الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )

ثمّ قال في من لم يشهد الشهر :

( فَمَنْ كانَ ... أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ).

فإذا كان معنى الجملة الأولى انّ الشاهد يصوم ، يكون معنى الجملة الثانية ـ بحكم التقابل ـ انّ غير الشاهد ( المسافر ) لا يصوم ، فإذا كان الأمر في الجملة الأولى ظاهرا في الوجوب يكون النهي في الثانية ظاهرا في التحريم.

وقد روى عبيد بن زرارة ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : قلت له ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، قال : « ما أبينها :

من شهد الشهر فليصمه ومن سافر فلا يصمه ». (١)

الثالث (٢) : المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو صيام العدّة

إنّ ظاهر قوله سبحانه ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) هو انّ المكتوب على الصنفين من أوّل الأمر هو الصيام في أيّام أخر ، فإذا كان الصيام واجبا على عامة المكلّفين وكان المكتوب عليهم من أوّل الأمر هو الصيام في أيام أخر ، فصيامهم في شهر رمضان يكون بدعة وتشريعا محرّما ، لاتّفاق الأمّة على عدم وجوب صومين طول السنة.

كلمات بعض المفسرين تدعم موقفنا

إنّ لفيفا من المفسرين عند تفسير الآية ـ حرفيّا ـ فسروا الآية على غرار ما ذكرنا ، لكن عند ما وصلوا إلى بيان حكم الإفطار من العزيمة والرخصة ، صدّهم

__________________

١. الوسائل : ٧ ، الباب ١ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ٨.

٢. يأتي الوجه الرابع ص ٣٦٦ فلا تغفل.

٣٦١

فتوى إمامهم عن الإصحار بالحقيقة.

يقول الطبري : فمن كان منكم مريضا ممن كلّف صومه أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر فعدّة من أيام أخر ( يقول ) فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أخر ، يعني من أيّام أخر غير أيّام مرضه أو سفره. (١)

فظاهر قوله : « فعليه صوم عدّة أيّام » أي يلزم عليهما صوم تلك العدة ، ومع لزوم القضاء مطلقا كيف يكون مخيّرا بين الإفطار والصيام؟!

قال ابن كثير ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ، لما في ذلك من المشقة عليهما ، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر. (٢)

وفي الوقت نفسه هو يقول بعد صفحة ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخّص فيه للمريض والمسافر. (٣) فأين قوله : « لا يصومان في حال المرض والسفر » من قوله : ويرخّص فيه للمريض والمسافر؟!

فالتعبير الأوّل تعبير عن ظهور الآية جرى على قلمه بصورة عفوية من دون أن يلتفت إلى مذهب إمامه ، والجملة الثانية صدرت منه ـ غفلة عمّا ذكره ـ لدعم رأي إمام مذهبه.

تقدير « فأفطر » لتطبيق الآية على المذهب

ثمّ إنّ بعض المفسرين لما أدرك ظهور الآية في لزوم الإفطار وصيام أيّام أخر

__________________

١. تفسير الطبري : ٢ / ٧٧.

٢. تفسير القرآن العظيم : ١ / ٣٧٦.

٣. المصدر نفسه : ١ / ٣٧٨.

٣٦٢

مكان الأيّام التي أفطر فيها ، حاول أن يطبّق الآية على مذهب الترخيص فقدّر بعد قوله : « أو على سفر » لفظة « فأفطر » وقال : « فأفطر » فعدّة من أيّام أخر ، وكأنّ الصيام كتب عليهم أيضا في شهر رمضان لكن لهم الخيار ، فإذا أفطروا يجب عليهم صيام العدة وإن لم يفطروا فلا ، وليس هذا إلاّ لغاية تطبيق الآية على المذهب دون تفسير الآية برأسها ، وها نحن نذكر نماذج من كلماتهم :

١. إنّ الإمام الرازي ممّن ذكر دليل القائل بكون الإفطار عزيمة لا رخصة ومع ذلك اختار المذهب الآخر بحجّة انّ في الآية تقديرا أعني : « فأفطر » ، أو انّ القضاء يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر ، يقول :

ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنّه يجب على المريض والمسافر أن يفطر أو يصوم عدّة من أيّام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر.

وذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ الإفطار رخصة ، فإن شاء أفطر وإن شاء صام.

