بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

العلماء لها حتى قال بعضهم انه لولاه لاختل نظام المعاش وهو كذلك إذ كثير من الأمور تمشي ببركة هذه الغفلة ولولاه لاضطرب نظام المعاش بين الناس لو أريد إقامته على أساس الاحتياط أو الظن المعتبر.

هذا ولكن لا بد من البحث في ان هذه السيرة كيف يمكن تصويرها بحيث يكون عدم الردع عنها دليلا على إمضاء الاستصحاب شرعا ، فنقول بالإمكان تصوير ذلك بأحد أنحاء ثلاثة :

١ ـ دعوى سريان السيرة والجري العملي الثابت لدى العقلاء في أغراضهم التكوينية إلى موارد الأفعال والأحكام الشرعية بعد دخولها في محل ابتلاء الناس وإن هذا حصل في عصر الشارع نفسه.

٢ ـ دعوى إن تلك السيرة وان فرض عدم الجزم بسريانها إلى دائرة الأحكام الشرعية الا انها على أية حال تشكل خطرا على أغراض المولى لكونها في معرض أن تسري إليها فلو لم يرض الشارع بذلك لردع عنها في هذا المجال.

٣ ـ دعوى ثبوت هذه السيرة عند العقلاء في دائرة الأحكام الثابتة بين الموالي العرفية كأوامر الأب لابنه أو السيد لعبده ، وهذا أيضا بنفسه يهدد الأغراض الشرعية المولوية فلو لم يكن الشارع راضيا بذلك لردع عنها.

والتحقيق : ان الدعوى الأولى والثالثة لا جزم بهما ، وقد يستشهد على ذلك بدعوى الأخباريين الإجماع على عدم حجية الاستصحاب الا ان التقريب الثاني يكفي لإثبات صغرى السيرة.

هذا كله في صغرى السيرة ، واما الكلام في الكبرى فما يتصور كونه رادعا عن السيرة انما هو الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم وأدلة البراءة أو الاحتياط ، والمحقق الخراسانيّ ( قده ) قد اعترف في المقام بإمكان رادعية هذه الأدلة عن السيرة رغم إنكاره ذلك في بحث حجية خبر الواحد ، ومن هنا اعترض المحقق النائيني ( قده ) عليه بأنه لا وجه للتفرقة بين المقامين.

اقول : اما البحث عن رادعية هذه الأدلة فقد فصلنا الكلام فيه في مبحث خبر الواحد ، وانما نبحث هنا عن إمكان رادعيتها عن السيرة المدعاة على الاستصحاب بعد الفراغ عن عدم رادعيتها عن السيرة على حجية خبر الواحد لإثبات الفرق بين

٢١

المقامين ، وهذا ما يمكن تصويره بأحد وجوه :

الأول ـ ان السيرة كلما كانت أعمق وأكثر رسوخا في وجدان العقلاء وارتكازهم كانت بحاجة إلى ردع أقوى وأوضح بحيث قد لا يكتفي لبعض مراتبها بمثل العمومات والمطلقات الكلية بل لا بد من الصراحة والتنصيص ، ويدعى ان السيرة العقلائية على حجية خبر الثقة قد بلغت من الرسوخ والارتكاز إلى تلك الدرجة بخلاف السيرة على الاستصحاب.

الثاني ـ ما أفاده السيد الأستاذ من ان الأدلة المذكورة بعد عدم إمكان جعلها رادعة للسيرة ولا مخصصة بها يشك في حجية خبر الثقة فيمكن استصحابها لثبوت الإمضاء في أول التشريع وقبل صدور تلك الأدلة (١) فتثبت الحجية هناك ، واما هنا فحيث ان البحث في حجية الاستصحاب فبعد الشك والتردد لا يمكن إثبات نتيجة الحجية بالاستصحاب.

وهذا الوجه غير تام إذ يرد عليه :

أولا ـ ان مدرك الاستصحاب خبر الثقة فكيف يمكن إثبات حجية خبر الثقة به.

وثانيا ـ ان خصوص أصالة عدم النسخ ثابتة بالإجماع ونحوه من الأدلة اللبية حتى إذا أنكرنا حجية كبرى الاستصحاب فيمكن التعويل عليه في المقامين.

الثالث ـ ان أدلة النهي عن العمل بالظن لا ربط لها بنفي الحجية الثابتة بالسيرة لا في المقام ولا في خبر الثقة لأنها تطلب الركون في النهاية إلى العلم وهذا حاصل في موارد الحجج أيضا وانما المهم في الردع مثل اخبار البراءة وهي باعتبارها ثابتة بخبر الواحد فلا يمكن ان يكون رادعا عن حجيته بخلاف المقام بعد الفراغ عن حجية خبر الثقة.

وهذا الوجه مبني على القول بكفاية عدم ثبوت الردع في حجية السيرة والا لم تثبت حجية خبر الثقة أيضا لاحتمال رادعية اخبار البراءة.

الرابع ـ ان السيرة على العمل بخبر الثقة على ما يستفاد من كلام المحقق

__________________

(١) يمكن ان يناقش في ثبوت الإمضاء في صدر التشريع خصوصا لمثل السيرة على الاستصحاب الّذي لا يحرز ثبوته في الأحكام المولوية والشرعية ، نعم الثابت في صدر التشريع عدم الردع وهو غير الإمضاء ، فأصل هذا الوجه محل إشكال.

٢٢

الخراسانيّ ( قده ) نفسه كانت سارية إلى مجال الأحكام الشرعية ومعمولا بها لدى أصحاب الأئمة ، وهذا بنفسه يكون كاشفا عن عدم الردع وعدم صلاحية الأدلة المذكورة لذلك ، واما في المقام فحيث ان السيرة على الاستصحاب لم يعلم سريانها إلى مجال الأحكام الشرعية وعمل العقلاء بها في الأحكام فلا يمكن إثبات عدم الردع بذلك بل يحتمل ان تكون هذه الأدلة رادعة عنها.

الخامس ـ إمكان دعوى ان ارتكازية حجية خبر الثقة في زمن المعصومين عليهم‌السلام يوجب على الأقل إجمال دليل البراءة وعدم إطلاقها لمورد قيام خبر الثقة على الإلزام فيثبت الإلزام بناء على مسلك حق الطاعة ومثل هذا الارتكاز غير ثابت في حق الاستصحاب.

