الحاشية على مدارك الأحكام - ج ٣

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

الحاشية على مدارك الأحكام - ج ٣

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-171-0
ISBN الدورة:
964-319-168-0

الصفحات: ٤٦٤

في زمان الأئمّة عليه‌السلام ، بحيث يظهر أنّهم كانوا يرضون به ويصحّحونه ويجوّزون ارتكابه في الصلاة وغيرها ، لأنّهم كانوا راضين بقراءة القرآن على ما هو عند الناس ، بل وربما كانوا يمنعون من قراءة الحق وكانوا يقولون : هي مخصوصة بزمان ظهور القائم عليه‌السلام (١).

قوله : لكن قد لا يخرج بذلك عن كونه قرآنا. ( ٣ : ٣٤٢ ).

هذا لا يقتضي صحة التدارك مطلقا قبل الركوع ، فالأولى حمل الإعادة على الأعمّ من الصّلاة والقراءة ، إن تدارك يكون إعادة القرآن ، وإن لم يتدارك يكون إعادة الصلاة ، وكذلك إن خرج بالمخالفة عن كونه قرآنا ، فتدبّر.

قوله (٢) : ولو لفوات الموالاة. ( ٣ : ٣٤٢ ).

يعني عدم الإمكان بفوات الموالاة.

قوله (٣) : لإطلاق الأمر. ( ٣ : ٣٤٢ ).

يمكن أن يقال : الإطلاق ينصرف إلى المتعارف الغالب ، والمتعارف كان أنّ من يحفظ القراءة كان يقرأ من الحفظ ، ولا كان يرتكب عناء أخذ المصحف والقراءة منه وتحصيل السراج للقراءة والقراءة بالسراج ، ومنه يظهر الجواب عن رواية الصيقل أيضا.

وروى علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام المنع من ذلك ، وعدم الاعتداد بالصلاة تكون قراءتها كذلك ووجوب إعادتها ، رواها الحميري بطريقه عنه (٤). ومن هذا منع في الدروس عنه (٥) ، ولعل غير ذلك.

__________________

(١) انظر الكافي ٢ : ٦٣٣ / ٢٣.

(٢) هذه الحاشية ليست في « ب » و « ج » و « د ».

(٣) هذه الحاشية واثنتان بعدها ليست في « أ » و « و ».

(٤) قرب الاسناد : ١٩٥ / ٧٤٢ ، الوسائل ٦ : ١٠٧ أبواب القراءة ب ٤١ ح ٢.

(٥) الدروس ١ : ١٧٢.

٢١

قوله : وجب عليه الإتيان به إجماعا. ( ٣ : ٣٤٣ ).

وللأخبار الدالة على أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور (١) أو ممّا ذكر ظهر أنّ الوجوب غير منحصر في صورة كون الشي‌ء الذي نقله (٢) من الفاتحة قرآنا ، كما اختاره في الدروس بعد العلاّمة (٣) ، ونظرهما إلى ما سنذكر في الحاشية الآتية في وجوب حصول القراءة موضع الحمد لو لم يعلم شيئا منها ، أو يعلم لكن بعوض الفائت.

قوله : تمسّكا بمقتضى الأصل السالم عن المعارض. ( ٣ : ٣٤٣ ).

الأصل لا يجري في ماهية العبادات ، ولذا وجب في تكبيرة الإحرام الاقتصار على « الله أكبر » مع كون ما دل على وجوب تكبيرة مطلقا ، سيّما مع كون المراد : الله أكبر من كلّ شي‌ء ، أو من أن يوصف ، أو عن أن يتوهم ، ومع ذلك لا يجوز إظهار شي‌ء من ذلك ، وكذا لا يجوز : الله الأكبر ، وغيرها ممّا هو أصح بحسب اللغة عن المشهور ، وغير ذلك من المواضع المسلّمة عند الشارح ، مع أنّه ثبت ممّا تقدّم أنّ وجوب القراءة أمر على حدة ، ووجوب كونها الحمد والسورة أمر على حدة ، ودل على الأوّل الإجماع والأخبار التي لا تحصى ، وعلى الثاني أيضا.

وفي العلل : عن الرضا عليه‌السلام : « إنّما أمر بالقراءة في الصلاة لئلاّ يكون القرآن مهجورا » إلى أن قال : « وإنّما بدئ بالحمد دون سائر السور ، لأنّه ليس شي‌ء من القرآن جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في الحمد » ،

__________________

(١) عوالي اللآلئ ٤ : ٥٨.

(٢) كذا في النسخ ، والأنسب : يعلمه.

(٣) المنتهى ١ : ٢٧٢. الدروس ١ : ١٧٢.

٢٢

ثم شرع عليه‌السلام في بيان الخير والحكمة في كلّ جزء جزء منها إلى قوله ( وَلَا الضّالِّينَ ) (١).

فظهر ممّا ذكر أنّ وجوب مطلق القراءة غير وجوب مقيّدها وكلّ منهما على حدة ، فمن تعذّر أحدهما أو تعسّره لا يسقط الآخر ، وإن كان في المقيّد اجتمع الوجوبان ، فإن لم يتيسّر لم يسقط المطلق ، ولذا وجب القراءة من غيرها.

وروى العامّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « فإن كان معك قرآن فاقرأ به » (٢) فمع التمكن من قراءة بعض الحمد يمكن أن يقال بتعويض الفائت ، بملاحظة أنّ أمر الشارع بوجوب الحمد تماما ربما يظهر [ منه ] (٣) كون هذا المقدار من القراءة مطلوبا مطلقا ، وكونها في ضمن الحمد وبالحمد مطلوبا آخر.

