الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

ذلك بدل المسح لخبث باطن القدمين ، وبما انّ قسما كثيرا منهم كانوا حفاة ، فراق في أنفسهم تبديل المسح بالغسل ، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص.

١. روى ابن جرير عن حميد ، قال : قال موسى ابن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة انّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه وذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وانّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. (١)

٢. وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيد الغسل ، وتؤاخذ من يقول بالمسح ، حتّى أنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلاّ خفية ، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري انّه قال لقومه : اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا اجتمعوا ، قال : هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا : لا ، إلاّ ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضّأ ومضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثمّ صلّى. (٢)

هذه وجوه ثلاثة يمكن أن يبرّر بها الغسل مكان المسح مع دلالة الكتاب العزيز على المسح ، والأقرب هو الثاني ثمّ الثالث.

__________________

١. تفسير القرآن لابن كثير : ٢ / ٢٥ ؛ تفسير القرآن للطبري : ٦ / ٨٢.

٢. مسند أحمد : ٥ / ٣٤٢ ؛ المعجم الكبير : ٣ / ٢٨٠ برقم ١٢ ٣٤.

٢١

٦

ما هو العامل في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ )؟

أنّ آية الوضوء هي الدليل المبرم على وجوب الوضوء وكيفيته ، وهي آية واضحة نزلت لتبيين ما هو تكليف المصلّي قبل الصلاة ، وطبيعة الحال تقتضي أن تكون آية واضحة المعالم ، محكمة الدلالة ، دون أن يكتنفها إجمال أو إبهام ، قال سبحانه :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ).

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).

( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).

وتعيين أحد القولين من مسح الرجلين أو غسلهما رهن تشخيص العامل في لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ).

توضيحه : إنّ في الآية المباركة عاملين وفعلين كل يصلح في بدء النظر لأن يكون عاملا في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) إنّما الكلام في تعيين ما هو العامل حسب ما يستسيغه الذوق العربي؟

والعاملان هما :

فاغسلوا :

٢٢

وامسحوا :

فلو قلنا : إنّ العامل هو الأوّل يجب غسلهما ، ولو قلنا بأنّ العامل هو الثاني يجب مسحهما ، فملاك إيجاب واحد منهما رهن تعيين العامل في « أرجلكم ».

لا شكّ انّ الإمعان في الآية ، مع قطع النظر عن كل رأي مسبق وفعل رائج بين المسلمين ، يثبت انّ الثاني ، أي ( فامسحوا ) هو العامل دون الأوّل البعيد.

وإن شئت قلت : إنّه معطوف على القريب ، أي الرءوس لا على البعيد ، أعني : الوجوه ، ونوضح ذلك بالمثال التالي :

لو سمعنا قائلاً يقول : أحب زيدا وعمرا ومررت بخالد وبكر من دون أن يعرب « بكر » بالنصب أو الجرّ ، نحكم بأنّ « بكر » معطوف على « خالد » والعامل فيه هو الفعل الثاني وليس معطوفا على « عمرو » حتّى يكون العامل فيه هو الفعل الأوّل.

وقد ذكر علماء العربية أنّ العطف من حقّه أن يكون على الأقرب دون الأبعد ، وهذا هو الأصل والعدول عنه يحتاج إلى قرينة موجودة في الكلام ، وإلاّ ربما يوجب اللّبس واشتباه المراد بغيره.

فلنفرض أنّ رئيسا قال لخادمه : أكرم زيدا وعمرا واضرب بكرا وخالدا ، فهو يميز بين الجملتين ، ويرى أنّ « عمرا » عطف على « زيدا » ، وأمّا « خالدا » فهو عطف على « بكرا » ، ولا يدور بخلده خلاف ذلك.

قال الرازي : يجوز أن يكون عامل النصب في قوله ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله : ( وَامْسَحُوا ) ويجوز أن يكون هو قوله ( فَاغْسِلُوا ) لكن العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى ، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله : ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله ( وَامْسَحُوا ).

٢٣

فثبت انّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بنصب اللام توجب المسح. (١)

فإذا كانت الحال كذلك ولا يجوز الخروج عن القواعد في الأمثلة العرفية ، فأولى أن يكون كلام ربّ العزة كذلك.

وليس المثال منحصرا بما ذكرنا ، بل بإمكانك الأدلاء بأمثلة مختلفة شريطة أن تكون مشابهة لما في الآية.

