الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

١٠

صلاة التراويح

٣٨١
٣٨٢

صلاة التراويح

إنّ التهجّد في ليالي شهر رمضان سنّة مؤكّدة ، ورد في حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام حسب ما يوافيك بيانه ، والتهجّد فيها بنوافلها من أفضل المسنونات والمندوبات ، وقد سنّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والهدف الذي يستعقبه هذا المقال هو البحث في جواز إقامتها جماعة وعدمه ، ويتجلّى ما هو الحقّ ضمن أمور :

١

التراويح لغة واصطلاحا

التراويح جمع ترويحة ، وهي مأخوذة من الراحة بمعنى زوال المشقة والتعب ، والترويحة في الأصل اسم للجلسة مطلقة ، وسمّيت الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان بالترويحة ، لاستراحة القوم بعد كلّ أربع ركعات ، وهي المرّة الواحدة من الراحة ، مثل تسليمة من السّلام. (١)

__________________

١. لسان العرب : ٢ ، مادة روح.

٣٨٣

٢

قيام ليالي رمضان بالتطوع

سنّة مؤكّدة

أنّ قيام ليالي شهر رمضان سنّة مؤكدة (١) حثّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه.

١. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لرمضان من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه. (٢)

٢. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه. (٣)

٣. أخرج الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي الورد ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس في آخر جمعة من شعبان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس انّه قد أظلّكم شهر ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، وهو شهر

__________________

١. سنّة مؤكّدة عند الإمامية وثلاثة من الأئمة وخالفت المالكية.

٢. صحيح البخاري : ٣ / ٤٤ ، باب فضل من قام رمضان ، صحيح مسلم : ٢ / ١٧٦ ، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.

٣. صحيح مسلم : ٢ / ١٧٧ ، الباب نفسه.

٣٨٤

رمضان ، فرض الله صيامه ، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة ، كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور ، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر ، كأجر من أدّى فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ ، ومن أدّى فيه فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ كان كمن أدّى سبعين فريضة من فرائض الله فيما سواه من الشهور. ». (١)

٤. أخرج الشيخ عن يونس بن عبد الرحمن ، عن محمد بن يحيى قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأل هل يزاد في شهر رمضان في صلاة النوافل؟ فقال : « نعم ، قد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي بعد العتمة في مصلاّه فيكثر ». (٢)

٥. أخرج الشيخ عن علي بن أبي حمزة ، قال : دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له أبو بصير : ما تقول في الصلاة في رمضان؟ فقال له : « إنّ لرمضان لحرمة وحقا لا يشبهه شيء من الشهور ، صلّ ما استطعت في رمضان تطوعا بالليل والنهار ، وإن استطعت في كلّ يوم وليلة ألف ركعة فصلّ انّ عليا عليه‌السلام كان في آخر عمره يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة ، فصلّ يا أبا محمد زيادة في رمضان » فقال : كم جعلت فداك؟ فقال : « في عشرين ليلة تمضي في كلّ ليلة عشرين ركعة ، ثماني ركعات قبل العتمة واثنتي عشرة بعدها سوى ما كنت تصلي قبل ذلك ، فإذا دخل العشر الأواخر فصلّ ثلاثين ركعة كلّ ليلة ، ثمان قبل العتمة واثنتين وعشرين بعد العتمة سوى ما كنت تفعل قبل ذلك ». (٣)

__________________

١. التهذيب : ٣ / ٥٧ ، باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه زيادة على النوافل.

٢. التهذيب : ٣ / ٦٠ ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث ٨.

٣. التهذيب : ٣ / ٦٤ ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث ١٨.

٣٨٥

٣

خير صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة

أخرج أصحاب الصحاح والسنن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : إنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة ، وانّ للمرء أن يجعل للبيت نصيبا من الصلاة.

١. اخرج مسلم عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا ». (١)

٢. وأخرج أيضا عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا ». (٢)

٣. وأخرج أيضا عن جابر قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته ، فان الله جاعل في بيته من صلاته خيرا ». (٣)

٤. أخرج مسلم عن أبي موسى ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت ». (٤)

٥. أخرج مسلم عن زيد بن ثابت ، قال : احتجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله يصلّي فيها قال : فتتبع إليه رجال وجاءوا

__________________

١ و ٢ و ٣ و ٤. صحيح مسلم : ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

٣٨٦

يصلون بصلاته ، قال : ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وابطأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، قال : فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغضبا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت انّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (١)

٦. أخرج أبو داود عن زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد حجرة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج من الليل فيصلّي فيها ، قال : فصلّوا معه بصلاته ـ يعني رجالا ـ وكانوا يأتونه كلّ ليلة ، حتّى إذا كان ليلة من الليالي لم يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصّبوا بابه ، قال : فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغضبا ، فقال : أيّها الناس ، ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت أن ستكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (٢)

٧. أخرج النسائي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا. (٣) وقد شبّه النبي البيت الذي لا يصلّى فيه بالقبر الذي لا يتعبّد فيه.

