بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

سواءً وجد استقبال في الخارج أم لا ، وهكذا سائر القيود فلا تكون متعلقات الأحكام موضوعاً لفعلية حكم وضعي لكي تستصحب (١).

إلاّ انَّ هذه مناقشة لفظية ، فانه يمكن تغيير التعبير بنتيجة الشرطية أو المانعية ، وان شئت قلت : انَّ تحقق متعلق الحكم خارجا موضوع للحكم بالصحّة التي هي أيضاً حكم وضعي منشأه بيد الشارع رفعاً ووضعاً.

ونقطة الضعف في جواب المحقق الخراسانيّ ( قده ) انَّ الإشكال في استصحاب متعلقات الأحكام إن كان من جهة انَّ امر وضعها ورفعها ليس بيد الشارع أمكن الجواب عليه بذلك بل لم نكن نحتاج إلى تبعيد المسافة في الجواب بهذا النحو ، وانَّما نقول بأنَّ الاستصحاب تعبد بالبقاء وليس إبقاء حقيقياً لكي يقال بأنه غير معقول من المولى بما هو مولى في الأمور التكوينية. وان كان من جهة انَّ استصحاب متعلق الحكم إن أُريد به إثبات الحكم الوضعي الانتزاعي فهذا لغو لا ثمرة له ، وان أُريد إثبات منشأ الانتزاع وما هو المهم للمكلف من تعلق الوجوب بهذا الفرد أو سقوط الأمر كان من الأصل المثبت فمثل هذا الإيراد لا يدفع بالجواب المذكور كما هو واضح.

الجواب الثاني ـ انَّ متعلقات الأحكام أيضاً تكون موضوعاً للحكم الشرعي وهو سقوط الأمر وعدم لزوم الإعادة أو القضاء ، وذلك لأنَّ التكليف بشيء مقيد بعدم إتيان متعلقه بتمام شروطه وقيوده وإلاّ لزم بقاء التكليف حتى بعد إتيان متعلقه فيجب الإعادة عليه دائماً. وان شئت قلت : انَّ التكليف بلحاظ متعلقه لا بد وأَن يكون امّا مطلقا أو مقيدا بعدمه أو مهملاً ، والأول يلزم منه بقاء التكليف ولزوم تكرار المكلف به دائماً ، والثالث مستحيل في عالم الثبوت كما قرر في محله ، فيتعين الثاني وهو يعني أخذ عدم المتعلق في موضوع التكليف فيكون على حد سائر قيود التكليف من حيث جريان الاستصحاب فيه.

وهذا الجواب مبني على أصله الموضوعي المشار إليه ، وقد تقدم غير مرة بطلان ذلك وان تحقق الامتثال ليس مسقطاً لفعلية التكليف ويستحيل أخذ عدمه قيداً فيه وانما هو مسقط لفاعليته مع إطلاق الحكم من ناحيته.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ١٧٣

٣٠١

الجواب الثالث ـ ما هو الصحيح في علاج هذه الشبهة من وجود خطأ في صيغة الشرطية المرتكزة في الذهن الأصولي ، فانه لم يرد ما يدلّ على انَّ المستصحب لا بدَّ وأَن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، فانَّ الاستصحاب مجرد تعبد ظاهري ، وامر التعبد والاعتبار سهل يمكن تعلقه بالأمور التكوينية والشرعية معاً (١) غاية الأمر يلزم من شمول هذا التعبد للأمور التكوينية الصرفة اللغوية فلا بد من أثر عملي يترتب على التعبد المذكور ، بل ما ذكرناه من ظهور دليل الاستصحاب في النقض العملي أيضاً يقتضي أَن يكون المستصحب يعقل فيه نقض عملي فلا بد من معقولية موقف عملي في مورد الاستصحاب أي لا بد من المنجزية أو المعذرية في مورده لكي يعقل جعل التعبد والحكم الظاهري الاستصحابي فيه ، ومن الواضح انَّ المنجزية والمعذرية كما تتصور بلحاظ قيود الحكم وموضوعه كذلك تتعلق بلحاظ متعلقه وفي مرحلة الامتثال أيّاً كانت صياغته الاعتبارية فتكون مرحلة الحكم الظاهري وملاكه وهو التحفظ على أغراض المولى معقولة في المجالين ، ومن هنا كانت القواعد والأصول التعبدية الظاهرية التي جعلها الشارع بعضها في المجال الأول كالبراءة وبعضها في المجال الثاني كقاعدة الفراغ والتجاوز وبعضها في المجالين حسب المقدار المستفاد من لسان دليله ، ولا إشكال في انَّ مفاد دليل الاستصحاب وهو النهي عن النقض العملي لليقين بالشك صالح لشمول المجالين فيكون مقتضى إطلاقه ثبوت التعبد فيهما معاً.

ودعوى : انَّ التعبد في المجال الثاني أعني مرحلة الامتثال ينبغي أَن يكون بعنوان إحراز الامتثال والتعبد بتحقق المتعلق نظير قوله عليه‌السلام بل قد ركعت أو شكك ليس بشيء لا التعبد ببقاء اليقين والكاشف فانه يناسب المجال الأول.

مدفوعة : بما تقدم في محله من أنَّ هذه مجرد ألسنة وصياغات لفظية أو اعتبارية للكشف عن محتوى واحد وهو روح الحكم الظاهري وملاكه المحفوظ في المجالين وهو

__________________

(١) قد يقال : انه بناء على مبنى جعل الحكم المماثل لا بدَّ وان يكون مفاد الاستصحاب حكماً شرعاً أو موضوعاً لحكم شرعي لكي يعقل جعل المماثل له.

والجواب ـ انَّ القائل بجعل الحكم المماثل في الأحكام الظاهرية لا بد وأَن يقول بذلك في مجال الحكم الظاهري المجعول في مورد الشك في فعلية التكليف لا في الشك في الامتثال ـ كما في قاعدة الفراغ والتجاوز ـ فما يصوره في تفسير الأحكام والقواعد الظاهرية المجعولة لموارد الشك في الامتثال بنفسه جار في المقام أيضاً فلا فرق بين المسالك في هذه النقطة.

٣٠٢

التحفظ على الأهم من الأغراض الشرعية المتزاحمة تزاحماً حفظياً ، وانه وقع خلط لدى الاعلام بين الأمور الصياغة وما هو روح الحكم الظاهري فراجع.

وهكذا يتضح انَّ الصحيح جريان الاستصحاب في متعلقات الأحكام إثباتاً ونفياً كجريانه في الموضوعات.

٨ ـ الاستصحاب في الموضوعات المركبة :

إذا كان الموضوع للحكم الشرعي بسيطاً وتمت فيه أركان الاستصحاب جرى استصحابه بلا إشكال ، وامّا إذا كان الموضوع مركباً من عناصر عديدة فتارة نفترض انَّ هذه العناصر لوحظت بنحو التقييد أو انتزع منها عنوان بسيط وجعل موضوعاً للحكم كعنوان ( المجموع ) أو ( اقتران هذا بذاك ) ونحو ذلك ، وأخرى نفترض ان هذه العناصر بذواتها أخذت موضوعاً للحكم الشرعي بدون أَن يدخل في الموضوع أي عنوان انتزاعي من ذلك القبيل.

