الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

الشيخ جعفر السبحاني

الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف - ج ١

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-047-9
الصفحات: ٥٨٤

أمّا سند النسائي فهو مشتمل على عاصم بن كليب الكوفي ، وقد ذكر ابن حجر انّه سئل ابن شهاب عن مذهب كليب وانّه كان مرجئا ، قال : لا أدري ، ولكن قال شريك بن عبد الله النخعي انّه كان مرجئا.

وقال ابن المديني : لا يحتج به إذا انفرد. (١)

وأمّا سند البيهقي فهو مشتمل على عبد الله بن رجاء ، فنقل ابن حجر عن ابن معين انّه قال : كان كثير التصحيف ، وليس به بأس.

وقال عمرو بن عدي ، صدوق كثير الغلط والتصحيف ليس بحجة ، وتوفّى عام ٢١٩ ه‍ أو ٢٢٠ ه‍ ، وليس المراد منه عبد الله بن رجاء المكي الذي يروي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام وغيره.

ولو افترض انّ المراد هو عبد الله بن رجاء المكي فهو ليس أيضا سالما عن النقد ، نقل ابن حجر عن الساجي انّه قال عنده مناكير.

واختلف أحمد ويحيى فيه ، قال أحمد : زعموا انّ كتبه ذهبت فكان يكتب من حفظه فعنده مناكير وما سمعت منه إلا حديثين ، وحكى نحوه العقيلي عن أحمد. (٢)

وأمّا الدلالة فلا شكّ انّه أوضح دلالة من الصورتين الأوليين ، ويحتمل فيه أيضا أن يكون نفس الرواية الأولى غير انّه نقل على

وجوه مختلفة وجاء الاختلاف من الرواة وحيث إنّه يحتمل أن يكون نفس الصورة الأولى ، فقد عرفت أنّ فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتمل وجهين (٣) ومعه لا يحتج به.

إلى هنا تمّت دراسة الحديثين :

__________________

١. تهذيب التهذيب : ٥ / ٥٦ ، برقم ٨٩.

٢. تهذيب التهذيب : ٥ / ٢١١ ، برقم ٣٦٤.

٣. الاتقاء عن البرد والتحرز عن إسبال الثوب.

١٨١

الأوّل : حديث سهل الساعدي.

الثاني : حديث وائل بن حجر بصورة الثلاث.

وقد عرفت قصور دلالتهما مع وجود الضعف في أسناد حديث وائل بن حجر ، بقي حديث ثالث يستدلّ به على القبض.

٣. حديث عبد الله بن مسعود

أخرج النسائي عن الحجاج بن أبي زينب قال : سمعت أبا عثمان يحدّث عن ابن مسعود قال : رآني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد وضعت شمالي على يميني في الصلاة ، فأخذ بيميني فوضعها على شمالي. (١)

وأخرجه البيهقي بنفس اللفظ لكن بسند آخر.

والاستدلال بالحديث رهن صحّة السند والدلالة.

أمّا الأوّل فكلا السندين يشتملان على الحجاج بن أبي زينب السلمي الذي قال في حقّه أحمد بن حنبل : أخشى أن يكون ضعيف الحديث.

وقال ابن معين : ليس به بأس.

وقال الحسن بن شجاع البلخي عن علي بن المديني : شيخ من أهل واسط ضعيف.

وقال النسائي : ليس بالقوي.

وقال ابن علي : أرجو انّه لا بأس به فيما يرويه.

ثمّ قال : قال الدارقطني : ليس بالقوي ولا الحافظ. (٢)

__________________

١. سنن النسائي : ٢ / ٩٧ ، باب في الإمام إذا رأى الرجل قد وضع شماله على يمينه.

٢. تهذيب التهذيب : ٢ / ٢٠١ ، برقم ٣٧٢.

١٨٢

إلى غير ذلك من الكلمات.

وأمّا الدلالة فيلاحظ انّ عبد الله بن مسعود كان من السابقين إلى الإسلام وقد أسلم في أوائل البعثة ، وقد لاقى ما لاقى من قريش لأجل إيمانه بالنبي والإسلام ، فمثل هذا لا يمكن أن يجهل بكيفية القبض ـ على فرض كونه سنّة ـ فيضع شماله على يمينه.