٨. أخرج النسائي عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبيه ، عن جدّه قال : صلّى رسول الله صلاة المغرب في مسجد بني الأشهل ، فلمّا صلّى قام ناس يتنفّلون فقال النبي : عليكم بهذه الصلاة في البيوت. (٤)

__________________

١. صحيح مسلم : ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

٢. سنن أبي داود : ٢ / ٦٩ ، حديث ١٤٤٧.

٣. سنن النسائي : ٣ / ١٩٧ ، باب قيام الليل وتطوع النهار.

٤. سنن النسائي : ٣ / ١٩٨ ، باب قيام الليل وتطوع النهار ؛ وأخرجه أحمد في المسند : ٥ / ٤٢٧ و ٤٢٨.

٣٨٧

وعلى ضوء هذا الإيصاء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسنّة التي أوصى بها غير مرة ، تخرج إقامة صلاة التراويح في شهر رمضان في المساجد مطلقا ـ سواء أقيمت جماعة أو فرادى ـ على خلاف السنّة وعلى خلاف إيصائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مرّة ، إذ بذلك تضحى بيوت المسلمين كالقبور حيث لا يصلّى فيها ولا يتعبّد.

ولا أدري لما ذا تركت هذه السنّة عبر القرون مع إصرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إقامة النوافل في البيوت؟!

والعجب من ابن حزم انّه اعترف بأفضلية كلّ تطوع في البيوت ولكن استثنى ما صلّى جماعة في المسجد حيث قال : « مسألة » وصلاة التطوّع في الجماعة أفضل منها منفردا ، وكلّ تطوع فهو في البيوت أفضل منه في المساجد إلاّ ما صلّى منه جماعة في المسجد فهو أفضل. (١)

ولا يخفى على القارئ الكريم انّ ما استثناه ابن حزم اجتهاد في مقابل النصّ ، فان كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلق يعمّ حالتي الفرادى والجماعة ، وقد مرّ في رواية سعد بن إسحاق انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل فلما صلّى ، قام ناس يتنفّلون ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليكم بهذه الصلاة في البيوت ». فلو كان التنفّل مع الجماعة في المسجد أفضل من التنفّل في البيوت ، لأرشدهم النبي إلى ما هو الأفضل مع أنّه قال بضرس قاطع : « عليكم بهذه الصلاة في البيوت » أي اتركوا التنفّل في المسجد مطلقا فرادى وجماعة وعليكم بها في البيوت.

__________________

١. المحلّى : ٣ / ٣٨.

٣٨٨

لقد نقل المعلّق على « المحلّى » تعليقا في المقام ، يدعم ما ذكرنا ، قال ما هذا نصه :

« قال ابن حزم ما كان عليه‌السلام ؛ ليدع الأفضل ، وهذا في هذه الوجهة ، ثمّ قال : هنا الجماعة أفضل للمتطوع ، وقد علم كلّ عالم انّ عامة تنفّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منفردا فعلى ما أصل ابن حزم ، كيف كان يدع الأفضل ، فعلمنا انّ صلاة الجماعة تفضل بخمسة وعشرين درجة إذا كانت فريضة لا تطوعا » وهو نقد وجيه ، وهو الحق.

٩. أخرج ابن ماجة عن عبد الله بن سعد قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال : ألا ترى إلى بيتي ما أقربه إلى المسجد؟! فلان أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة. (١)

قال المعلّق في الزوائد : إسناده صحيح ورجاله ثقات.

١٠. أخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال : « إذا قضى أحدكم صلاته فليجعل لبيته نصيبا ، فان الله جاعل في بيته من صلاته خيرا ». (٢)

ولا ينافي ما ذكرنا ما رواه الترمذي مرسلا عن حذيفة انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى المغرب ، فما زال يصلّي في المسجد حتى صلّى العشاء الآخرة. (٣) وذلك لأنّ

__________________

١. سنن ابن ماجة : ١ / ٤٣٩ برقم ١٣٧٨.

٢. سنن ابن ماجة : ١ / ٤٣٨ برقم ١٣٧٦.

٣. سنن الترمذي : ٢ / ٥٠٠ ذيل حديث ٦٠٤ ، وأخرجه أحمد في المسند : ٥ / ٤١٤.