مع أنّه لو قلنا بعدم الظهور فالاحتمال موجود البتة ، والبراءة الاحتمالية لا تكفي عند اشتغال الذمّة بالعبادة التوقيفية يقينا.

ودعوى ظهور عدم المدخلية على المجتهد بحيث يكتفي به في تحصيل البراءة اليقينية ، فيه ما فيه ، وعلى أىّ حال الاحتياط في مثله لا يترك.

واعلم أنّه على القول بوجوب تعويض الفائت هل يجب تكرار ما يعلمه إلى ان يحصل مقدار الحمد لكونه أقرب إلى الحمد؟ أو يجب كونه بغير الحمد ممّا يعرفه من القرآن؟ لعدم ظهور تكرار القراءة في خبر من‌

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٦٠ / ٩ ، الوسائل ٦ : ٣٨ أبواب القراءة ب ١ ح ٣.

(٢) سنن أبي داود ١ : ٢٢٨ / ٨٦١ ، سنن الترمذي ١ : ١٨٥ / ٣٠١.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه العبارة.

٢٣

الأخبار ، بل مقتضى ما ذكرنا من العلل عن الرضا عليه‌السلام تعيين الغير ، [ إذ ] (١) بالقراءة (٢) يحصل عدم الهجر ، فما الفائدة في التكرار إذا كان العلّة عدم الهجر بالمرّة والحفظ والدرس ، والمعرفة وعدم الجهل ، إذ كلّ ذلك يقتضي كون عوض الفائت من غيرها من باقي السور؟

أو أنّه يجوز الأمران ومخيّر بينهما ، لحصول العوض على أيّ تقدير؟

ولعل الأوسط خير.

ولو لم يعرف شيئا من الحمد ويعرف شيئا من باقي القرآن لا يوازي الحمد ، فهل يجب تكراره إلى أن يوازي الحمد بناء على ما قلناه من وجوب الإتيان بقدر الحمد من القرآن؟ أو يعوّضه بالذكر إلى أن يوازي الحمد بناء على ما ذكرناه من عدم الفائدة في التكرار؟ أو لا تلزم الموازاة بل يكفي ذلك القليل ، بحصول مسمّى القراءة وعدم التمكن بما يوازي الحمد ، لعدم وجود التكرار في خبر ، ولعدم الفائدة فيه؟.

إشكال ، وإن كان الأوّل ربما لا يخلوا من قوّة لا عدم التكرار ، بناء على ما هو المتعارف من حصول القراءة إن كانت حاصلة ، ووجوب تحصيلها إن لم تكن ، ولو لم يمكن فالميسور لا يسقط بالمعسور ، مع أنّ الاحتمال كاف في لزوم مراعاته ، كما لا يخفى والاحتياط.

ولو أمكنه تفسير الحمد أو مرادفها ، فهل هو مقدّم على القراءة من غيرها أم لا؟.

الأظهر الثاني ، لأنّ التفسير ليس بقرآن.

وهل هو مقدّم على التسبيحات أم لا؟

__________________

(١) في النسخ : أو ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في النسخ زيادة : من.

٢٤

اختار في المنتهى تقديم التسبيح ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن كان معك قرآن فاقرأ وإلاّ فاحمد الله وكبّره وهلّله » (١).

وفيه : أنّ الرواية من العامّة ، نعم في صحيحة ابن سنان المذكورة في الشرح ما يدل عليه ، لكن يمكن أن يقال : فرض معرفة تفسير الحمد وعدم معرفة الحمد في غاية البعد والندرة ، لأنّ المتعارف أنّ من لا يعرف الحمد لا يعرف تفسيره أيضا البتّة ، بل محال عادي عدم معرفتها ومعرفته ، فلذا قال عليه‌السلام : « أجزأ أن يكبّر ويسبّح ويصلّي ».

وممّا ذكر ظهر أنّه لو لم يعرف الحمد أصلا ويعلم السورة يقرأ السورة على القول بوجوب السورة بعد ما يقرأ عوض الحمد من القرآن على حسب ما ذكره.

ولو كان يعلم الحمد ولا يعلم السورة أصلا ، فمقتضى ما ذكر وجوب إتيان ما يكون عوض السورة على حسب ما ذكره ، لكن في الذخيرة ادعى الإجماع على عدم وجوب عوض السورة حينئذ (٢) ، وهو أعرف ، إذ لم يظهر بعد لي ما ادعاه ، وسيجي‌ء في بحث السورة (٣).

قوله : والمصلّي في كلّ ثالثة ورابعة بالخيار. ( ٣ : ٣٤٤ ).

وفي الفقه الرضوي : « وفي الركعتين الأخراوين الحمد وحده ، وإلاّ فسبّح فيهما ثلاثا ثلاثا ، تقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، تقولها في كلّ ركعة ثلاث مرّات » (٤).

__________________

(١) المنتهى ١ : ٢٧٤.

(٢) الذخيرة : ٢٧٢.

(٣) انظر ص ٣٢ ـ ٤٠.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٠٥ ، المستدرك ٤ : ٢٠٢ أبواب القراءة ب ٣١ ح ١.

٢٥

قوله : أفضلية التسبيح. ( ٣ : ٣٤٥ ).

هذا هو الظاهر من أخبار كثيرة وصريح بعضها ، مثل صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : « لا تقرأ في الركعتين الأخيرتين من الأربع الركعات المفروضات [ شيئا ] ، إماما كنت أو غير إمام » قال : قلت : فما أقول فيهما؟ قال : « إذا كنت إماما أو وحدك فقل : سبحان الله والحمد الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، ثلاث مرّات » (١).