فلو إنّك عرضت الآية على أيّ عربيّ صميم يجرّد نفسه عن المذهب الذي يعتنقه ، وسألته عن دلالة الآية يجيبك :

إنّ هناك أعضاء يجب غسلها ، وهي الوجوه والأيدي.

وأعضاء يجب مسحها وهي الرءوس والأرجل.

ولو ألفت نظره إلى القواعد العربية تجده انّه لا يتردد انّ العامل في الرءوس والأرجل شيء واحد وهو قوله ( وَامْسَحُوا ) ولا يدور بخلده التفكيك بين الرءوس والأرجل بأن يكون العامل في الرءوس قوله ( فَامْسَحُوا ) والعامل في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) هو قوله ( فَاغْسِلُوا ).

فإذا اتّضحت دلالة الآية على واحد من المسح والغسل فلا نحتاج إلى شيء آخر ، فالموافق منه يؤكّد مضمون الآية ، والمخالف يعالج بنحو من الطرق أفضلها انّها منسوخة بالكتاب.

__________________

١. التفسير الكبير : ١١ / ١٦١.

٢٤

٧

القراءتان والمسح على الأرجل

إنّ اختلاف القرّاء في لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالفتح والجر لا يؤثر في دلالة الآية على وجوب المسح ، فالقراءتان تنطبقان على ذلك القول بلا أي إشكال.

توضيح ذلك :

إنّه قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب ، وهذه هي القراءة المعروفة التي عليها المصاحف الرائجة في كلّ عصر وجيل.

وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجرّ.

ونحن نقول : إنّ القراءتين تنطبقان على القول بالمسح بلا تريّث وتردد.

أمّا الثاني أي قراءة الجر ، فهو أقوى شاهد على أنّه معطوف على قوله : ( بِرُؤُسِكُمْ ) إذ ليس لقراءة الجرّ وجه سوى كونه معطوفا على ما قبله. وعندئذ تكون الأرجل محكومة بالمسح بلا شك.

وأمّا قراءة النصب فالوجه فيه أنّه عطف على محل ( بِرُؤُسِكُمْ ) لأنّه منصوب محلاّ مفعول لقوله ( وَامْسَحُوا ) وعندئذ تكون الأرجل أيضا محكومة بالمسح فقط ، والعطف على المحل أمر شائع في اللغة العربية ، وقد ورد أيضا في

٢٥

القرآن الكريم.

أمّا القرآن فقال سبحانه ( أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (١) فقراءة :

( وَرَسُولِهِ ) بالضم هي القراءة المعروفة الرائجة ولا وجه لرفعه إلاّ كونه معطوفا على محل اسم إنّ ، أعني : لفظ الجلالة في ( أَنَّ اللهَ ) لكونه مبتدأ.

وقد ملئت مسألة العطف على المحل كتب الأعاريب ، فقد عقد ابن هشام بابا خاصا للعطف على المحل وذكر شروطه. (٢)

وأمّا في الأدب العربي فحدّث عنه ولا حرج ، قال القائل :

معاوي إنّنا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فقول : « ولا الحديدا » بالنصب عطف على محل « بالجبال » لأنّها خبر ليس في قوله « فلسنا ».

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ اختلاف القراءتين لا يؤثّر في تعيّن القول بالمسح ، وسوف يوافيك دراسة القراءتين على القول بالغسل.

ثمّ إنّ لفيفا من أعلام السّنة صرحوا بدلالة الآية على المسح قائلين بأنّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوف على الأقرب لا الأبعد ، وانّ العامل فيه هو ( وَامْسَحُوا ) ، ونذكر بعض تلك الكلمات :

١. قال ابن حزم : وأمّا قولنا في الرجلين ، فان القرآن نزل بالمسح ، قال تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) ، وسواء قرئ بخفض اللام أو فتحها ، فهي على كلّ حال عطف على الرءوس امّا على اللفظ وإمّا على الموضع ، ولا يجوز

__________________

١. التوبة : ٣.

٢. مغني اللبيب : الباب ٤ ، مبحث العطف. قال : الثاني : العطف على المحل ثمّ ذكر شروطه.

٢٦

غير ذلك. (١)

وقال الرازي : أمّا القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرءوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.

