الحاشية على مدارك الأحكام - ج ٣

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

الحاشية على مدارك الأحكام - ج ٣

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-171-0
ISBN الدورة:
964-319-168-0

الصفحات: ٤٦٤

ليس داخلا في الجدار بحيث إذا قام الإمام فيه خفي على الصفّ الأوّل إلاّ من كان بحياله ، بل إمّا أنّها ليست بداخلة أصلا أو تكون بدخول قليل ، فالمراد بالمحاريب الداخلة ما يكون بحيث إذا دخلها الإمام تصير حائلة بينه وبين المأمومين إلاّ من كان بحيال الباب من قبيل المقاصير التي أحدثها الجبّارون ، أو يكون نفس المقاصير ، وهذا يناسبه الكسر ، لأنّه في الحقيقة بيت ، ولذا قال عليه‌السلام : « كأنّها مذابح اليهود » لا أنّها مجرّد أثر في الحائط أو دخول قليل حتى لا يناسبه الكسر.

وما قيل من أنّ المراد من المذابح نفس المحاريب في هذا الحديث لما في القاموس (١) ، بعيد ، كما لا يخفى على المتأمّل.

قوله : في المساجد الموضوعة للطاعات. ( ٤ : ٤٠١ ).

كونها موضوعة لكلّ طاعة محلّ تأمّل ، بل الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ، وحكم أمير المؤمنين عليه‌السلام مجرّد اتفاق ، ودكّة القضاء أيضا حصلت من قضاء اتفاقي ، كما نقل (٢) ، والممنوع في الرواية إنفاذ الأحكام ، وكذا في فتوى الفقهاء ، وضعف السند منجبر بالشهرة ، مع أنّ المقام مقام التسامح في الدليل ، كما حقّق في أوّل الكتاب. مع أنّه سيجي‌ء في صحيحة ابن مسلم تعليل المنع ببري النبل فيها بأنّها بنيت لغير ذلك ، وتعريف الضوالّ أيضا طاعة ، وكذا البيع والشراء مطلقا أو في بعض الوجوه ، وكذا الصنائع وغيرها ، فتأمّل. مع أنّ من إنفاذ الأحكام يحصل تشويش الخاطر للمصلّين غالبا ، فتأمّل.

قوله : لما رواه الكليني في الصحيح. ( ٤ : ٤٠٢ ).

__________________

(١) القاموس ١ : ٢٢٨ ، ملاذ الأخيار ٥ : ٤٧٧.

(٢) انظر كشف اللثام ١ : ٢٠١.

٣٨١

في الصحيح عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن الشعر أيصلح أن ينشد في المسجد؟ قال : « لا بأس » وعن الضالّة أيصلح أن تنشد في المسجد؟ قال : « لا بأس » (١).

قوله : لا يوجب إعادة الصلاة. ( ٤ : ٤٠٥ ).

بل الأخبار الأوّلة ظاهرة في عدم الإعادة وعدم المنع عن الصلاة أيضا ، فتأمّل.

قوله : ما رواه الشيخ عن غياث بن إبراهيم. ( ٤ : ٤٠٥ ).

روى في الصحيح : أنّ الجواد عليه‌السلام تفل في ما بين الركن اليماني والحجر الأسود ولم يدفنه (٢). وفي رواية : أنّ الباقر عليه‌السلام يصلّي في المسجد فيبصق أمامه وعن يمينه وعن شماله وخلفه ولم يدفنه (٣).

قوله : واستحباب ستره بالتراب. ( ٤ : ٤٠٥ ).

في الصحيح : أنّ الباقر عليه‌السلام إذا وجد قملة في المسجد دفنها في التراب (٤).

قوله : نقضهما. ( ٤ : ٤٠٦ ).

النقض بضم النون آلات بنائهما لا المصدر ، إذ لا وجه لنقضهما لجعلهما مسجدا ، مع أنّه خلاف ظاهر العبارة أيضا. فتأمّل.

قوله : وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقع اتفاقا. ( ٤ : ٤١٤ ).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٤٩ / ٦٨٣ ، قرب الاسناد : ٢٨٩ / ١١٤٣ ، ١١٤٤ ، الوسائل ٥ : ٢١٣ أبواب أحكام المساجد ب ١٤ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧٠ / ١٣ ، التهذيب ٣ : ٢٥٧ / ٧١٧ ، الوسائل ٥ : ٢٢١ أبواب أحكام المساجد ب ١٩ ح ١.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٥٧ / ٧١٨ ، الوسائل ٥ : ٢٢١ أبواب أحكام المساجد ب ١٩ ح ٣.

(٤) الكافي ٣ : ٣٦٧ / ٤ ، الوسائل ٧ : ٢٧٥ أبواب قواطع الصلاة ب ٢٠ ح ٤.

٣٨٢

لا يقال : إنّهم إن كانوا في جهة القبلة يمكنهم الصلاة على الاجتماع ، لأنّا نقول : يمكنهم الصلاة بالإيماء لا الركوع والسجود ، نعم إن أمنوا من الركوع والسجود أمكنهم الاجتماع ولو كان الخصم في غير جهة القبلة ولا يكون خوف ، فتأمّل.

قوله : لخائف العدوّ. ( ٤ : ٤٢٥ ).

لا يخفى أنّ مضمون صحيحة زرارة هو أنّ صلاة خائف اللّص والسبع واحدة بحسب الكيفية والعدد ، ومع ذلك قال : « يصلّي صلاة المواقفة » (١) وصلاة الموافقة قصر.

