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي.

قال ابن الأثير في نهايته ، قال : ومن هذا النوع قول عمر : نعم البدعة هذه ( التراويح ) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها ، إلاّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسنّها لهم وإنّما صلاّها ليالي ثم تركها ، ولم يحافظ عليها ، ولا جمع الناس لها ، ولا كانت في زمن أبي بكر وإنّما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها ، فبهذا سمّاها بدعة وهي في الحقيقة سنّة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي » ، وقوله : « اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر ». (٣)

__________________

١. الاستيعاب : ٣ / ١١٤٥ برقم ١٨٧٨.

٢. روضة المناظر كما في النص والاجتهاد : ١٥٠.

٣. النهاية : ١ / ٧٩.

٤١٣

وكلامه وكلام كلّ من برّر كون الجماعة سنّة ، دالّ على أنّ للخلفاء حقّ التشريع والتسنين ، أو للخليفتين فقط.

التشريع مختص بالله سبحانه

إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسنّ الاجتماع ، برّروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة ، ومعناه أنّ له حقّ التسنين والتشريع ، وهذا يضاد إجماع الأمّة ، إذ لا حقّ لإنسان أن يتدخّل في أمر الشريعة بعد إكمالها ، لقوله تعالى :

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (١) وكلامه يصادم الكتاب والسنّة ، فان التشريع حقّ الله سبحانه لم يفوّضه لأحد والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبلّغ عنه.

أضف إلى ذلك : لو كان للخليفة استلام الضوء الأخضر في مجال التشريع والتسنين ، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك الضوء مع كون بعضهم أقرأ منه كأبي بن كعب ، وأفرض كزيد بن ثابت ، وأعلم كعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟! فلو كان للجميع ذلك الضوء ، لانتشر الفساد وعمّت الفوضى أمر الدين ويكون الدين العوبة بأيدي غير المعصومين.

وأمّا التمسّك بالحديثين ، فلو صحّ سندهما فإنّهما لا يهدفان إلى أنّ لهما حقّ التشريع ، بل يفيدان لزوم الاقتداء بهما لأجل أنّهما يعتمدان على سنّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أنّ لهما حقّ التسنين.

نعم يظهر ممّا رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يعتقد أنّ للخلفاء حقّ التسنين ، قال : قال حاجب بن خليفة : شهدت عمر بن عبد العزيز

__________________

١. المائدة : ٣.

٤١٤

يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا أنّ ما سنّ رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (١)

وعلى كل تقدير ، نحن لسنا بمؤمنين بأنّه سبحانه فوّض أمر دينه في التشريع والتقنين إلى غير الوحي ، وفي ذلك يقول الشوكاني : والحقّ أنّ قول الصحابي ليس بحجة ، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال إنّه تقوم الحجّة في دين الله بغيرهما ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت ، وأثبت شرعا لم يأمر به الله. (٢)

استنباط مشروعيتها من تقرير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره : إنّ عمر استنبط مشروعيته من تقرير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن صلّى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم فإنّما كرهه خشية أن يفرض عليهم. فلمّا مات النبيّ حصل الأمن من ذلك ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة ، ولأنّ الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلّين. (٣)

يلاحظ عليه : أنّه لو كانت صلاة التراويح أمرا مشروعا ومما سنّها الله سبحانه فلما ذا كرهه النبي؟! ولو كانت الكراهة لأجل الخشية من الفرض ، يكفي في دفعها ، إقامتها حينا بعد حين ، فدخوله البيت وعدم حضوره في المسجد ، طيلة عمره دالّ على أنّها لم تكن مشروعة ، إذ لو كانت مسنونة لما تركها النبي بتاتا ، وقد

__________________

١. تاريخ المذاهب الإسلامية. كما في بحوث مع أهل السنّة : ٢٣٥.

٢. المصدر نفسه.

٣. فتح الباري : ٤ / ٢٠٤.