٣٨٩

الحديث محمول على وجود عذر خاص للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتنفّل في المسجد بعد المغرب ، وقد اتّفق للنبي التنفّل في المسجد في بعض الليالي ، وكان كلّها استثناء من القاعدة لأجل عذر خاص ، كضيق في البيت أو غير ذلك.

فخرجنا بالنتيجة التالية : إنّ التنفّل في المساجد حتّى إقامة نوافل شهر رمضان فيها جماعة أو فرادى على خلاف السنّة النبوية ، فعلى المسلمين إقامتها في البيوت لا في المساجد.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم إقامة نوافل شهر رمضان جماعة والتي يطلق عليها صلاة التراويح فنقول :

٣٩٠

٤

صلاة التراويح جماعة عند الإماميّة

اتّفقت الشيعة الإمامية تبعا لأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام على أنّ نوافل شهر رمضان تقام فرادى. وانّ إقامتها جماعة بدعة حدثت بعد رسول الله بمقياس ما أنزل الله به من سلطان. (١)

قال الشيخ الطوسي : نوافل شهر رمضان تصلى انفرادا والجماعة فيها بدعة. (٢)

وقال العلاّمة : ولا تجوز الجماعة في هذه الصلاة عند علمائنا أجمع. (٣)

وقال في « المنتهى » : قال علماؤنا : الجماعة في نافلة شهر رمضان بدعة. (٤)

ترى هذه الكلمة ـ أي انّ إقامة النوافل في شهر رمضان بدعة ـ في عامّة الكتب الفقهية للشيعة الإمامية ولم يختلف فيه اثنان.

وقد تضافرت الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على أنّها بدعة محدثة حدثت بعد الرسول ، ونذكر بعض ما أثر عنهم :

__________________

١. ذكر ذلك المقياس ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : ٤ / ٢٤٠ ، وسوف يوافيك نصه.

٢. الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة ٢٦٨.

٣. التذكرة : ٢ / ٢٨٢.

٤. المنتهى : ٦ / ١٤٢.

٣٩١

١. روى الشيخ الطوسي في التهذيب عن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الصلاة في رمضان في المساجد؟ قال : « لمّا قدم أمير المؤمنين عليه‌السلام الكوفة أمر الحسن بن علي عليهما‌السلام أن ينادي في الناس : « لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة » ، فنادى في الناس الحسن بن علي عليهما‌السلام بما أمره به أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا : وا عمراه ، وا عمراه ، فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال له : ما هذا الصوت؟ فقال : يا أمير المؤمنين : الناس يصيحون : وا عمراه ، وا عمراه ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : قل لهم صلّوا ».

قال الشيخ الطوسي : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لما أنكر ، أنكر الاجتماع ولم ينكر نفس الصلاة ، فلمّا رأى أنّ الأمر يفسد عليه ويفتتن الناس ، أجاز وأمرهم بالصلاة على عادتهم. (١)

٢. أخرج الكليني عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل سألوا أبا جعفر الباقر عليه‌السلام وأبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا : « إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي ، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي كما كان يصلّي ، فاصطف الناس خلفه فهرب منهم إلى بيته وتركهم ، ففعلوا ذلك ثلاث ليال ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اليوم الرابع على منبره ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فإنّ تلك معصية ألا فإنّ كل بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار. ثمّ نزل وهو يقول : قليل في سنّة ، خير من كثير في بدعة ». (٢)

__________________

١. التهذيب : ٣ ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث ٣٠.

٢. الكافي : ٤ / ١٥٤.

٣٩٢

وأخرجه الشيخ في التهذيب. (١)

٣. أخرج الكليني عن عبيد بن زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلّى العتمة ، صلّى بعدها ، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم ، ثمّ يخرج أيضا فيجيئون فيقومون خلفه ، فيدعهم ويدخل مرارا ». (٢)

وحصيلة هذه الروايات : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهاهم بتركهم ودخوله البيت مرّة بعد أخرى ، غير انّ القوم لأجل رغبتهم إلى التنفّل جماعة وراء النبي ، حال بينهم وبين ما يصبو إليه النبي من تركهم ودخول البيت ، فلمّا رأى أنّهم يصرّون على ذلك قام في اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : « أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فان تلك معصية ألا فإنّ كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار ». ثمّ نزل وهو يقول : « قليل في سنّة خير من كثير في بدعة ». (٣)

__________________

١. التهذيب : ٣ / ٦٩ باب في فضل شهر رمضان ، الحديث ٢٩.

٢. الكافي : ٤ / ١٥٤.

٣. الفقيه : ١ / ٨٧ ، كتاب الصوم.