بل يظهر من الأخبار أنّ أفضلية التسبيح كانت ظاهرة عند الشيعة في زمان الأئمّة عليه‌السلام ، وكانوا يسألونهم عن علّة كونه أفضل من القراءة ، وكانوا عليه‌السلام يجيبونهم عن العلّة ويظهرون أنّ العلّة ما ذا ، ويظهر أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يسبّح في الأخيرتين مع أنّه كان إماما ( وفي بعض الأخبار : أنّ الأفضل للإمام أن يسبّح ، بل ورد أنّه على الإمام أن يسبّح ) (٢) وفي كثير من الأخبار : أنّه جعل القراءة في الأوّلتين والتسبيح في الأخيرتين ، إلى غير ذلك (٣).

قوله (٤) : لكن ربما لاح منها أنّ القراءة أفضل للمنفرد. ( ٣ : ٣٤٥ ).

لم نجد التلويح فيها أصلا.

قوله : وقريب منها في الدلالة. ( ٣ : ٣٤٥ ).

في دلالتها تأمّل أيضا.

__________________

(١) السرائر ١ : ٢١٩ ، الوسائل ٦ : ١٢٣ أبواب القراءة في الصلاة ب ٥١ ح ٢ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٢) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٣) انظر الوسائل ٦ : ١٢٢ أبواب القراءة ب ٥١.

(٤) هذه الحاشية ليست في « ب » و « ج » و « د ».

٢٦

قوله : ( ويدل عليه أيضا. ) (١).

ويمكن حمل هذه الأخبار على الاتقاء ، فإنّ الشيعة إذا كانوا يسبّحون ربما يطّلع على فعلهم العامّة ، فهذا أقرب إلى التقيّة والاتقاء ، وما أشرنا أقرب إلى الحق والواقع.

قوله : لأنّا نجيب عنها بالحمل على أنّ « لا » نافية. ( ٣ : ٣٤٦ ).

على هذا التقدير أيضا لها ظهور في أنّ القراءة مرجوحة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

قوله : وقراءة سورة كاملة. ( ٣ : ٣٤٧ ).

في الفقه الرضوي : « ولا تقرأ في المكتوبة سورة ناقصة » ، قال ذلك بعد ما قال : « ويقرأ سورة بعد الحمد في الركعتين الأوّلتين » (٢).

وقال الصدوق رحمه‌الله في أماليه : من دين الإمامية الإقرار بأنّ القراءة في الأوّلتين من الفريضة الحمد وسورة لا تكون من العزائم ، ولا ألم تر كيف ولإيلاف ، أو الضحى وألم نشرح ، لأنّ الأوّلتين سورة واحدة ، والأخيرتين سورة واحدة ، فلا يجوز التفرّد بواحدة منهما في الفريضة ، فمن أراد أن يقرأها فيها فليقرأ الأوّلتين في ركعة ، والأخيرتين في ركعة (٣). وقال مثل ذلك في الفقيه (٤).

وقال المرتضى في الانتصار وممّا انفردت به الإمامية القول بوجوب‌

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في الطبعة الجديدة من المدارك : وتؤيّده رواية. ٣ : ٣٤٦.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٠٥ ، المستدرك ٤ : ١٦٠ أبواب القراءة ب ٣ ح ٣.

(٣) أمالي الصدوق : ٥١٢.

(٤) الفقيه ١ : ٢٠٠.

٢٧

قراءة سورة تضمّ إلى فاتحة الكتاب في الفرائض خاصّة على غير العليل والمستعجل ، ولا تجوز قراءة بعض سورة في الفريضة ولا سورتين. (١).

والشيخ في عدّة من كتبه حكم بالوجوب (٢) ، بل لا (٣) يظهر من النهاية أيضا ـ كما ستعرف ـ بل العلاّمة رحمه‌الله أيضا في جميع كتبه قال بالوجوب (٤) ، واختاره كثير من المتأخّرين (٥) ، مضافا إلى ما ذكره الشارح.

وأمّا ابن الجنيد فستعرف حاله ، وليس عندي كتاب سلاّر ، وفي التهذيب قال : وعندنا أنّه لا تجوز قراءة هاتين السورتين ـ يعني الضحى وألم نشرح ـ إلاّ في ركعة (٦). وهو مشعر بأنّ الإجماع على وجوب سورة كاملة ، وفي الخلاف والمبسوط صرّح بأنّ الظاهر من روايات الأصحاب ومذهبهم وجوب السورة الكاملة بعد الحمد (٧).

قوله : وقال ابن الجنيد. ( ٣ : ٣٤٧ ).

المستفاد من كلام ابن الجنيد عدم إجزاء الحمد وحدها حيث قال : لو قرأ بأمّ الكتاب وبعض السورة في الفرائض أجزأ (٨) ، ومثله الشيخ في المبسوط حيث قال : قراءة سورة بعد الحمد واجب ، على أنّه إن قرأ بعض‌

__________________

(١) الانتصار : ٤٤.

(٢) كالاقتصاد : ٢٦١ ، والجمل والعقود : ٦٨.

(٣) كذا في النسخ.

(٤) نهاية الإحكام ١ : ٤٦١ ، إرشاد الأذهان ١ : ٢٥٣ ، التحرير ١ : ٣٨ ، القواعد ١ : ٣٢ ، التذكرة ٣ : ١٣٠ ، المختلف ٢ : ١٦١.

