بحوث في علم الأصول - ج ٦

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

ومنها ـ لو فرض أخذ الوحدة فلا إشكال في انه لم يؤخذ بذكر كلمة الوحدة وانما يراد استفادة ذلك من حذف المتعلق ومن الواضح ان حذف المتعلق لا يدل على أكثر من لزوم الوحدة العرفية فانها تكفي لتبرير حذف المتعلق الّذي هو أسلوب عرفي لإفادة لزوم وحدة المتعلق.

ومنها ـ إمكان دعوى توسعة مفهوم الوحدة عرفا لما يشمل الواحد في النّظر العرفي فان الأنظار العرفية التطبيقة يمكن ان تكون بدرجة من الرسوخ بحيث تؤثر على المفهوم ، نظير ما يقال من أخذ كم معين في صدق مفهوم الدم فما يرى بالمجهر من جزئيات الدم لا يكون دما عرفا بمعنى ان المفهوم لا يشمله حقيقة.

منها ـ ان المسامحة العرفية إذا كانت مما تخفي على العرف وتفوته غالبا بحيث لا يمكن التفاته إلى أنها مسامحة وان فرض عدم سرايتها إلى المفهوم الا انها تؤثر في فهم المقصود من الكلام وتشكيل الدلالة التصديقية الحالية التي هي الحجة نظير القرائن الحالية والارتكازية التي تكتنف بالألفاظ فتوسع أو تضيق فيما هو المراد منها رغم عدم تأثيرها على المدلول الوضعي اللغوي (١).

ومنها ـ ان المسامحة العرفية توجب انعقاد إطلاق مقامي للخطاب في التحويل والاعتماد على النّظر العرفي والا كان لا بد عليه ان ينبه إلى ذلك ويلفت إلى ما هو مقصوده لكي لا ينساق العرف مع نظره ، نعم هذا يتوقف على ان لا يكون موارد الغفلة والمسامحة العرفية نادرة وقليلة والا لما انعقد الإطلاق المقامي.

ثم انه بما ذكرنا يتضح أيضا حال استصحاب الحكم الجزئي أي في الشبهات الموضوعية عند عدم جريان الاستصحاب الموضوعي فانه كلما كانت الحيثية المشكوك في وجودها خارجا حيثية مقومة للحكم بحيث لو كان يشك في دخالتها بقاء لم يكن يجري الاستصحاب الحكمي فكذلك لا يجري استصحاب الحكم الجزئي لتغير الموضوع والا جرى الاستصحاب في الحكم الجزئي. فما عن السيد الأستاذ من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الجزئية لعدم إحراز بقاء

__________________

(١) هذا الوجه يختص بما إذا كانت المسامحة ملازمة مع أصل المفاد كما إذا كان الخطاب واردا في موردها ولا يتم فيما إذا كانت تلك المسامحة في مورد إطلاق لما هو مفاد الدليل كما هو كذلك في المقام فتأمل جيدا

١٢١

الموضوع واتحاد القضيتين المتيقنة والمشكوكة على إطلاقه في غير محله (١).

واما الركن الرابع للاستصحاب وهو وجود الأثر العملي المصحح لجريانه فمستنده ان الاستصحاب حكم ظاهري فلا بد من انتهائه إلى أثر عملي والا كان لغوا. هذا ولكن هذا الركن يمكن بيانه بإحدى صيغ ثلاث تختلف في بعض النتائج والثمرات :

الصيغة الأولى ـ ما ذكرناه من ان الاستصحاب يتقوم بلزوم انتهاء التعبد فيه إلى أثر عملي إذ لو لم يترتب على التعبد الاستصحابي أي أثر عملي كان لغوا ومدرك هذا التقييد قرينة الحكمة التي تصرف إطلاق دليل الاستصحاب عن مثل ذلك.

وهذه الصياغة لهذا الركن تعني المحافظة على إطلاق دليل حجية الاستصحاب بأوسع ما يمكن حيث تسمح بجريان الاستصحاب حينئذ حتى فيما إذا لم يكن المستصحب أثرا شرعيا ولا ذا أثر شرعي أو قابلا للتنجيز والتعذير بوجه من الوجوه على شرط ان يكون لنفس التعبد الاستصحابي به أثر يخرجه عن اللغوية ، كما إذا أخذ القطع بموضوع خارجي لا حكم له تمام الموضوع لحكم شرعي وقلنا بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي باعتبار جعل الطريقية له فانه بالإمكان حينئذ جريان الاستصحاب لترتيب حكم القطع وان لم يكن للمستصحب أثر وهذا معنى إمكان قيامه مقام القطع الموضوعي دون الطريقي في بعض الموارد.