ففي الحالة الأولى لا مجال لإجراء الاستصحاب في ذوات الاجزاء لأنه إن أُريد به إثبات الحكم مباشرة فهو متعذر لترتبه على العنوان البسيط المتحصل فلا بدَّ من إحرازه ، وان أُريد به إثبات الحكم بإثبات ذلك العنوان المتحصل فهو غير ممكن لأنَّ عنوان الاجتماع أو الاقتران ونحوه لازم عقلي لثبوت ذوات الاجزاء فلا يثبت باستصحابها ، فالاستصحاب في هذه الحالة يجري في نفس العنوان البسيط المتحصل فمتى شك في حصوله جرى استصحاب عدمه حتى ولو كان أحد الجزءين محرزاً وجداناً والآخر معلوم الثبوت سابقاً ومشكوك البقاء فعلاً.

وامّا الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في الجزء إثباتاً أو نفياً إذا تواجد فيه اليقين بالحالة السابقة والشك في بقائها. ومن هنا يعلم بأنَّ الميزان في جريان الاستصحاب في اجزاء الموضوعات المركبة توفر شرطين :

١ ـ كون الأثر مترتباً على ذوات الأجزاء.

٢ ـ توفر اليقين بالحدوث والشك في البقاء.

هذا على سبيل الإجمال ، وتفصيل البحث على وجه كامل يقع ضمن ثلاث نقاط :

٣٠٣

إحداهما ـ في أصل الكبرى القائلة بجريان الاستصحاب في اجزاء الموضوع ضمن الشرطين ، فانَّ هناك إشكالا على أصل هذه الكبرى لا بدَّ من علاجه.

الثانية ـ في تحقيق صغرى الشرط الأول وانه متى يكون الأثر مترتباً على ذوات الاجزاء.

الثالثة ـ في تحقيق صغرى الشرط الثاني وانه متى يكون الشك في البقاء محفوظاً.

امّا النقطة الأولى ـ فالمعروف عند المحققين انه متى ما كان الموضوع مركباً وافترضنا انَّ أحد جزئيه محرز بالوجدان أو بتعبد ما فبالإمكان إجراء الاستصحاب في الجزء الآخر لإحرازه ، لأنه ينتهي إلى أثر عملي وهو تنجيز الحكم المترتب على الموضوع المركب.

وهذا الكلام يواجه اعتراضاً حاصله : ان الاستصحاب الموضوعي لا بدَّ وأَن يثبت لنا المجعول الفعلي المترتب على ذلك الموضوع ليكون منجزاً ـ سواء كان بلسان جعل الطريقية أو المنجزية أو الحكم المماثل أو أي لسان آخر ـ لأنَّ المنجز بحسب الحقيقة هو الحكم الفعلي ، ومن الواضح ان المستصحب هنا ـ وهو الجزء ـ ليس له حكم ليتعبد به في دليل الاستصحاب وما له حكم ـ وهو المركب ـ ليس مصباً للاستصحاب.

وهذا الاعتراض لا أساس له بناء على ما هو الصحيح والمختار عندنا من انَّ المجعول الفعلي لا واقعية له وانما هو أمر وهمي وانَّ المنجزية موضوعها وصول الحكم بكبراه ـ الجعل ـ وصغراه ـ الموضوع ـ فانه على هذا لا نحتاج في جعل استصحاب الجزء ذي الأثر العملي إلى التعبد بالمجعول الفعلي ، بل مجرد وصول أحد الجزءين تعبداً مع وصول الجزء الآخر بالوجدان أو بتعبد آخر كاف في تنجيز الحكم الواصل كبراه لأنَّ إحراز الموضوع بنفسه منجز لا بما هو طريق إلى إثبات فعلية الحكم المترتب عليه تصوراً ووهماً.

واما بناءً على المنهج المعروف من انَّ المنجز هو الحكم الفعلي وانه لا بدَّ من إثباته بالتعبد الاستصحابي اما مباشرة أو بتوسط ما هو مترتب عليه (١) فيصعب التخلص الفني

__________________

(١) هذا الاعتراض يتوجه على مبنى جعل الحكم المماثل فقط دون سائر المباني ، لأنَّ المفروض عند تلك المباني انَّ إحراز الموضوع للمجعول الفعلي منجز له على كل حال سواء من جهة كفاية نفس إحراز الموضوع لذلك ، أو من جهة افتراض ان إحرازه اعتبر ولو عرفاً وبحسب ما استفيد من دليل التعبد إحرازاً للمجعول الفعلي وإلاّ لاتجه الإشكال على كل استصحاب موضوعي وان كان بسيطاً لا مركباً ، لأنَّ المنجز فيه أيضا ليس هو العلم بالموضوع بل العلم بالمجعول الفعلي المتولد بالملازمة من مجموع العلم بالكبرى

٣٠٤

عن هذا الاعتراض ، وما يمكن أَن يجاب به عن هذا الاعتراض أحد وجوده ثلاثة :

الأول ـ انَّ الحكم بعد وجود أحد جزئي موضوعه وجداناً لا يكون موقوفاً شرعاً إلاّ على الجزء الآخر فيكون حكماً له ومنوطاً به في هذه الحالة.

ونلاحظ عليه : انَّ مجرد تحقق أحد الجزءين خارجاً لا يخرجه عن الموضوعية وإناطة الحكم به شرعاً ، لأنَّ وجود الشرط للحكم لا يعني بطلان الشرطية ، ولا ينقلب الحكم إلى كونه حكما للجزء الآخر خاصة كما لا ينقلب الواجب المشروط عن كونه مشروطاً بتحقق شرطه خارجاً على ما حقق مفصلاً في بحث الواجب المطلق والمشروط.

الثاني ـ انَّ الحكم المترتب على الموضوع المركب ينحل تبعاً لاجزاء موضوعه فينال كل جزء مرتبة وحصة من وجود الحكم ، واستصحاب الجزء يقتضي ترتب ذلك الحكم الضمني التحليلي الّذي يناله ذلك الجزء.

ونلاحظ عليه : انَّ هذا التقسيط والتحليل للحكم انما يعقل في حق اجزاء متعلق الحكم ـ كما تقدم في بحث الواجب الارتباطي ـ ولا يعقل في حق اجزاء موضوع الحكم لوضوح انَّ الحكم ليس له إلاّ وجود واحد لا يتحقق إلاّ عند تواجد اجزاء موضوعه جميعاً فلا معنى لتقسيطه تبعاً لاجزاء الموضوع.

الثالث ـ ان كل جزء موضوع لحكم مشروط وهو الحكم بالوجوب مثلاً على تقدير تحقق الجزء الآخر فاستصحاب الجزء يتكفل ترتيب هذا الحكم المشروط عليه والمفروض تحقق شرطه.

ونلاحظ عليه : أولا ـ انَّ هذا الحكم المشروط ليس مجعولاً من قبل الشارع وانما هو منتزع عن جعل الحكم على المركب.

وثانياً ـ انا إذا افترضنا مجعولية هذه القضية كما إذا كان تقييد الحكم بأحد الجزءين طولياً فقد تقدم عدم جريان الاستصحاب التعليقي عند المشهور. كما انه لا يجري عندنا أيضاً هنا لأنه لو أُريد به إثبات المجعول الفعلي فهو مثبت ، وان أُريد

__________________

والصغرى وليس هو مصب الاستصحاب بحسب الفرض ، فما يجب به أصحاب جعل الطريقية أو المنجزية على هذا الاعتراض في استصحاب الموضوع البسيط بنفسه يكون جواباً لهم في المقام ، وانَّما يختص هذا الاعتراض بالمبنى القائل بلزوم إثبات مماثل الحكم الشرعي المرتب على الموضوع بالتعبد الاستصحابي ، ولعله لذلك أناط السيد الشهيد ( قدس‌سره الشريف ) في الحلقات هذا الاعتراض بالمسلك المذكور.

