الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

حالة الاختيار أيضا. وذلك لأنّ رواية أنس نصّ في اختصاص الجواز بحالة الضرورة ، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات ، وإليك بعض ما روي في هذا المجال :

١. عبد الله بن محرز عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي على كور عمامته. (١)

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن السجود عليه (٢) ، محمولة على العذر والضرورة ، وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال : قال الشيخ : وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك ، وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

وقد روي عن ابن راشد قال : رأيت مكحولا يسجد على عمامته فقلت : لم تسجد عليها؟ قال أتّقي البرد على أسناني. (٤)

٢. ما روي عن أنس : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسجد أحدنا على ثوبه. (٥)

والرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شدّة الحرّ ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (٦).

ويؤيّده ما رواه النسائي أيضا : كنّا إذا صلّينا خلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالظهائر

__________________

١. كنز العمال : ٨ / ١٣٠ برقم ٢٢٢٣٨.

٢. لاحظ ص ٢٥٢.

٣. السنن الكبرى : ٢ / ١٠٦.

٤. المصنف لعبد الرزاق : ١ / ٤٠٠ ، كما في سيرتنا وسنّتنا ، والسجدة على التربة : ٩٣.

٥. السنن الكبرى : ٢ / ١٠٦ ، باب من بسط ثوبا فسجد عليه.

٦. صحيح البخاري : ٢ / ٦٤ ، كتاب الصلاة ، باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.

٢٦١

سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ (١).

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلاّ على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على الفرو. وأمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

٣. عن المغيرة بن شعبة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة (٢).

والرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث ، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ، لأنّه شيء كالجبّة يبطّن من جلود بعض الحيوانات كالأرانب والسمّور فلا يسع بدن المصلّي لصغره فيحتمل انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها. وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث

إنّ المتأمّل في الروايات يجد بوضوح أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاث مراحل ، ففي المرحلة الأولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يرخّص للمسلمين السجود على غيرها ، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض ، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أخرى إلا مرحلة جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة ، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقا فمحمولة على الضرورة ، أو لا دلالة لها على السجود عليه لصغره ، بل غايتها الصلاة عليه.

__________________

١. جامع الأصول : ٥ / ٤٦٨ برقم ٣٦٦٠.

٢. سنن أبي داود : باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم ٣٣١.

٢٦٢

ومن هنا يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة من السجود على الأرض أو ما أنبتته الأرض هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة ، ولم تنحرف عنه قيد أنملة ، ونحن ندعو إلى قليل من التأمّل لإحقاق الحقّ وتجاوز البدع.

فالسجدة على الفراش والسجاد والبُسُط المنسوجة من الصوف والوبر والحرير وأمثالها والثوب المتّصل فلا دليل يسوّغها قطّ ، ولم يرد في السنّة أيّ مستند لجوازها وهذه الصحاح الستّ وهي تتكفّل بيان أحكام الدين ولا سيّما الصلاة الّتي هي عماده لم يوجد فيها ولا حديث واحد ، ولا كلمة إيماء وإيعاز إلى جواز ذلك.

فالقول بجواز السجود على الفرش والسجاد والالتزام بذلك ، وافتراش المساجد بها للسجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة ، وأمر محدث غير مشروع ، يخالف سنّة الله وسنّة رسوله ، ولن تجد لسنّة الله تحويلا. (١)

__________________

١. سيرتنا وسنّتنا : ١٣٣ ـ ١٣٤.

٢٦٣

٦

ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة؟

بقي هنا سؤال يطرحه كثيرا إخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء ـ كما ذكرنا سابقا ـ أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها ، ويعبدون الحجر والتربة ، وذلك لأنّ هؤلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة ، والسجود لها.

وعلى أيّ تقدير فالإجابة عنها واضحة ، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها ، من أيّ أرض أخذت ، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها في ذلك سواء.