وأمّا القراءة بالنصب ، فقالوا ـ أيضا ـ انّها توجب المسح ، وذلك لأنّ قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) في محل النصب ، ولكنّها مجرورة بالباء ، فإذا عطف الأرجل على الرءوس جاز في الأرجل النصب عطفا على محل الرءوس ، والجر عطفا على الظاهر ، وهذا مذهب مشهور النحاة. (٢)

٢. وقال الشيخ السندي الحنفي ـ بعد ان جزم انّ ظاهر القرآن هو المسح ـ ما هذا لفظه : وإنّما كان المسح هو ظاهر القرآن ، لأنّ قراءة الجر ظاهرة فيه ، وقراءة النصب محمول على جعل العطف على المحل. (٣)

ولعلّ هذا المقدار من النقول يكفي في تبيين انّ كلتا القراءتين تدعمان المسح فقط وتنطبقان عليه بلا إشكال.

__________________

١. المحلى : ٢ / ٥٦.

٢. التفسير الكبير : ١١ / ١٦١.

٣. شرح سنن ابن ماجة : ١ / ٨٨ ، قسم التعليقة.

٢٧

٨

القراءتان وغسل الأرجل

قد عرفت أنّ اختلاف القراءة في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) لا يؤثر في القول بمسح الرجلين ، سواء أقرأنا قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب أم قرأناه بالجر ، فكلتا القراءتين تدعمان المسح وبالتالي العامل في قوله ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله : ( وَامْسَحُوا ) ولفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) إمّا لفظا أو محلا.

إنّما الكلام في إمكانية تطبيق القول بالغسل على القراءتين المعروفتين ومقدار انسجامه معهما والقواعد العربية. وسيتضح من خلاله انّ فرض الغسل على الآية خرق واضح للقواعد العربية ، وإليك البيان :

الغسل وقراءة النصب

فلو قلنا بدلالة الآية على غسل الأرجل ، فلا محيص من أن يكون العامل هو قوله في الجملة المتقدّمة ( فَاغْسِلُوا ) وأن يكون معطوفا على قوله ( وُجُوهَكُمْ ) وهذا يستلزم الفصل بين المعطوف ( وَأَرْجُلَكُمْ ) والمعطوف عليه ( وُجُوهَكُمْ ) بجملة أجنبية وهي ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) مع أنّه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمفرد فضلا عن جملة أجنبية ، ولم يسمع في كلام العرب الفصيح قائل يقول : « ضربت زيدا » و « مررت ببكر وعمرا » بعطف « عمرا » على « زيدا ».

٢٨

١. قال ابن حزم : لا يجوز عطف أرجلكم على وجوهكم ، لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدئة. (١)

٢. وقال أبو حيان : ومن ذهب إلى أنّ قراءة النصب في ( وَأَرْجُلَكُمْ ) عطف على قوله ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فهو بعيد ، لأنّ فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة إنشائية. (٢)

٣. وقال الشيخ الحلبي في تفسير الآية : نصب ( وَأَرْجُلَكُمْ ) على المحل وجرها على اللفظ ، ولا يجوز أن يكون النصب للعطف على وجوهكم ، لامتناع العطف على وجوهكم للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة ، ولم يسمع في الفصيح نحو ضربت زيدا ومررت ببكر وعمرا بعطف عمرا على زيد. (٣)

٤. وقال الشيخ السندي : وحمل قراءة النصب بالعطف على المحل أقرب لاطّراد العطف على المحل ، وأيضا فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه ، فصار ظاهر القرآن هو المسح. (٤)

إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بأنّ قراءة النصب واستفادة الغسل يتوقّف على خرق قاعدة نحوية ، وهي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية.

__________________

١. المحلى : ٢ / ٥٦.

٢. تفسير النهر الماد : ١ / ٥٥٨.

٣. غنية المتملي في شرح منية المصلي المعروف بالحلبي الكبير : ١٦.

٤. شرح سنن ابن ماجة : ١ / ٨٨.

٢٩

الغسل وقراءة الجر

إنّ القائلين بغسل الأرجل برّروا قراءة النصب بوجه قد عرفت ضعفه وعدم انسجامه مع القواعد العربية ، ولكنّهم لمّا وقفوا على قراءة الجرّ وانّها تدلّ على المسح دون الغسل حاروا في تبريرها وتوجيهها مع القول بالغسل ، فإنّ قراءة الجر صريحة في أنّ لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) فيكون حكمها حكم الرءوس ، وعند ذلك مالوا يمينا ويسارا حتّى يجدوا لقراءة الخفض مع القول بالغسل مبرّرا ، وليس هو إلاّ القول بالجرّ بالجوار.