٣٠٥

الاكتفاء بإحراز صغراه وكبراه فهذا رجوع إلى المبنى الآخر الّذي قلنا انه بناء عليه لا موضوع للإشكال لأن الكبرى محرزة بالوجدان والصغرى يحرزها التعبد الاستصحابي بلا حاجة إلى إثبات الحكم الفعلي.

وهكذا يتضح عدم وجود مخلص فني عن الاعتراض المذكور بناء على المنهج والتصورات المشهورة للمحققين في المقام ، وهذا بنفسه كاشف إجمالي عن وجود خلل في ذلك المنهج بعد عدم إمكان إلغاء الاستصحاب في الموضوعات المركبة.

واما النقطة الثانية ـ فقد ذكر المحقق النائيني ( قده ) انَّ الموضوع تارة يكون مركباً من العرض ومحله كالإنسان العادل ، وأخرى يكون مركباً من عدم العرض ومحله كعدم القرشية والمرأة ، وثالثة يكون مركباً على نحو آخر كالعرضين لمحل واحد مثل العلم والعدالة في المفتي أو العرضين لمحلين كموت الأب وإسلام الابن في الإرث.

ففي الحالة الأولى يكون التقييد مأخوذاً لأنَّ العرض يلحظ بما هو وصف لمحله ومعروضه وحالة قائمة به فالاستصحاب يجري في نفس التقيد إذا كان له حالة سابقة ، وكذلك في الحالة الثانية يكون تقيد المحل بعدم العرض مأخوذاً في الموضوع ، لأنَّ عدم العرض إذا أخذ مع موضوع ذلك العرض لوحظ بما هو نعت ووصف له وهو ما يسمى بالعدم النعتيّ تمييزاً له عن العدم المحمولي الّذي يلاحظ فيه العدم بما هو ، وقد أقام برهاناً تقدم في أبحاث سابقة على انَّ عدم العرض ومحله لا بد وأَن يكون مأخوذاً على نحو النعتية ، ويترتب على ذلك ان الاستصحاب انما يجري في نفس التقيد والعدم النعتيّ لأنه الدخيل في موضوع الحكم فإذا لم يكن العدم النعتيّ واجداً لركني اليقين والشك وكان الركنان متوفرين في العدم المحمولي لم يجر استصحابه لأنَّ العدم المحمولي لا أثر شرعي له بحسب الفرض ، ومن هنا بنى هذا المحقق على عدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية كما إذا شك في قرشية المرأة وعدمها الثابت لها قبل وجودها بنحو العدم المحمولي.

واما في الحالة الثالثة فلا موجب لافتراض أخذ التقيد واتصاف أحد جزئي الموضوع بالآخر ، لأنَّ أحدهما ليس محلاً وموضوعاً للآخر بل بالإمكان أَن يفرض ترتب الحكم على ذات الجزءين وفي مثل ذلك يجري استصحاب الجزء ، وبالإمكان أَن يفرض ترتب الحكم على المقيد منهما بأخذ إضافة أحدهما إلى الآخر من خلال مفهوم

٣٠٦

آخر كمفهوم المجموع أو نحو ذلك ولكن حيث انَّ أخذ مفهوم إضافي من هذا القبيل خلاف الإطلاق في مقام الإثبات فيكون مقتضى الأصل هو التركيب فيجري الاستصحاب في الجزء لا محالة.

أقول ـ امّا البرهان الّذي أقامه على لزوم التقييد في العرض ومحله وعدم العرض ومحله فقد تقدم تفصيله ونقده في بحث استصحاب العدم الأزلي ، وقد أثبتنا هناك انه ثبوتاً كما يعقل التقييد في ذلك يعقل التركيب ، ومن هنا تكون دخالة العدم المحمولي في موضوع الحكم معقولة بحيث يمكن إجراء استصحاب العدم الأزلي ، نعم بحسب مقام الإثبات يكون موارد أخذ العرض ومحله في موضوع حكم ظاهراً في التقييد ما لم تكن قرينة على الخلاف ، فالمقطع الأول من هذا الكلام لا ندخل في التعليق عليه.

وامّا المقطع الثاني منه وهو انَّ الموضوع المركب من غير العرض ومحله يكون من باب التركيب بحسب مقام الإثبات فهذا الكلام وان كان صحيحاً لأنَّ أخذ التقييد في مثل ذلك بحاجة إلى إدخال عنصر ثالث كالتقارن أو الاجتماع والمعية إلاّ انه مع ذلك يمكن أَن يدعى وجود ما يدلّ على أخذ التقييد بحسب مقام الإثبات في أكثر الموارد ان لم تبرز نكتة عرفية حاكمة عليه نقتصر فيما يلي على ذكر ثلاثة موارد له :

المورد الأول ـ ما إذا أخذ العرضان بنحو طولي لا في عرض واحد كما إذا قيل اغسله بالماء الطاهر فأخذت طهارة الماء في طول الغسل لا بمعنى إضافة الغسل إلى الطهارة ليقال لا معنى لعروض عرض على عرض ، وأخذ مفهوم آخر كالتقارن ونحوه بينهما مئونة زائدة لا دليل عليها بل بمعنى انَّ الظاهر تعلق الغسل وإضافته إلى الماء الطاهر بما هو طاهر لا إلى ذات الماء فلا بد من إثبات تحقق الغسل بالماء الطاهر بما هو طاهر وهذا لا يثبت باستصحاب طهارة الماء إلاّ بالتعويل على الأصل المثبت. وهذه الملاحظة قلّما يشذ عنها مورد من الموضوعات المركبة إلاّ ما ثبت التقييد فيها بدليل منفصل كالتخصيص.

المورد الثاني ـ الشرائط والقيود المأخوذة في متعلقات الأحكام كشرطية الاستقبال والطهور في الصلاة ، فانه على ما حقق في محله يكون القيد خارجاً والتقيد داخلاً مع انَّ التقيد لا يمكن إثباته باستصحاب الشرط إلاّ بالتعويل على الأصل المثبت مع انَّ المفروض ورود روايات الاستصحاب في مثل ذلك كما لا يخفى.

المورد الثالث ـ انه مهما يفرض من اجزاء للموضوعات المركبة لا بد من فرض أخذ

٣٠٧

ما يدل على الربط فيما بينها ولا أقل من حرف العطف بأَن يقول إذا غسلت يدك بالماء وكان طاهراً زالت النجاسة ، وهذا الربط أيضاً مفهوم زائد على ذاتي الجزءين لا يمكن إثباته بالاستصحاب إلاّ بالتعويل على الأصل المثبت.