السادس ـ ما هو ظاهر بعض عبائر الكفاية من ان السيرة العقلائية بين الموالي والعبيد على حجية خبر الثقة وكفايته في مقام التنجيز والتقدير توجب قصورا في حق الطاعة بحيث لا يثبت ذلك في موارد وجود خبر ثقة على الترخيص ، نعم لو تم الردع عن السيرة وثبت ذلك كان التعويل على خبر الثقة مخالفة قطعية مشمولة لحق الطاعة. وهكذا يثبت انه في باب خبر الثقة لا حاجة إلى إثبات عدم الردع بخلاف الاستصحاب الّذي لم يثبت ارتكاز العمل به في باب الموالي وبلحاظ التنجيز والتعذير وانما كان من جهة احتمال سريان خطر العمل به إلى مجال الأحكام فانه لا بد من إثبات عدم الردع فيه ، وهذا الوجه وان كان مبناه غير تام عندنا الا ان المظنون أنه المقصود للمحقق الخراسانيّ ( قده ).

السابع ـ ما يناسب مباني مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من دعوى ان المجعول في باب حجية خبر الثقة عند العقلاء هو الطريقية والعلمية فيكون حاكما على أدلة الردع ورفع ما لا يعلمون بخلاف الاستصحاب الّذي لم يجعل فيه الا المنجزية والمعذرية فلا يكون حاكما على تلك الأدلة فتصلح للرادعية عنه.

٢٣
٢٤

« الاستدلال بالأخبار على قاعدة الاستصحاب »

الدليل الثالث : الروايات العديدة الواردة في أبواب فقهية مختلفة والتي يستفاد منها كبرى كلية هي قاعدة الاستصحاب وعدم جواز نقض اليقين بالشك ، وفيما يلي نستعرض هذه الروايات :

الرواية الأولى ـ صحيحة زرارة الواردة في باب الوضوء ( قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ، فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ، قلت فان حرك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك امر بين والا فأنه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبدا بالشك وانما تنقضه بيقين آخر ) (١).

ودلالتها على الاستصحاب والبناء على الحالة السابقة واضحة ، وانما نوقش فيها بإبداء احتمال اختصاص مدلولها بباب الوضوء مطلقا أو عند الشك في النوم فتدل على حجية الاستصحاب فيه بالخصوص لا مطلقا.

وللتفصي عن هذا الإشكال وحله كلمات وتعبيرات مختلفة من قبل المحققين في المقام :

منها ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من أن الأصل في اللام ان يكون للجنس ما لم تقم قرينة على خلافه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ، أبواب نواقض الوضوء ١٤ ، وقد يناقش في السند بالإضمار ، ولكن سوف يأتي في التعليق على سند الصحيحة الثانية لزرارة علاج هذه النقطة.

٢٥

وفيه : انه انما يتم لو فرض ان اللام موضوع للاستغراق الجنسي وهو ممنوع على ما حقق في محله ، ولهذا لا يكون اسم الجنس المحلى باللام دالا على العموم والاستغراق وضعا وهذا يعني انه يتردد معناه بين ان يكون موضوعا للتزيين ـ كما ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) ـ أو انه مشترك لفظي أو معنوي بين التعيين الجنسي والعهدي ، وعلى كل حال لا يمكن إثبات الاستغراق حتى بالإطلاقات ومقدمات الحكمة لأنه في خصوص المقام محفوف بما يصلح للقرينية وهو سياق العهد والإشارة إلى اليقين بالوضوء في الحديث.

ومنها ـ دعوى ان قوله ( ولا ينقض اليقين بالشك ) تعليل لجزاء محذوف فان قوله ( والا فانه على يقين من وضوئه ) ليس جزاء بل الجزاء مستتر ، أي والا فلا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ، والتعليل يقتضي التعميم وعدم الاختصاص بالمورد فتكون كبرى كلية.

وهذا المقدار من البيان لا يكفي لإثبات التعميم ، لأن الكلام في اليقين إذا كان للعهد والإشارة إلى اليقين بالوضوء فالعلة مخصوصة بباب الوضوء لا محالة كما إذا صرح بان اليقين بالوضوء لا ينقض بالشك لأن العلة انما تعمم بمقدارها لا أكثر فلا بد في المرتبة السابقة من تحديد المراد من العلة.

هذا ولكن المحقق العراقي ( قده ) غير الصياغة وأفاد ان المنساق عرفا من التعليل في المقام هو الشكل الأول من القياس فيجب ان يكون اليقين المحكوم عليه بعدم النقض أوسع من اليقين بالوضوء ليتم الشكل الأول.

وعكس المحقق الأصفهاني ( قده ) ذلك فأفاد في المقام ان الأوسط في الكبرى يجب ان يكون مساويا مع الأوسط في الصغرى ، وفي المقام الأوسط المتكرر هو اليقين وهو في الصغرى مقيد بالوضوء فيجب ان يكون المراد باليقين في الكبرى المقيد به أيضا فإذا أريد استفادة كبرى الاستصحاب من الحديث فلا يكفي دعوى ان اللام في اليقين للجنس بل لا بد من إثبات ان اليقين في قوله ( فانه على يقين من وضوئه ) أيضا غير مقيد بالوضوء فعندئذ يتجه الاستدلال بالحديث على الاستصحاب.

والحق مع المحقق العراقي ( قده ) ، وتوضيح ذلك يكون بذكر مقدمتين :

الأولى ـ ان الشكل الأول له ثلاثة حدود متغايرة ولا يمكن ان يكون الحد الأصغر

٢٦

منها نفس الحد الأوسط كقولك الإنسان إنسان ، والإنسان حيوان ، فالإنسان حيوان ، فان هذا ليس استدلالا وانما مرده إلى قضية واحدة هي الإنسان حيوان.

الثانية ـ ان العرف في موارد وضوح ثبوت الأوسط للأصغر قد يقلب التعبير فبدل ان يثبت الحد الأوسط للأصغر بنحو مفاد كان الناقصة يثبت الحد الأصغر بنحو مفاد كان التامة مثال ذلك قولنا الحيوان الناطق حيوان ، والحيوان يجوع ، فالحيوان الناطق يجوع ، فان العرف يبدله إلى قوله هو حيوان ناطق ، والحيوان يجوع ، فهو يجوع.