٤١٥

مرّ انّ التشريع المجرّد عن التطبيق على الصعيد العملي لغو (١) لا يصدر من الله سبحانه.

روى أبو يوسف قال : سألت أبا حنيفة عن التراويح وما فعله عمر ، قال : التراويح سنّة مؤكّدة ، ولم يتخرص عمر من تلقاء نفسه ولم يكن فيه مبتدعا ولم يأمر به إلاّ عن أصل لديه وعهد من رسول الله. ولقد سنّ عمر هذا وجمع الناس على أبي بن كعب فصلاها جماعة والصحابة متوافرون من المهاجرين والأنصار وما رد عليه واحد منهم بل وافقوه وأمروا بذلك. (٢)

يلاحظ عليه : بأنّه برر عمل الخليفة بالوجوه التالية :

١. أصل لديه ، ٢. عهد من رسول الله ، ٣. لم يعترض عليه أحد من الصحابة.

يلاحظ على الأوّل ما ذا يريد من الأصل الموجود لدى الخليفة ، وهل كان هذا الأصل يختص بالخليفة أو يعمّ غيره؟

وعلى الثاني ما هو العهد الذي كان عهده إليه رسول الله سوى انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتنع من إقامتها جماعة وأمر بإقامتها في البيوت؟

وعلى الثالث من أنّ أئمّة أهل البيت وعلى رأسهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام اعترض عليه ووصفها بالبدعة ولم تكن يوم ذاك آذان صاغية.

وختاما نقول : إنّ ما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتجاوز عن انّه صلّى صلاة الليل ليلة أو ليلتين إلى أربع ليالي جماعة ثمّ دخل بيته ولم يخرج ، فلو قلنا بأنّ عمل النبي هذا في هذه الظروف المحدقة بالإبهام حجّة ، وغضضنا النظر عمّا حوله من ردود من النبي على إقامتها جماعة ، فلا يصحّ لنا إلاّ هذا المقدار ( ثماني ركعات ) بشرط أن تكون الصلاة صلاة الليل لا مطلق النوافل.

__________________

١. لاحظ ص ٤٠٤.

٢. الموسوعة الفقهية الكويتية : ١٣٨٢٧ نقلا عن فتح القدير : ١ / ٣٣٣.

٤١٦

خاتمة المطاف

( وفيها أمور : )

١

إقامة التراويح جماعة

غفلة عن حكمة الله

لو كانت إقامة التراويح جماعة ، سنّة مؤكدة ، كان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يوصي بإقامتها بعد رحيله ، لارتفاع خوف الفرض على المسلمين برحيله. ومع ذلك لم ينبس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ببنت شفة ، بل دخل بيته مغضبا ، ولم يقمها جماعة إلاّ مرّة أو مرّتين أو ثلاث ، كلّها على مضاضة.

وذلك يعرب أنّ الحكمة تكمن في إقامتها فرادى في البيوت لا في المساجد ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرف بمصالح ذلك العمل ، وأنّه يعطي للبيوت حظا من البركة.

إنّ لتشريعات الإسلام وشعائره أسرارا وحكما تدركها العقول تارة ، وتخفى عليها تارة أخرى ، تغيب عن أذهان بعضهم آونة ، وتنكشف لآخرين آونة أخرى ، تجهل في مقطع زمني معيّن ، وتعلم في مقطع آخر.

٤١٧

وممّا لا شكّ فيه أنّ من وراء سنّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( الذي لا ينطق عن الهوى ) في عدم إقامة صلاة التراويح جماعة ، حكمة سامية ، قد تتجلى في الآثار الإيجابية التي ترتّب على إقامتها في البيوت فرادى ، حيث يقف المصلّي بين يدي ربّه عزّ وجلّ خاشعا خائفا راجيا ، يبثّه همومه وأحزانه ، ويستمطر رحمته وعفوه وغفرانه ، ينقطع إليه تعالى بكلّه لا يشغله عن ذلك شاغل ، ولا تكدّر موقفه شائبة من شوائب العجب والتباهي والرياء.