وحاصله : انّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) محكوم حسب القواعد بالنصب لكونها معطوفة على قوله ( وُجُوهَكُمْ ) ، ولكنّه اكتسب أعراب الجرّ من قوله :

( بِرُؤُسِكُمْ ) لأجل وقوعه في جنب لفظ مجرور وهذا ما يقال له : « الجرّ بالجوار » وهو ترك اللفظ إعرابه الطبيعي واكتساب أعراب اللفظ المجاور معه ، وقد مثلوا له بقولهم « جحر ضبّ خرب » فان قوله « خرب » خبر لقوله : « جحر » ولكنّه قرأ بالجرّ لوقوعه في جنب كلمة ضبّ حيث إنّه مجرور باعتبار كونه مضاف إليه.

وبما أنّ الجرّ بالجوار إمّا غير واقع في فصيح اللغة ، وعلى فرض وقوعه فله شروط مفقودة في المقام ، نعقد لبيان الموضوع الفصل التالي.

٣٠

٩

الجر بالجوار صحة وشرطا

لما كان القائلون بغسل الأرجل يفسّرون قراءة الجرّ بالجوار ، نذكر كلمات أعلام الأدباء في المقام ليعلم مدى صحّة الجرّ بالجوار ، وعلى فرض صحّته ما هي شروطه؟

١. قال الزجاج : ربما يقال ( وَأَرْجُلَكُمْ ) مجرور لأجل الجوار ، أي لوقوعه في جنب الرءوس المجرورة ، نظير قول القائل : جحر ضب خرب ، فإن « خرب » خبر « الجحر » فيجب أن يكون مرفوعا ، لكنّه صار مجرورا لأجل الجوار.

هذا ، ثمّ ردّ عليه بقوله : وهو غير صحيح ، لاتّفاق أهل العربية على أنّ الأعراب بالمجاورة شاذ نادر ، وما هذا سبيله لا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجأ إليها. (١)

٢. قال علاء الدين البغدادي في تفسيره المسمى بالخازن : وأمّا من جعل كسر اللام في « الأرجل » على مجاورة اللفظ دون الحكم. واستدل بقولهم : « جحر ضب خرب » وقال : الخرب نعت للجحر لا الضب ، وإنّما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس بجيّد لوجهين :

__________________

١. معاني القرآن وإعرابه : ٢ / ١٥٣.

٣١

أ. لأنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر ، أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس ، لأنّ الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر.

ب. ولأنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون واو العطف ، امّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب. (١)

٣. أنكر السيرافي وابن جنّي الخفض على الجوار وتأوّلا قولهم « خرب » بالجر على أنّه صفة للضب ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المغني. (٢)

٤. قال ابن هشام : ولا يكون الجر بالجوار في النسق ، لأنّ العاطف يمنع التجاور. (٣)

ويتلخص من هذه الكلمات التي نقلناها بالإيجاز الأمور التالية :

أوّلا : انّ الخفض بالجواز لم يثبت في الكلام الفصيح.

ثانيا : انّ الخفض بالجوار على فرض ثبوته إمّا لضرورة الشعر أو لأجل استحسان الطبع المماثلة بين اللفظين المتجاورين ، وكلّ من الوجهين منتفيان في المورد ، فليس هنا ضرورة شعرية ولا استحسان الطبع في إخلاء لفظ ( وَأَرْجُلَكُمْ ) من إعرابه الواقعي واكتسابه إعراب جاره.

ثالثا : انّ العطف بالجوار إنّما يجوز فيما إذا يؤمن عن الاشتباه كما في المثل المعروف فان « خرب » وصف للجحر لا للضبّ وان جرّ ، بخلاف المقام فإنّ قراءة الجرّ تورث الاشتباه ، فلو كان الأرجل في الواقع محكومة بالغسل فالجرّ بالجوار

__________________

١. تفسير الخازن : ٢ / ١٦.

٢ و ٣. مغني اللبيب ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية ، ٣٥٩.