وأيضا صحيحة زرارة التي استدل بها الشارح رحمه‌الله على تحقّق القصر في الخوف في الحضر أيضا يدل على أنّ مطلق الخوف يصير سببا للقصر ، سيّما بملاحظة قوله عليه‌السلام : « وصلاة الخوف أحقّ من أن تقصر من صلاة السفر الذي لا خوف فيه » (٢). هذا مع ادعاء المحقق إجماع علمائنا على ذلك (٣).

وصحيحة عبد الرحمن أيضا صريحة في أنّ صلاة الزحف تكبير وتهليل ، واستشهد بقوله تعالى ( فَإِنْ خِفْتُمْ ). (٤) الآية ، فلو كان الخوف يشمل ما نحن فيه فظاهرها أنّه يصلّي صلاة الزحف ، وهي مقصورة قطعا.

وفي غير واحد من الأخبار أنّ صلاة خائف اللص والسبع بنحو‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٩٥ / ١٣٤٨ ، الوسائل ٨ : ٤٤١ أبواب صلاة الخوف والمطاردة ب ٣ ح ٨.

(٢) الفقيه ١ : ٢٩٤ / ١٣٤٢ ، التهذيب ٣ : ٣٠٢ / ٩٢١ ، الوسائل ٨ : ٤٣٣ أبواب صلاة الخوف والمطاردة ب ١ ح ١.

(٣) المعتبر ٢ : ٤٦١.

(٤) النساء : ١٠١.

٣٨٣

واحد (١). إلاّ أن يقال : إنّ الغالب كون الخوف من اللصّ والسبع في السفر ، ( ولا يخلو من تأمّل ، سيّما وأن يكون السفر سفرا شرعيا ) (٢) فتأمّل.

قوله : فالظاهر أنّه يقصر العدد أيضا. ( ٤ : ٤٢٦ ).

لعل هذا الحكم منه بناء على كون هذا الخوف فردا من الخوف الذي يجب لأجله القصر.

قوله : سوى ما رواه ابن بابويه. ( ٤ : ٤٢٩ ).

لا يخفى أنّ ما رواه ابن بابويه رواه الكليني أيضا ، وفيها ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع (٣) ، فظهر أنّه وقع في رواية الصدوق سقط ، مع أنّ القطع حاصل بفسادها ، لأنّ البريدين مسيرة يوم من بياضه إلى بياضه ، كما نطقت به الأخبار.

ويمكن الجمع بينه وبين ما ذكره القوم بحمل الذراع على ما هو أطول ممّا ذكروه بقليل بحيث يصير ثلاثة آلاف وخمسمائة أربعة آلاف ، والميل مثل سائر الموضوعات والألفاظ يرجع فيه إلى اللغة والعرف ، والروايتان ضعيفتان مع القطع بفساد الثانية. فتأمّل.

قوله : جازما به. ( ٤ : ٤٣٠ ).

ليس كذلك بلا شبهة ، بل ذكره بعنوان كلمة « أو » بل وأخّره ، والنسبة إلى الشهرة بين الناس تنبيه على مأخذ الحكم ، وهو من المسلّمات عنده وعند غيره من الفقهاء أنّهم يرجعون في الموضوعات للأحكام وألفاظها إلى اللغة والعرف.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٣٩ أبواب صلاة الخوف والمطاردة ب ٣.

(٢) ما بين القوسين ليس في « ا ».

(٣) الكافي ٣ : ٤٣٢ / ٣ ، الوسائل ٨ : ٤٦٠ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٣.

٣٨٤

قوله : فيحتمل قويا. ( ٤ : ٤٣٢ ).

ليس بشي‌ء ، بل الأولى اعتبار الاعتدال فيه أيضا ، لأنّ المراد من مسيرة يوم هو السير أربعة وعشرين ميلا ، كما نطقت به الأخبار وفتاوى الأخيار ، وهو المطابق للاعتبار ، إذ لا وجه في تغيّر الحكم بتغيّر أمارة المقدار ، فتأمّل جدّا.

قوله : لا ريب في الاكتفاء بالسير. ( ٤ : ٤٣٢ ).

فيه تأمّل ظاهر ، إذ لا بدّ من مساواة السير للمقدار واعتبار الموازنة ، كما نبّهنا عليه في الحاشية السابقة ، وإن احتمل الاكتفاء بالتقريب في السير ، بل هذا هو الأظهر ، كما سنشير إليه. فتأمّل.

قوله : مع ثبوت المسافة بالأذرع. ( ٤ : ٤٣٢ ).

لعل هذا التقييد منه بناء على أنّه لا يعرف مسافة السير إلاّ بفعلية السير ، وفيه ما فيه ، بل الظاهر أنّ المعرفة بالسير أيضا يحصل بالسير السابق ، ومعلوم أنّ الحكم هو ما ذكره مع ثبوت المسافة مطلقا.

قوله : إذا أراد الرجوع ليومه. ( ٤ : ٤٣٤ ).

الظاهر أنّ المراد نهاره وبياضه ، وربما قيل بدخول الليلة فيه (١) مدعيا التبادر ، وفيه ما فيه.

قوله : وإذا كان سفره أربعة فراسخ. ( ٤ : ٤٣٤ ).