٣٩٣

٥

صلاة التراويح جماعة عند أهل السنّة

المشهور عند أهل السنّة هو جواز إقامتها جماعة وعليه عملهم عبر القرون إلاّ أنّهم اختلفوا فيما هو الأفضل من الجماعة والانفراد :

قال الشافعي : صلاة المنفرد أحبّ إليّ منه. (١)

واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين :

فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامّة أصحابه : صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكلّ حال.

والقول الثاني منهم من قال بظاهر كلام الشافعي وانّ صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة بشرطين :

أحدهما : أن لا تختل الجماعة بتأخّره عن المسجد.

والثاني : أن يطيل القيام والقراءة فيصلّي منفردا ويفرد أكثر ممّا يفرد إمامه. (٢)

قال النووي : اتّفق العلماء على استحبابها واختلفوا في أنّ الأفضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد ، فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم : الأفضل صلاتها جماعة ، كما فعله عمر بن الخطاب

__________________

١. المجموع : ٤ / ٥.

٢. الخلاف : ١ / ٥٢٨ ، المسألة ٢٦٨ من كتاب الصلاة.

٣٩٤

والصحابة واستمر عمل المسلمين عليه ، لأنّه من الشعائر الظاهرة وأشبه بصلاة العيد ، وبالغ الطحاوي فقال : إنّ صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية ، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم : الأفضل فرادى في البيت لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل الصلاة ، صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة » متّفق عليه. (١)

وقال الشوكاني : قالت العترة إنّ التجميع فيها بدعة. (٢)

وقد فصل عبد الرحمن الجزيري في كتابه « الفقه على المذاهب الأربعة » الأقوال على النحو التالي :

قالت المالكية : الجماعة في صلاة التراويح مستحبة أمّا باقي النوافل ، فان صلاتها جماعة تارة يكون مكروها ، وتارة يكون جائزا ، فيكون مكروها إذا صلّيت بالمسجد ، وصلّيت بجماعة كثيرين ، أو كانت بمكان يكثر تردد الناس عليه ، وتكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة ، ووقعت في المنزل ونحوه في الأمكنة التي لا يتردد عليها الناس.

وقال الحنفية : تكون الجماعة سنّة كفاية في صلاة التراويح والجنازة ، وتكون مكروهة في صلاة النوافل مطلقا والوتر في غير رمضان ، وإنّما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاث. أمّا الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان مصححان ، أحدهما : انّها مستحبة فيه ، وثانيهما : انّها غير مستحبة ولكنّها جائزة ، وهذا القول أرجح.

وقالت الشافعية : أمّا الجماعة في صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف

__________________

١. شرح صحيح مسلم للنووي : ٦ / ٢٨٦.

٢. نيل الأوطار : ٣ / ٥٠.

٣٩٥

والتراويح ووتر رمضان فهي مندوبة.

وقالت الحنابلة : أمّا النوافل فمنها ما تسنّ فيه الجماعة وذلك كصلاة الاستسقاء والتراويح والعيدين ، ومنها ما تباح فيه الجماعة كصلاة التهجد ورواتب الصلاة المفروضة. (١)

هذه هي أقوال أهل السنّة وآراؤهم.

__________________

١. الفقه على المذاهب الأربعة : ٤٠٧ ، كتاب الصلاة.

٣٩٦

٦

صلاة التراويح جماعة في حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

سيوافيك في الفصل التالي انّ ظاهر الروايات وكلام الخليفة عمر بن الخطاب وما حوله من كلمات الشرّاح انّ إقامة نوافل رمضان جماعة تستمد مشروعيتها من عمل الخليفة لا من عمل النبي ، لكن هناك من يقول بأنّ إقامتها جماعة تستمدّ مشروعيتها من إقامة المسلمين لها وراء النبي في بعض ليالي شهر رمضان وإن كان لا يتجاوز عن ليلة أو ثلاث ليال.

أقول : إنّ النصوص الدالّة على ذلك مختلفة وفيها شذوذ نشير إليها تباعا.

١. إقامتها ليلة واحدة

أخرج مسلم عن زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي فيها ، قال : فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلّون بصلاته ، قال : ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، قال : فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغضبا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت انّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (١)

__________________

١. صحيح مسلم : ٢ / ١٨٨ ، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

٣٩٧

تفسير لغات الحديث

١. الحجيرة ـ بضم الحاء ـ تصغير حُجرة ، عطف الحصير على الخصفة يعرب عن شك الراوي في تعيّن واحد منهم ، ومعنى الرواية احتجر حجرة أي حوّط موضعا من المسجد بحصير أو نحوه ليستره ليصلّي فيه ولا يمرّ بين يديه مارّ ولا يتهوش بغيره ويتوفر خشوعه وفراغ قلبه.