والجواب عن كل ذلك بأنَّ الإضافة والربط بين الجزءين تارة تكون بعنوان من العناوين التي لها ما بإزاء في الخارج ويعتبرها العرف مما يحتمل دخالتها في الحكم ، وأخرى لا تكون إلاّ لمحض الربط التصوري بين الجزءين وجمعهما في مركب ذهني واحد مع كون الغرض والنّظر إلى ذاتي الجزءين بحسب المتفاهم العرفي ، ففي الحالة الأولى لا محيص عن إثبات ذلك العنوان الثالث زائداً على ذاتي الجزءين فإذا لم تكن له حالة سابقة لم يجد الاستصحاب في ذاتي الجزءين لإثبات الموضوع المركب ، واما في الحالة الثانية فالعرف يلغي بحسب مقام الإثبات كل تلك الإضافات والعلاقات فيما هو موضوع للحكم لبّا وثبوتاً ويعتبرها مجرد وسائل لإناطة الحكم بذات الاجزاء ، وهذا فهم عرفي عام يحكم على جميع الموارد ، وبهذا ينحل الإشكال في المورد الأول والثالث. واما في المورد الثاني فيقال بأنَّ العرف حيث لا يرى الطهور عرضا لنفس الصلاة لعدم كونها محلاً له فهو يفهم التركيب بينهما بمعنى كون الصلاة في زمان يكون المكلف طاهراً ولا يفهم ارتباطاً آخر أكثر من ذلك بين الوصفين والعرضين ، ومن هنا يكون مقتضى مقام الإثبات هو التركيب في الموضوعات المركبة لا التقييد إلاّ إذا أخذ في لسان الدليل حيثية لها ما بإزاء موضوعي في الخارج بحيث احتمل العرف انَّ أخذها في الموضوع لدخالتها في الحكم لا لمجرد تجميع الاجزاء تصوراً وذهناً في مقام جعل الحكم على المركب.

وامّا النقطة الثالثة ـ فتوضيح الحال فيها انَّ الجزء الّذي يراد إجراء الاستصحاب فيه تارة يكون معلوم الثبوت سابقاً ويشك في بقائه إلى حين إجراء الاستصحاب ، وأخرى يكون معلوم الثبوت سابقاً ويعلم بارتفاعه فعلاً ولكن يشك في بقائه في فترة سابقة هي فترة تواجد الجزء الآخر من الموضوع ومثاله الحكم بانفعال الماء فانَّ موضوعه مركب من ملاقاة النجس للماء وعدم كريته فنفترض انَّ الماء كان مسبوقاً بعدم الكرية ويعلم الآن بتبدل هذا العدم وصيرورته كرّاً ولكن يحتمل بقاء عدم الكرية في فترة سابقة هي فترة حصول ملاقاة النجس لذلك الماء. ففي الحالة الأولى

٣٠٨

لا شك في توفر اليقين بالحدوث والشك في البقاء فيجري الاستصحاب.

وامّا في الحالة الثانية فقد يستشكل في جريان الاستصحاب في الجزء بدعوى عدم توفر الركن الثاني وهو الشك في البقاء لأنه معلوم الارتفاع فعلاً بحسب الفرض فكيف يجري استصحابه؟

وقد اتجه المحققون في دفع هذا الاستشكال إلى التمييز بين الزمان في نفسه والزمان النسبي أي زمان الجزء الآخر فيقال : انَّ الجزء المراد استصحابه إذا لو حظ حاله في عمود الزمان المتصل إلى الآن فهو غير محتمل البقاء للعلم بارتفاعه فعلاً ، وإذا لوحظ حاله بالنسبة إلى زمان الجزء الآخر فقد يكون مشكوك البقاء إلى ذلك الزمان مثلاً عدم الكرية في المثال المذكور لا يحتمل بقاؤه إلى الآن ولكن يشك في بقائه إلى حين وقوع الملاقاة فيجري استصحابه إلى زمان وقوعها.

وتفصيل الكلام في ذلك : انه إذا كان زمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه ـ وهو عدم الكرية في المثال معلوماً وكان زمان تواجد الجزء الآخر ـ وهو الملاقاة في المثال ـ معلوماً أيضاً فلا شك لكي يجري الاستصحاب ، ولهذا لا بد أَن يفرض الجهل بكلا الزمانين أو بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه خاصة أو بزمان تواجد الجزء الاخر خاصة ، فهذه صور ثلاث للشك في تقدم أحد الحادثين وتأخره في الموضوعات المركبة.

وقد اختلف المحققون في حكم هذه الصور الثلاث إلى ثلاثة أقوال ، فذهب جماعة منهم السيد الأستاذ إلى جريان الاستصحاب في نفسه في الصور الثلاث وإذا وجد له معارض سقط بالمعارضة ، وذهب بعض المحققين إلى جريان الاستصحاب في صورتين هما صورة الجهل بالزمانين أو الجهل بزمان ارتفاع الجزء المراد استصحابه وعدم جريانه في صورة العلم بزمان الارتفاع. وذهب صاحب الكفاية إلى جريان الاستصحاب في صورة واحدة وهي صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان تواجد الجزء الآخر ، واما في صورتي الجهل بكلا الزمانين أو العلم بزمان الارتفاع فلا يجري الاستصحاب فهذه أقوال ثلاثة :

اما القول الأول ـ فقد علّله أصحابه بما أشرنا إليه آنفاً من انَّ بقاء الجزء المراد استصحابه إلى زمان تواجد الجزء الآخر مشكوك حتى لو لم يكن هناك شك في بقائه إذا لو حظت قطعات الزمان بما هي ، كما إذا كان زمان الارتفاع معلوماً ويكفي في

٣٠٩

جريان الاستصحاب تحقق الشك في البقاء بلحاظ الزمان النسبي لأنَّ الأثر الشرعي مترتب على وجوده في زمان وجود الجزء الآخر لا على وجوده في ساعة كذا بعنوانها.

ونلاحظ على هذا القول : انَّ زمان ارتفاع عدم الكرية في المثال إذا كان معلوماً فلا يمكن إجراء استصحاب عدم الكرية إلى زمان الملاقاة لأنَّ الحكم الشرعي اما أَن يكون مترتباً على عدم الكرية في زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة أو على عدم الكرية في واقع زمان الملاقاة بمعنى انَّ كلا الجزءين لو حظا في زمان واحد دون أَن يقيد أحدهما بزمان الآخر بعنوانه ، فعلى الأول لا يجري استصحاب بقاء الجزء في جميع الصور لأنه يفترض تقيده بزمان الجزء الآخر بهذا العنوان وهذا التقيد لا يثبت بالاستصحاب وقد شرطنا منذ البداية في جريان استصحاب الجزء في الموضوعات المركبة عدم أخذ التقيد بين اجزائها في موضوع الحكم ، وعلى الثاني لا يجري استصحاب بقاء الجزء فيما إذا كان زمان الارتفاع معلوماً ولنفرضه الزوال مثلاً لأنَّ استصحاب بقائه إلى زمان وجود الملاقاة ـ التي هي الجزء الآخر في المثال ـ إن أُريد به استصحاب بقائه إلى زمان وجود المعنون بأنه زمان الملاقاة بما هو زمان الملاقاة فهذا الزمان بهذا العنوان وان كان يشك في بقاء عدم الكرية إلى حينه ولكن المفروض انه لم يؤخذ عدم الكرية في موضوع الحكم مقيداً بالوقوع في زمان الجزء الآخر بما هو كذلك ، وان أُريد به استصحاب بقائه إلى واقع زمان الملاقاة على نحو يكون قولنا ( زمان الملاقاة ) مجرد مشير إلى واقع ذلك الزمان فهذا هو موضوع الحكم ولكن واقع هذا الزمان يحتمل أَن يكون هو الزوال للتردد في زمان الملاقاة والزوال زمان يعلم فيه بارتفاع عدم الكرية فلا يقين اذن بثبوت الشك في البقاء في الزمان الّذي يراد جر المستصحب إليه أي لا يحرز كونه من نقض اليقين بالشك بل لعله من نقض اليقين باليقين وهذا يعني انه شبهة مصداقية لدليل الاستصحاب نظير ما تقدم في وجه المنع عن جريان الاستصحاب في الفرد المردد (١).