(٥) انظر الجامع للشرائع : ٨١ ، والدروس ١ : ١٧١ ، والبيان : ٨١ ، والروضة ١ : ٢٥٧ ، وكنز العرفان ١ : ١٢٣ ، وجامع المقاصد ٢ : ٢٤٢ ، وكشف اللثام ١ : ٢١٦.

(٦) التهذيب ٢ : ٧٢.

(٧) الخلاف ١ : ٣٣٥ ، المبسوط ١ : ١٠٧.

(٨) حكاه عنه في المعتبر ٢ : ٢٧٤.

٢٨

السورة لا يحكم ببطلان الصلاة (١) ، فتأمّل.

وقيل : العلاّمة في المنتهى قائل بالوجوب البتّة ، ولا يظهر منه أصلا ميل (٢).

وعبارة الشيخ في النهاية في غاية التشويش ، حيث حكم أوّلا بوجوب القراءة وقال : أدنى ما يجزئ الحمد وسورة معها لا يجوز الزيادة ولا النقصان عنه ، فمن صلّى بالحمد وحدها من غير عذر لم يجب عليه إعادة الصلاة ، غير أنّه ترك الأفضل ، وإن اقتصر على الحمد ناسيا لم يكن به بأس وكانت صلاته تامّة ـ إلى أن قال ـ : ولا يجوز أن يقرن بين سورتين مع الحمد في الفرائض ، فمن فعل ذلك متعمّدا كانت صلاته فاسدة ، وكذلك لا يجوز أن يقتصر على بعض سورة وهو يحسن تمامها ، فمن اقتصر على بعضها وهو متمكن لقراءة جميعها كانت ناقصة وإن لم يجب عليه إعادتها ، ـ إلى أن قال ـ : وأمّا صلاة النوافل فلا بأس فيها أن يقتصر على الحمد وحدها ، غير أنّ الأفضل أن يضيف إليها غيرها من السور ـ إلى أن قال ـ : وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في جميع الصلاة قبل الحمد وبعدها إذا أراد أن يقرأ سورة معها ، ـ إلى أن قال ـ : ومن ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة متعمّدا قبل الحمد أو بعدها قبل السورة فلا صلاة له ووجب عليه إعادتها ـ إلى أن قال ـ إذا أراد أن يقرأ سورة الفيل في الفريضة جمع بينها وبين سورة لإيلاف ، لأنّهما سورة واحدة ، وكذا الضحى وألم نشرح (٣) ، انتهى.

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٠٧.

(٢) انظر كشف اللثام ١ : ٢١٥ ، وهو في المنتهى ١ : ٢٧١.

(٣) النهاية : ٧٥ ـ ٧٨.

٢٩

فظهر من هذا أنّه قال بالوجوب فيه أيضا ، ومقتضى كلامه في المبسوط أنّ بترك السورة عليه العقاب ، وقراءة بعض السورة توجب صحة الصلاة وإن كان معاقبا.

ومقتضى كلام العلاّمة رحمه‌الله في المنتهى أنّ القول بعدم الوجوب منحصر في نهاية الشيخ ، وقد عرفت عبارته.

قوله : ومال إليه في المنتهى. ( ٣ : ٣٤٧ ).

في المنتهى في غاية التشديد في الوجوب من دون ظهور ميل منه أصلا ورأسا ، وما أدري من أيّ شي‌ء يقول الشارح رحمه‌الله بميله؟ نعم في مسألة تبعيض السورة اختار عدم الجواز ، ثم قال في آخر كلامه : لو قيل : فيه روايتان ويحمل المنع على كمال الفضيلة كان وجها (١). ولا يخفى أنّه لا يدلّ على ميله في التبعيض ، فضلا عن ميله إلى استحباب السورة ، كما لا يخفى.

قوله : والأصل عدمه. ( ٣ : ٣٤٨ ).

ليت شعري كيف ما استدل في حكاية قطع همزة « الله أكبر » بأنّ وجوبه زيادة تكليف والأصل عدمه؟ كما قال به بعض المحقّقين ، وكذا في نظائره؟ بل استدل على الوجوب بكون العبادة توقيفية ، والقدر الثابت من النقل هو القطع ، وليت شعري هذا الدليل كيف لم يجرها هنا؟ بأنّ المنقول عن النبي والأئمّة عليه‌السلام أنّهم كانوا يقرؤون السورة بعد الحمد ويلتزمون ذلك وما كانوا يكتفون بقراءة الحمد وحدها ، يظهر ذلك من الأخبار المتواترة :

منها : أنّهم عليه‌السلام كانوا يصلّون الغداة بكذا ، والظهر بكذا ، والعصر‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٢٧٢.

٣٠

بكذا ، وهكذا (١) ، إلى غير ذلك.

ومنها : أنّهم كان لهم سكتتان : سكتة بعد الحمد وسكتة بعد السورة (٢).

ومنها : أنّهم كانوا يقرؤون في صلاة الجماعة بكذا (٣) ، إلى غير ذلك.

وأمّا صحيحة إسماعيل بن الفضل فليس فيها الاقتصار على الحمد ، ومع ذلك سيجي‌ء الكلام فيها ، فتأمّل. مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يواظب بلا تأمّل ، ولعله للعبادة التوقيفية واجب الاتباع ، لعدم معلومية العبادة من طريق آخر ، فتأمّل.

قوله : وفي الصحيح عن الحلبي. ( ٣ : ٣٤٨ ).