احتجّ الجمهور بوجوه :

الأوّل : انّ في الآية إضمارا ، لأنّ التقدير : فأفطر فعدة من أيّام أخر.

الثاني : ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط ، قال : القضاء إنّما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر.

الثالث : ما رواه ابن داود في سننه عن هشام. انّ حمزة الأسلمي سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله هل أصوم على السفر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صم إن شئت وأفطر إن شئت. (١)

يلاحظ على الوجه الأوّل : انّ الإضمار على خلاف الظاهر. ولا دليل على

__________________

١. التفسير الكبير : ٥ / ٧٤ و ٧٦.

٣٦٣

تقديره سوى تطبيق الآية على المذهب الفقهي.

وعلى الوجه الثاني : فهو ادّعاء بلا دليل ، وظاهر الآية والروايات التي ستوافيك انّ السفر لا يجتمع مع الصوم سواء أفطر أو لا.

وأمّا الوجه الثالث : فسيوافيك حال الرواية ، فانتظر.

٢. قال صاحب المنار في تطبيق الآية على فتوى مذهب الجمهور ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي من كان كذلك « فأفطر » فعليه صيام عدّة من أيّام أخر غير تلك الأيّام المعدودات ، فالواجب عليه القضاء ـ إذا أفطر ـ بعدد الأيام التي لم يصمها. (١)

أقول : ما ساق صاحب المنار إلى تقدير قوله « فأفطر » أو قوله : « إذا أفطر » إلاّ وقوفه على دلالة الآية على لزوم الإفطار وانّ الواجب عليه هو صوم عدّة أيّام أخر ، فحاول بتقدير « إذا أفطر » أن يصرف الآية عن ظهورها ويجعلها ظاهرة في التخيير بين صيام رمضان وصيام عدّة أيّام أخر.

والعجب انّه يصرّح في موضع آخر من كلامه بأنّه « تأويل » ، ومعنى كلامه عندئذ انّه صرف للآية عن ظاهرها بلا دليل.

يقول : اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة : لا يجزي الصوم عن الفرض ، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر ، لظاهر قوله تعالى : ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ... ظاهره فعليه عدّة أو فالواجب عدة ، وتأوّله الجمهور بأنّ التقدير : فأفطر فعدة. (٢)

__________________

١. تفسير المنار : ٢ / ١٥٠.

٢. تفسير المنار : ٢ / ١٥٣.

٣٦٤

ولا ينقضي تعجّبي منه ، حيث إنّه يصفه بأنّه تأويل ـ ومع ذلك يصرّ على صحة فتوى الجمهور ، ومع أنّه يندّد في ثنايا تفسيره بجملة من المقلّدين لأئمّة مذاهبهم حيث يؤوّلون ظواهر الآية تطبيقا لها لفتوى مذهب إمامهم ، ويقول في مسألة الطلاق ثلاثا ـ التي اختار فيها تبعا لظاهر القرآن بأنّه لا يقع إلاّ مرة واحدة ـ : ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (١)

وقد ردّ غير واحد من علماء الإمامية على من قدّر « فأفطر » بغية إثبات التخيير.

يقول الشيخ الطوسي : وفي هذه الآية دلالة على أنّ المسافر والمريض يجب عليهما الإفطار ، لأنّه تعالى أوجب عليهما القضاء مطلقا ، وكلّ من أوجب عليه القضاء بنفس السفر والمرض ، أوجب الإفطار.

فإن قدّروا في الآية « فأفطر » كان ذلك على خلاف الآية. وبوجوب الإفطار في السفر قال عمر بن الخطاب ( وقد ذكر أسماء عدّة من الصحابة والتابعين القائلين بوجوب الإفطار الذين ذكرنا أسماءهم في صدر البحث ). (٢)

يقول العلاّمة الطباطبائي ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) « الفاء » للتفريع ، والجملة متفرعة على قوله : « كتب » وقوله : « معدودات » أي انّ الصيام مكتوب مفروض عليهم فيها.

ثمّ يقول : وقد قدّر القائلون بالرخصة في الآية تقديرا فقالوا : إنّ التقدير

__________________

١. تفسير المنار : ٢ / ٣٨٦.

٢. التبيان : ٢ / ١٥٠.