وفي ضوء هاتين المقدمتين يتضح في المقام ان الحد الأوسط ان فرض هو اليقين لا اليقين بالوضوء تم الشكل الأول بالنحو الّذي ذكرناه ، لأن الصغرى كانت هكذا ( اليقين بالوضوء يقين ) وحيث ان ثبوت مثل هذا الأوسط للأصغر كان واضحا لكونه مستنبطنا فيه بدل ذلك بمقتضى ما ذكرناه في المقدمة الثانية إلى إثبات الحد الأصغر بنحو مفاد كان التامة فقيل ( فانه على يقين من وضوئه ) فيتم الشكل الأول للقياس كما أفاد المحقق العراقي ( قده ) ، واما إذا فرضنا الحد الأوسط اليقين بالوضوء فانه لا يتم قياس إذ ما ذا يكون الحد الأصغر حينئذ؟ فان كان هو اليقين بوضوئه أيضا المفروض في سؤال الراوي لزم ان تكون الصغرى ( اليقين بوضوئه يقين بوضوئه ) وهذا كما ذكرنا في المقدمة الأولى لغو لا معنى له ، وان كان الحد الأصغر اليقين الجزئي في مورد شخصي معين فهذا لا وجه له فانه لم يسبق في الحديث ذكر يقين جزئي معين وانما المذكور فرضية لليقين وكونه متعلقا بالوضوء وهذا نفس الحد الأوسط (١).

ومنها ـ ان مناسبة الحكم والموضوع تقتضي التعميم ، لأن النقض انما أسند لليقين باعتبار ما لليقين من جهة استحكام وإبرام ، وهذه خصوصية في ذات اليقين مع قطع النّظر عن متعلقه وانه الوضوء أو غيره فيتعدى إلى مطلق اليقين السابق.

وفيه : انه خلط بين مناسبة الحكم والموضوع ومناسبة استعمال كلمة النقض واسناده إلى اليقين بحسب عالم اللغة ، فان هذه المناسبة تصحيح للإسناد والاستعمال سواء كان المسند إليه جامع اليقين ( اليقين بلا قيد ) أو حصة منه ( اليقين بالوضوء )

__________________

(١) يمكن ان يقال : ان المفروض في مورد السؤال اليقين بالوضوء والشك في النوم أي اليقين بالوضوء في مورد الشك بطرو النوم بالخصوص فهذا يرجع إلى نحو تقييد لليقين بالوضوء في مورد احتمال هذا الناقض فيمكن حينئذ جعل الحد الأوسط مطلق اليقين بالوضوء في قبال الحصة الخاصة منه وتستفاد قاعدة خاصة بباب الوضوء أيضا ولكنه أوسع من مورد الشك في ناقضية النوم.

٢٧

فعدم دخالة القيد في تلك المناسبة لا يبطل صحة اسناده إلى المقيد كما هو واضح.

نعم هناك بيان آخر لهذه المناسبة سوف تأتي الإشارة إليها ، ولعلها المقصود من هذا الوجه.

ومنها ـ ان التعبير بعدم نقض اليقين بالشك ونحوه قد تعدد وروده في أبواب عديدة من الفقه فيستكشف من ذلك انها قاعدة كلية وان المقصود من اليقين فيها جنس اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء.

والإنصاف ان هذا وان أوجب الظن بكبرى الاستصحاب لدى الشارع الا انه ما لم يشكل ظهورا في خطاب شرعي لا فائدة فيه ، إذ لا دليل على حجية مثل هذا الظن الحاصل من استقراء ناقص.

ومنها ـ ان سياق التعليل سياق التقريب إلى الذهن ، وهو انما يفهم في المقام بلحاظ خصوصية في نفس اليقين السابق واقتضائه للثبوت مع قطع النّظر عن متعلقه ، فان اليقين بالوضوء بما هو يقين بالوضوء لا اقتضاء له لعدم النقض فبهذا الاعتبار تلغى خصوصية الوضوء.

وفيه : انَّ هذا المقدار غير كاف لاستفادة التعميم أيضا ، إذ يمكن ان يكون ملاك التعليل إعطاء قاعدة أعم من مورد السؤال لا أكثر وهي في المقام قاعدة الاستصحاب في باب الوضوء خاصة أي حرمة نقض اليقين بالطهور بالشك فيه سواء كان من ناحية الشك في النوم ـ كما هو المورد للصحيحة ـ أو غيره.

والصحيح : تتميم هذا الوجه ببيان ان التعليل إذا كان بشيء مركوز في أذهان العرف فلا محالة يكون ظاهرا في التقريب والإشارة إلى النكتة المركوزة بحدودها سعة وضيقا ، والمركوز في الأذهان هو عدم نقض اليقين بما هو يقين بلا خصوصية لتعلقه بالوضوء أو بغيره ، ومن هنا يستفاد الإطلاق والتعميم.

الا ان هذا البيان غير واضح بناء على إنكار صغرى انعقاد السيرة والارتكاز على الاستصحاب كما تقدم عن السيد الأستاذ.

وعند ما أوردنا عليه ذلك في مجلس بحثه حاول التخلص عنه بان المقصود ارتكازية قاعدة عقلية هي عدم رفع اليد عن سلوك طريق قطعي مطمئن به بطريق مشكوك لأن التعبير ورد بعنوان لا ينقض اليقين بالشك وهذا امر مركوز مقبول عند كل أحد ولا خصوصية فيه لمتعلق اليقين.

٢٨

ويرد على هذا الجواب :

أولا ـ ان أريد تطبيق هذه القاعدة العقلية على مورد الاستصحاب حقيقة فمن الواضح ان اليقين السابق منقوض فيه ، وان أريد تطبيقه تعبدا فهذا خلاف ظهور التعليل في انه تعليل بأمر حقيقي لا تعبدي فانه لا يناسب التعليل.

وثانيا ـ على فرض كون التطبيق تعبديا فلا يمكن التعدي من المورد إلى غيره وان كانت القاعدة المطبقة ارتكازية ، إذ لعل هذا التطبيق خاص بباب الوضوء وحيث انه تعبدي لا حقيقي فلا يكون ملاكه مفهوما ليصح التعدي إلى غيره.