وعلى هذا الضوء نعرف انَّ ما ذهب إليه القول الثاني من عدم جريان استصحاب بقاء الجزء في صورة العلم بزمان ارتفاعه هو الصحيح بالبيان الّذي حققناه.

__________________

(١) ولعل هذا هو مقصود المحقق العراقي من بيان له في تقريرات بحثه وان كانت العبارة توحي بغير ذلك فراجع نهاية الأفكار ، القسم الأول من الجزء الرابع ، ص ٢٠٦.

٣١٠

إلاّ انَّ هذا البيان يجري بنفسه أيضاً في بعض صور مجهولي التاريخ ولا يختص بمعلوم التاريخ ، وذلك فيما إذا كان زمان التردد بين الحادثين متطابقاً كما إذا كانت الملاقاة مرددة بين الساعة الواحدة والثانية وكذلك ارتفاع عدم الكرية بحدوثها ، فانَّ هذا يعني انَّ ارتفاع عدم الكرية بحدوث الكرية مردد بين الساعة الأولى والثانية ولازم ذلك أَن تكون الكرية معلومة في الساعة الثانية على كل حال وانما يشك في حدوثها وعدمه في الساعة الأولى ، ويعني أيضاً انَّ الملاقاة متواجدة اما في الساعة الأولى أو في الساعة الثانية ، فإذا استصحب عدم الكريّة إلى واقع زمان تواجد الملاقاة فلعل هذا الواقع هو الساعة الثانية التي يعلم فيها بالكرية وانتفاض عدمها فيكون من نقض اليقين باليقين لا بالشك.

ومن هنا يتبين انَّ ما ذهب إليه القول الثالث من عدم جريان استصحاب بقاء عدم الكرية في صورة الجهل بالزمانين وصورة العلم بزمان ارتفاع هذا العدم هو الصحيح. وامّا صورة الجهل بزمان الارتفاع مع العلم بزمان الملاقاة فلا بأس بجريان استصحاب عدم الكرية فيها إلى واقع زمان الملاقاة إذ لا علم بارتفاع هذا العدم في واقع هذا الزمان جزماً.

هذا ولكننا نختلف عن القول الثالث في انا نرى جريان استصحاب عدم الكرية في مجهولي التاريخ مع افتراض ان فترة تردد زمان الارتفاع أوسع من فترة تردد حدوث الملاقاة في المثال المذكور ، فإذا كانت الملاقاة مرددة بين الساعة الأولى والثانية وكان تبدل عدم الكرية بالكرية مردداً بين الساعات الأولى والثانية والثالثة ، فلا محذور في إجراء استصحاب عدم الكرية إلى واقع زمان الملاقاة لأنه على أبعد تقدير يكون هو الساعة الثانية ولا علم بالارتفاع في هذه الساعة لاحتمال حدوث الكرية في الساعة الثالثة فليس من المحتمل أَن يكون جر بقاء الجزء إلى واقع زمان الجزء الآخر جرّاً له إلى زمان اليقين بارتفاعه أبداً فلا يحتمل فيه أَن يكون من نقض اليقين باليقين.

والحاصل : انَّ الاستصحاب في الجزء المجهول انما يجري فيما إذا كان دائرة التردد فيه أوسع من الآخر بحيث يحتمل تأخره عنه لا ما إذا كان مساوياً أو أضيق منه وإلاّ كان من احتمال انتقاض اليقين باليقين. وهذا هو معيار عدم جريان الاستصحاب وضابطه الفني حتى في معلوم التاريخ بلحاظ مجهول التاريخ لأنَّ معلوم التاريخ هو

٣١١

الأضيق دائرة ومجهول التاريخ هو الأوسع فلا يجري استصحاب عدم معلوم التاريخ إلى واقع زمان مجهول التاريخ.

لا يقال : انَّ الشك في انتقاض اليقين باليقين غير معقول لأنَّ اليقين والشك امران وجدانيان حاضران لدى النّفس فلا معنى للشك فيهما إلاّ في حالات الوسوسة والخروج عن المتعارف.

فانه يقال : هذا خلط بين المتيقن والمشكوك بالذات والمتيقن والمشكوك بالعرض ، فانَّ الّذي لا يعقل الشك فيه انما هو انتقاض العنوان الّذي تعلق به اليقين والشك حقيقة وذاتاً وامّا مطابقه الخارجي أي المعلوم بالعرض فيعقل الشك فيه ، وذلك فيما إذا كان هناك عنوانان وكان الحكم بلحاظ أحد العنوانين معلوماً وبلحاظ العنوان الآخر مشكوكاً لاحتمال انطباق ذلك العنوان الأول عليه وعدمه ، كما إذا علم بموت ابن زيد وشك في موت أبو عمرو من باب احتمال أَن يكون أبو عمرو هذا بنفسه المكنى بابن زيد فانه هنا وان كان المتيقن بالذات وهو عنوان ابن زيد غير المشكوك بالذات وهو أبو عمرو قطعاً إلاّ انَّه بلحاظ المتيقن والمشكوك بالعرض يشك في وحدتهما لا محالة فكذلك المقام بعد أَن كان الميزان واقع الزمان أي الزمان الحقيقي لا الإضافي النسبي.

شبهة انفصال زمان اليقين عن الشك :

بقي علينا أَن نشير إلى انَّ ما اخترناه وان كان قريباً جداً من القول الثالث الّذي ذهب إليه صاحب الكفاية ( قده ) غير انه قد فسّر موقفه واستدل عليه بتعبير آخر حاصله : انَّ الاستصحاب لا يجري في مجهولي التاريخ لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

وقد اختلف المفسرون والمحققون في تفسير هذا الكلام ، فيكون في كلامه احتمالات وتفسيرات.

أحدها ـ ما نحتمله نحن من أَن يكون مقصوده ما ذكرناه من احتمال نقض اليقين باليقين رغم انَّ عبائره لا تطابق ذلك ، كما انه بناء عليه كان ينبغي التفصيل في مجهولي التاريخ بين الحالتين اللتين فصلنا بينهما.

٣١٢

الثاني ـ انّا إذا افترضنا العلم إجمالاً بحدوث الملاقاة في أحد الزمانين ـ الساعة الأولى أو الثانية بعد الزوال مثلاً ـ وعلمنا بحدوث الكرية في الزمان الآخر مع الشك في المتقدم منهما والمتأخر فهناك معلومان إجماليان يعلم بتحقق أحدهما في إحدى الساعتين وتحقق الآخر في الساعة الأخرى ، وحينئذ استصحاب عدم الكرية مثلاً إلى حين الملاقاة إن كانت الملاقاة في الساعة الأولى فهذا لا محذور فيه لأنَّ الساعة الأولى متصل بالزوال الّذي هو زمان اليقين بعدم الكرية فيكون زمان الشك وهو الساعة الأولى متصلاً بزمان اليقين ، وامّا إذا كانت الملاقاة في الساعة الثانية كان معناه انَّ زمان الشك الّذي يراد جر عدم الكرية إليه بالاستصحاب هو الساعة الثانية وزمان اليقين بعدم الكرية هو الزوال وامّا الساعة الأولى فهي زمان الكرية المعلومة إجمالاً وهذا يؤدي إلى انفصال زمان اليقين بعدم الكرية عن زمان الشك فيه بزمان اليقين بالكرية وما دام هذا التقدير محتملاً فلا يجري الاستصحاب ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين على كل تقدير ، ومنه يظهر جريان هذا البيان حتى إذا احتمل التقارن بين الحادثين أيضاً.