في الفقه الرضوي : « التقصير واجب إذا كان السفر ثمانية فراسخ ، فإن كان السفر بريدا واحدا وأردت أن ترجع من يومك قصّرت ، لأنّ ذهابك ومجيئك بريدان ، وإن عزمت على المقام وكان سفرك بريدا واحدا ثمّ تجدّد‌

__________________

(١) انظر الذكرى : ٢٥٩ ، والروضة البهية ١ : ٣٧٠.

٣٨٥

لك فيه الرجوع من يومك فلا تقصّر » إلى أن قال : « وإن سافرت إلى موضع مقداره أربعة فراسخ ولم ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار ، فإن شئت أتممت ، وإن شئت قصّرت ، وإن كان سفرك دون أربع فالتمام عليك واجب » (١).

وقال الصدوق في أماليه : من دين الإمامية الإقرار بأنّ حدّ السفر الذي يجب فيه القصر في الصلاة والإفطار في الصوم ثمانية فراسخ ، فإن كان سفر الرجل أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع من يومه فهو بالخيار إن شاء أتمّ وإن شاء قصّر ، وإن أراد الرجوع من يومه فالتقصير عليه واجب (٢).

وسيجي‌ء في رواية ابن مسلم الإشارة إلى اعتبار الرجوع ليومه (٣).

ولما ذكرنا ترى الفقهاء الفحول الذين هم أئمّة في الفهم والفقه كانوا يفهمون من الرجوع كونه ليومه من دون تأمّل ولا تزلزل ولا اعتراض لأحدهم على الآخر في ذلك ، إلى أن بعد العهد وخفي منشؤ فهمهم فشرعوا في الاعتراض عليهم مثل الشارح وأمثاله ممّن بعده عهده ، فظهر أنّ الأقوى مذهب هؤلاء الأعاظم ، وبه يتحقّق الجمع بين أخبار هذا الباب.

وقيل : الأقوى مذهب ابن أبي عقيل ، لحكاية توبيخ أهل عرفات في عدم قصرهم (٤) (٥).

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٥٩ ، المستدرك ٦ : ٥٢٧ ، ٥٢٨ أبواب صلاة المسافر ب ١ ، ٢ ح ٣ ، ١.

(٢) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٣) تأتي في ص : ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، المدارك ٤ : ٤٣٦.

(٤) الكافي ٤ : ٥١٩ / ٥ ، الفقيه ١ : ٢٨٦ / ١٣٠٢ ، التهذيب ٣ : ٢١٠ / ٥٠٧ ، الوسائل ٨ : ٤٦٣ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١.

(٥) انظر الذخيرة : ٤٠٦. والحدائق ١١ : ٣٢٦.

٣٨٦

وفيه : أنّ ما ذكرناه هنا صريح في خطأ ابن أبي عقيل. وأمّا توبيخ أهل عرفات فلعلّه لأنّهم لا يجعلون هذا القدر من المسافة مسافة للقصر أصلا ، ويحكمون بسبب هذا بوجوب الإتمام. وقولهم عليه‌السلام : « أيّ سفر أشدّ منه » لعله إقناعي وجدل ، كما هو دأبهم عليه‌السلام ، بأنّه ظاهر أنّ منشأ القصر التخفيف على المسافر من شدّة تكون بهم غالبا ، فتأمّل.

وممّا يشهد على بطلان مذهبه أنّه ورد في بعض الأخبار القصر في الأربعة التي لم ينضمّ إلى أربعة الإياب ، وهو خبر عمران عن الجواد عليه‌السلام أنّه يقصّر في طريقة إلى ضيعته ويتمّ في الضيعة (١) ، والمسافة إليها خمسة فراسخ ، فلاحظ وتأمّل.

مع أنّ المنقول من مذهبه لا شاهد له في الأخبار. وتأويل كلامه بأنّ مراده من : ما دون عشرة ، عدم قصد الإقامة في الأثناء ، وأنّه أحد القواطع الثلاث يعني أنّه لا يقطع سفره بالوصول إلى الوطن أو البقاء متردّدا ثلاثين يوما ، بعيد ، مع أنّه لا شاهد له ، فتأمّل جدّا.

قوله : ونحوه قال المفيد. ( ٤ : ٤٣٤ ).

الظاهر من الكليني رحمه‌الله تحتّم القصر إذا كان المسافة أربعة فراسخ مطلقا ، لأنّه لم يأت في الكافي في باب صلاة المسافر إلاّ بأحاديث الأربعة ، ولم يرو أحاديث الثمانية ولم يعتن بشأنها مطلقا (٢).

ويمكن أن يكون مراده : أدنى مسافة يتحقّق فيها القصر أربعة ، أعمّ من أن يكون القصر بعنوان الوجوب أو الجواز ، لما ذكرنا في الحاشية‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢١٠ / ٥٠٩ ، الاستبصار ١ : ٢٢٩ / ٨١١ ، الوسائل ٨ : ٤٩٦ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١٤.

(٢) الكافي ٣ : ٤٣٢.

٣٨٧

السابقة ، ولأنّه لم ينسب إليه أحد القول بالأربعة مطلقا على سبيل الوجوب ، ولأنّه ترك بعض الحديث في بعض الأخبار وأتى بالبعض وهو أنّ المسافة أربعة ، والمتروك هو أنّه إذا رجع يصير ثمانية فراسخ (١) ، وأنّ الغالب الرجوع ، فتأمّل.

قوله : ثم قال : على أنّ الذي. ( ٤ : ٤٣٤ ).