هذا ولكن يمكن ان يقال في المقام بان الاستصحاب وان لم نحرز انعقاد السيرة على العمل به كدليل الا انه لا إشكال في ان الميل النفسيّ إلى البناء على الحالة السابقة ـ ولو لم يبلغ مرتبة العمل الفعلي ـ لا يفرق فيه بين كون اليقين متعلقا بالوضوء أو بغيره ، والصحيحة على كل حال ترديد إثبات اعتبار ذلك فيكون ظاهرها التعميم وجعل اليقين السابق حجة.

ومنها ـ دعوى ان التعليل ظاهر عرفا في التعميم وإلغاء خصوصية المورد فإذا قال لا تشرب الخمر لأنه مسكر أو لإسكاره استفيد من ذلك حرمة كل مسكر وألغيت خصوصية المورد وهو الخمر فكذلك في المقام تلغى خصوصية الوضوء المنتزعة من المورد.

وفيه : ان كبرى هذا الاستظهار لو سلمت فصغراها غير متحققة في المقام ، لأن الحكم المعلل هو عدم وجوب الوضوء المستفاد من قوله ( والا فانه على يقين من وضوئه ) فكأنه قال ( والا فلا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ) وهذا يعني ان خصوصية كون اليقين متعلقا بالوضوء ليس هو الحكم المعلل بل هو التعليل نفسه لعدم وجوب الوضوء في المورد فلا وجه لإلغاء هذه الخصوصية الواردة في التعليل.

ومنها ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان اليقين من الصفات الحقيقية ذات الإضافة التي يستحيل انفكاكها عن المضاف إليه ، ولذا ذكر له في المقام مضاف إليه وهو الوضوء ، وهذا الكلام لا ينبغي ان يحمل على ان عدم ذكر الوضوء في المقام

٢٩

يوجب انفكاك المضاف عن المضاف إليه ليشكل عليه بأنه من الخلط بين وجود اليقين في عالم النّفس وذكر مفهوم اليقين في عالم اللفظ ، بل المقصود ان ذكر الوضوء ليس ظاهرا في خصوص المقام في التقييد لمفهوم اليقين بل لعله من جهة كون اليقين من الصفات ذات الإضافة فلا يرى في ذكره مئونة تقييد ، وعلى هذا الأساس يكون قوله ( ولا ينقض اليقين بالشك ) باقيا على عمومه لأن مجرد ذكر اليقين بالوضوء قبله ـ ولو فرض مجملا ـ لا يصلح لأن يجعل اللام للعهد عرفا.

ومنها ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من احتمال ان يكون ( من وضوئه ) متعلقا بالظرف لا باليقين فكأنه قال ( فانه من وضوئه على يقين ) ومعه لا وجه لاحتمال التقييد في جملة ( فانه على يقين من وضوئه ) فضلا من جملة ( ولا ينقض اليقين بالشك ).

وهذا الوجه ينحل إلى مطلبين :

الأول ـ عدم رجوع ( من وضوئه ) إلى اليقين بل إلى الظرف.

الثاني ـ إجراء ذلك في استفادة التعميم من الصحيحة.

اما المطلب الأول فهو صحيح ، لأن الظاهر من أمثال هذا التركيب في اللغة كقوله ( على سلامة من ديني ، على بينة من ربي ، على بصيرة من ديني ) ان الجار والمجرور متعلق بالظرف لا بالمجرور الأول فكذلك قوله ( على يقين من وضوئه ) ، بل اليقين لا يضاف إلى متعلقه بمن فلا يقال أتيقن من وضوئي وانما يقال أتيقن بوضوئي ، وجعل من بمعنى الباء خلاف الظاهر ، بل في بعض هذه التراكيب لا يمكن ان يكون الجار والمجرور متعلقا بالمجرور لعدم استقامة المعنى بذلك فقوله ( على بينة من ربه ) لا يقصد به بينة الرب وظهور وجوده له وكذلك ( على سلامة من ديني ) فان السلامة لا تضاف إلى الدين بل إلى الإنسان من ناحية دينه.

واما المطلب الثاني ، فقد حاول المحقق العراقي ( قده ) المناقشة فيه بان الجار والمجرور إذا تعلق بالظرف لا باليقين فعلى كل حال يكون قيدا لليقين ولو من ناحية منشئه لا متعلقه وهذا يوجب عدم الإطلاق في قوله ( لا ينقض اليقين بالشك ) لاحتمال عهدية اللام والإشارة به إلى اليقين الخاصّ ولو من ناحية منشئه.

وفيه : إذا كان الجار والمجرور متعلقا بالظرف لا باليقين كان معنى الجملة ان

٣٠

الظرف ـ وهو الكون ـ قد طرأ عليه قيدان أحدهما من وضوئه والاخر على يقين ، والقيدان عرضيان ، ولو فرض ان التقييدين طوليان أي تقييد الكون على يقين بأنه من ناحية وضوئه ، ومع عرضية القيدين لا يكون هناك تقييد لمفهوم اليقين ومعه يبقى اللام في لا ينقض اليقين بالشك على إطلاقه حتى إذا حمل على العهد والإشارة إلى اليقين المذكور سابقا ، ومما يشهد على ذلك اننا إذا قدمنا الجار والمجرور وقلنا ( فانه من وضوئه على يقين ، ولا ينقض اليقين بالشك ) استفيد منه الإطلاق من دون تردد.

وهكذا يتضح تمامية دلالة الصحيحة على كبرى الاستصحاب كقاعدة عامة غير مختصة بباب الوضوء وان كان مورد الصحيحة ذلك.

وفي ختام البحث عن دلالة هذه الصحيحة ينبغي الإشارة إلى أمور.

الأمر الأول ـ في فقه قوله ( فانه على يقين من وضوئه ) من حيث انها جملة خبرية أو إنشائية وانها هي الجزاء أو ما بعدها وهو قوله ( ولا تنقض اليقين بالشك أبدا ) هو الجزاء أو ان الجزاء محذوف ، وان هذه الاحتمالات والفروض هل لها تأثير على الاستدلال بالحديث لكبرى الاستصحاب أم لا ، فهذه نقاط ثلاث لا بد من معالجتها في هذا الأمر.

اما النقطة الأولى ـ فلا شك في ان الظاهر الأولي للجملة هو الاخبار عن وجود اليقين له كما اعترف به المحقق النائيني ( قده ) نفسه الّذي حملها على الإنشاء نعم هي صالحة للحمل على الإنشاء خلافا لما ذكره السيد الأستاذ من ان الجملة الخبرية التي تستعمل للإنشاء ينبغي ان تكون فعلية وهذه جملة اسمية.