وليس هذا الالتزام إلاّ مثل التزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه ، وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها ، ويتّخذها مسجدا ، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه وترحاله ، بل وأنّى له ذلك وهذه الأماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر ، مسلمين كانوا أم غيرهم ، ملتزمين بأصول الطهارة أم غير ذلك ، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته فلا يجد مناصا من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها ، يسجد عليها لدى صلاته حذرا من السجدة على الرجاسة

٢٦٤

والنجاسة ، والأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى الله قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم ، خصوصا بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها :

المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومواطن الإبل ، بل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها. (١)

وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التأريخ عن نقلها ، فقد روي : أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع ( المتوفّى عام ٦٢ ه‍ ) كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف ، باب من كان حمل في السفينة شيئا يسجد عليها. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقا كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها. (٢)

إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجدا ليس إلاّ لتسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره خوفا من أن لا يجد أرضا طاهرة أو حصيرا طاهرا فيصعب الأمر عليه ، وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.

وأمّا السرّ في التزام الشيعة استحبابا بالسجود على التربة الحسينية ، فإنّ من الأغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي ـ حين يضع جبهته على تلك التربة ـ تضحية ذلك الإمام عليه‌السلام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة ، وفي الحديث : « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية ، أولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ ، وارتفعت أرواحهم إلى الملإ الأعلى ،

__________________

١. سيرتنا وسنّتنا : ١٥٨ ـ ١٥٩.

٢. مصنف ابن أبي شيبة : ٢ / ١٧٢ ، دار الفكر ـ ١٤٠٩ ه‍.

٢٦٥

ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة ، وزخارفها الزائلة ، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر ، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب. (١)

وقال العلاّمة الأميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قِطَعا لمعا ، وأقراصا نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع ، يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة بها ، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أيّ حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خروج من حكم العقل والاعتبار.

وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجدا لدى الشيعة من الفرض المحتّم ، ولا من واجب الشرع والدين ، ولا ممّا ألزمه المذهب ، ولا يفرّق أيّ أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم ، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت ، وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (٢).

هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّه ، وقد أغنانا

__________________

١. الأرض والتربة الحسينية : ٢٤.

٢. سيرتنا وسنّتنا : ١٤٢.

٢٦٦

عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره ، وأخص بالذكر منهم :

١. المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ( ١٢٩٥ ـ ١٣٧٣ ه‍ ) في كتابه « الأرض والتربة الحسينية ».

٢. العلاّمة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني مؤلّف الغدير ( ١٣٢٠ ـ ١٣٩٠ ه‍ ) فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبعت في آخر كتابه « سيرتنا وسنّتنا ».

٣. « السجود على الأرض » للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي قدس‌سره فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الله الباقين منهم.

هذا ما وقفنا عليه من الروايات والتي أوردناها في هذا المختصر.

٢٦٧

خاتمة المطاف

نذكر فيها أمرين :

١. فرض العقيدة والفقه على الزائر

إنّ من غرائب الدهر و « ما عشت أراك الدهر عجبا » أن تصادر الحريات في الحرمين الشريفين فتفرض على الزائر ، العقيدة والفقه الخاص ، مع أنّ السيرة عبر القرون كانت جارية على حرية الزائر في الحرمين الشريفين في عقيدته وعمله.

إنّ التوسل والتبرّك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام كانت سنّة رائجة في القرون الغابرة ، ولم يكن هناك أي منع وقد وردت فيه صحاح الروايات ومسانيدها ، وكان الحرمان الشريفان أمنا للزائر كما شاء سبحانه أن يكونا كذلك ، قال تعالى ( فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (١) وقال تعالى حاكيا دعاء إبراهيم ( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (٢) ولكن أصبح اليوم من تلك الناحية على خلاف ما دعا إليه إبراهيم ، فالزائر الشيعي المقتدي بفقه أئمة أهل البيت لا يسمح له أن يمارس طقوسه بحرية تامة ، ولا أن يتكلم بشيء ممّا يعتقد به ، ومن مظاهر ذلك فرض السجود على الفرش المنسوجة والمنع

__________________

١. آل عمران : ٩٧.

٢. البقرة : ١٢٦.

٢٦٨

من السجدة على الصعيد والتربة.

ونحن بدورنا نقترح على الحكومة الراشدة في أراضي الوحي أن يمنحوا حريات مشروعة لعامّة الحجاج كي يمارسوا طقوسهم بحرية ، فإنّ ذلك يعزّز أواصر الوحدة والتعاون بين المسلمين على اختلاف طوائفهم.