الظاهر من قوله : على أنّ الذي نقول. ، كون هذا القول علاوة لما ذكره من التوجيه وتتمّة له ، كما هو رأيه في النهاية ، والنهاية فتاويه على طبق ما في كتابيه كما لا يخفى على المطلع ، فهو في كتابه الحديث أيضا موافق لشيخه المفيد والصدوق. وكون التهذيب شرح كلام المفيد قرينة أخرى على ما ذكرناه ، فما سيذكره الشارح من أنّ مذهبه التخيير في الأربعة على الإطلاق (٢) ، فيه ما فيه.

ومن المؤيّدات لما ذكرناه كلام الصدوق في أماليه (٣).

ومن المؤيّدات إنّه استشهد برواية ابن مسلم وابن وهب وغيرهما مع كونها نصا في أنّ المراد من البريد والأربعة هو الثمانية بناء على اعتبار الرجوع واعتباره ، ولم يتوجّه إلى توجيه هذه الروايات أصلا. وبالجملة : لا تأمل في ما ذكرناه ، كما لا يخفى ( على المتأمّل ) (٤).

قوله : أنّ إطلاق الأمر. ( ٤ : ٤٣٦ ).

إن أراد أنّه لا يجوز ورود الإطلاق في حديث ويكون مقيّدا ما لم‌

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) المدارك ٤ : ٤٣٧.

(٣) راجع ص ٣٨٦.

(٤) ما بين القوسين ليس في « ا ».

٣٨٨

يذكر في ذلك الحديث لفظ يدل على القيد ، فهو بديهي الفساد ، لأنّ جلّ المطلقات ـ لو لم نقل كلّها ـ ليست كذلك ، بل يظهر القيد من دليل آخر : خبر ، أو آية ، أو إجماع ، أو غيرها.

وإن أراد أنّه يكفي ورود القيد في دليل آخر من خبر أو غيره ، ففيه : أنّ الصحاح المذكورة وغيرها ممّا سنذكره صريحة في أنّ المطلقات مقيّدة بالرجوع ، مضافا إلى أنّ الغالب في الأسفار الرجوع ، والمطلق ينصرف إلى الغالب ، كما صرّح به مرارا (١).

وإن أراد أنّ قيد كون الرجوع من يومه لا يظهر من دليل ، فهذا بعينه هو اعتراضه الثاني.

مع أنّك قد عرفت وجه التقييد بيومه ، وهو الإجماع المنقول عن الصدوق ، والإجماع المنقول حجّة ، كما حقّق في محلّه ، والفقه الرضوي أيضا حجّة ، كما حقّقنا (٢) ، سيّما إذا كان منجبرا بطريقة الإمامية وعمل قدمائنا الفقهاء ، وإن شئت قلت : الإجماع المنقول ، وكذا منجبر بالإشعار في صحيحة ابن مسلم وغير ذلك ممّا أشرنا.

مع أنّ مجرّد الإشعار في الصحيحة كاف للجمع ، لأنّه رفع التناقض عن أقوال المعصومين عليه‌السلام ، وهو أولى من الطرح عندهم ، والشارح رحمه‌الله ربما يكتفي بالجمع المجرّد عن الإشعار وغيره ، فتأمّل.

وبالجملة : الإشعار يصلح لتأييد جمع وترجيحه على جمع آخر ، لأنّ فيه مظنّة ، فكيف إذا اجتمع مع الإجماع المنقول وعبارة الفقه الرضوي وغير ذلك؟

__________________

(١) المدارك ٤ : ٤٣١.

(٢) انظر خاتمة مستدرك الوسائل ١ : ٢٣٤.

٣٨٩

مع أنّه قال في شرحه لقول المصنف : الشرط الأوّل المسافة : إنّه لا فرق مع ثبوت المسافة بالأذرع بين قطعها في يوم. (١) وهو ظاهر في أنّ المسافة لو ثبتت بالسير لا بدّ من قطعها في يوم واحد ، ولا شكّ في أنّ الوارد في رواية ابن مسلم هو القطع بالسير ، فتأمّل.

وإن أراد أنّ كثرة المطلقات مع قلّة المقيّد لا يجوز ، ففيه : أنّ المدار في الفقه على ذلك ، ألا ترى أنّ الإطلاقات في وجوب الجمعة كثيرة غاية الكثرة ، والتقييدات فيها في الغالب بخبر أو خبرين؟ بل ربما لا يكون بخبر مثل عدالة إمامها ، فإنّها لا تثبت من خبر صحيح واضح الدلالة ، فتأمّل.

ويؤيّدهم أيضا موثقة عمار ( عن الصادق عليه‌السلام : عن الرجل يخرج في حاجته فيسير خمسة فراسخ أو ستّة فراسخ ، فيأتي قرية فينزل فيها ، ثم يخرج منها خمسة فراسخ أو ستّة لا يجوز ذلك ، ثم ينزل في ذلك الموضع ، قال : « لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، فليتمّ الصلاة » (٢).

إذ في غاية [ الظهور ] (٣) أنّه من جهة الحاجة يسير خمسة أو ستّة فراسخ. وحملها على عدم إرادة الرجوع إلى وطنه أصلا والحيرة بالمرّة ، بعيد جدّا ، وكذا على قصد الإقامة ، فيكون المراد ممّا دل على الرجوع وانضمامه حتى يصير ثمانية هو الرجوع ليومه أو ليلته ، والموثق حجّة سيّما إذا كان منجبرا بالشهرة.