ويرد عليه ـ ان هذا الكلام ان تم ففي موارد الإنشاء الطلبي كما في قوله ( يسجد سجدتي السهو ) بمعنى اسجد ، واما في الجمل الخبرية المستعملة لإنشاء الأمور الاعتبارية فيمكن ان تكون الجملة اسمية كما في مثل ( أنت طالق ) لإنشاء الطلاق والمدعي في المقام الإنشائية بهذا المعنى أي اعتبار المكلف على يقين من وضوئه تعبدا ، نعم هذا خلاف الظاهر الأولي للجملة الخبرية كما ان حمل اليقين على التعبدي لتكون الجملة اخبارا عنه أيضا خلاف الظاهر في نفسه فلا بد لمدعي الإنشائية من إبراز قرينة على ذلك ، وما يمكن ان يكون مبررا لهذا الحمل هو ظهور الجملة في فعلية اليقين المخبر عنه وهذا لا ينسجم مع الاخبار عن اليقين الوجداني إذ لا يقين وجداني بالوضوء فعلا

٣١

وانما كان له اليقين سابقا وان شئت قلت : ان لوحظ اليقين مضافا إلى متعلقه مع تجريد الذهن عن حيثية الحدوث والبقاء فبهذا اللحاظ لا يقين بالفعل للمكلف لأنه قد زال يقينه بذات الوضوء ، وان لوحظ اليقين مضافا إلى متعلقه مع أخذ الزمان فيه أي اليقين بالحدوث فاليقين بالحدوث وان كان فعليا الا ان هذا لا ينسجم مع ما بعده من قوله ( ولا تنقض اليقين بالشك أبدا ) إذ لا بد وان يراد باليقين فيه نفس اليقين بالجملة الأولى أي اليقين بالحدوث ومعه لا يصح اسناد النقض إليه لأن الشك لا ينقض اليقين بالحدوث لعدم وحدة متعلقهما عند لحاظ الحدوث والبقاء فيهما ، وهذا بخلاف ما إذا حملنا الجملة على الإنشاء أو اليقين التعبدي.

ويرد على هذا البيان :

أولا ـ ما سيأتي من صحة اسناد النقض إلى اليقين والشك حتى مع ملاحظة حيثيتي الحدوث والبقاء في متعلقهما بعناية سوف يأتي بيانها.

ثانيا ـ ان غاية ما يلزم مما ذكر وقوع التعارض بين الظهور في فعلية اليقين والظهور في الاخبار عن اليقين الوجداني ولو لم ندع أقوائية الظهور الثاني بحيث يرفع اليد به عن الأول فلا أقل من الإجمال.

ثالثا ـ عدم صحة الحمل على الإنشاء في نفسه ، إذ لو حمل اليقين على التعبدي منه فما ذا يقال عن اليقين في الجملة الثانية؟ فهل يحمل على اليقين الوجداني أو التعبدي ، والأول خلاف ظاهر السياق بل خلاف صراحة التركيب في تأليف قياس من صغرى وكبرى وهذا لا يكون الا مع وحدة المعنى المراد باليقين في الجملتين بل على هذا تكون الجملتان بمعنى واحد وتكون الجملة الثانية تكرارا صرفا للجملة الأولى ولكن بلسانين.

والثاني يلزم منه ركاكة الجملة الثانية إذ ترجع إلى ان اليقين التعبدي أي الحجة لا ينبغي نقضه بالشك وهذا أشبه بالقضية بشرط المحمول بل يلزم نحو تهافت في اللحاظ ، فان فرض شك المكلف يقينا تعبديا أولا يناقض التعبير عنه بالشك ثانيا كما لا يخفى. فالصحيح هو التحفظ على ظهور الجملة في الاخبار عن اليقين الوجداني خلافا لما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ).

واما النقطة الثانية ـ فالاحتمالات في قوله ( فانه على يقين من وضوئه ) ثلاثة :

٣٢

١ ـ ان يكون جوابا كما يناسبه دخول الفاء عليه.

٢ ـ ان يكون متمما للشرط أو من مقدمات الجواب ، واما الجواب فهو قوله ( لا تنقض اليقين بالشك ).

٣ ـ ان يكون الجواب محذوفا والأصل هكذا ( والا فلا يجب عليه الوضوء فانه على يقين من وضوئه ) فتكون الجملة من متممات الجواب المحذوف وأدلته.

ولا بد من ملاحظة هذه الاحتمالات على كل من التقديرين السابقين في النقطة الأولى أي تقدير خبرية الجملة وإنشائيتها فنقول :

اما بناء على الخبرية فالاحتمال الثالث موافق مع الذوق وأساليب التعبير العرفي فيكون هو المتعين ، وما قد يثار بوجهه من الإشكال تارة بأنه يلزم تكرار الجواب لأنه ذكر أولا نفي الوضوء بقول ( لا حتى يستيقن انه قد نام ) ، وأخرى بان التقدير خلاف الأصل. مدفوع بعدم لزوم التكرار الفعلي مع الحذف بل هذا هو موجب التقدير ومصححه وبأن ما هو خلاف الأصل انما هو اعتماد تقدير غير مفهوم مما تقدم من الكلام لا مثل المقام الّذي يفهم الجواب المقدر من التصريح أولا بعدم الوجوب بقوله ( لا حتى يستيقن انه قد نام ) ومن التعبير بقوله ( والا ) الظاهر في الشرطية والنّظر إلى نفس الجواب المتقدم فلا مئونة في هذا الاحتمال أصلا.

واما الاحتمال الثاني ، فبعيد عن الذوق العرفي إذ لو فرضت الجملة مقدمة للجواب ، والجواب قوله ( ولا تنقض اليقين بالشك ) لزم دخول الواو على جواب الشرط ، ولو فرضت تتمة للشرط لزم مضافا إلى ذلك دخول الفاء على متمم جملة الشرط ، وكلا الأمرين على خلاف أساليب المحاورة العرفية.

واما الاحتمال الأول ـ فقد ناقش فيه المحقق الخراسانيّ ( قده ) بان الجزاء لا بد وان يكون مرتبطا بالشرط وكونه على يقين من وضوئه غير مرتبط بعدم استيقانه بالنوم.

وعلق عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) بان الربط بينهما من جهة ملازمة اليقين بالوضوء لعدم اليقين بالنوم وترتبه عليه.