الظاهر أنّ الصحيحتين واحدة ، كما نبّه عليه في المنتقى (٤) ، لأنّ ابن رئاب لو كان سمع الحكم من المعصوم عليه‌السلام مشافهة لما كان يقتصر في النقل بواسطة ، بل كان يقول : وسمعته مشافهة ، كما هو دأب الرواة والمحدّثين ، ويشهد عليه الاعتبار أيضا ، وكيف كان لا يبقى وثوق بالتعدّد.

وأمّا الدلالة وإن لم يكن لها عموم بحسب اللغة ، إلاّ أنّ الظاهر العموم من جهة ما ذكر من القرينة ، أو يقول : إنّ الحكم دائر مع الطبيعة ، بناء على أنّ التعريف حقيقة في الجنس ، لكن (٥) نقول : إنّ الظهور المذكور ينفع إذا‌

__________________

(١) انظر الوسائل ٦ : ٧٨ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٣ ، و : ٨٠ ب ٢٤ ، و : ١١٦ ب ٤٨.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٩٧ / ١١٩٦ ، الوسائل ٦ : ١١٤ أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٦ ح ٢.

(٣) انظر المستدرك ٤ : ٢١٦ أبواب القراءة في الصلاة ب ٤٧.

(٤) منتقى الجمان ٢ : ١٩.

(٥) في « ب » و « ج » و « د » زيادة : ربما كان ( يستحق للغير ومانعا ) مثل الرجل خير من المرأة وأمثاله ، ومع ذلك. والظاهر أنّ الصحيح بدل ما بين القوسين : يتحقّق للفرد مانع.

٣١

لم يمنع مانع ولم يكن معارض يظهر منه الوجوب ، وهو كثير.

مع أنّ الحلبي الذي هو راوي هذا الحديث روى عن الصادق عليه‌السلام أنّه : « لا بأس أن يقرأ بفاتحة الكتاب في الفريضة إذا ما أعجلت به حاجة ، أو تخوّف شيئا » ، والمطلق يحمل على المقيّد والعامّ على الخاصّ ، سيّما وأن يكون الراوي للمطلق هو بعينه الراوي للمقيّد ، وكذا المروي عنه ، وخصوصا إذا انضمّ إلى المقيّد مقيّد آخر ، مثل صحيحة ابن سنان الآتية وغيرها ، ومعاضدات آخر ، ومؤيّدات كثيرة ، كما ستعرف.

قوله : ويدل عليه الأخبار الكثيرة المتضمّنة لجواز. التبعيض. ( ٣ : ٣٤٨ ).

لا دلالة لجواز التبعيض على استحباب مجموع السورة إلاّ من جهة عدم القول بالفصل ، وقد عرفت القائل ، ومع ذلك يظهر الجواب بوجه آخر ، كما ستعرف أيضا.

قوله : احتجّ الموجبون. ( ٣ : ٣٤٩ ).

لا يخفى أنّ حجّة الموجبين لا تنحصر في ما ذكره ، بل كثيرة ، منها : ما سيجي‌ء في صلاة العيدين من الإجماع على وجوب قراءة السورة فيها ، واعترف الشارح به ، بل هو ادعى الإجماع أيضا (١) ، ويظهر من الأخبار الواردة فيها اتحادها مع الفريضة اليومية ، غير أنّه يزاد فيها تكبيرات (٢) ، فلاحظ.

__________________

(١) المدارك ٤ : ١٠٨.

(٢) انظر الوسائل ٧ : ٤٣٣ أبواب صلاة العيدين ب ١٠.

٣٢

ومنها : ما أشرنا إليه في صدر مبحث القراءة عند قول المصنف : القراءة ، وهي واجبة. (١)

ومنها : ما أشرنا إليه عند قوله : يتعيّن بالحمد في كلّ ثنائية. (٢)

ومنها : ما ذكرناه ها هنا عن الفقه الرضوي وعن الصدوق رحمه‌الله وعن التهذيب والخلاف والمبسوط ، وعن السيّد (٣) رحمه‌الله فإنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة ومسلّم كما تبيّن في محلّه.

ومنها : ما رواه في الفقيه والتهذيب في الصحيح ، عن الباقر عليه‌السلام ـ في ما إذا أدرك الرجل بعض الصلاة مع الإمام وفاته بعض ـ أنّه عليه‌السلام قال : « قرأ في كلّ ركعة ممّا أدرك في نفسه بأمّ الكتاب وسورة ، فإن لم يدرك السورة أجزأه أمّ الكتاب ، فإذا سلّم الإمام قام فصلّى ركعتين لا يقرأ فيهما ، لأنّ الصلاة إنّما يقرأ فيها بأمّ الكتاب وسورة » إلى أن قال : « فإذا سلّم الإمام قام فقرأ بأمّ الكتاب وسورة » (٤) ، وغير خفي أنّ الإجزاء إنّما يكون ظاهرا في أقلّ الواجب ، فمفهوم الشرط عدم الإجزاء والوجوب ، مع أنّ الجملة الخبرية ظاهرة في الوجوب سيّما في أمثال المقام ، ففي الخبر دلالات متعدّدة ، ومن التعدّد يتحقّق التأكّد.

ومنها : في الصحيح عنه عليه‌السلام ، قلت : رجل جهر في ما لا ينبغي الجهر فيه ، وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه ، وترك القراءة في ما ينبغي القراءة فيه ، أو قرأ في ما لا ينبغي القراء فيه ، فقال : « أيّ ذلك فعل ناسيا‌

__________________

(١) راجع ص ١٨ ـ ١٩.

(٢) راجع ص ٢٠.

(٣) راجع ص ٢٧ ـ ٢٨.