__________________

(١) المدارك ٤ : ٤٣٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٢٥ / ٦٦١ ، الاستبصار ١ : ٢٢٦ / ٨٠٥ ، الوسائل ٨ : ٤٦٩ أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ٣.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة.

٣٩٠

وفي التهذيب حمله على الهائم بقرينة روايته الأخرى عن الهائم (١).

وهو فاسد من وجوه :

الأول : أنّ روايته الأخرى أمر فيها بالقصر بعد ثمانية ، وفي هذه أمر بالإتمام بعد اثني عشر.

الثاني : أنّ الضمير في قوله : « لا يكون » راجع إلى الرجل المذكور ، فمقتضى هذا أنّه يقصّر بعد ثمانية فراسخ ، فكيف أمره بالإتمام بعد اثني عشر فرسخا؟

وأيضا لو كان المراد هو الهائم لكان عليه‌السلام يقول : لا يكون مسافرا حتى يكون هذا السير عن قصده ، إذا الأربعة المقصودة تكفي للقصر حتما أو تخييرا ، فضلا عن ستّة ، فضلا عن اثني عشر ، هذا.

مع أنّ ترك الاستفصال عن كونه هائما أم لا يفيد العموم ، فضلا عمّا عرفت من عدم إمكان كونه هائما ) (٢).

قوله : لا يدل عليه اللفظ. ( ٤ : ٤٣٦ ).

في الكشي في ترجمة محمد بن مسلم بسنده إلى محمد بن حكيم وصاحب له أنّهما سألا من شريك ـ وهو قاض من قضاة العامّة ـ في كم يجب التقصير؟ فقال : ابن مسعود يقول كذا ، وفلان قال كذا ، فقالا : شرطنا عليك أن لا تحدّثنا إلاّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم سألاه : على من تجب الجمعة؟ فقال أيضا : ما عندي في هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قال لهما : لم تسألوا عن هذا إلاّ وعندكم علم منه فقالا : نعم أخبرنا محمد بن مسلم الثقفي عن محمد بن علي عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنّ التقصير‌

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢٥ / ٦٦٢.

(٢) ما بين القوسين ليس في « ا ».

٣٩١

يجب في بريدين ، وإذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فلهم أن يجمّعوا » (١) أخذناه من الكشي مختصرا.

قوله : بعيد جدّا. ( ٤ : ٤٣٦ ).

لا يخفى فساد هذا الاعتراض ، لأنّ التأويل للجمع هو ارتكاب البعيد ، وما ذكر ليس بذلك البعيد ، وما قال من أنّه قبيح فيمتنع. أظهر فسادا وأقبح وأشدّ شناعة ، لأنّه سدّ لباب الجمع بين الأخبار والآيات ، ومداره كلّه ومدار كلّ الفقهاء على الجمع ، والفقه مبتن عليه.

بل في المقام يجمع هو أيضا بين الأخبار بحمل الأربعة مطلقا على التخيير ، مع أنّه أبعد ، لأنّ صحيحة زرارة وصحيحة ابن وهب وصحيحة محمد بن مسلم كلّ واحد منها صريحة في أنّ المراد من الأربعة ما يصير ثمانية ، وأنّه فرد من الثمانية ، ولا شكّ في أنّ القصر في الثمانية بعنوان الوجوب ، ألا ترى أنّ ابن مسلم تعجّب من قوله : « بريد »؟ لأنّه كان سمع أنّه بريدان ، على ما يظهر من علم الرجال ، فأجاب عليه‌السلام أنّه أيضا ثمانية ، ولم يقل : مرادي القصر على سبيل الجواز.

ومضمون هذه الصحاح ليس منحصرا فيها ، بل ورد في غيرها أيضا ، مثل ما رواه الكليني عن إسحاق بن عمار ، عن أبي الحسن عليه‌السلام عن قوم خرجوا في سفر فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير (٢) ، إلى آخر الحديث ، وزاد في العلل في آخره : « لأنّ التقصير في بريدين ولا يكون في أقلّ من ذلك ، فإن كانوا ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا كانوا قد‌

__________________

(١) رجال الكشي ١ : ٣٨٩ / ٢٧٩.

(٢) الكافي ٣ : ٤٣٣ / ٥ ، الوسائل ٨ : ٤٦٦ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١٠.

٣٩٢

سافروا سفر التقصير ، وإن كانوا ساروا أقلّ من ذلك لم يكن لهم إلاّ إتمام الصلاة » (١).

وقريب منها صحيحة أبي ولاد عن الصادق عليه‌السلام (٢) ، ورواية المروزي عن الفقيه عليه‌السلام : « أنّ التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وبريد جائيا ، والبريد ستّة أميال ، وهو فرسخان ، فالتقصير في أربعة فراسخ ، فإذا خرج من منزله يريد اثني عشر ميلا وذلك أربعة فراسخ ، ثم بلغ فرسخين ونيّته الرجوع أو فرسخين آخرين قصّر » (٣). الحديث ، وظاهر أنّ المراد الفرسخ الخراساني وهو فرسخان ، لأنّ الراوي مروزي ، وربما نقل الحديث بالمعنى لأهل المرو ، فتأمّل جدّا.

ويدل على ذلك رواية إسحاق بن عمار التي سنذكرها في حكم منتظر الرفقة (٤) ، هذا.