٣٦٥

فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدّة من أيّام أخر.

ويرد عليه أوّلا : انّ التقدير كما صرّحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلاّ بقرينة ، ولا قرينة من نفس الكلام عليه.

وثانيا : انّ الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدلّ على الرخصة ، فإنّ المقام كما ذكروه مقام تشريع وغاية ما يدلّ عليه قولنا : « فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر » هو ، انّ الإفطار لا يقع معصية ، بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب والإباحة ، وأمّا كونه جائزا بالمعنى الأخصّ فلا دليل عليه من الكلام البتة ، بل الدليل على خلافه ، فان بناء الكلام على عدم بيان ما يجب بيانه في مقام التشريع لا يليق بالمشرّع الحكيم وهو ظاهر. (١)

الرابع : ذكر المريض والمسافر في سياق واحد

إنّ الآية ذكرت المريض والمسافر في سياق واحد وحكم عليهما بحكم واحد وقال ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فهل الرخصة في حقّ المسافر فقط ، أو تعمّ المسافر والمريض؟

فالأوّل يستلزم التفكيك ، فان ظاهر الآية انّ الصنفين في الحكم على غرار واحد لا يختلفان ، فالحكم بجواز الإفطار في المسافر دون المريض لا يناسب ظاهر الآية.

وأمّا الثاني فهل يصحّ لفقيه أن يفتي بالترخيص في المريض إذا كان الصوم ضارا أو شاقا عليه؟! فان الإضرار بالنفس حرام في الشريعة المقدسة كما أنّ

__________________

١. الميزان : ٢ / ١١.

٣٦٦

الإحراج في امتثال الفرائض ليس مكتوبا ولا مجعولا في الشرع ، قال سبحانه : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ). (١)

إلى هنا تبين حكم المسافر والمريض ، وإليك حكم الصنف الرابع.

٤. المطيق

هذا هو الصنف الرابع الذي يبيّن سبحانه حكمه بقوله ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ).

والمراد هو الشيخ الكبير والشيخة الكبيرة اللّذين لا يستطيعان أن يصوما أو لا يستطيعان إلاّ بمشقة كبيرة ، والظاهر هو الثاني ، لأنّ الإطاقة في اللغة أدنى درجات المكنة والقدرة على الشيء ، فلا تقول العرب أطاق إلاّ إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمّل به مشقة كثيرة.

وعلى كلّ تقدير فالواجب عليه فدية طعام ، وقد اختلفوا في مقدار الفدية على نحو مذكور في الفقه ، فمنهم من قال : نصف صاع وهم أهل الرأي ، وقال الشافعي : مدّ عن كلّ يوم ، وهو المذهب المنصور عند الإمامية.

لكن الاكتفاء بهذا المقدار أمر جائز ، غير انّ من قدر على الزائد من هذا المقدار فهو خير ، كما يقول سبحانه ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) أي أطعم أكثر من مسكين فهو خير.

ثمّ إنّ هنا تفسيرين آخرين للتطوّع :

١. الجملة ناظرة إلى المطيق والمقصود من جمع بين الصوم والصدقة فهو خير.

__________________

١. الحج : ٧٨.

٣٦٧

يلاحظ عليه بأنّه بعيد عن ظاهر الآية ، فإنّ المفروض انّ الشيخ لا يطيق الصوم إلاّ ببذل عامة جهده وطاقته فهل يستحبّ له الجمع بين الصوم والصدقة؟!

أضف إلى ذلك انّ المستطيع يجب عليه الصوم وحده ولا يستحب له الفدية ولكن الشيخ الكبير يستحب له مع الصوم ، الفدية!!

٢. الجملة ناظرة إلى أصحاب الأعذار ، أعني : المريض والمسافر ، والمقصود : إن زادا على تلك الأيام المعدودات فهو خير له ، لأنّ فائدته وثوابه له ، و « الفاء » في قوله ( فَمَنْ تَطَوَّعَ ) يدلّ على هذا ، لأنّها تفريع على حصر الفرضية في الأيام المعدودات. (١)

يلاحظ عليه بأنّه كيف تكون الجملة ناظرة إلى أصحاب الأعذار ـ مع توسط حكم الصنف الرابع بينهما حيث قال ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ، ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) ، ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ).