٤. أحاديث ضعاف لا يحتجّ بها

ما ذكرناه من الأحاديث هو العمدة في الاستدلال على قبض اليمنى باليسرى ، وقد عرفت حالها وعدم قيامها بإثبات المطلوب.

وهناك أحاديث وآثار رويت في غضون الكتب جمعها البيهقي في سننه ، ولا يصحّ واحد منها لضعفها سندا ودلالة ، ونحن لأجل إكمال حلقة البحث نسرد تلك الأحاديث ونناقشها سندا ودلالة حتى يقف القارئ على مواطن الخلل.

١. حديث هُلْب

أخرج الترمذي عن قتيبة عن أبي الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن قبيصة بن هُلْب ، عن أبيه : قال :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤمّنا فيأخذ شماله بيمينه. (١)

ورواه البيهقي بلفظ آخر وهو : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة. (٢)

__________________

١. سنن الترمذي : ٢ / ٣٢ ، برقم ٢٥٢.

٢. سنن البيهقي : ٢ / ٢٩.

١٨٣

يلاحظ عليه : أنّ السند ضعيف كالدلالة.

أمّا السند ، فإليك ترجمة راويين منه.

قبيصة بن هُلب

قال الذهبي : قال العجلي : ثقة ، وذكره ابن حبّان في الثقات.

وقال ابن المديني : مجهول. (١)

وقال ابن حجر : مجهول لم يرو عنه غير سماك.

وقال النسائي : مجهول. (٢)

سماك بن حرب

قال الذهبي : صدوق ، صالح. روى ابن المبارك عن سفيان انّه ضعيف.

قال جرير الضبّي : أتيت سماكا فرأيته يبول قائماً فرجعت ولم أسأله ، فقلت :

خرف.

وروى أحمد بن أبي مريم عن يحيى : سماك ثقة ، كان شعبة يضعّفه.

وقال أحمد : سماك مضطرب الحديث.

وقال أبو حاتم : ثقة ، صدوق.

وقال صالح : جَزَرة : يضعف.

وقال النسائي : إذا انفرد بأصل لم يكن بحجة ، لأنّه كان يلقّن فيتلقن إلى غير ذلك من كلمات التضعيف. (٣)

__________________

١. ميزان الاعتدال : ٣ / ٣٨٤ ، رقم ٦٨٦٣.

٢. تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٥٠ ، رقم ٦٣٣.

٣. ميزان الاعتدال : ٢ / ٢٣٣ برقم ٣٥٤٨.

١٨٤

وقال ابن حجر :

قال عنه أحمد : مضطرب الحديث.

قال ابن أبي خيثمة : قال سمعت ابن معين سئل عنه ما الذي عابه قال : أسند أحاديث لم يسندها غيره.

وقال ابن عمار : يقولون إنّه كان يخلّط ويختلفون في حديثه.

وكان الثوري يضعّفه بعض الضعف.

وقال يعقوب بن شيبة : قلت لابن المديني : رواية سماك عن عكرمة ، فقال : مضطربة.

وقال زكريا بن علي ، عن ابن المبارك : سماك ضعيف في الحديث.

قال يعقوب : وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة. (١)

وأمّا الدلالة فليست في الرواية تصريح في أنّه يضع يمينه على شماله في خصوص حال القراءة ، بل ظاهره انّه يضع يمينه على شماله في عامة حالات الصلاة وهو ممّا لم يلتزم به أحد.

٢. حديث محمد بن أبان الأنصاري

أخرج البيهقي بسنده عن محمد بن أبان الأنصاري ، عن عائشة قالت : ثلاث من النبوّة : تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. (٢)

__________________

١. تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٥٠ ، رقم ٦٣٣.

٢. سنن البيهقي : ٢ / ٢٩.

١٨٥

ويكفي في ضعف الحديث ما ذكره البخاري في تاريخه الكبير ، بعد نقل هذا الحديث وقال : ولا نعرف لمحمد سماعا من عائشة ، وفي نسخة ولا يعرف لمحمد سماع. (١)

وقد نقل محقّق كتاب « التأريخ الكبير » للبخاري في الهامش أقوال الرجاليين في حقّه ، فخرج بالنتيجة التالية :

إنّه أنصاري مدني ، ثمّ صار إلى اليمامة ، وانّه أرسل عن عائشة. (٢)