(٤) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦٢ ، التهذيب ٣ : ٤٥ / ١٥٨ ، الوسائل ٨ : ٣٨٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٤٧ ح ٤.

٣٣

[ أو ساهيا ] فلا شي‌ء عليه » (١) وهي شاملة للسورة أيضا ، لعموم كلمة « ما » وكون « ينبغي » أعمّ من الواجب ، والقراءة أعمّ من خصوص فاتحة الكتاب.

مع أنّه لا وجه لتخصيص السؤال بالفاتحة ، لأنّ الاختلال كما يتحقّق من جهة الفاتحة كذا يتحقّق من جهة السورة : بأن يقرأ سورة في ما لا ينبغي قراءة السورة فيه أو يترك السورة في ما ينبغي أن تقرأ فيه ، بل السورة أولى بالسؤال عن تركها من الحمد ، ( لأنّ الوجوب في الحمد ممّا لا يكاد يخفى على أحد ، سيّما على زرارة وهو الراوي هنا ) (٢) فالسؤال عن الحمد يقتضي السؤال عن السورة بطريق أولى ، ولهذا سأل عن القراءة مطلقا من غير تقييد بالحمد وأتى بلفظ « ينبغي » كي لا يكون صريحا في الواجب فلا يكون للسؤال عن تركها مناسبة ، سيّما بالنسبة إلى مثل زرارة.

وتخصيص سؤاله بحالة النسيان ـ مع أنّه خلاف ظاهر اللفظ ـ لا يناسب الجواب بأنّه « أيّ ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي‌ء عليه » كما لا يخفى ، مع أنّك قد عرفت أنّ قراءة السورة في ما لا ينبغي اختلال البتّة ، مع أنّ البناء على أنّ الراوي لعله كان يعلم جزما أنّ السورة بخصوصها مستحبة (٣) ، فالمعصوم عليه‌السلام أجابه بمقتضى ما يعلم لا ما يكون كلامه ظاهرا فيه ، فمع أنّه مخالف للأصل والظواهر المذكورة يوجب سدّ باب التمسّك بالظواهر.

ومنها : ورود الأمر بقراءة السورة بعد الحمد ، مثل الصحيحة التي‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٤٧ / ٥٧٧ ، الوسائل ٦ : ٨٦ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ٢ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) ما بين القوسين ليس في « ج » و « د ».

(٣) في « ا » زيادة : كفته ، وفي بقية النسخ : فمع مخالفته ، حذفناها لاستقامة العبارة.

٣٤

رواها الكليني في بحث الأذان (١) ، وهي طويلة ، وفيها أحكام كثيرة ، والأمر حقيقة في الوجوب.

ومنها : الصحيح في الكافي والتهذيب عن محمد بن إسماعيل ، قال : قلت أكون في طريق مكّة ، فننزل للصلاة في مواضع فيها الأعراب ، أنصلّي المكتوبة على الأرض فنقرأ أمّ الكتاب وحدها أم نصلّي على الراحلة فنقرأ فاتحة الكتاب والسورة؟ فقال : « إذا خفت فصلّ على الراحلة المكتوبة وغيرها ، وإذا قرأت الحمد وسورة أحبّ إليّ ، ولا أرى بالذي فعلت بأسا » (٢).

فإنّ الظاهر منها أنّه كان خائفا إذا قرأ الحمد والسورة معا ، وأمّا مع الاكتفاء بالحمد وحدها فلم يكن خائفا ، كما يتفق في بعض الأوقات ، فأجاب عليه‌السلام : « إذا خفت » أي الخوف الذي ذكرت ، وهو أن تقرأ السورة في الصلاة ، لا مطلقا « فصلّ على الراحلة المكتوبة وغيرها » يعني كما أنّك تصلّي غيرها حينئذ على الراحلة صلّ المكتوبة أيضا ، وهذا الأمر منه على سبيل التخيير لا التعيين وكونه الأفضل بقرينة قوله : « إذا قرأت » فتأمّل.

ويؤيّد الوجوب أنّ ما ورد في الأخبار في السهو عن القراءة وحكمه ، ورد الكلّ بلفظ القراءة في السؤال والجواب ، من دون تخصيص بالحمد (٣).

ويؤيّده أيضا ما ورد في الصحيح من أنّ المريض يجزيه فاتحة‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٨٢ / ١ ، الوسائل ٥ : ٤٦٥ أبواب أفعال الصلاة ب ١ ح ١٠.

(٢) الكافي ٣ : ٤٥٧ / ٥ ، التهذيب ٣ : ٢٩٩ / ٩١١ ، الوسائل ٦ : ٤٣ أبواب القراءة في الصلاة ب ٤ ح ١.

(٣) انظر الوسائل ٦ : ٩٠ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٩ ، و : ٩٢ ب ٣٠.

٣٥

الكتاب وحدها حين يصلّي على الدابّة (١).

وما ورد في الصحيح من أنّ « قل هو الله أحد تجزي في خمسين صلاة » (٢).

ويؤيّده أيضا : قوله عليه‌السلام : « لكل سورة ركعة » (٣).

ويؤيّده أيضا : أنّ قدماء أصحابنا والمتأخّرين منهم صرّحوا بأنّ المنع في إفراد الضحى وألم نشرح ، والفيل ولإيلاف ، من جهة كونهما سورة واحدة.

وما ورد في من صلّى الجمعة بسبّح اسم وقل هو الله أحد « أنّه أجزأه » (٤) وأمثال ذلك.