مع أنّ ما اختاره من الجمع لا قائل به من القدماء بل والمتأخّرين ، ومجرّد التقوية من الذكرى (٥) ليس قولا به ، وكذا مثل روض الجنان (٦) إن صحّ ، وأين هذا ممّا نقل عن أمالي الصدوق وتصريحات القدماء والمتأخّرين حتى الشهيدين (٧)؟ فتأمّل.

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٦٧ / ١ ، الوسائل ٨ : ٤٦٦ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١١.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٩٨ / ٩٠٩ ، الوسائل ٨ : ٤٦٩ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٣) التهذيب ٤ : ٢٢٦ / ٦٦٤ ، الاستبصار ١ : ٢٢٧ / ٨٠٨ ، الوسائل ٨ : ٤٥٧ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٤.

(٤) تأتي في ص : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

(٥) الذكرى : ٢٥٧.

(٦) روض الجنان : ٣٨٤.

(٧) انظر الروضة البهية ١ : ٣٦٩ ، البيان : ٢٥٩ ، المسالك ١ : ٤٨.

٣٩٣

قوله : وثالثا. ( ٤ : ٤٣٧ ).

الظاهر أنّه يمكن توجيهه في مقام الجمع بين الأخبار ، والتصريح ليس في الخبر الصحيح ، وليس الحجّة عند الشارح رحمه‌الله إلاّ الصحيحة ، فتأمّل ، مع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان وطنه مكّة وبيته فيها باعه عقيل ، ورسول الله رفع يده عنه لذلك. مع أنّه سيجي‌ء عن الشارح أنّ المعتبر استيطان ستّة أشهر في كلّ سنة (١) ، فتأمّل.

قوله (٢) : ويدل عليه أيضا أنّ مقتضى الأصل. ( ٤ : ٤٣٨ ).

فيه أنّ الأصل في المسافر القصر ، للعمومات ، إلاّ أنّ اشتراط الثمانية أو الأربعة مع العود اقتضى كون الأقلّ يجب التمام فيه ، لأنّ المراد من الثمانية لو كان سيرها كيف كان لما كان لذكر خصوص الأربعة والبريد وجه ، بل كان اللازم أن يقولوا : أقلّ مسافة القصر نصف فرسخ بل ثلثه ، بل أقلّ منه أيضا ، فتأمّل.

قوله : وإلاّ وجب عليه الإتمام. ( ٤ : ٤٤١ ).

ويدل على هذه الأحكام رواية إسحاق بن عمار عن الكاظم عليه‌السلام عن قوم خرجوا في سفر ، فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب فيه التقصير قصّروا ، فلمّا أن صاروا على رأس فرسخين أو أربعة تخلّف عنهم من لا يستقيم سفرهم إلاّ بمجيئه ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : « إن كانوا بلغوا أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم ، أقاموا أم انصرفوا ، وإن ساروا أقلّ من أربعة فليتموا الصلاة ما أقاموا ، فإذا مضوا فليقصّروا » ثم قال : « هل تدري كيف صار كذلك؟ » قلت : لا ، قال : « لأنّ التقصير في بريدين ، ولا يكون‌

__________________

(١) المدارك ٤ : ٤٤٥.

(٢) هذه التعليقة والتي بعدها ليست في « أ ».

٣٩٤

في أقلّ من ذلك ، فلمّا ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا بريدا قد ساروا سفر التقصير ، وإن ساروا أقلّ من ذلك لم يكن لهم إلاّ إتمام الصلاة » قلت : أليس بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم؟ قال : « بلى إنّما قصّروا في ذلك الموضع ، لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم ، فلمّا جاءت العلّة في مقامهم دون البريد صار هكذا » (١) عجز هذه الرواية مذكور في العلل ، وصدرها مذكور فيه ، وفي التهذيب (٢) أيضا.

قوله : وفي الصحيح عن علي بن يقطين. ( ٤ : ٤٤٢ ).

اعترض عليه بأنّ غاية ما يثبت من الأخبار وجوب الإتمام في موضع الإقامة ، وفي المنزل الذي يستوطنه ، لا أنّ الشرط أن لا يقطع السفر بأحد القواطع (٣).

ويمكن الجواب بأنّ ما دل على اشتراط المسافة للقصر ومقدار تلك المسافة المشترطة ظاهر في كون المسافة المشترطة بأجمعها يقصّر فيها ، وأنّها ليست بحيث يقصّر في بعضها ويتمّ في بعضها ، فإذا حكم الشارع بوجوب الإتمام في موضع لم تكن تلك المسافة هي المسافة المشترطة ، إلاّ أن يتحقّق بعد الموضع مسافة يقصّر في جميع أجزائها ، ويكون الحكم بحسب ظاهر الدليل الشرعي التقصير في كلّ جزء جزء إلى آخرها ، فلاحظ الأخبار وتأمّل فيها.

مع أنّه ربما كان وطنه بحيث إذا دخل فيها خرج عن المسافر عرفا ،

__________________

(١) المحاسن : ٣١٢ / ٢٩ ، الكافي ٣ : ٤٣٣ / ٥ ، علل الشرائع : ٣٦٧ / ١ ، الوسائل ٨ : ٤٦٦ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١٠.

(٢) لم نعثر عليها فيه.

(٣) انظر الذخيرة : ٤٠٨.