٢. صيرورة السنّة بدعة

قد وقفت على أنّ السجود على الأرض أو على الحصر والبواري وأشباهها هو السنّة ، وأنّ السجود على الفرش والسجاجيد وأشباهها هو البدعة ، وأنّه ما أنزل الله به من سلطان ، ولكن يا للأسف صارت السنّة بدعة والبدعة سنّة. فلو عمل الرجل بالسنّة في المساجد والمشاهد ، وسجد على التراب والأحجار يوصف عمله بالبدعة ، والرجل بالمبدع. ولكن ليس هذا فريدا في بابه فقد نرى في فقه المذاهب الأربعة نظائر. نذكر الموارد التالية :

١. قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي :

السنّة في القبر ، التسطيح. وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي.

وقال أبو حنيفة ومالك : التسنيم أولى ، لأنّ التسطيح صار شعارا للشيعة. (١)

وقال الرافعي : إنّ النبي سطّح قبر ابنه إبراهيم ، وعن القاسم بن محمد قال : رأيت قبر النبي وأبي بكر وعمر مسطّحة.

وقال ابن أبي هريرة : إنّ الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم ، لأنّ التسطيح صار شعارا للروافض ، فالأولى مخالفتهم ، وصيانة الميت وأهله عن

__________________

١. رحمة الأمّة في اختلاف الأئمّة : ١ / ٨٨ ؛ ونقله أيضا العلاّمة الأميني في الغدير : ١٠ / ٢٠٩.

٢٦٩

الاتّهام بالبدعة ، ومثله ما حكي عنه : أنّ الجهر بالتسمية إذا صار في موضع شعارا لهم فالمستحب الإسرار بها مخالفة لهم ، واحتج له بما روي انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كان يقوم إذا بدت جنازة ، فأخبر انّ اليهود تفعل ذلك ، فترك القيام بعد ذلك مخالفة لهم ».

وهذا الوجه هو الذي أجاب به في الكتاب ومال إليه الشيخ أبو محمد وتابعة القاضي الروياني لكن الجمهور على أنّ المذهب الأوّل.

قالوا : ولو تركنا ما ثبت في السنّة لإطباق بعض المبتدعة عليه لجرّنا ذلك إلى ترك سنن كثيرة ، وإذا اطّرد جرينا على الشيء خرج عن أن يعد شعارا للمبتدعة. (١)

٢. قال الإمام الرازي : روى البيهقي عن أبي هريرة قال : كان رسول الله يجهر في الصلاة بـ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وكان عليّ ـ رضي‌الله‌عنه ـ يجهر بالتسمية وقد ثبت بالتواتر ، وكان علي بن أبي طالب يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين ، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه.

وقالت الشيعة : السنّة ، هي الجهر بالتسمية ، سواء أكانت في الصلاة الجهرية أو السرية ، وجمهور الفقهاء يخالفونهم ـ إلى أن قال ـ : إنّ عليّا كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعيا في إبطال آثار عليّ ـ رضي‌الله‌عنه ـ (٢).

٣. قال الزمخشري في تفسير قوله سبحانه ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ).

فإن قلت : فما تقول في الصلاة على غيره؟

قلت : القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن لقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي

__________________

١. العزيز شرح الوجيز : ٢ / ٤٥٣.

٢. مفاتيح الغيب : ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٢٧٠

عَلَيْكُمْ ) وقوله تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) وقوله : اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى ، ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك وهو أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك : صلى الله على النبي وآله فلا كلام فيها ، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه ، لأنّ ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأنّه يؤدي إلى الاتّهام بالرفض. (١)

٤. وفي « فتح الباري » : اختلف في السّلام على غير الأنبياء بعد الاتّفاق على مشروعيته في الحيّ ، فقيل يشرع مطلقا ، وقيل بل تبعا ولا يفرّد لواحد لكونه صار شعارا للروافضة ، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني. (٢)

ومعنى ذلك انّه لم يجد مبرّرا لترك ما شرّعه الإسلام ، إلاّ عمل الرافضة بسنّة الإسلام ، ولو صحّ ذلك ، كان على القائل أن يترك عامة الفرائض والسنن التي يعمل بها الروافض.

( قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا

فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ

وَمَنِ اهْتَدى ). (٣)

__________________

١. الكشاف : ٢ / ٥٤٩.

٢. فتح الباري : ١١ / ١٤.

٣. طه : ١٣٥.

٢٧١
٢٧٢

٧

الجمع

بين الصلاتين

٢٧٣
٢٧٤

أقسام الجمع بين الصلاتين

اعلم أنّ للجمع بين الصلاتين صورا مختلفة :

١. الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعرفة.

٢. الجمع بين الصلاتين في السفر.

٣. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل الأعذار كالمطر والوحل.

٤. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا بلا عذر.

وقد اتّفقت كلمة الفقهاء على الجمع في المزدلفة وعرفة واختلفت في غيرهما ، فها نحن نأخذ كلّ واحدة بالبحث مع ذكر الأقوال والمصادر بوجه موجز.

٢٧٥

١

الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة

اتّفقت كلمة الفقهاء على رجحان الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعرفة من غير خلاف بينهم ، قال القرطبي : أجمعوا على أنّ الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضا في وقت العشاء سنّة أيضا ، وإنّما اختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين. (١)

وقال ابن قدامة : قال الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي لا يجوز الجمع إلاّ في يوم عرفة بعرفة ، وليلة المزدلفة بها. (٢)

أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثمّ أذن في الناس في العاشرة انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاجّ ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعمل مثل عمله ـ إلى أن قال : ـ حتّى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي وخطب الناس ـ إلى أن قال : ـ ثمّ أذّن ثمّ أقام فصلّى الظهر ، ثمّ أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ـ إلى أن قال : ـ حتّى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا. (٣)

وبما انّ المسألة مورد اتّفاق بين الفقهاء نقتصر على هذا المقدار.

__________________

١. بداية المجتهد : ١ / ١٧٠ ، تحت عنوان الفصل الثاني في الجمع.

٢. المغني : ٢ / ١١٢.

٣. صحيح مسلم : ٤ / ٣٩ ـ ٤٢ ، باب حجّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٧٦

٢

الجمع بين الصلاتين في السفر

ذهب معظم الفقهاء غير الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه إلى جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ، فيجوز عند الجمهور غير هؤلاء ، الجمع بين الظهر والعصر تقديما في وقت الأولى وتأخيرا في وقت الثانية ، وبين المغرب والعشاء تقديما وتأخيرا أيضا ، فالصلوات التي تجمع هي : الظهر والعصر ، المغرب والعشاء في وقت إحداهما ، ويسمّى الجمع في وقت الصلوات الأولى جمع التقديم ، والجمع في وقت الصلوات الثانية جمع التأخير. وقد ذكر الشوكاني الأقوال بالنحو التالي :

١. ذهب إلى جواز الجمع في السفر مطلقا تقديما وتأخيرا ، كثير من الصحابة والتابعين ، ومن الفقهاء : الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي.

٢. وقال قوم : لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة ومزدلفة. وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه.

٣. وقال الليث : وهو المشهور عن مالك انّ الجمع يختص بمن جدّ به السير.

٤. وقال ابن حبيب : يختص بالسائر.

٥. وقال الأوزاعي : إنّ الجمع في السفر يختصّ بمن له عذر.

٦. وقال أحمد : واختاره ابن حزم ، وهو مروي عن مالك انّه يجوز جمع التأخير دون التقديم.

٢٧٧

هذه هي الأقوال الستة :

فإذا كانت المسألة على وجه الإجمال مورد اتّفاق الجمهور إلاّ من عرفت ، فلا بدّ من البحث في مقامين :

١. هل الجمع مختصّ بمن جدّ به السير؟ أي من أسرع في سيره.

٢. هل الجواز يختصّ بجمع التأخير ولا يعمّ التقديم؟

أمّا المقام الأوّل فنقول :

إنّ الأخبار الحاكية لفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صنفين :

صنف يصرح بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجمع إذا جدّ به السير أو أعجله السير في السفر.