والظاهر انّه يرجع إلى الصنف الرابع ، والجملة تفريع على حصر الفرض في طعام مسكين ، والمقصود : فمن تطوّع بزيادة إطعام المسكين فهو خير له.

إلى هنا تمّ حكم الأصناف الأربعة.

* * *

بقي الكلام في تفسير قوله سبحانه ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فنقول :

__________________

١. تفسير المنار : ٢ / ١٥٨.

٣٦٨

من هو المخاطب في قوله ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ )؟

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما بيّن أحكام الأصناف الأربعة خاطب عامة المؤمنين مرّة أخرى بقوله :

( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).

وهذا الخطاب على غرار الخطاب السابق ، أعني قوله :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ).

والفرق بين الخطابين انّ الخطاب السابق خطاب قبل التفصيل ودعوة إلى الصوم والخطاب اللاحق خطاب بعد تفصيل أحكام الأصناف الأربعة ، فتكون النتيجة :

وان تصوموا أيّها المكلّفون على النحو المذكور في الآية خير لكم ، أي : يصوم الشاهد ، ويفطر المريض والمسافر ويصوم في أيّام أخر ويفدي المطيق.

وأمّا من يقول بالرخصة في المريض والمسافر أو في خصوص المسافر يتخذ ذلك ذريعة للرخصة ويقول « إنّ الخطاب فيها لأهل الرخص ، وانّ الصيام في رمضان خير لهم من الترخّص بالإفطار ». (١)

يلاحظ عليه بأنّ التفسير نابع من محاولة إخضاع الآية على المذهب الفقهي ، وهو التخيير بين الصوم والإفطار ، ولكنّه غير تام لوجهين :

١. انّ صرف الخطاب العام إلى الصنف الخاص ، تفسير بلا دليل ومن شعب التفسير بالرأي.

__________________

١. تفسير المنار : ٢ / ١٥٨ ، نقله عن بعض المفسرين وردّ عليه بقوله : وهذا غير مطرد ولا متفق عليه.

٣٦٩

٢. لو كان الخطاب لأهل الرخص كان اللازم أن يقول : وان يصوم المسافر خير من الإفطار ويبيّن الحكم باللفظ الغائب ، لا بالخطاب الحاضر.

بل الظاهر ـ كما مرّ ـ أنّه تأكيد على امتثال الفريضة وانّ الصوم خير ، فله أثره الجميل في النفس فان التنزّه عن الاسترسال في استيفاء اللذائذ الجسمانية ، وكبح جماح الشهوات يورث التقوى والتجافي عن الإخلاد إلى الأرض.

ولغاية الإيضاح نقول إنّ الآية الثانية ، تتشكل من أربع فقرأت بعد بيان انّ الواجب لا يتجاوز عن كونه أيّاما معدودات.

الأولى ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ).

الثانية ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ).

الثالثة ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ).

الرابعة ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).

وجاءت الفقرات الثلاث الأول بصيغة الغائب بخلاف الأخيرة فجاءت بصيغة الخطاب.

وهذا دليل على أنّه منقطع عن المقاطع الثلاثة وتأكيد للخطاب الأوّل بعد التفصيل أعني قوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ).

* * *

ثمّ إنّه سبحانه ذكر في الآية الثالثة جملا ثلاثا :

أ. ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ).

وهو بيان لحكمة رفع الصيام عن الأصناف الثلاثة ، أي أمروا بالإفطار لأجل اليسر ودفع العسر ، من غير فرق بين المريض والمسافر ومن يشق عليه

٣٧٠

الصيام.

ب. ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ).

وهو راجع إلى قضاء المريض والمسافر ، أي أنّ الموضوع عنهما هو حكم الصيام في شهر رمضان ، وأمّا القضاء بعدد الأيّام المعدودات فلا.

ج. ( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).

الجملة غاية أصل الصيام حيث إنّه سبحانه يطلب من عباده ، تكبيرة في مقابل هدايتهم حتّى يكونوا شاكرين لنعمه.

هذا تفسير الآيات الثلاث حسب ما يوحيه ظاهرها.