٣٩٥

بل الذي في وطنه يصدق عليه عرفا أنّه غير مسافر الآن. وصحيحة ابن يقطين وغيرها يشير إلى ذلك ، فتأمّل. فيكون السفر بعد ذلك سفرا جديدا وعلى حدة ، فتدبّر.

ولا يخفى أنّ حكم الثلاثين متردّدا حكم المذكورين.

ويدل أيضا على ما ذكرنا صحيحة زرارة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « من قدم قبل التروية بعشرة أيّام وجب عليه التمام ، وهو بمنزلة أهل مكّة » الحديث (١).

وصحيحة صفوان عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه‌السلام عن أهل مكّة إذا زاروا عليهم إتمام الصلاة؟ قال : « نعم ، والمقيم إلى شهر بمنزلتهم » (٢) وجه الدلالة عموم المنزلة من غير تخصيص. فتأمّل.

وفي الموثق عن سماعة قال : قال : « من سافر قصّر الصلاة وأفطر إلاّ أن يكون مشيّعا لسلطان جائر أو خرج إلى صيد أو إلى قرية له يكون مسير يوم يبيت إلى أهله ، لا يقصّر ولا يفطر » (٣) فتأمّل.

وأيضا إذا تعلّق بالمكلف الحكم بوجوب الإتمام حين الإقامة أو الكون في الوطن أو ثلاثين يوما يكون الحكم مستصحبا حتى يثبت خلافه ، ولا يثبت إلاّ بالسفر بعد ذلك سفرا مستجمعا لشرائط القصر.

وأيضا الظاهر من صحيحة أبي ولاد (٤) وجوب الإتمام على ناوي الإقامة إلى أن يسافر السفر المستجمع ، كما ستعرف.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٨٨ / ١٧٤٢ ، الوسائل ٨ : ٥٠١ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٠.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٨٧ / ١٧٤١ ، الوسائل ٨ : ٥٠١ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١١.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٠٧ / ٤٩٢ ، الاستبصار ١ : ٢٢٢ / ٧٨٦ ، الوسائل ٨ : ٤٧٧ أبواب صلاة المسافر ب ٨ ح ٤.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٩٨ / ٩٠٩ ، الوسائل ٨ : ٤٦٩ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

٣٩٦

وأيضا غير واحد من الأخبار مطلق في وجوب الإتمام بعد نيّة الإقامة ، وكذا الحال في الوطن وبعد ثلاثين يوما ، فتأمّل جدّا.

قوله : والوطن الذي يتمّ فيه. ( ٤ : ٤٤٣ ).

لعل مراد المصنف من الوطن الوطن الذي أشار إليه في قوله : وفي طريق له ملك قد استوطنه ستة أشهر ، لما ستعرف في الحاشية الآتية.

قوله : هو كل موضع. ( ٤ : ٤٤٣ ).

لا يخفى أنّ الأصل في الصلاة هو الإتمام ( وأنّ وضعها عليه ، وأنّ القصر أمر يعرض ) (١) ، وأنّ القصر لا يجوز إلاّ لخوف أو سفر ، وبمجرّد السفر أيضا لا يجوز حتى يتحقّق شرائط ، وكون المكلف في السفر هو ما إذا كان المكلّف خارجا عن وطنه ومنزله ومسكنه ، والكائن في الوطن حاضر غير مسافر ، ولا دخل للملك في هذا المعنى ، وليس كلّ من لا يكون له ملك مسافرا ، وإلاّ لزم أن يكون غالب الناس مسافرين في جميع أوقاتهم من يوم تولّدهم إلى أن يموتوا ، وهو بديهي البطلان ، والمكلفون في الأعصار والأمصار غالبهم لم يكن لهم ملك يستوطنون فيه ، كما هو ظاهر.

والفقهاء ليس لهم تعريف الحاضر وغير المسافر (٢) ومن هو في بلده وفي بيته وداره وأهله ، لأنّ ذلك من أظهر البديهيات ، بل لمّا وجدوا باعتقادهم مسافرا يجب عليه التمام بسبب وصوله إلى منزل استوطنه ستّة أشهر في وقت من الأوقات عند بعضهم ، أو في كلّ سنة عند آخر ، ورأوا أنّ الأئمّة عليه‌السلام أمروا في بعض الأخبار بالإتمام في الملك وأنّه معتبر في‌

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ب » و « ج » و « د ».

(٢) في « أ » و « و » : الحاضر.

٣٩٧

الإتمام أحيانا ، ولذا اعتبر بعضهم خصوص الملك وأكثرهم الملك مع الاستيطان المذكور دعاهم ذلك إلى التعرّض لحال هذا المسافر والموضع الذي يتمّ فيه.

فالمراد ـ والله يعلم ـ : الوطن الذي يقطع السفر ، على ما هو مقتضى الأخبار التي هي مستند هذا الحكم ، إذا لا تدل على أنّ الوطن الذي يتمّون فيه منحصر في ذلك ، بل تدل على أنّ ذلك الوطن يقطع به السفر ، كما لا يخفى على المتدبّر.

مع أنّ مقتضى الأخبار الصحاح الكثيرة كون المعتبر الوطن واستيطان المنزل سواء كان ملكا أو لا ، إذ غير مأخوذ في معنى المنزل قيد الملكية.

لا لغة ولا عرفا ، بل بينهما عموم من وجه بلا شبهة ، والحكم معلّق على الاستيطان ، والإتمام دائر معه بمقتضى الصحاح الكثيرة.