ورواية الصيقل عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال له : أيجزي عنّي أن أقول في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها إذا كنت مستعجلا أو أعجلني شي‌ء؟ فقال : « لا بأس » (٥).

وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يواظب (٦) ، وقال : « صلّوا كما رأيتموني أصلي » (٧).

وأنّ الشيعة شعارهم قراءة السورة كما أنّ أهل السنّة شعارهم عدم قراءة سورة كاملة.

ويؤيّده أيضا أنّ أهل السنّة يقولون بعدم وجوب السورة (٨) ، وورد‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٠٨ / ٩٥٢ ، الوسائل ٤ : ٣٢٥ أبواب القبلة ب ١٤ ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٩٦ / ٣٦٠ ، الوسائل ٦ : ٤٨ أبواب القراءة في الصلاة ب ٧ ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ٧٠ / ٢٥٤ ، الوسائل ٦ : ٥٠ أبواب القراءة في الصلاة ب ٨ ح ١.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٤٢ / ٦٥٤ ، الوسائل ٦ : ١٥٨ أبواب القراءة في الصلاة ب ٧١ ح ٥.

(٥) التهذيب ٢ : ٧٠ / ٢٥٥ ، الاستبصار ١ : ٣١٤ / ١١٧٠ ، الوسائل ٦ : ٤٠ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢ ح ٤.

(٦) انظر المنتهى ١ : ٢٧٢ ، وكنز العرفان ١ : ١٢٣ ، وسنن أبي داود ١ : ٢١٢ ، ٢١٣.

(٧) عوالي اللآلئ ١ : ١٩٧ / ٨ ، سنن البيهقي ٢ : ١٢٤.

(٨) انظر المجموع للنووي ٣ : ٣٨٨.

٣٦

في أخبار كثيرة أنّ الرشد في خلافهم ، وما هم من الحنيفية في شي‌ء (١) ، وأمثال ذلك.

وممّا ذكر ظهر الجواب الآخر عمّا استدل به الشارح مضافا إلى ما أجبنا أوّلا ، وكذا ظهر الجواب عن صحيحة إسماعيل وصحيحة ابن يقطين أيضا. مع أنّهم عليه‌السلام كان قولهم حجّة ويتبعون قولهم ويطيعونهم ، فلا وجه لأن يرتكبوا المكروه الشديد في مثل صلاتهم التي هي أقرب التقرّبات وأهمّ الطاعات عندهم ، مع أنّهم عليه‌السلام كانوا ينكرون على التبعيض ويأمرون بالإتمام وبالإعادة (٢) وأمثال ذلك ، فمع ذلك كيف كانوا بأنفسهم يرتكبون!؟ وحاشاهم أن يكونوا من الذين يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم ، إلى غير ذلك ، مثل أن يقولوا ما لا يفعلون وأمثاله ، فتأمّل جدّا.

وبالتأمّل في ما ذكرنا يظهر فساد ما قال بعض بالحمل على الاستحباب (٣) جمعا بين الأدلّة ، لأنّ الجمع إنّما هو بعد التقاوم ، وإلاّ فعند التعارض يعمل بما هو مخالف للعامّة ، أو موافق للشهرة بين الأصحاب أو السنّة النبوية أو الكتاب ، أو ما هو أكثر ، إلى غير ذلك من المرجّحات والمؤيّدات ، كما وردت به الأخبار (٤) ، ويدل عليه الاعتبار ، ومسلّم عند المتقدّمين والمتأخرين إلى زمان الشارح ، وعليه المدار في الفقه ، وهو طريقة الشيعة في الأعصار والأمصار ، وواحد من تلك المرجّحات يكفي فضلا عن اجتماعها ، سيّما مثل هذه المرجّحات ، فإنّ الشهرة كادت تبلغ‌

__________________

(١) انظر الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ب ٩.

(٢) الوسائل ٦ : ٨٧ أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٧.

(٣) انظر الذخيرة : ٢٦٨ ـ ٢٧٠.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ب ٩.

٣٧

الإجماع لو لم نقل بحجّية الإجماع المنقول ، سيّما مثل هذا المنقول الذي نقله جماعة (١) ، والسنّة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل الأئمّة عليه‌السلام ـ المداومة والمواظبة ، والعامّة شعارهم عدم الوجوب والتبعيض ، والخاصّة عكسهم ، وكثرة الأدلة من الموجبين ما عرفت من الأدلة التي ذكرناها ، مضافا إلى التي ذكرها الشارح ، فإنّها أيضا تمام لا غبار عليها ، كما ستعرف ، والمقويّات (٢) أيضا عرفتها ، فالراجح هو الحجّة ، والمرجوح يطرح أو يؤوّل حتى يرجع إلى الراجح ، نعم بعد التقاوم يجمع بينهما ، كما حقّق في محلّه ، والله يعلم.

قوله : أمّا الرواية الاولى فلأنّ في طريقها محمد بن عبد الحميد ، وهو غير موثق. ( ٣ : ٣٥٠ ).

لم يوثق صريحا ، وإلاّ فالوارد فيه لا يقصر عن التوثيق لو لم يزد عليه ، منه أنّ القميين ما استثنوه من نوادر الحكمة ، من أراد فليرجع إلى التعليقة (٣) ، مع أنّه قيل : توثيق النجاشي يرجع إليه ، لذكره في ترجمته (٤) ، فتأمل ، مع أنّ العلاّمة حكم بصحة حديثه ، مع أنّ الرواية منجبرة بالإجماعات التي نقلناها ، واقلاّ (٥) الشهرة العظيمة ، وهي تكفي ، كما حقّق ، والحمل في الأكثر على الكراهة لا وجه له ، كما ستعرفه.