ونلاحظ على ذلك :

أولاً ـ انَّ الساعة الأولى على هذا التقدير هي زمان الكرية واقعاً لا زمان الكرية المعلومة بما هي معلومة ، لأن العلم بالكرية كان على نحو العلم الإجمالي من ناحية الزمان وهو علم بالجامع فلا احتمال للانفصال إطلاقاً ، بل حتى إذا افترضنا العلم الإجمالي علماً بالواقع فلا بد من افتراض مجامعته مع الشك في كل من الأطراف وإلاّ لكان علماً تفصيلاً ويكفي في الاستصحاب هذا الشك ، ولهذا يرى صاحب الكفاية جريان الاستصحابين الإلزاميين في طرفي العلم الإجمالي بالترخيص ولا يرى انَّ ذلك من نقض اليقين باليقين خلافاً للشيخ الأعظم ( قده ).

وثانياً ـ انَّ البيان المذكور لو تم لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرية حتى في الصورة التي اختار صاحب الكفاية جريان الاستصحاب فيها وهي صورة الجهل بزمان حدوث الكرية مع العلم بزمان الملاقاة وانه الساعة الثانية مثلاً وشك في انَّ الكرية حدثت قبل الملاقاة أو بعدها ، فان استصحاب عدم الكرية إلى حين الملاقاة أيضاً

٣١٣

يحتمل فيه انفصال زمان اليقين عن الشك لأنَّ الكرية معلومة إجمالاً في هذه الصورة أيضاً ويحتمل انطباقها على الساعة الأولى فإذا كان انطباق الكرية المعلومة بالإجمال على زمان يوجب تعذر استصحاب عدم الكرية إلى ما بعد ذلك الزمان جرى ذلك في هذه الصورة أيضاً وتعذر استصحاب عدم الكرية إلى الساعة الثانية لاحتمال الفصل بين زمان اليقين وزمان الشك بزمان العلم بالكرية ، بل يرد النقض بالاستصحاب في كل مورد علم بانتقاض الحالة السابقة المراد استصحابها الآن ولكن شك في انتقاضها بلحاظ زمن سابق فأُريد إثباتها فيه بالاستصحاب لثبوت هذا العلم الإجمالي بالانتقاض في أحد الزمانين فيه أيضاً.

الثالث ـ وهو أكثر انسجاماً مع عبائر صاحب الكفاية ( قده ) : انَّ ظرف اليقين بعدم الكرية في المثال السابق هو الزوال وظرف الشك مردد بين الساعة الأولى بعد الزوال والساعة الثانية ، لأنَّ عدم الكرية له اعتباران فتارة نأخذه بما هو مقيس إلى قطعات الزمان وبصورة مستقلة عن الملاقاة ، وأخرى نأخذه بما هو مقيس إلى زمان الملاقاة ومقيد به ، فإذا أخذناه بالاعتبار الأول وجدنا انَّ الشك فيه موجود في الساعة الأولى وهي متصلة بزمان اليقين مباشرة فبالإمكان أَن نستصحب عدم الكرية إلى نهاية الساعة الأولى ، ولكن هذا لا يفيدنا شيئا لأنَّ الحكم الشرعي وهو انفعال الماء ليس مترتباً على مجرد عدم الكرية بل على عدم الكرية في زمان الملاقاة ، وإذا أخذنا عدم الكرية بالاعتبار الثاني أي مقيساً ومنسوباً إلى زمان الملاقاة فمن الواضح انَّ الشك فيه انما يكون في زمان الملاقاة إذ لا يمكن الشك قبل زمان الملاقاة في عدم الكرية المنسوب إلى زمان الملاقاة وإذا تحقق انَّ زمان الملاقاة هو زمان الشك ترتب على ذلك انَّ زمان الشك مردد بين الساعة الأولى والساعة الثانية تبعاً لتردد نفس زمان الملاقاة بين الساعتين وهذا يعني عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين لأنَّ زمان اليقين هو الزوال وزمان الشك محتمل الانطباق على الساعة الثانية ومع انطباقه عليها يكون مفصولاً عن زمان اليقين بالساعة الأولى.

ونلاحظ على ذلك :

أولاً ـ انَّ الأثر الشرعي إذا كان مترتباً على عدم الكرية المقيد بالملاقاة أي على

٣١٤

اجتماع أحدهما بالآخر فقد يتبادر إلى الذهن انَّ الشك في هذا العدم المقيد بالملاقاة لا يكون الا في زمان الملاقاة ، وامّا الشك قبل زمان الملاقاة في عدم الكرية فهو ليس شكّا في عدم الكرية المقيد بالملاقاة ، ولكن الصحيح انَّ الأثر الشرعي مترتب على عدم الكرية والملاقاة بنحو التركيب بدون أخذ التقيد والاجتماع وإلاّ لما جرى استصحاب عدم الكرية رأساً كما تقدم ، وهذا يعني انَّ عدم الكرية بذاته جزء الموضوع لا فرق في ذلك بين ما كان منه في زمان الملاقاة أو قبل زمانها غير انه في زمانها يكون الجزء الآخر موجوداً أيضاً ، وعليه فعدم الكرية مشكوك منذ الزوال وإلى زمان الملاقاة وان كان الأثر الشرعي لا يترتب فعلاً إلاّ إذا استمر هذا العدم إلى زمان الملاقاة فيجري استصحاب عدم الكرية من حين ابتداء الشك في ذلك الزمان الواقعي للملاقاة ، وبهذا نثبت بالاستصحاب عدما للكرية متصلاً بالعدم المتيقن وان كان الأثر الشرعي لا يترتب على هذا العدم الا في مرحلة زمنية معينة قد تكون متأخرة عن زمان اليقين فانَّ المناط اتصال المشكوك الّذي يراد إثباته استصحاباً بالمتيقن لا اتصال فترة ترتب الأثر بالمتيقن ، فإذا كنت على يقين من اجتهاد زيد فجراً وشككت في بقاء اجتهاده بعد طلوع الشمس ولم يكن الأثر الشرعي مترتباً على اجتهاده عند الطلوع إذ لم يكن عادلاً وانما أصبح عادلاً بعد ساعتين أفلا يجري استصحاب الاجتهاد إلى ساعتين بعد طلوع الشمس؟ فكذلك في المقام.

ثانياً ـ انَّ ما ذكر لو تمّ لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرية فيما إذا كان زمان حدوثها مجهولاً مع العلم بتاريخ الملاقاة لأنه يواجه نفس الشبهة الآنفة الذّكر ، لأنَّ الشك في عدم الكرية المنسوب إلى زمان الملاقاة انما هو في زمان الملاقاة بحسب تصور هذه الشبهة أي بعد ساعة من الزوال مع انَّ زمان اليقين بعدم الكرية هو الزوال.