٢. « فتتبع إليه رجال » أي طلبوا موضعه.

٣. « حصبوا الباب » أي رموه بالحصاء وهي الحصاء الصغار تذكيرا له وظنوا أنّه نسي.

فلو صحّ الحديث لدلّ على أنّ المسلمين أقاموا نوافل شهر رمضان جماعة مع الرسول مرة واحدة من دون إذن أو استئذان ، فلما جاءوا ليلة أخرى فحضروا وأبطأ رسول الله عنهم فلم يخرج إليهم ، رفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله مغضبا ، وقال ما قال.

فعلى ضوء هذا الحديث لم تثبت مشروعية الجماعة بفعل الرسول ، لأنّ القوم اقتدوا به من دون أن يستفسروا ويستبينوا حكمه ، وأمّا الليلة الثانية فلم يقم الجماعة أبدا بل ظهرت ملامح الغضب على وجهه لما صدر عنهم من موقف مشين بالنسبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا ، وإصرارهم على إقامة النوافل جماعة ثانيا بالرغم من عدم استبانتهم حكمها.

٢. إقامتها ليلتين

انّ هناك روايات أخرى تخالف الرواية الأولى حيث يدلّ على أنّه أقيمت الجماعة في ليلتين.

٣٩٨

أخرج البخاري عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أمّ المؤمنين انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى ذات ليلة في المسجد وصلّى بصلاته ناس ، ثمّ صلّى من القابلة فكثر الناس ، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أصبح ، قال : قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان. (١)

وأخرجه مسلم أيضا في صحيحه. (٢)

٣. إقامتها ثلاث ليال

أخرج البخاري عن عروة انّ عائشة أخبرته انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلّى في المسجد وصلّى رجال بصلاته ، فأصبح الناس فتحدّثوا فاجتمع أكثر منهم ، فصلّى وصلّوا معه ، فأصبح الناس فتحدّثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى وصلّوا بصلاته ، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتّى خرج لصلاة الصبح ، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثمّ قال : « أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها » فتوفّي رسول الله والأمر على ذلك. (٣)

وأخرجه مسلم في صحيحه. (٤)

__________________

١. صحيح البخاري : ٢ / ٤٩ باب تحريض النبي على صلاة الليل.

٢. صحيح مسلم : ٢ / ١٧٧ باب الترغيب في قيام رمضان.

٣. صحيح البخاري : ٣ / ٤٥ ، باب فضل من قام رمضان.

٤. صحيح مسلم : ٢ / ١٧٧ ، باب الترغيب في قيام رمضان.

٣٩٩

أخرج البيهقي عن أبي ذر ، قال : صمنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، ثمّ لم يقم بنا في الثالثة ، وقام بنا في الخامسة ، حتّى ذهب شطر الليل ، فقلنا : يا رسول الله لو نفلنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال : إنّه من قام مع الإمام حتّى ينصرف كتب له القيام ليلة ، ثمّ لم يقم بنا حتّى بقي ثلاث من الشهر فصلّى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه ، فقام بنا حتّى تخوفنا الفلاح ، قلت له : وما الفلاح؟ قال : السحور. (١)

وعلى هذه الرواية خرج في الليلة الرابعة ( أو الثالثة والعشرين على قول بعضهم ) (٢) والعشرين والسادسة والعشرين والثامنة والعشرين.

هذه عمدة ما روي في المقام.

إنّ الأخذ بمضمون هذه الروايات مشكل لوجوه عديدة :

١. الاختلاف في عدد الليالي وتواليها ومواضعها

إنّ بين هذه الروايات تعارضا واختلافا في أمور ثلاثة :

الأوّل : وجود التعارض بين هذه الروايات في مقدار الليالي التي أقام النبي فيها جماعة ، فان كلّ واحد بصدد بيان عدد الليالي التي أقيمت فيها النوافل جماعة مع النبي ، فهل أقامها النبي ليلة واحدة كما هو مضمون الرواية الأولى؟ أو ليلتين أو ثلاث ليال ، كما هو مضمون الطائفتين الأخيرتين؟ وهذا يعرب عن أنّ الرواة لم يضبطوا الواقع بشكل دقيق.

__________________

١. سنن البيهقي : ٢ / ٤٩٤ ، باب من زعم أنّها بالجماعة أفضل ، ونقله الشوكاني في نيل الأوطار : ٣ / ٥٠ ، وقال : رواه الخمسة وصححه الترمذي.

٢. الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٢٥١.

٤٠٠