والتحقيق ان يقال : ان أريد باليقين اليقين بالوضوء حدوثا أو اليقين بذات الوضوء فهذا ثابت في نفسه بمجرد اليقين بالحدوث سواء فرض الشك في النوم أو اليقين به أو بعدمه ، وان أريد اليقين بالوضوء بالفعل أي بقاء فهذا غير محفوظ على كل

٣٣

حال الا ان يراد من اليقين اليقين التعبدي وهو خلف فرض خبرية الجملة الّذي نتحدث بناء عليه الآن. وهذا يعني انه لا يمكن افتراض الاحتمال الأول بناء على الخبرية.

نعم يمكن ان يفترض مجموع الجملتين جزاء للشرط المقدر ولكن لا بلحاظ مرحلة الثبوت بل بلحاظ مرحلة الإثبات والاستدلال فكأنه يقول ( وان لم يستيقن انه قد نام فسوف يصدق في حقه القياس المذكور ) ولكنه لا يخلو من العناية أيضا.

واما بناء على الإنشائية فالاحتمال الأول هنا معقول من دون حاجة إلى التوجيه الأخير وملاحظة مرحلة الإثبات ، لأن ثبوت اليقين التعبدي الإنشائي فرع عدم اليقين بالنوم فالربط بين الشرط والجزاء محفوظ على هذا التقدير ولكنه مبتلى بما ذكرناه في النقطة الأولى من لزوم التكرار المخل ومن عدم الانسجام مع اليقين في الجملة الثانية الا أن هذين الإشكالين كما عرفت لا زمان لإنشائية الجملة الأولى « فانه على يقين من وضوئه » على كل المحتملات الثلاثة والمفروض في هذه النقطة التنزل عنهما.

واما الاحتمال الثاني فهو غير عرفي أيضا بنفس النكتة المشار إليها بناء على الخبرية.

واما الاحتمال الثالث ـ فقد يقال في مقام التعليق عليه بأنه مع إنشائية الجملة لا وجه لافتراض الجزاء مقدرا والجملة من متمماته بل يمكن جعلها بنفسها الجزاء لأن التقدير خلاف الأصل مهما أمكن ، فيكون الاحتمال الأول هو المتعين بناء على الإنشائية.

الا ان الإنصاف عدم العناية في تقدير الجزاء على هذا التقدير أيضا ، لما تقدم من ظهور التعبير بقوله ( والا ) في النّظر إلى نفس الجواب والحكم المبين أولا فان هذا من أساليب التقدير والإشارة إلى الحكم المذكور فيما تقدم من الكلام فهذا الاحتمال هو المستظهر على كل تقدير.

واما النقطة الثالثة ـ فحاصلها دعوى عدم إمكان اقتناص كبرى كلية من الحديث بناء على جعل ( لا تنقض اليقين بالشك ) جوابا للشرط لأن الجزاء انما يكون بمقدار الشرط سعة وضيقا لا أكثر من ذلك فتختص قاعدة الاستصحاب بباب الوضوء.

٣٤

ويرد على هذه الدعوى :

أولا ـ عدم تماميتها بناء على جعل الجزاء مجموع الجملتين بحسب مرحلة الإثبات ، إذ يكون قوله ( ولا تنقض اليقين بالشك ) غير مربوط بخصوص اليقين بالوضوء كما تقدم شرحه.

وثانيا ـ من وجوه اقتناص الكبرى الكلية إعمال المناسبات والارتكازات المقتضية لانعقاد ظهور في الحديث في إمضاء كبرى كلية مركوزة ولو بمرتبة ضعيفة فحتى لو لم يكن في النص إطلاق بحسب ما هو حاق اللفظ كفانا ذلك في اقتناص كبرى كلية من مثل هذا السياق. وهكذا يتضح ان هذه الاحتمالات التي أبرزت في كلمات المحققين في فقه الحديث لا أثر لها في استفادة قاعدة الاستصحاب منه.

الأمر الثاني : قد يناقش في الاستدلال بالحديث على الاستصحاب بإبراز احتمال نظره إلى قاعدة المقتضي والمانع لا الاستصحاب ولا أقل من الإجمال ومأخذ هذه الدعوى يمكن ان يكون أحد تقريبين :

التقريب الأول ـ اسناد اليقين في الحديث إلى الوضوء حيث قال ( فانه على يقين من وضوئه ) ومن الواضح ان الوضوء ليس شيئا يمكن ان يدوم ليشك في بقائه وعدمه ، نعم هو مقتض لأثر الطهارة التي يعقل فيها الحدوث والبقاء طالما لم يأت المانع وهو النوم وهذا يعني ان موضوع القاعدة المبينة في الحديث انما هو اليقين بمقتضي الحكم الشرعي والشك في طرو مانعه وهذا يناسب قاعدة المقتضي والمانع لا الاستصحاب.

ويرده : ان الوضوء على ما يستفاد من إطلاقه الشرعي والمتشرعي في الروايات قد اعتبر بنفسه امرا قابلا للدوام والاستمرار فالمكلف بعد إيقاع فعل الوضوء يكون على وضوء بحيث يعتبر نفس وضوئه امرا باقيا تعبدا واعتبارا ومن هنا يسند إليه النقض في أدلة النواقض وأيضا في نفس الحديث قد عبر في صدره الرّجل ينام وهو على وضوء فكلمة الوضوء في ألسنة الروايات لا بد وان تحمل على هذا المعنى ومعه تكون أركان الاستصحاب أعني اليقين والشك مما يمكن افتراض تعليقهما بالوضوء بهذا المعنى.

بل حمل الحديث على قاعدة المقتضي والمانع خلاف الظاهر ، لأن مقتضى سياق

٣٥

حذف متعلق اليقين والشك في الجملة الثانية وكذلك اسناد النقض إليهما وحدة متعلقهما ، وفي قاعدة المقتضي والمانع لا يكون المتعلق واحدا كما لا يخفى.

التقريب الثاني ـ لو كان النّظر إلى الاستصحاب كان مقتضى القاعدة إجراء استصحاب عدم النوم الّذي هو أصل موضوعي حاكم على استصحاب الطهارة الحكمي ، وهذا بخلاف ما لو كان النّظر إلى قاعدة المقتضي والمانع فانه لا يوجد أصل موضوعي حاكم عليه.