ثم انَّ السيد الأستاذ قد أورد على صاحب الكفاية ( قده ) اعتراضين آخرين :

الأول ـ ما أشرنا إليه من دعوى انَّ الشك في انتقاض اليقين باليقين غير معقول لأنَّ اليقين والشك من الوجدانيات.

وهذا الكلام كما عرفت غير وارد لا على البيان الّذي تقدم منّا ولا على المحقق الخراسانيّ ( قده ) امّا الأول فلما تقدم من انَّ المنظور إليه المتيقن والمشكوك بالعرض لا بالذات ، وامّا الثاني فلأنَّ المفروض عند من يجعل العلم الإجمالي متعلقاً بالواقع

٣١٥

إمكان اجتماعه مع الشك على مصب واحد وإلاّ لانقلب إلى العلم التفصيليّ (١).

الثاني ـ انه لا دليل على اشتراط اتصال زمان اليقين بالشك بل يمكن أَن يكون زمان اليقين نفس زمان الشك كما إذا حصلا في آن واحد.

وهذا الاعتراض مبني على تصور انَّ المحقق الخراسانيّ يريد اتصال زمان نفس اليقين والشك مع انه يقصد اتصال زمان المتيقن بالمشكوك ، والتعبير عنهما باليقين والشك متعارف ، والقرينة على إرادته ذلك انه عبر في وجه عدم جريان الاستصحاب بلزوم عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين بانفصاله عنه بحدوثه ، واتصال زمان المتيقن بالمشكوك ليس شرطاً جديداً بل هو مستبطن في شرطية صدق نقض اليقين بالشك لا باليقين.

نعم هذا الاعتراض يمكن إيراده على كلام يذكره المحقق النائيني ( قده ) لا ربط له بهذا البحث رغم التشابه الاسمي ، وكان الأجدر ذكره كتنبيه مستقل والتعليق عليه ، وحاصله :

انّا إذا علمنا عند الزوال مثلاً بنجاسة إناءين ثم علمنا إجمالاً بطهارة أحدهما فحصول هذا العلم الإجمالي يتصور بأحد أنحاء :

١ ـ أَن يفترض العلم بطهارة أحدهما المعين كإناء زيد مثلاً ثم اختلط بالآخر فتكون علم إجمالي.

٢ ـ أَن يفترض العلم بأنَّ زيدا غسل إناءه ولكنا لا ندري أيهما لزيد فحصل علم إجمالي بطهارة أحدهما.

٣ ـ أن يحصل العلم الإجمالي بالطهارة ابتداءً وبلا توسط علم بعنوان تفصيلي كما إذا أخبرنا صادق بطهارة أحدهما.

ففي الفرض الثالث لا توجد شبهة انفصال زمان اليقين عن زمان الشك بل كل إناء نشير إليه نقول بأنا كنّا نعلم بنجاسته عند الزوال وبعد الزوال حصل الشك في

__________________

(١) يمكن توجيه هذا الاعتراض وتأويله بنحو يكون وارداً على المحقق الخراسانيّ ، وذلك بأَن يكون المقصود انَّ مجرد العلم بما يكون نقيضاً واقعاً للمعلوم السابق لا يكفي في صدق انتقاض اليقين باليقين بل لا بدَّ في صدقه من العلم بأنَّ متعلق هذا اليقين ناقض لمتعلق اليقين الآخر بحسب مطابقه الخارجي ، وامَّا مجرد احتمال ذلك فلا يمنع من صدق نقض اليقين بالشك ، وهذا الإيراد صحيح وسوف يأتي وروده على المحقق الخراسانيّ ( قده ).

٣١٦

بقاء نجاسته وعدمه ، وهو شك مسبب عن العلم الإجمالي الحاصل بطهارة أحدهما فيجري الاستصحاب فيه لو لا محذور آخر غير مربوط بهذا البحث.

وامّا في الفرض الأول فلا يجري الاستصحاب ، لأنا وان كنّا نعلم بالنجاسة في كل منهما عند الزوال ونشك في نجاسته الآن إلاّ انه قد تخلل في البين اليقين بطهارة واحد منهما تفصيلاً وبعد ذلك حصل الشك لأجل الاختلاط فلعل هذا الفرد هو الّذي تيقنت بطهارته ، وعلى هذا التقدير يكون قد انفصل زمان يقيني بالنجاسة عن زمان الشك باليقين بالطهارة فلا يحرز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.

وامَّا الفرض الثاني فهو من ناحية يشبه الفرض الثالث لعدم تشخيص إناء زيد ، ومن ناحية يشبه الفرض الأول للعلم بطهارة إناء زيد ، ثم رجح إلحاقه بالفرض الأول لتوسط العلم بطهارة إناء زيد فلو كان المستصحب نجاسته إناء زيد واقعاً فقد انتقض اليقين فيه باليقين لا بالشك.

وهذا الكلام يرد عليه : أولا ـ ما ذكره السيد الأستاذ من عدم الدليل على اشتراط اتصال زماني في نفس اليقين والشك كشرط جديد زائداً على صدق نقض اليقين بالشك وهو حاصل في المقام ، فانَّ كل إناء نشير إليه يشك في بقاء نجاسته الثابتة في حقه عند الزوال ، والعلم التفصيليّ بطهارة إناء زيد المشتبه ليس إلاّ منشأ للشك في بقاء نجاسة شخص هذا الإناء وزواله فيجري الاستصحاب في واقع الإناء بلا محذور.

وثانياً ـ لو سلمنا وجود دليل على هذه الشرطية فالمفروض إلحاق الفرضية الثانية بالثالثة لا بالأولى ، لأنَّ اليقين بطهارة إناء زيد قد تعلق بطهارة هذا العنوان الإجمالي الّذي يجتمع مع الشك في كل من الإناءين فلم ينفصل زمان اليقين بالنجاسة عن زمان الشك في كل منهما إطلاقاً.

وهكذا يتلخص من مجموع ما تقدم انَّ الاستصحاب في جزئي الموضوع الحادثين الّذي يشك في المتقدم منهما والمتأخر يجري في مجهول التاريخ بلحاظ زمان الآخر إذا كان معلوماً أو أضيق دائرة منه ولا يجري في الآخر بلحاظ الأول.

ثم انَّ هذا الّذي ذكرناه انَّما هو في كبرى استصحاب بقاء الجزء إلى حين تحقق الجزء الآخر لترتيب أثر الموضوع المركب كاستصحاب عدم الكرية ـ القلة ـ إلى حين الملاقاة لإثبات الانفعال بالنجاسة. وقد يستصحب عدم الجزء الآخر كالملاقاة إلى

٣١٧

حين انتفاء الجزء الأول وهو القلّة لنفي ذلك الأثر بنفي موضوعه فيجعل ذلك معارضاً مع الاستصحاب الأول.

ونلاحظ على هذا الاستصحاب :

أولا ـ ما تقدم من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ بالنسبة إلى زمان المجعول ولا في مجهول التاريخ بالنسبة إلى زمان المجهول الآخر إذا كانت دائرة التردد في الآخر مساوياً أو أضيق منه. وهذا يعني انه لا يمكن أَن يجري الاستصحابان المثبت والنافي معاً ، إذ لو فرض انَّ زمان أحد الجزءين من الملاقاة وعدم الكريّة معلوماً فلا يجري الاستصحاب في المعلوم إثباتاً أو نفياً ، وان كانا معاً مجهولين فامّا أَن تكون دائرة التردد في أحدهما أضيق من الآخر أو يكونا متساويين ففي الأول لا يجري الاستصحاب إلاّ فيما تكون دائرة التردد فيه أضيق بالنسبة إلى زمان الأوسع دون العكس ، وفي الثاني لا يجري الاستصحاب فيهما معاً. نعم فرضية التعارض تكون معقولة على أحد القولين الأول أو الثاني من الأقوال الثلاثة المتقدمة ، وقد عرفت عدم تماميتهما.