٣٧١

٢

السنّة وصوم رمضان في السفر

قد عرفت قضاء الكتاب في مورد الصوم في السفر وانّ الواجب هو الإفطار والقضاء في أيّام أخر حسب ما أفطر ، فلنرجع إلى السنّة ولندرس الروايات الواردة ، وسيوافيك انّها تعاضد القرآن الكريم ولا تخالفه قيد شعرة بشرط الإمعان في مضامينها وأسنادها ، أمّا ما ورد عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام فهو متضافر لا يسعنا نقلها في المقام وإنّما نتبرّك بذكر بعضها :

١. روى الكليني بسنده عن الزهري ، عن علي بن الحسين عليهما‌السلام في حديث قال : « وأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامة قد اختلفت في ذلك ، فقال قوم : يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وأمّا نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا ، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء ، فان الله عزّ وجلّ يقول ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فهذا تفسير الصيام ». (١)

٢. روى الكليني بسنده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سمّى رسول

__________________

١. الكافي : ٤ / ٨٣ ، باب وجوه الصوم.

٣٧٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوما صاموا حين أفطر وقصّر : عصاة ، وقال : هم العصاة إلى يوم القيامة ، وانّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا ». (١)

٣. روى الكليني عن عبيد بن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قول الله عزّ وجلّ ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، قال : « ما أبينها : من شهد الشهر فليصمه ، وإن سافر فلا يصمه ». (٢)

٤. روى الكليني عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله عزّ وجلّ تصدّق على مرضى أمّتي ومسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة ان ترد عليه ». (٣)

٥. روى الكليني عن عيص بن القاسم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر » وقال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلمّا انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر ثمّ أفطر الناس معه ، وثمّ أناس على صومهم فسمّاهم العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ». (٤)

هذا بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ذكرناه ليكون نموذجا لما لم نذكر ، واقتصرنا بالقليل من الكثير ، ومن المعلوم أنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أحد

__________________

١. الكافي : ٤ / ١٢٧ ، باب كراهية الصوم في السفر ، الحديث ٦.

٢. المصدر نفسه ، الحديث ١.

٣. المصدر نفسه ، الحديث ٢.

٤. المصدر نفسه ، الحديث ٥. وقد ورد هذا المضمون في غير واحد من روايات أهل السنّة روى مسلم في رواية خرج رسول الله عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثمّ أفطر وكان صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ( شرح صحيح مسلم للنووي : ٧ / ٢٢٩ ).

٣٧٣

الثقلين اللّذين تركهما الرسول بين الأمّة لصيانتها عن الضلالة فلا يعادل قولهم قول الآخرين.

ومن حسن الحظ انّ روايات أهل السنّة توافق ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، ونذكر منها ما يلي :

١. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، كان رسول الله في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلّل عليه.

فقال : ما هذا؟

فقالوا : صائم.

فقال : ليس من البر الصوم في السفر.

وفي لفظ صحيح مسلم : ليس البر أن تصوموا في السفر. (١)

إنّ البر في مصطلح القرآن هو العمل الحسن الذي يقابله الإثم ، يقول سبحانه ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (٢) فإذا لم يكن الصوم في السفر برا فهو إثم ، وحكم الإثم واضح.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن ورد فيمن وقع في حرج شديد ، لكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب قاعدة كلية لمطلق الصائم في السفر ، سواء أكان عليه حرج أم لا ، بشهادة انّه لو كان الموضوع هو الصوم الحرجي لكان عليه التركيز عليه ويقول ليس من البر الصوم الحرجي أو يستشهد بقوله سبحانه ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ).

يقول ابن حزم : فإن قيل : إنّما منع عليه‌السلام في مثل حال ذلك الرجل.

قلنا : هذا باطل لا يجوز ، لأنّ تلك الحال محرّم ، البلوغ إليها باختيار المرء

__________________

١. صحيح البخاري : ٣ / ٤٤ ؛ صحيح مسلم : ٧ / ٢٣٣.

٢. المائدة : ٢.

٣٧٤

للصوم في الحضر كما هو في السفر ، فتخصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمنع من الصيام في السفر إبطال لهذه الدعوى المفتراة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواجب أخذ كلامه عليه‌السلام على عمومه. (١)

٢. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ثمّ شرب ، فقيل له بعد ذلك : إنّ بعض الناس قد صام؟ فقال : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة ». (٢)

والمراد من العصيان هو مخالفة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول سبحانه ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ). (٣)

والعجب ممّن يريد احياء مذهب إمامه يحمل الحديث على أنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أمرا استحبابيا ، لكنّه بمعزل من الواقع ، فأين الاستحباب من قوله : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة »؟!