وقد يجاب عليه : بان الصحيحة ناظرة إلى فرض الشبهة المفهومية في تحقق النوم حيث قيل فيها ( فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ) وفي الشبهة المفهومية لا يجري الاستصحاب الموضوعي وانما يتعين الاستصحاب الحكمي.

الا ان هذا الجواب لا يمكن المساعدة عليه ، لأن السائل سأل أولا عن الشبهة المفهومية وأجابه الإمام عليه‌السلام بتفصيل وانه قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن فجعل الميزان نوم القلب والاذن ، ثم سال السائل عن فرضية شبهة مصداقية فأجابه الإمام عليه‌السلام بالاستصحاب ، ولو كان السؤال الثاني عن الشبهة المفهومية أيضا كان اللازم على الإمام عليه‌السلام ان يبين للسائل حدود المفهوم المأخوذ في الحكم الواقعي ولا معنى لا حالته إلى الاستصحاب لأن الشبهة المفهومية شبهة حكمية من وظيفة الإمام عليه‌السلام بيان الحكم الواقعي فيها لا الا حالة إلى القواعد الظاهرية كما لا يخفى.

والتحقيق في الإجابة على هذا التقريب ان يقال :

أولا ـ ما سوف يأتي في محله من عدم حكومة الأصل السببي على المسببي الا إذا كانا متنافيين وهما في المقام متوافقان.

الثاني ـ لو سلم حكومة الأصل السببي على المسببي ـ بناء على تصورات جعل الطريقية ـ فظهور هذه الصحيحة في جريان استصحاب الطهارة بنفسه يكون دليلا على عدم الحكومة في صورة التوافق على الأقل ، إذ لا يمكن رفع اليد عن ظهورها في الاستصحاب.

الثالث ـ ان يقال بان عدم النوم حد للطهارة المجعولة لا قيد مأخوذ في موضوعها بقاء فاستصحاب عدم النوم لا يثبت الطهارة الا بالملازمة العقلية لا بالترتب الشرعي

٣٦

فلا يكون أصلا موضوعيا حاكما على استصحاب الطهارة.

وفيه : أولا ـ ان العرف لا يتعقل التفكيك بين الأمرين بل يستفيد من كون عدم النوم حدا انه دخيل في موضوع الحكم بالطهارة.

وثانيا ـ بلحاظ عالم الحب والبغض الّذي هو روح الحكم ويكون هو المنجز ، عقلا لا محالة يكون عدم النوم قيدا في الموضوع والا لما جعل النوم نهاية وحدا للحكم فيجري استصحاب عدم النوم بلحاظ روح الحكم (١).

الرابع ـ ان يقال بان الطهارة من الأمور التكوينية التي كشف عنها الشارع وليس حكما شرعيا ليترتب بالاستصحاب الموضوعي.

وفيه : بطلان المبني فقهيا على ما حققناه في محله.

الأمر الثالث ـ آثار الشيخ الأعظم ( قده ) شبهة في المقام حاصلها : احتمال ان يكون قوله ( ولا تنقض اليقين بالشك ) سلبا للعموم لا عموم السلب فلا يدل على الاستصحاب بنحو القضية الكلية ، ثم استظهر كونه عموم السلب. وهذه الشبهة في نفسها لم تكن تستحق الذّكر لو لا إشارة الشيخ وتعليق المحقق النائيني ( قده ) عليه وتفصيل الكلام بشأنه ولعله لإعطاء الضابط الكلي للفرق بين سلب العموم وعموم السلب.

فذكر ان العموم إذا كان مستفادا بنحو المعنى الاسمي أمكن توجيه السلب إليه لأنه يلحظ استقلالا ، واما إذا كان مستفادا بنحو المعنى الحرفي من قبيل اللام بناء على افادته للعموم أو من سياق النفي كما في قوله ( لا تنقض اليقين ) فلا يمكن ان يكون السلب فيه سلبا للعموم بل يتعين ان يكون عموم السلب ، لأن المعنى الحرفي لا يلحظ مستقلا لكي يمكن توجيه السلب إليه ، والعموم المستفاد من سياق النفي أو النهي انما هو بحكم العقل وبقانون ان الطبيعة لا تنتفي الا بانتفاء تمام افرادها ، ومثل هذا العموم يكون في طول السلب.

__________________

(١) بل يجري بلحاظ الحكم المجعول أيضا لأن فعلية المجعول الشرعي عند عدم تحقق غايته وحده ترتب شرعي كفعليته بتحقق موضوعه فانه لم يرد دليل خاص يدل على أن الترتب الشرعي لا بد وان يكون بملاك ترتب الحكم على الموضوع والمسبب على سببه وان شئت قلت : كما ان إحراز الموضوع شرط في تنجز الحكم المجعول كذلك يكون إحراز عدم الغاية بهذا المعنى شرطا في تنجزه والاستصحاب يجري في كل ما يكون إحرازه شرطا في التنجيز إثباتا أو نفيا.

٣٧

وفي تقريرات المحقق الكاظمي قرر هذا المطلب بنحو آخر لا يخلو من تشويش حيث ذكر الفرق بين العموم والإطلاق وان الأول معنى اسمي مستقل فيصح توجه السلب إليه بينما الثاني معنى حرفي لا يلحظ استقلالا ، ثم بين في وجه ذلك ان الإطلاق لكونه بالإطلاق ومقدمات الحكمة فيكون في طول الحكم فيستحيل توجه السلب إليه.

وهذا البيان مضافا إلى التشويش فيه بين الصدر والذيل على خلاف مباني المحقق النائيني ( قده ) في باب العموم من انه أيضا في طول الإطلاق ومقدمات الحكمة فإذا كان الإطلاق في طول الحكم استحال سلب العموم في العمومات أيضا.

وأيا ما كان فأصل هذا التفصيل في غير محله ، وتوضيح ذلك :

ان سلب العموم ليس معناه لحاظ العموم بنحو المعنى الاسمي المستقل وتوجيه النفي إليه وانما معناه نفي العام بما هو عام لا بذاته بان تكون حيثية العموم ملحوظة قبل طرو النفي كما هو الحال في نفي أي قيد حرفي كما إذا أريد نفي تقيد الجلوس بالمسجد فقيل ما جلست في المسجد فقد نفي هنا النسبة الظرفية بين الجلوس والمسجد ولكن لا بمعنى توجيه النفي ابتداء إليها ليقال ان المعنى الحرفي لا يلحظ مستقلا بل بمعنى توجيه النفي إلى الجلوس الخاصّ بما هو خاص فينفي التقييد لا محالة.