٣٢

يوهم كون الأرجل محكومة بالمسح وانّها معطوفة على الرءوس من دون أن يلتفت المخاطب إلى أنّ الجرّ للجوار فلا داعي لارتكاب هذا النوع من الخفض الذي يضاد بظاهره مراد القائل.

ورابعا : لم يثبت الجر بالجوار إلاّ في الوصف والبدل وأمثالهما لا في المعطوف كما في الآية.

وظهر من هذا البحث الضافي انّ القول بالمسح ينطبق على كلتا القراءتين بلا أدنى تأويل وحرج ، وهذا بخلاف القول بالغسل فإنّه لا ينسجم لا مع قراءة النصب ولا مع قراءة الجرّ.

٣٣

١٠

الاجتهاد تجاه النص

إنّ آفة الفقه هو التمسك بالاعتبارات والوجوه الاستحسانيّة أمام النصّ ، لأنّه يضاد مذهب التعبديّة ، فالمسلم يتعبد بالنص ـ وإن بلغ ما بلغ ـ ولا يقدّم رأيه على كتاب الله وسنّة رسوله الصحيحة ، وهو آية الاستسلام أمام الله وأمام رسوله وكتابه وسننه ، قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (١)

أي لا تتقدّموا على الله ورسوله بافتراض رأيكم على الرسول والأمّة المسلمة.

إنّ تقديم الوجوه الاستحسانية على النصّ تقدّم على الله ورسوله ، ونعم ما قال الإمام الشافعي : « من استحسن فقد شرّع ».

وقد وقف غير واحد من أعلام السنّة على أنّ ظاهر الآية أو صريحها هو مسح الرجلين واعترفوا بذلك بوجدانهم أو بلسانهم وقلمهم ، ولكن التعبد بمذهب الأئمّة الأربعة وغيرهم عاقهم عن الأخذ بمضمون الآية ، فاتبعوا المذهب الموروث بدل الاتّباع للقرآن الكريم ، ولو لا انّهم نشئوا على هذه الفكرة منذ نعومة أظفارهم ، لما قدّموا اجتهاداتهم على كتاب الله العزيز الدالّ على المسح ، وحرّروا

__________________

١. الحجرات : ١.

٣٤

تفكّرهم عن قيد التقليد ، وإليك شيئا من هذه الاجتهادات التي لا يرتضيها العقل ولا الوجدان الحرّ.

١. الغسل يشمل المسح

زعم الجصاص أنّ آية الوضوء مجملة فلا بدّ من العمل بالاحتياط ، وهو الغسل المشتمل على المسح أيضا ، بخلاف المسح فإنّه خال عن الغسل ، ثمّ رفع إبهام الآية بادّعاء اتّفاق الجميع على أنّه لو غسل فقد أدّى الفرض. (١)

يلاحظ عليه : أوّلا : بأنّه كيف يرمي الآية بالإجمال مع أنّها واضحة الدلالة ، لأنّها بصدد بيان ما هو الواجب على عامة المصلّين عند القيام إلى الصلاة ، ومثل هذا يجب أن يكون مبيّن المراد ، غير محتمل إلاّ لمعنى واحد ، وإنّما دعاه إلى القول بالإجمال الفرار عن ظاهر الآية الدالّ على أنّ فريضة الأرجل هو المسح لا الغسل.

وثانيا : أنّ ما يقوله إنّ الغسل يشمل المسح دون العكس فإنّه خال من الغسل ، غير صحيح ، لأنّ المراد من الغسل في المقام هو إسالة الماء على العضو ، كما أنّ المراد من المسح فيها هو إمرار اليد على العضو بالبلل المتبقّي في اليد ، وعندئذ يصبح الغسل والمسح فريضتين مختلفتين على نحو يغاير كلّ الآخر ، فلا الغسل يشتمل على المسح ولا المسح على الغسل.

وثالثا : أنّ ادّعاء رفع إبهام الآية بأنّه إذا غسل فقد أدّى فرضه باتّفاق الجميع مصادرة بالمطلوب ، إذ كيف يدّعي الاتفاق عليه مع أنّ القائلين بالمسح بين الصحابة والتابعين كما سيوافيك أسماؤهم ، ليسوا بأقلّ من القائلين بالغسل ، كما أنّ الإمامية وهم ربع المسلمين يرون بطلان الغسل ولزوم المسح فأين اتّفاق الجميع على الغسل؟!