٣. أخرج ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر ». (٤)

ودلالة الحديث على كون الإفطار عزيمة واضحة ، فإنّ الإفطار في السفر إذا كان إثما وحراما فيكون النازل منزلته أعني : الصيام في نفس هذا الشهر إثما وحراما.

٤. أخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك ، عن رجل من بني عبد الأشهل

__________________

١. المحلّى : ٦ / ٢٥٤.

٢. شرح صحيح مسلم للنووي : ٧ / ٢٣٢.

٣. الأحزاب : ٣٦.

٤. سنن ابن ماجة : ١ / ٥٣٢ ، رقم الحديث ١٦٦٦ ؛ سنن أبي داود : ٢ / ٢١٧ رقم ٢٤٠٧.

٣٧٥

قال : أغارت علينا خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتغدّى ، فقال : « ادن فكل » ، قلت : إنّي صائم قال : « اجلس أحدّثك عن الصوم أو الصيام ، إنّ الله عزّ وجلّ وضع عن المسافر شطر الصلاة ، وعن المسافر والحامل والمرضع ، الصوم أو الصيام ». والله لقد قالهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلتاهما أو إحداهما ، فيا لهف نفسي فهلاّ كنت طعمت من طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١)

٥. روى أبو داود انّ دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط ، وذلك ثلاثة أميال في رمضان ، ثمّ إنّه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا ، فلمّا رجع إلى قريته ، قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أنّي أراه ، انّ قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ذلك للذين صاموا ثمّ قال عند ذلك : اللهم اقبضني إليك. (٢)

هذا بعض ما يستدلّ به على كون الإفطار عزيمة ، وقد تركنا البعض الآخر لما استوفينا البحث في نقل الروايات الواردة في الصحاح والسنن في كتابنا « البدعة » (٣) ، فمن أراد التبسط فليرجع إليه.

__________________

١. سنن ابن ماجة : ١ / ٥٣٣ برقم ١٦٦٧.

٢. سنن أبي داود : ٢ / ٣١٩ ، الحديث ٢٤١٣.

٣. البدعة : ٢٨٣ ـ ٢٨٧.

٣٧٦

٣

ما اتّخذ ذريعة لجواز الصوم في السفر

إنّ هنا روايات يتمسّك بها على أنّ الإفطار رخصة وانّ المكلّف مخيّر بينه وبين الصيام وقبل الخوض في المقام نلفت نظر القارئ إلى أمور ثلاثة يظهر بالإمعان فيها حال بعض ما روي في المقام.

١. انّ البحث مركّز على حكم صيام شهر رمضان في السفر ، وانّ الإفطار عزيمة أو رخصة وامّا صيام غيره في السفر فخارج عن موضوع البحث.

٢. انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالإفطار في عام الفتح ( السنة الثامنة من الهجرة ) وكان الحكم قبله على الجواز ، فلو دلّ حديث عليه فإنّما يصحّ الاستدلال به إذا ورد بعد عام الفتح ، وإلاّ فالجواز قبل الفتح ليس موردا للنقاش.

٣. لو افترضنا دلالة الروايات على التخيير فتقع المعارضة بين الآمرة بالإفطار والحاكمة على التخيير ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات فما وافق الكتاب فهو الحجّة دون ما خالف.

وعلى ضوء هذه الأمور ندرس الروايات المجوّزة ونقول : إنّ الروايات المجوّزة على أصناف :

٣٧٧

أ. ما ليس صريحا في شهر رمضان

١. أخرج البخاري عن عائشة انّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصوم في السفر ـ وكان كثير الصيام ـ فقال : « إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ». (١)

إنّ قوله : « وكان كثير السفر » يصلح أن يكون قرينة على أنّ السؤال كان عن الصوم المندوب ، ولو لم يكن قرينة فالحديث ليس صريحا في صيام شهر رمضان ، وما لم يكن كذلك لا يحتجّ به.