٣. حديث عقبة بن صهبان

روى البيهقي بسنده عن حماد بن سلمة ، عن عاصم الجحدري ، عن عقبة بن صهبان ، عن علي رضي‌الله‌عنه ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال : هو وضع يمينك على شمالك في الصلاة. (٣)

يلاحظ على الاستدلال أوّلا : أنّ عاصم الجحدري لم يوثّق. قال الذهبي : عاصم بن العجّاج الجحدري البصري ، قرأ على يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم ، أخذ عنه سلام بن أبو المنذر وجماعة قراءة شاذة فيها ما ينكر. (٤)

وذكره البخاري في تاريخه وقال : عاصم الجحدري يعدّ في البصريين ، عن عقبة بن ظبيان ولم يوثقه. (٥)

ثمّ إنّ الحديث حسب نقل البيهقي ينتهي إلى عقبة بن صهبان.

__________________

١. التأريخ الكبير : ١١ / ٣٢ رقم ٤٧ ؛ ميزان الاعتدال : ٣ / ٤٥٤ برقم ٧١٢٩.

٢. التأريخ الكبير : ١١ / ٣٤ ، قسم الهامش.

٣. سنن البيهقي : ٢ / ٢٩.

٤. ميزان الاعتدال : ٢ / ٣٥٤ ، رقم ٤٠٥٧.

٥. التأريخ الكبير : ٦ / ٤٨٦ ، رقم ٣٠٦١.

١٨٦

وقال البيهقي : ورواه البخاري في التأريخ في ترجمة عقبة بن ظبيان عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة : سمع عاصم الجحدري ، عن أبيه ، عن عقبة بن ظبيان عن علي ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) رفع يده اليمنى على وسط ساعده على صدره.

وما يرويه البخاري في تاريخه حسب ما نقله البيهقي يختلف عمّا نقله البيهقي بالمباشرة بوجهين :

الأوّل : انّ السند ينتهي عند البيهقي إلى عقبة بن صهبان ، وحسب نقل البخاري إلى عقبة بن ظبيان.

الثاني : انّ عاصم الجحدري حسب نقل البيهقي يروي عن عقبة بن صهبان ، وحسب ما نقله عن تاريخ البخاري ينقل عاصم عن أبيه عن عقبة بن ظبيان.

ومع الأسف الشديد انّ أباه ( عجاج ) لم يعنون في الرجال فمثل هذا الحديث لا يحتج به أبدا.

٤. حديث غزوان بن جرير

روى البيهقي عن غزوان بن جرير ، عن أبيه ، قال : كان علي رضي‌الله‌عنه إذا قام إلى الصلاة فكبّر ، ضرب بيده اليمنى على رسغه الأيسر ، فلا يزال كذلك حتّى يركع ، إلاّ أن يحكّ جلدا أو يصلح ثوبه. (١)

وكفى في ضعف الرواية انّ جريرا والد غزوان مجهول.

قال الذهبي : جرير الضبي عن علي وعنه ابنه غزوان لا يعرف. (٢)

__________________

١. سنن البيهقي : ٢ / ٢٩.

٢. ميزان الاعتدال : ١ / ٣٩٧ رقم ١٤٧٤.

١٨٧

٥. مرسلتا غضيف وشدّاد

روى البيهقي وقال : وروينا عن الحارث بن غضيف الكندي وشداد بن شرحبيل الأنصاري انّ كلّ واحد منهما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك « واضعا يمينه على شماله ». (١)

هذا ما نقله البيهقي وضبطه الترمذي بالنحو التالي : غطيف بن الحارث. (٢)

فعلى نقل البيهقي الراوي هو الحارث بن غضيف الكندي بينما على نقل الترمذي الراوي هو غطيف بن الحارث ، فاشتبه الوالد بالولد ولم يعرفا.

ويظهر ممّا نقله ابن حجر أنّه أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو صبي ، قال ناقلا عنه : كنت صبيا أرمي نخل الأنصار فأتوا بي النبيّ ، فمسح رأسي وقال : كُلْ ممّا سقط ولا ترمي نخلهم.

بل يظهر من بعضهم انّه من التابعين لم يدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : ذكره جماعة في التابعين. (٣)

فتلخص ممّا ذكرنا انّ الحديث لا يحتجّ به ، وذلك للأسباب التالية :

أوّلا : انّه حديث مرسل ، وليس لأصحاب الحديث سند إليه.