وأمّا يحيى بن أبي عمران ـ كما نقله الكليني ـ فهو الواقع في مشيخة الصدوق (٦) ، فيظهر منه اعتداده به ، ومع ذلك هذه الرواية من حيث إنّه‌

__________________

(١) منهم القاضي في شرح الجمل : ٨٦ ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٧ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٩٣ ، وراجع ص ٢٨ ـ ٣٨.

(٢) في « ب » و « ج » و « د » : المقوّمات.

(٣) تعليقات الوحيد على منهج المقال : ٣٠٢.

(٤) انظر روضة المتقين ١٤ : ٤٣٩.

(٥) في « أ » : وأقرها.

(٦) مشيخة الفقيه ( الفقيه ٤ ) : ٤٤.

٣٨

رواها الكليني أيضا لا تكون قاصرة عن الصحيح ، لأنّه ذكر في أوّل كتابه ما ذكر (١) ، هذا على طريقة الشارح ، وإلاّ فالرواية قويّة وحجّة عندي أيضا ، سيّما مع أنّ العلاّمة حكم بصحتها ، ورواها أحمد بن محمد بن عيسى بواسطة علي بن مهزيار الجليل ، وأحمد أخرج من قم من كان يروي الحديث عن المجاهيل والمراسيل (٢). هذا مع قطع النظر عن الانجبار بالشهرة وعمل الأصحاب ، لو لم نقل : الإجماع بل الإجماعات.

والدلالة في غاية الوضوح ، لأنّ الراوي لمّا قال : قال العباسي : ليس بذلك بأس ، كتب : « يعيدها ـ مرّتين ـ على رغم أنفه » يعني : العباسي ، ولعمري العباسي ما قال إلاّ ما قاله الشارح ومن وافقه ، والمعصوم عليه‌السلام أجاب بما أجاب من التشديد والتغليظ ، ولذا لم يتعرّض الشارح على دلالتها.

وأمّا محمد بن عيسى فهو ثقة كما هو الحق ، ويونس أيضا ثقة جزما ، وقول ابن الوليد لا حجّة فيه ، سيّما بعد رد الماهر في معرفة الرجال إيّاه ، كما ظهر في محلّه (٣). ومثل هذا المفهوم له ظهور في الدلالة بلا تأمّل كما لا يخفى ، فتأمّل.

وأمّا الكلام في صحيحة الحلبي ففيه أنّ الظاهر من الحاجة في مثل المقام الضرورية ، سيّما بعد تقديمه على قوله : « أو تخوّف شيئا » إذ انضمامه معه يشهد على الضرورة ، فضلا عن تقديمه عليه. هذا مضافا إلى ما عرفت من السيد في الانتصار (٤) ، فإنّ الظاهر أنّه إشارة إلى ما في هذه‌

__________________

(١) الكافي ١ : ٨.

(٢) انظر رجال النجاشي : ١٨٥ / ٤٩٠ ، ورجال العلاّمة : ١٤.

(٣) انظر رجال النجاشي : ٣٣٣ / ٨٩٦ ، و ٣٤٨ / ٩٣٩.

(٤) راجع ص ٢٧ ـ ٢٨.

٣٩

الرواية ، والبأس هنا ظاهر في الحرمة ، بقرينة تعليق الشرط على الخوف والحاجة الضرورية ، وفي قوله عليه‌السلام : « إذا ما أعجلت به حاجة » إشارة إلى الضرورة ، لأنّ الظاهر منها أنّ الحاجة أوقعت في التعجيل ، والظاهر من هذا أنّها ألجأته إليه ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وبالجملة : العدول عن قوله : له حاجة ، إلى تلك العبارة مع كون الأوّل أخصر وهو المتعارف ، والثاني صيغة التعدية ومادّته التعجيل ، والفاعل هو الحاجة ، والمفعول هو المكلف ، له زيادة ظهور في ما ذكرنا ، سيّما مع انضمام ذلك بما ذكرنا من تقديمه على التخوّف ، وقول السيد رحمه‌الله.

وما ذكره من أنّه لا قائل بوجوب. فيه أنّه غير ظاهر ، ولو سلّم فغير مضرّ عند الشارح ، لأنّه صرّح بأنّه لا يشترط في حجيّة الحديث وجود قائل بمضمونه ، بل هو حجّة وإن لم يقل بمضمونه قائل (١).

سلّمنا ، لكن أقرب المجازات حجّة ومتعيّن عند تعذّر الحقيقة ، ومن المسلّمات عند الشارح أيضا أنّه إذا تعذّر الحقيقة فالحمل على أقرب المجازات لازم ومتعيّن ، هذا على تقدير أن نقول : إنّ الأمر حقيقة في الوجوب العيني دون التخييري ، وإنّ التخييري معنى مجازي ، لأنّه من الأفراد التي لا يسبق الذهن إليها ، مثل الإنسان الذي له رأسان أو يد زائدة أو إصبع زائد وأمثال ذلك بالنسبة إلى لفظ الإنسان ، ومعلوم أنّ الوجوب التخييري أقرب مجاز إلى صيغة الأمر ، سيّما مثل هذه الصيغة ، وخصوصا إذا كان الواجب المخير المراد أرجح من غيره وأولى من حيث إنّه يحفظه كلّ واحد ويعرفه ، وثواب عظيم يعدل ثلث القرآن.

__________________

(١) لاحظ المدارك ١ : ١٣٢ ، ٢٩٥ ، و ٨ : ١٨٨ ، ١٩٨.

٤٠