وثانياً ـ انَّ استصحاب عدم أحد الجزءين ـ وهو الملاقاة في المثال ـ إلى حين انتفاء الجزء الآخر ـ وهو القلّة أو عدم الكرية ـ لا يجري في نفسه حتى على القولين الآخرين لأنه مثبت. وهذه نكتة دقيقة ربما يغفل عنها.

توضيح ذلك : انَّ هناك فرقاً بين استصحاب جزء الموضوع المركب إلى حين تحقق جزؤه الاخر لترتيب الأثر المرتب على ذلك المركب وبين استصحاب عدم ذلك الجزء إلى حين انتفاء جزئه الآخر لنفي حكمه ، فانَّ الأول ليس مبتلى بإشكال الإثبات لأنه يحرز بحسب الحقيقة كلا جزئي موضوع الحكم أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد ، وامّا الثاني فهو مبتلى بإشكال المثبتية لأنَّ المطلوب فيه نفي الحكم بنفي موضوعه ، ومن الواضح انَّ موضوع الحكم انما هو تحقق صرف وجود الجزءين معاً وهذا لا ينفى بالاستصحاب المذكور إلاّ بالتعويل على الأصل المثبت ، لأنه ينفي بحسب الحقيقة تحقق فرد من الموضوع إلى زمان انتفاء الجزء الأول وبضمه إلى وجدانية انتفائه بعد ذلك لانتفاء الجزء الأول يراد إثبات انتفاء صرف الوجود ، وقد تقدم انَّ نفي الجامع

٣١٨

وصرف الوجود بنفي الفرد من الأصل المثبت ، ومن هنا لم يكن استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل نافياً لموضوع الحكم المرتب على الجامع.

نعم إذا كان الشك في تحقق صرف الوجود وعدمه كما إذا شك في أصل ملاقاة الماء القليل مع النجاسة جرى استصحاب عدم تحقق أصل الملاقاة وفي تمام الأزمنة إلى الوقت الحاضر بمعنى نفي صرف وجود الموضوع المركب رأساً لا حصة منه.

وعلى ضوء النكات الموضحة في هذا البحث لا بأس بالتعرض إلى التطبيق الفقهي المعروف لهذه المسألة الأصولية والّذي ينحل إلى مسألتين :

المسألة الأولى ـ الكر المسبوق بالقلّة إذا علم ملاقاته للنجاسة ولم يعلم السابق من الملاقاة أو الكريّة.

المسألة الثانية ـ القليل المسبوق بالكرية إذا علم بملاقاته للنجاسة ولم يعلم السابق من الملاقاة والقلّة.

امَّا المسألة الأولى ـ فقد عرفت على ضوء ما تقدم انه لا يجري استصحاب عدم الكرية ـ وهو أحد جزئي الموضوع ـ إلى حين الملاقاة إلاّ إذا كان زمان الملاقاة معلوماً وزمان الكرية مجهولاً أو كلاهما مجهولاً مع كون دائرة التردد في زمان الكرية أوسع منها في زمان الملاقاة فيجري الاستصحاب عندئذ وتثبت النجاسة لإحراز موضوعها المركب بضم التعبد إلى الوجدان وفي غير ذلك يحكم بالطهارة بالرجوع إلى الأصول الحكمية. ولا يعارض باستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة لنفي الانفعال لما تقدم من الوجهين آنفاً.

إلاّ انَّ للسيد الأستاذ اتجاهاً آخر للمنع عن جريان هذا الاستصحاب النافي من انه كلما ترتب حكم على موضوع مركب من جزءين وكان أحدهما معلوم الوجود سابقاً ولكن يشك في بقائه إلى حين وجود الجزء الآخر فيجري استصحاب بقائه إلى حين وجود الجزء الآخر وبذلك يحرز موضوع الحكم ما دام الموضوع مأخوذاً بنحو التركيب لا بنحو التقييد ولا يجري استصحاب عدم حدوث الجزء الآخر إلى حين ارتفاع الجزء الأول لكي يكون نافياً للحكم ومعارضاً للاستصحاب الأول ، وقد جاء في تقريرات أبحاثه الفقهية والأصولية وجهان لإثبات هذا المدعى.

أحدهما ـ نقضي ، وهو انَّ لازم جريان استصحاب عدم الجزء الآخر إلى حين

٣١٩

ارتفاع الجزء الأول ومعارضته لاستصحاب بقاء الأول إلى حين وجود الآخر إيقاع المعارضة بين الاستصحاب حتى في مورد صحيحة زرارة وهو الشك في بقاء الطهارة إلى حين الصلاة إذ يعارض استصحاب بقائها إلى حين الصلاة باستصحاب عدم وقوع الصلاة في زمان وجود الطهارة.

ثانيهما ـ حلي وهو انَّ المفروض انَّ الحكم مترتب على ذات الجزءين أي على وجودهما في زمان دون أَن يؤخذ في الموضوع عنوان التقييد ومعه فباستصحاب أحد الجزءين إلى زمان وجدانية وجود الجزء الآخر في ذلك الزمان نحرز موضوع الحكم ، وامَّا استصحاب عدم الجزء الآخر في زمان الجزء الأول فلا يجري لأنَّ الأثر غير مترتب على وجود الجزء الآخر المقيد بأَن يكون في زمان الجزء الأول بل على ذات الجزءين فما يستصحب عدمه إن كان ذات الجزء الآخر فهو غير معقول للقطع بوجوده ، وان كان المستصحب عدم وجوده المقيد ـ بان يكون في زمان الجزء الأول ـ فهذا ليس موضوعاً للحكم الشرعي لأنَّ المفروض انَّ موضوع الحكم الشرعي أخذ بنحو التركيب لا بنحو التقييد (١).

ويلاحظ على هذا الاتجاه :

امّا فيما يتعلق بالوجه النقضي : فلأنَّ زرارة في مورد الرواية لو كان قد فرض وقوع صلاة وحدث مجهولي التاريخ ومع هذا أجرى الإمام له استصحاب عدم الحدث إلى حين الصلاة ولم يجر استصحاب عدم الصلاة إلى حين الحدث لكان نظير ما نفرضه في المقام من حدوث كريّة وملاقاة مجهولين في تاريخهما فيجري استصحاب عدم الكرية إلى حين الملاقاة على حد استصحاب عدم الحدث إلى حين الصلاة ولا يعارض باستصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكريّة كما لا يعارض استصحاب عدم الحدث باستصحاب عدم الصلاة إلى حين الحدث ، غير انَّ زرارة لم يفرض حدثاً وصلاة مجهولي التاريخ بل الصلاة في مورد الرواية معلومة التاريخ في عمود الزمان وانما يشك في بقاء عدم الحدث إلى حينها ، فهو من قبيل ما إذا كانت الملاقاة معلومة التاريخ ويشك في

__________________

(١) راجع التنقيح ، الجزء الأول ، ص ٢١٠ ـ ٢١١ ، ومصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٢٠٣ ـ ٢٠٥

٣٢٠