وما في بعض الأخبار من الأمر بالإتمام في الملك (١) من دون اعتبار الاستيطان محمول على التقيّة ، لكونه مذهب مالك (٢). وقال خالي العلاّمة المجلسي رحمه‌الله : هو قول جماعة من العامّة ، ونقل أهل السنّة عن ابن عباس والشافعي (٣). انتهى.

ولا يخفى على من تأمّل الصحاح الكثيرة أنّ مراد الأئمّة عليه‌السلام فيها ردّ هذا القول.

مع أنّ هذا القول مخالف لظاهر الآية أيضا ، وكذا العمومات المتواترة الدالة على أنّ فرض المسافر القصر ، والصحاح الكثيرة موافقة للاعتبار أيضا‌

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٩٦ ، ٤٩٧ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ الأحاديث ١٤ ، ١٥ ، ١٧ ، ١٨.

(٢) انظر المغني لابن قدامة ٢ : ١٣٥.

(٣) بحار الأنوار ٨٦ : ٣٦.

٣٩٨

من جهة أنّ من دخل وطنه لا يكون مسافرا حين كونه فيه ، واعتبار الستّة أشهر في كلّ سنة شاهد على أنّ أقصر ما يتحقّق به الوطن أن يستوطن ستّة أشهر في كلّ سنة ، وبما ذكرنا صرّح بعض المحققين بل غير واحد منهم (١).

ومع ذلك لا يقاوم ما دل على الإتمام في الملك تلك الصحاح الكثيرة من حيث السند أيضا ، وكذا من حيث الدلالة ، لإمكان حملها على تحقّق الاستيطان ، وإن كان بعيدا ، لأنّ الظاهر لا يقاوم الصريح ، وكذا من جهة الكثرة والشهرة في الفتوى.

ومع جميع ذلك لا يدل على اشتراط الملكية ، بحيث إنّه لو لم يكن ملكا لا يجوز الإتمام فيه ، وهو ظاهر على الملاحظ المتأمّل ، سيّما بعد الاطلاع على ما ذكرناه هنا وفيما سيأتي من الحواشي.

على أنّه لو فرض أن يكون ورد في بعض الأخبار اشتراط الملكية في المنزل والوطن الذي يتمّ فيه فلا بدّ من الطرح أو التأويل والتوجيه ، لما عرفت من القطع بعدم الاشتراط ، مع أنّه لم يرد خبر في الاشتراط ، فتدبّر.

قوله : ويدل عليه. ( ٤ : ٤٤٣ ).

لا يخفى أنّ الراوي لمّا سمع التمام في الضيعة والملك من فقهاء أهل السنّة وسمع أيضا الأخبار عن الأئمّة عليه‌السلام في ذلك ووقع له ريبة من جهة أنّه ربما يكون تقيّة أو غير ذلك سأل الإمام عليه‌السلام عن ذلك ، فأجاب بأنّه ليس الأمر كذلك ، بل لا بدّ من القصر ، كما هو الحال في غير الضيعة ( إلاّ أن ينوي الإقامة ، كما هو الحال في غير الضيعة ، أو يكون له منزل يستوطنه‌

__________________

(١) منهم المحقق السبزواري في الذخيرة : ٤٠٨ ، والكفاية : ٣٤ ، والمجلسي في البحار ٨٦ : ٣٧.

٣٩٩

ستّة أشهر ، كما هو الحال في غير الضيعة ) (١) أيضا.

والحاصل : أنّ الإمام عليه‌السلام صرّح بعدم الفرق بين الضيعة وغيرها في وجوب القصر إلاّ في صورتين ، وأنّ الصورتين أيضا ليستا من خصائص الضيعة ، فهذه الصحيحة لا دلالة فيها على اشتراط الملك مع الاستيطان لا مطابقة ولا تضمّنا ولا التزاما ، لما عرفت ، ولما عرفت أيضا أنّ المنزل أعمّ من وجه من الملك قطعا ، و [ لما ] عرفت أيضا من تشريك قصد الإقامة مع المنزل الذي يستوطنه ، وأنّهما ليستا من خصائص الضيعة ، بل المعصوم عليه‌السلام أظهر ذلك للتنبيه على عدم الفرق بين الضيعة وغيرها ، وأيضا قصد الإقامة لا يشترط فيه الملك فكذا الاستيطان بحكم السياق والتشريك ، فتأمّل.

قوله : وبهذا المعنى صرّح. ( ٤ : ٤٤٤ ).

قد عرفت أنّ المراد استيطان ستّة أشهر في كل سنة حتى يتحقّق الوطن ( الحقيقي العرفي ، أي أقلّ ما يتحقّق به الوطن ) (٢) وما في صحيحة [ حماد بن ] عثمان : « إنّما هو المنزل الذي توطّنه » لعله بصيغة المضارع بحذف إحدى التائين ، أو المضارع من باب الإفعال ، جمعا بين الأخبار والاعتبار ، بل لعل الماضي لا يصير مناسبا ، أو غيره أنسب ، لعدم المناسبة للحصر.

مع أنّ الظاهر أنّه لم يجئ بحسب اللغة « توطّن » من باب التفعّل بمعنى : اتّخذ وطنا ، كما يظهر من القاموس ، بل جاء بمعنى : مهّد (٣) ، وأمّا بالمعنى المذكور فقد جاء باب الاستفعال والإفعال والتفعيل.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٢) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٣) القاموس ٤ : ٢٧٨.

٤٠٠