وثانيا : انّه أدرك النبي وهو صبي ، ولأجل ذلك ترى انّهم يعرّفونه بقولهم : « له صحبة » أي صحبة قليلة.

وثالثا : لم يثبت أنّه صحابي ، وقد عدّه جماعة من التابعين.

وعلى كلّ حال فحديث هذا حاله ـ اشتبه اسمه ضبطا أوّلا ، واشتبه الوالد

__________________

١. سنن البيهقي : ٢ / ٢٩.

٢. سنن الترمذي : ٢ / ٣٢ ، الحديث ٢٥٢.

٣. الإصابة : ٣ / ١٨٦ رقم ٦٩١٢.

١٨٨

بالولد ثانيا ، وكانت صحبته قليلة في أيام الصبي ثالثا ، بل لم يثبت له صحبة وانّه من التابعين رابعا ـ لا يحتجّ به.

٦. حديث نافع عن ابن عمر

أخرج البيهقي بسنده عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن أبيه ، عن نافع ، عن ابن عمر انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّا معاشر الأنبياء أمرنا بثلاث : تعجيل الفطر ، وتأخير السحور ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

هذا نفس الحديث الذي رواه محمد بن أبان الأنصاري عن عائشة ، لاحظ رقم ٢.

وقال البيهقي : تفرّد به عبد المجيد ، وإنّما يعرف بطلحة بن عمرو وليس بالقويّ. (١)

وعرفه الذهبي بأنّه صدوق مرجئ كأبيه.

وثّقه ابن معين. وقال أبو داود : ثقة داعية إلى الإرجاء.

وقال ابن حبان : يستحق الترك ، منكر الحديث جدا ، يقلب الأخبار ، ويروي المناكير عن المشاهير.

قال أبو حاتم : ليس بالقوي ، يكتب حديثه.

وقال الدارقطني : لا يحتجّ به ويعتبر به.

وقال أحمد بن أبي مريم عن ابن معين : ثقة يروي عن قوم ضعفاء.

وقال البخاري : كان الحميدي يتكلّم فيه وقال أيضا في حديثه بعض

__________________

١. سنن البيهقي : ٢ / ٢٩.

١٨٩

الاختلاف ولا يعرف له خمسة أحاديث صحاح. (١)

٧. حديث ابن جرير الضبي

أخرج أبو داود عن ابن جرير الضبي ، عن أبيه ، قال : رأيت عليّا رضي‌الله‌عنه يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة.

قال أبو داود : وروى عن سعيد بن جبير « فوق السرة » ، وقال أبو مجلز : « تحت السرة » وروى عن أبي هريرة وليس بالقوي. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ ابن جرير الضبّي هو نفس غزوان بن جرير وقد تقدّم الكلام في الوالد برقم ٤ ، ولعلّه نفس الحديث السابق وليس حديثا آخر.

وأمّا ما روى عن طاوس قال : كان رسول الله يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثمّ يشدّ بينهما على صدره وهو في الصلاة (٣) ، فهو حديث مرسل لأنّ طاوس من التابعين.

وهناك آثار عزيت إلى ابن الزبير انّه قال : صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنّة. (٤)

كما قال أبو هريرة : أخذ الأكف على الكف في الصلاة تحت السرة. (٥)

ومن المعلوم أنّ قول الصحابي ليس بحجة ما لم ينسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

١. ميزان الاعتدال : ٢ / ٦٤٨ ، برقم ٥١٨٣.

٢ و ٣. سنن أبي داود : ١ / ٢٠١ ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة برقم ٧٥٧ و ٧٥٩.

٤ و ٥. سنن أبي داود : ١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، برقم ٧٥٤ و ٧٥٨.

١٩٠

الآن حصحص الحق

قد تبيّن من هذا البحث الضافي أمور :

الأوّل : انّ أبا حُميد الساعدي ممّن نقل صلاة النبي بتفاصيلها ولم يذكر شيئا من القبض ، وقد نقل كيفية صلاة النبي في حضور عشرة من الصحابة ، وقد نال تصديق الحاضرين منهم.

وليس القبض أمرا طفيفا حتّى يغفل عنه الراوي أو الحضور من الصحابة ، فلو كانت صلاة النبي مرفّقة معه لاعترض أحد منهم عليه وآخذوه بترك ذكره.