__________________

١. أحكام القرآن : ٢ / ٣٤٦.

٣٥

٢. نسخ السنّة للكتاب

وهناك من يرى دلالة الآية على المسح بوضوح ويبطل القول بأنّ أرجلكم معطوف على قوله : « وجوهكم » ويقول : لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف ، لأنّه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان. لا تقول : ضربت محمدا وزيدا ومررت بخالد وعمرا ، وأنت تريد أنّك ضربت عمرا أصلا ، فلما جاءت السنّة بغسل الرجلين صحّ انّ المسح منسوخ عنهما. (١)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّه لا يصحّ نسخ الكتاب إلاّ بالسنّة القطعية ، لأنّ الكتاب دليل قطعي لا ينسخه إلاّ دليل قطعي مثله.

وأمّا المقام فالسنّة الدالة على الغسل متعارضة مع السنّة الدالة على المسح ، فكيف يمكن أن نقدّم أحد المتعارضين على القرآن الكريم بغير مرجح؟ وستوافيك الروايات المتضافرة الدالة على أنّ النبي وأصحابه كانوا يمسحون الأرجل مكان الغسل.

وثانيا : اتّفقت الأمّة على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانّها لم تنسخ آية منها ، وقد مرّ من الروايات وأقوال الصحابة ما يدلّ على ذلك.

وثالثا : كان اللازم على ابن حزم أن يجعل الآية دليلا على منسوخيّة السنّة ، ولو ثبت انّ النبي غسل رجليه في فترة من الزمن فالآية ناسخة لها لا أنّها ناسخة للقرآن.

__________________

١. الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٥١٠.

٣٦

٣. التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء

وقد وقف الزمخشري على أنّ قراءة الجر تلزم الإنسان بمسح الأرجل لا غسلهما ، فصار بصدد منع الدلالة ، وانّ الأرجل وإن كانت معطوفة على الرءوس ومع ذلك يفقد العطف الدلالة على الغسل ، قال :

قرأ جماعة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب فدلّ على أنّ الأرجل مغسولة.

فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخلوها في حكم المسح؟

قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها ، فكان مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه ، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها وقيل إلى الكعبين. (١)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ ما ذكره من الوجه إنّما يصحّ إذا كانت النكتة ممّا تعيه عامة المخاطبين من المؤمنين ، وأين هؤلاء من هذه النكتة التي ابتدعها الزمخشري توجيها لمذهبه؟

وبعبارة أخرى : انّما يصحّ ما ذكره من النكتة إذا أمن من الالتباس لا في مثل المقام الذي لا يؤمن منه ، وبالتالي يحمل ظاهر اللفظ على وجوب المسح غفلة عن النكتة البديعة!! للشيخ الزمخشري.

وثانيا : أنّ الأيدي أيضا مظنة للإسراف مثل الأرجل ، فلما ذا لم ينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء فيها أيضا؟!

كل ذلك يعرب عن أنّ هذا الوجه توجيه للمذهب الذي نشأ وترعرع صاحب الكشاف عليه ، ولو لا ذلك لم يرد بخلده هذا الوجه.

__________________

١. الكشاف : ١ / ٣٢٦.

٣٧

٤. سهولة غسل الرجلين دون الشعر

لما وقف ابن قدامة على أنّ مقتضى عطف الأرجل على الرءوس هو المسح ، سواء أقرأت بالنصب أو بالجر ، أخذ يتفلسف ويجتهد أمام الدليل الصارم ويقول : إنّ هناك فرقا بين الرأس والرجل ، ولأجله لا يمكن أن يحكم عليهما بحكم واحد ، وهذه الوجوه عبارة عن :

١. انّ الممسوح في الرأس شعر يشقّ غسله ، والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات.

٢. انّهما محدودان بحد ينتهي إليه فأشبها باليدين.

٣. انّهما معرّضتان للخبث لكونهما يوطّأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. (١)

يلاحظ عليه : أنّه اجتهاد مقابل النص وتفلسف في الأحكام.

فأمّا الأوّل : فأيّ مشقّة في غسل الشعر إذا كان المغسول جزاء منه فإنّه الواجب في المسح ، فليكن كذلك عند الغسل.

وأمّا الثاني : فلانّ التمسك بالشّبه ضعيف جدا ، إذ كم من متشابهين يختلفان في الحكم.