ثمّ إنّ إقامتها في البيوت يشيع عليها جوا من الإيمان والطهر والبركة والصفاء ، حيث لا يخلو البيت من ذكر وتسبيح وصلوات.

ولا ريب أنّ من يقطن في البيت ( من زوجة وأولاد وغيرهم ) سوف يعيش في رحاب هذه الأجواء ، ويتنسّم أريجها الفوّاح ، وذلك لعمري من العوامل التربوية المهمة في الأخذ بأيديهم إلى حيث الهدى والصلاح والاستقامة والسلوك القويم.

يقول السيد شرف الدين : إنّ فائدة إقامتها في البيت فرادى ، وهي إنّ المصلّي حين يؤديها ينفرد بربه عزّ وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتى يأتي على آخرها ملحّا عليه ، متوسّلا بسعة رحمته إليه ، راجيا لاجئا ، راهبا راغبا ، منيبا تائبا ، معترفا لائذا عائذا ، لا يجد ملجأ من الله تعالى إلاّ إليه ، ولا منجى منه إلاّ به.

لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزوّدوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه ، ونشطت أعضاؤهم له ، يستقلّ منهم من يستقل ، ويستكثر من يستكثر ، فإنّها خير موضوع ، كما جاء في الأثر عن سيّد البشر.

إمّا ربطها بالجماعة فيحدّ من هذا النفع ، ويقلّل من جدواه.

أضف إلى هذا أنّ إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظّها من

٤١٨

البركة والشرف بالصلاة فيها ، ويمسك عليها حظّها من تربية الناشئة على حبّها والنشاط لها ، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمهات والأجداد والجدّات ، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدّا يرسخها في عقولهم وقلوبهم ، وقد سأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّما أفضل ، الصلاة في بيتي ، أو الصلاة في المسجد؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد ، فلأن أصلّي في بيتي أحب إليّ من أن أصلّي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة » رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. وعن زيد بن ثابت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « صلّوا أيّها الناس في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة » رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه. (١)

وحصيلة الكلام : قد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : « فصلّوا أيّها الناس في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة ». (٢)

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأداء النوافل في البيوت ابتعادا عن الرياء والسمعة مطلقا وليس مقيّدا بزمانه ، وهذا يدلّ على مرجوحيّة أداء النوافل في المساجد.

فلو كانت الجماعة مشروعة في النوافل لكان الإتيان بها في المساجد جماعة أفضل من الإتيان بها في البيوت ، إلاّ أن تصريح النبي بأنّ الإتيان بها في البيوت أفضل كما في الحديث ، فهذا ممّا يلوّح ـ على الأقلّ ـ بعدم مشروعيّة الجماعة فيها.

__________________

١. النص والاجتهاد : ١٥١ ـ ١٥٢.

٢. سنن النسائي : ٣ / ١٦١.

٤١٩

٢

تقديم المصلحة على النصّ

إنّ عمل الخليفة لم يكن إلاّ من قبيل تقديم المصلحة ـ حسب تشخيصه ـ على النص وليس المورد وحيدا في حياته بل له نظائر في عهده نظير :

١. تنفيذ الطلاق ثلاثا بعد ما كان في عهد الرسول وبعده وسنين من عهده طلاقا واحدا.

٢. تحريم متعة الحجّ وقد تمتع الصحابة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيوافيك تفصيله في المسألة القادمة.

٣. تحريم متعة النساء ، وسيوافيك تفصيلها في المسألة الثانية عشرة.

يقول أحمد أمين المصري : ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه ، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة ، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك ، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث ، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه ، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته. (١)

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر ، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر ، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النص ويعملون بالرأي ، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ونظائرها من هذا القبيل.

__________________

١. فجر الإسلام : ٢٣٨ ، نشر دار الكتاب.

٤٢٠