الثاني : انّ ما استدلّ على كون القبض سنّة بين ضعيف الدلالة ، أو ضعيف السند ، أو كليهما.

الثالث : إذا كان القبض من سنن الصلاة لما خالفه أئمّة أهل البيت قاطبة حتى عدّوه من سنّة المجوس كما ستوافيك روايتهم.

الرابع : انّ الأمر دائر بين البدعة والسنّة ، ومقتضى الاحتياط هو ترك القبض ، لأنّ في الأخذ احتمال الحرمة وارتكاب البدعة ، بخلاف الترك فليس فيه إلاّ ترك أمر مسنون ، وهو ليس أمرا محظورا.

الخامس : العجب من فقهاء أهل السنّة انّهم طرقوا جميع الأبواب إلاّ باب أئمة أهل البيت عليه‌السلام!!

١٩١

أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام

إنّ أئمّة أهل البيت كانوا يتحرّزون عن القبض ويرونه من صُنع المجوس أمام الملك.

١. روى محمد بن مسلم ، عن الصادق أو الباقر عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يضع يده في الصلاة ـ وحكي ـ اليمنى على اليسرى؟ فقال : « ذلك التكفير ، لا يفعل ». (١)

٢. وروى زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « وعليك بالإقبال على صلاتك ، ولا تكفّر ، فإنّما يصنع ذلك المجوس ». (٢)

٣. روى الصدوق بإسناده عن علي عليه‌السلام أنّه قال : « وعليك بالإقبال على صلاتك ، ولا تكفّر ، فإنّما يصنع ذلك المجوس ». (٣)

٤. روى الصدوق بإسناده عن علي عليه‌السلام أنّه قال : « لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله عزّ وجلّ يتشبّه بأهل الكفر ـ يعني المجوس ـ ». (٤)

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس ، فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين ، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله : « وأولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والإبطال ، أو التحريم فقط ، يمثّلون التعصب المذهبي وحبّ الخلاف ، تفريقا بين المسلمين ». (٥)

ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنّة إلى أنّ

__________________

١. الوسائل : ٤ ، الباب ١٥ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ١.

٢ و ٣ و ٤. الوسائل : ٤ الباب ١٥ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٢ و ٣ و ٧.

٥. فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة : ١٨٣.

١٩٢

القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم ، وكان الناس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء ، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضا أو استحبابا ، فقد أحدث في الدين ما ليس منه ، أفهل جزاء من اجتهد ، أن يرمى بالتعصب المذهبي وحب الخلاف؟!

ولو صح ذلك ، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنّه كان يكره القبض مطلقا ، أو في الفرض أفهل يصح رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحب الخلاف؟!

أجل لما ذا لا يكون عدم الإرسال والقبض ممثلا للتعصب المذهبي وحبّ الخلاف بين المسلمين ، يا ترى؟!

( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ). (١)

__________________

١. النجم : ٢٢.

١٩٣
١٩٤

٥

البسملة

جزئيّتها والجهر بها

١٩٥
١٩٦

تمهيد

البسملة في اللغة والاصطلاح

البسملة في اللغة والاصطلاح : قول بسم الله الرّحمن الرحيم ، يقال بَسْمَل بَسْمَلة : إذا قال أو كتب « بسم الله » ، يقال : أكثر من البسملة ، أي أكثر من قول بسم الله. (١)

البسملة هي سمة المسلمين حيث لا يستفتحون بشيء إلاّ بعد ذكر بسم الله الرحمن الرّحيم ، وهي آية التوحيد وسبب نفر المشركين ، يقول سبحانه ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً ). (٢)

وقد كان شعار المشركين في عصر الجاهلية قولهم : « باسمك اللهم » وكانوا يستفتحون بذلك كلامهم. وقد آل الأمر في صلح الحديبية إلى كتابة وثيقة صلح بين الطرفين ، أمر النبي عليّا عليه‌السلام أن يكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فكتب علي وفق ما أمر ، فقال سهيل مندوب قريش : لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. (٣)

فالبسملة هي الحد الفاصل بين الإسلام والشرك ، وبها يميّز المؤمن عن

__________________

١. لسان العرب والمصباح المنير : مادة بسملة.

٢. الفرقان : ٦٠.

٣. سيرة ابن هشام : ٢ / ٣١٧.

١٩٧

الكافر ، ولا ينفك المسلم منها في حلّه وترحاله.