وأفسد منه هو الوجه الثالث فإنّ كون الرّجلين معرّضتين للخبث لا يقتضي تعيّن الغسل ، فإنّ القائل بالمسح يقول بأنّه يجب أن تكون الرّجل طاهرة من الخبث ثمّ تمسح.

ولعمري إنّ هذا الوجه وما تقدّمه للزمخشري تلاعب بالآية لغاية دعم المذهب ، والجدير بالفقيه الواعي هو الأخذ بالآية ، سواء أوافقت مذهب إمامه أم لا. ولصاحب المنار كلمة قيّمة في حقّ هؤلاء الذين يقدّمون فتاوى الأئمّة على

__________________

١. المغني : ١ / ١٢٤.

٣٨

الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة يقول : إنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (١)

٥. اتّباع السلف في الغسل

لمّا وقف ابن تيمية على أنّ قراءة الخفض تستلزم العطف على الرءوس فيلزم حينئذ مسح الرجلين لا غسلهما ، التجأ إلى تأويل النص ، وقال :

« ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس ، لأوجه : أحدهما : انّ الذين قرءوا ذلك من السلف ، قالوا : عاد الأمر إلى الغسل ». (٢)

يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ ما ذكره لزم القول بأنّ السلف تركوا القرآن وراء ظهورهم وأخذوا بما لا يوافق القرآن ، ولو كان رجوعهم لأجل نسخ الكتاب فقد عرفت أنّ القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. ولو سلّمنا جواز النسخ فسؤره المائدة لم ينسخ منها شيء.

ومن العجب أنّ ابن تيميّة ناقض نفسه فقد ذكر في الوجه السابع ما هذا نصه : « إنّ التيمّم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخفّ الشطر الثاني ، وذلك فإنّه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا ». (٣)

فلو كان التيمّم على أساس حذف ما كان ممسوحا فقد حذف حكم الأرجل في التيمّم ، فلازم ذلك أن يكون حكمه هو المسح حتّى يصحّ حذفه ، فلو كان حكمه هو الغسل لم يحذف ، بل يبقى كالوجه واليد ويمسح.

__________________

١. تفسير المنار : ٢ / ٣٨٦.

٢. التفسير الكبير : ٤ / ٤٨.

٣. المصدر نفسه : ٥٠.

٣٩

٦. التحديد آية الغسل

إنّ المفسر المعروف بالشيخ إسماعيل حقي البروسوي أيّد القول بالغسل بأنّ المسح لم يعهد محدودا وإنّما جاء التحديد في المغسولات. (١)

يريد بكلامه هذا انّ الأرجل حدّدت بالكعبين فأشبه غسل الكعبين بغسل الأيدي المحدّد بالمرافق ، فيحكم عليها بالغسل يحكم الاشتراك في التحديد.

يلاحظ عليه : أنّ كلاّ من المغسول والممسوح جاء في الآية محدّدا وغير محدّد ، فالوجوه في الآية تغسل ولم تحدد ، والأيدي تغسل وحدّدت بقوله ( إِلَى الْمَرافِقِ ) ، فيعلم من ذلك انّ الغسل تارة يكون محدّدا وأخرى غير محدد ، فلا التحديد دليل على وجوب الغَسل ولا عدم التحديد دليل على وجوب المسح ، وهكذا الحال في الممسوح فالأرجل ـ على المختار ـ تمسح ويكون محددا إلى الكعبين والرأس تمسح وهو غير محدد ، فجعل التحديد علامة للغسل أشبه بجعل الأعم دليلا على الأخص ، وما ذكره من أنّه لم يجيء في شيء من المسح تحديد ، أوّل الكلام ، وهو من قبيل أخذ المدّعى في الدليل.

ولو قلنا بهذه الاستحسانات ، فالذوق الأدبي يقتضي أن تكون الأرجل ممسوحة لا مغسولة.

قال المرتضى : إنّ الآية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عليه مغسول محدود وهما اليدان ، ثمّ استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود وهو الرأس فيجب أن تكون الأرجل ممسوحة وهي محدودة ومعطوفة عليه دون غيره ، لتتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود وفي عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود. (٢)

__________________

١. روح البيان : ٢ / ٣٥١.

٢. الانتصار : ٢٤.

٤٠