١. أخرج مسلم عن نافع ، عن ابن عمر انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. (١)

٢. أخرج مسلم عن سالم ، عن أبيه : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السير. (٢)

٣. أخرج مسلم عن سالم بن عبد الله انّ أباه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخّر صلاة المغرب حتّى يجمع بينها وبين صلاة العشاء. (٣)

٤. أخرج مسلم عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا عجّل عليه السفر يؤخّر الظهر إلى أوّل وقت العصر فيجمع بينهما ، ويؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. (٤)

وصنف آخر يحكي فعل رسول الله بلا قيد « إذا جدّ به السير ».

__________________

١ و ٢ و ٣. صحيح مسلم : ٢ / ١٥٠ باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.

٤. صحيح مسلم : ٢ / ١٥١ ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.

٢٧٨

١. اخرج مسلم عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ثمّ نزل فجمع بينهما ، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلّى الظهر ثمّ ركب. (١)

٢. أخرج مسلم عن أنس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخّر الظهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر ثمّ يجمع بينهما. (٢)

٣. أخرج أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتّى يجمعها إلى العصر يصلّيهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلّى الظهر والعصر جميعا ثمّ سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء ، وكان إذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاّها مع المغرب. (٣)

٤. أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس ( رض ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ، فإذا لم تزغ له في منزله ، سار حتّى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما. (٤)

وقال الشوكاني بعد نقله الرواية عن مسند أحمد : ورواه الشافعي في مسنده بنحوه وقال فيه : وإذا سار قبل أن تزول الشمس أخّر الظهر حتّى يجمع بينها وبين

__________________

١. صحيح مسلم : ٢ / ١٥١ ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.

٢. صحيح مسلم : ٢ / ١٥١ ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.

٣. سنن أبي داود : ٢ / ٨ كتاب الصلاة ، باب الجمع بين الصلاتين ، الحديث ١٢٢٠.

٤. مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٢٤١ ؛ سنن أبي داود : ٢ / ٧ ، كتاب الصلاة ، باب الجمع بين الصلاتين ، الحديث ١٢٢٠.

٢٧٩

العصر في وقت العصر. (١)

أقول : إنّ أنس بن مالك نقل فعل النبي تارة على وجه الإطلاق ، وأخرى على وجه التقييد (٢) ومقتضى القاعدة هو حمل المطلق على المقيد وتقييد الروايات المطلقة بما في المقيدة.

أضف إلى ذلك : أنّ الروايات الحاكية لفعل الرسول على وجه الإطلاق دليل لبّي لا لسان له ، وما كان هذا شأنه لا ينعقد فيه الإطلاق ، لأنّ الإطلاق شأن اللفظ ، وليس هناك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفظ بل صدر منه عمل ، نقله الراوي ولعلّ عمله كان مقارنا لما جدّ به السير ولم يذكره الراوي لعدم احتمال دخله في الحكم.

وعلى ضوء هذا لا يجمع إلاّ إذا جدّ به السير. ولعلّه إلى هذا يشير ابن رشد : والجمع إنّما نقل فعلا فقط. (٣)

ولكن الظاهر انّ القيد ( الجدّ في السير والعجلة فيه ) من قبيل الدواعي إلى الجمع ، وتخلّف الداعي في مورد لا يكون سببا لانتفاء الحكم ، فإنّ الإنسان لا يترك الأفضل ( التفريق ) إلاّ إذا كان هناك داع إليه ، فلأجله اختار الجمع وترك التفريق ، وقد قرر في محلّه انّ انتفاء الدواعي والحكم لا تعد من قيود الحكم بل يكون ثابتا مع انتفائهما.

وأمّا المقام الثاني أي عدم اختصاصه بجمع التأخير وعمومه بجمع التقدّم فيكفي في ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل وما أخرجه أحمد عن ابن عباس فلاحظ الرقم الثالث والرابع من الأحاديث الماضية.

__________________

١. نيل الأوطار : ٣ / ٢١٣.

٢ و ٣. بداية المجتهد : ١ / ١٧٣ ، وفي طبعه أخرى محقّقة : ٢ / ٣٧٤.

٢٨٠