البسملة آية قرآنية تشهد عليها المصاحف عبر القرون ، وقد كتبت في مفتتح كلّ سورة خلا سورة التوبة ، كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميز مع اتّفاقهم على أن لا يكتبوا شيئا من غير القرآن فيه إلاّ بميزة بيّنة حرصا منهم على أن لا يختلط به شيء من غيره.

ولذلك تراهم ميّزوا عنه أسماء سوره ، وعدد آياته ، ورموز أجزائه ، وأرباعه ، وركوعه وسجوده ، كتبوها على نحو يعلم أنّها خارجة عن القرآن ، وفي الوقت نفسه اتّفقوا على كتابة البسملة مفتتح كلّ سورة كسائر الآيات دون فرق بين الخلف والسلف ، ولا تجد قرآنا مخطوطا من عهد الصحابة إلى يومنا هذا على غير هذا النمط ، وهذا اتّفاق عملي منهم على أنّ البسملة جزء من المصحف.

غير انّه طرأ الاختلاف بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأظهر انّ الاختلاف ظهر في خلافة معاوية بن أبي سفيان أو قبله بقليل ، وأمّا ما هي العلّة لطروء هذا الاختلاف ، فلعلّ بعض الدواعي له ، هو المخالفة لسيرة الإمام علي عليه‌السلام في البسملة حيث أطبق الجميع على أنّ علي بن أبي طالب كان يجهر بها.

قال الرازي : وأمّا انّ علي بن أبي طالب فقد كان يجهر بالتسمية وقد ثبت بالتواتر ، وكان يقول : يا مَنْ ذِكْره شَرف للذاكرين. (١)

وقد تضافرت الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته وأصحابه ، على أنّ كون البسملة جزء من الفاتحة وانّها يجب الجهر بها في الصلوات الجهرية ، كما أنّها جزء من كلّ سورة.

وتظهر حقيقة الحال في ضمن فصول.

__________________

١. التفسير الكبير : ١ / ٢٠٤.

١٩٨

١

فضل البسملة

قد ورد في فضل البسملة أحاديث كثيرة نقتبس منها القليل :

١. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فُضِّلتُ ببسم الله الرحمن الرحيم » وقال : « لم تنزل على أحد غيري سوى ما حكاه الله سبحانه من كتاب سليمان ». (١)

٢. قال الإمام الباقر عليه‌السلام : « أكرم آية في كتاب الله : بسم الله الرّحمن الرّحيم ». (٢)

٣. أخرج الشيخ الطوسي عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، عن الصادق ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : « بسم الله الرّحمن الرّحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها ». (٣)

__________________

١. كنز العمال : ١ / ٦٥٥ رقم ٢٤٩٢ ؛ تفسير ابن كثير : ١ / ١٧ ؛ بحار الأنوار : ٨٩ / ٢٢٧ رقم ٤.

٢. تفسير العياشي : ١ / ١٩ رقم ٤.

٣. التهذيب : ٢ / ٢٨٩ رقم ١١٥٩.

١٩٩

٢

أقوال الفقهاء في جزئيّة البسملة

قد ذكر القرطبي أقوال أئمّة المذاهب الأربعة بوضوح ، فقال :

اختلفوا في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح القراءة في الصلاة.

١. فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة ـ جهرا كانت أو سرا ـ لا في استفتاح أمّ القرآن ولا في غيرها من السور ، وأجاز ذلك في النافلة.

٢. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد : يقرؤها مع أمّ القرآن في كلّ ركعة سرا.

٣. وقال الشافعي : يقرؤها ولا بدّ في الجهر جهرا وفي السرّ سرّا ، وهي عنده آية من فاتحة الكتاب ، وبه ( كون البسملة آية من فاتحة الكتاب ) قال أحمد وأبو ثور وعبيد.

واختلف قول الشافعي هل هي آية من كلّ سورة أم إنّما هي آية من سورة النمل فقط ومن فاتحة الكتاب؟ فروي عنه القولان جميعا.

وسبب الاختلاف من هذا آئل إلى شيئين :

أحدهما : اختلاف الآثار في هذا الباب.

والثاني : اختلافهم هل « بسم الله الرحمن الرحيم » آية من فاتحة الكتاب أم لا؟ (١)

__________________

١. بداية المجتهد : ١ / ١٢٤.

٢٠٠