٢. ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي الدرداء قال : خرجنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتّى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ وما فينا صائم إلاّ ما كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن رواحة. (٢)

يلاحظ عليه : بما ذكرناه في الرواية السابقة من عدم ظهور الرواية في صوم شهر رمضان ، ومعه لا يحتجّ به ، مع أنّه يحتمل أن يكون صومه قبل عام الفتح.

٣. أخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : كنّا نسافر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. (٣)

يلاحظ عليه : بأنّه ليس صريحا في شهر رمضان ـ مضافا ـ إلى سكوت الصحابة ليس حجّة شرعية وليس بعد نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبوة تشريعية حتّى يكون تقريرهم حجّة.

__________________

١. صحيح البخاري : ٣ / ٤٣.

٢. صحيح البخاري : ٣ / ٤٣.

٣. صحيح البخاري : ٣ / ٤٤. ونقله مسلم مقيّدا برمضان ، وسيوافيك في القسم الثاني.

٣٧٨

على أنّه يحتمل أن يكون ذلك قبل يوم الفتح ، وقد عرفت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ندّد بمن لم يفطر في ذلك اليوم وقال : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة ».

٤. أخرج مسلم بسنده عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : لا تعب على من صام ولا على من أفطر ، فقد صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر وأفطر. (١)

وليس الحديث صريحا في شهر رمضان ولا ظاهرا فيه ، على أنّه يمكن أن يكون قبل الفتح ، ومنه يظهر ما نقله مسلم في صحيحه (٢) وما ذكره ابن حزم في « المحلّى » عن علي. (٣)

ب : ما هو صريح في شهر رمضان وليس صريحا في ما بعد الفتح

٥. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : كنّا نسافر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره. (٤)

٦. وأخرج عن أنس ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن صوم رمضان في السفر فقال :

سافرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. (٥)

يلاحظ عليه : قد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة في شهر رمضان في غزوة بدر ، وأخرى في عام الفتح ، فلعلّ الحديثين ناظران إلى سفره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر رمضان في غزوة بدر ، وإلاّ فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ندّد بمن تخلّف وصام في رمضان عام الفتح وسمّاهم

__________________

١. صحيح مسلم : ٣ / ١٤٣ ، باب جواز الصوم والفطر.

٢. صحيح مسلم : ٣ / ١٤٣.

٣. المحلى : ٦ / ٢٤٧.

٤ و ٥. صحيح مسلم : ٣ / ١٤٣ ، باب جواز الصوم والفطر.

٣٧٩

عصاة ، والحديثان شاهدان على أنّ ما دلّ على الجواز ، فإنّما يرجع إلى ما قبل الفتح لا فيه ولا بعده.

ج : ما هو ضعيف سندا لا يحتجّ به

وهناك روايات ضعاف لا يحتج بها ، نذكر منها نموذجين :

١. ما روي عن العطريف بن هارون مرسلا : انّ رجلين سافرا فصام أحدهما وأفطر الآخر ، فذكرا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كلاكما أصاب. (١)

٢. ما روي مرسلا عن أبي عياض : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن ينادى في الناس من شاء صام ومن شاء أفطر. (٢)

والرواية مرسلة لا يحتجّ به. (٣)

كما أنّ ما رواه ابن حزم عن عائشة (٤) « انّها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة » اجتهاد منها لا يحتجّ به إذا صامت في شهر رمضان بعد الفتح.

وحاصل الكلام : انّ هذه الروايات بين ما هي غير صريحة في كون الصيام كان صيام شهر رمضان أو صريح في كونه في شهر رمضان لكن ليس صريحا فيما بعد الفتح وبين ما هي ضعيفة سندا لا يحتج بها.

ولو افترضنا دلالة هذه الروايات على الرخصة فتقع المعارضة بينها وبين ما دلّت بصراحتها على أنّ الإفطار عزيمة وعندئذ يقع التعارض بينهما فتصل النوبة إلى المرجّحات ، وأولى المرجّحات هو موافقة الكتاب ، ومن المعلوم انّ الطائفة الأولى توافق الكتاب وقد عرفت دلالة الكتاب على أنّ الإفطار عزيمة.

__________________

١. المحلى : ٦ / ٢٤٧.

٢. المحلى : ٦ / ٢٤٨.

٣ و ٤. المحلى : ٦ / ٢٤٧.

٣٨٠