ومنه تعرف الإجابة على الفقرة الثانية في كلامه من ان العموم إذا كان بقانون عقلي وهو انتفاء الطبيعة بانتفاء تمام افرادها فلا يمكن ان يكون بنحو سلب العموم لأنه في طول النفي ، فان العقل انما يحكم بان انتفاء ما وقع مدخولا للنفي لا يكون الا بانتفاء تمام افراده ، واما كون المدخول ذات الطبيعة أو المقيدة بحيثية ـ ولو كان هو العموم ـ فهذا لا ربط له بالقانون العقلي المذكور بل لا بد من تعيينه بدال اخر.

نعم ما ذكر من التفصيل بين الإطلاق والعموم صحيح بمعنى ان السلب في المطلقات لا محالة يتوجه إلى ذات المطلق لا المطلق بما هو مطلق ، لأن الإطلاق مدلول تصديقي وليس تصوريا مأخوذا في مدلول مدخول السلب ليكون النفي سلبا للإطلاق بخلاف العموم.

ومنه يظهر ان قوله ( ولا تنقض اليقين بالشك ) لا يمكن ان يكون سلبا للعموم ، بل

٣٨

يتعين ان يكون عموم السلب لكون العموم فيه بالإطلاق ومقدمات الحكمة (١).

الأمر الرابع ـ من جملة ما ذكرناه في مأخذ استفادة قاعدة الاستصحاب الكلية من هذه الصحيحة هو التمسك بالارتكاز العرفي. وبناء عليه قد يقال بعدم إمكان استفادة التعميم منها للزوم الاقتصار فيه على القدر المتيقن من الارتكاز وهو ما إذا لم يكن على خلاف الاستصحاب ظن بالخلاف مثلا لأن الارتكاز دليل لبي.

وفيه : ان الارتكاز العرفي في المقام يلغي خصوصية المورد في مقام فهم الحديث وفي طوله يجري الإطلاق ومقدمات الحكمة في نفي اية خصوصية أخرى غير اليقين والشك في الحكم فيثبت التعميم لا محالة.

الرواية الثانية : صحيحة ثانية لزرارة الواردة في الصلاة ( قال : قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني فعلمت اثره إلى ان أصيب له الماء فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا فصليت ثم أني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة وتغسله ، قلت : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه قد اصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال : تغسله وتعيد ، قلت : فان ظننت انه اصابه ولم أتيقن فنظرت ولم أر شيئا فصليت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد ، قلت : لم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا ، قلت : فاني علمت انه قد اصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : تغسل ثوبك الناحية التي ترى انها قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل علي ان شككت انه اصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال : لا لكنك انما تريد ان تذهب بالشك الّذي وقع في نفسك ، قلت : ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ) (٢).

وهي تتكفل عدة أسئلة سألها زرارة عن الإمام عليه‌السلام وأجاب عنها الإمام

__________________

(١) مضافا إلى ان سياق التعليل في الحديث الظاهر في التعميم وتأكيد العموم بقوله ( أبدا ) يصح ان يكون قرينة على إرادة عموم السلب لا سلب العموم.

(٢) التهذيب ، الباب ٢٢ من أبواب تطهير البدن والثياب من النجاسات ، حديث ـ ٨ ـ

٣٩

نستعرضها فيما يلي لتوضيح فقه الرواية.

السؤال الأول ـ إذا صلى الإنسان في ثوب نجس نسيانا بعد علمه بالنجاسة أولا؟

وجوابه : وجوب إعادة الصلاة. وقد ورد هذا الحكم في روايات أخرى أيضا وعلل في بعضها بان الناسي تهاون في التطهير دون الجاهل.

السؤال الثاني ـ لو علم إجمالا بالنجاسة في بعض جوانب الثوب ولم يتمكن من تشخيص موضعه بالفحص فهل يكفي ذلك للصلاة فيه بالرغم من علمه الإجمالي بالنجاسة أم لا. والجواب : وجوب غسل الثوب وإعادة الصلاة أيضا ، والمقصود من قوله في هذه الفقرة ( لم أقدر عليه ) عدم إمكان تشخيصه مع الفراغ عن أصله لا زوال العلم وحصول الشك بخلاف ما لو قال ( لم أره ) فانه يمكن ان يدعي إرادة ذلك منه.

السؤال الثالث ـ لو ظن الإصابة ففحص ولم ير النجاسة فصلى فيه ورأى فيه فما هو حكمه؟ وجواب الإمام عليه‌السلام ( تغسله ولا تعيد لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ). وهذه الفقرة مع فقره تأتي هما موضوع الاستدلال بالصحيحة على كبرى الاستصحاب. وتوجد بشأن هذا السؤال بدوا احتمالات أربعة :

الأول ـ ان يكون مقصوده من الفحص وعدم الرؤية حصول العلم بعدم الإصابة حيث لم يكن يعلم بها من أول الأمر وانما كان يظن ذلك ويحتملها فيزول الاحتمال بالفحص ثم عند ما وجدها بعد الصلاة علم بأنها نفس النجاسة التي كان قد ظن بها من أول الأمر ، الا ان هذا الاحتمال غير متجه لأنه بناء عليه لا يكون المورد مصداقا لقاعدة نقض اليقين بالشك ولا صحة الصلاة مستندة إليها سواء أريد بها الاستصحاب أو قاعدة اليقين لأنه لم يكن شاكا لا في حال الصلاة ولا بعدها بل كان عالما بالطهارة في الأثناء وعلم بالنجاسة بعد ذلك مع ان الإمام عليه‌السلام يفترض وجود شك ليطبق عليه القاعدة في مقام التصحيح فيعلم عدم إرادة هذا المعنى جزما.

الثاني ـ ان يحصل له العلم بعدم الإصابة بعدم الفحص ولكنه عند ما وجد النجاسة احتمل انها نجاسة طارئة بعد الصلاة وبناء على هذا الاحتمال يكون شاكا بعد الصلاة في وقوعها مع النجاسة وعدمه فيكون موردا لعدم نقض اليقين بالشك سواء أريد به الاستصحاب أو قاعدة اليقين لأنه كان على يقين حين الصلاة بالطهارة أيضا

٤٠