الصيغة الثانية ـ ان الاستصحاب يتقوم بان يكون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير ولا يكفي مجرد ترتب الأثر على نفس التعبد الاستصحابي ولا فرق في قابلية المستصحب للمنجزية والمعذرية بين ان يكون ذلك باعتباره حكما شرعيا أو عدم حكم شرعي أو موضوعا لحكم أو دخيلا في متعلق الحكم كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب مثلا إثباتا ونفيا. ومدرك هذه الصيغة التي هي أضيق من الصيغة السابقة استظهار ذلك من نفس دليل الاستصحاب لأن مفاده النهي عن نقض اليقين بالشك والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي لأنه واقع لا محالة ولا معنى للنهي عنه وانما هو النقض العملي ، وفرض النقض العملي لليقين هو

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٢٣٢

١٢٢

فرض ان اليقين بحسب طبعه له اقتضاء عملي لينقض عملا والاقتضاء العملي لليقين انما يكون بلحاظ كاشفيته ، وهذا يفترض ان يكون اليقين متعلق بما هو صالح للتنجيز والتعذير لكي يشمله إطلاق دليل الاستصحاب ، وهذا البيان يتوقف على استظهار إرادة النقض العملي من النقض ولو بقرينة تعلق النهي به ولا يتم إذا استظهرنا إرادة النقض الحقيقي مع حمل النهي على كونه إرشادا إلى عدم إمكان ذلك بحسب عالم الاعتبار ، فان المولى قد ينهى عن شيء إرشادا إلى عدم القدرة عليه كما يقال في ( دعي الصلاة أيام أقرائك ) غاية الأمر ان الصلاة غير مقدور للحائض حقيقة والنقض غير مقدور للمكلف ادعاء واعتبارا لتعبد الشارع ببقاء اليقين السابق. وبناء على هذا الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل الطريقية ولا يلزم في تطبيقه على مورد تصوير النقض العملي والاقتضاء العملي وسوف يأتي مزيد توضيح لهذا البحث غير انه يكفي لتعيين الصيغة الثانية في مقابل الأولى إجمال الدليل وتردده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقن منه وهو الصيغة الثانية.

الصيغة الثالثة ـ ان الاستصحاب متقوم بان يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي وهذه أضيق من السابقتين كما هو واضح ، وبناء عليه يقع الإشكال في كيفية جريان الاستصحاب في متعلق الأوامر كاستصحاب الطهارة الشرط في الصلاة لأن قيد الواجب ليس حكما شرعيا ولا موضوعا يترتب عليه حكم شرعي إذ الوجوب يترتب على موضوعه لا متعلقه ، ومن هنا حاول البعض دفع الإشكال بناء على هذه الصيغة كما تقدم بان المتعلق مسقط للأمر فهو موضوع لعدمه فيجري استصحابه لإثبات عدم الأمر وسقوطه ، وهو متوقف على توسعة المقصود من الحكم الشرعي بجعله شاملا لعدم الحكم أيضا ، وعلى التسليم بكبرى ان وجود المتعلق تسقط فعلية الأمر لا فاعليته.

والأولى في دفع الإشكال رفض أصل هذه الصيغة ، إذ لو كان مستنده ان المستصحب لا بد وان يكون مربوطا بالشارع فمن الواضح ان كل ما ينتهي فيه إلى التنجيز والتعذير يكون مربوطا بالشارع ويعقل فيه التعبد ومنه وقوع الامتثال إثباتا أو نفيا ، وان كان مستنده ان مفاد الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهرا فلا بد ان

١٢٣

يكون المستصحب حكما أو موضوعا له ليعقل جعل مماثله فهذا المبنى لا مأخذ له في نفسه وليس لسان دليل الاستصحاب ظاهرا في ذلك ، بل كما عرفت لسان النهي عن النقض الظاهر في النقض العملي وهو شامل لكل ما يعقل فيه التنجيز والتعذير عملا.

١٢٤

الاستصحاب

الأقوال في حجية الاستصحاب

١ ـ التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية.

٢ ـ التفصيل بين كون المستصحب ثابتا بالدليل العقلي أو الشرعي.

٣ ـ التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع.

١٢٥
١٢٦

الفصل الثاني

« الأقوال في الاستصحاب »

وقع البحث لدى المحققين في مقدار ما يمكن ان يستفاد على ضوء الأدلة المتقدمة من حجية الاستصحاب فذهب المشهور إلى استفادة حجيته مطلقا ، وذهب آخرون إلى التفصيل بين بعض الموارد وبعض ، وقد اختلفت الأقوال في كيفية التفصيل ، ونحن نقتصر فيما يلي على ذكر ثلاثة أقوال للمفصلين تتكفل التفصيلات الرئيسية في الاستصحاب :

١ ـ التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية

وقد اختاره جملة من المحققين منهم السيد الأستاذ وقد مرت على نظريته أدوار مختلفة فكان يرى في البداية عدم جريان استصحاب الحكم مطلقا سواء في الشبهات الحكمية أو الموضوعية ، غاية الأمر في الشبهة الموضوعية حيث يوجد استصحاب موضوعي فهو يغنينا عن استصحاب الحكم ، ثم بنى على جريان استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية وبتعبير آخر جريان استصحاب الحكم الجزئي وانما المانع يمنع عن جريان استصحاب الحكم الكلي فقط ، وأخيرا تقلص المانع فأصبح الممنوع خصوص استصحاب الحكم الكلي الإلزامي

١٢٧

وما بحكمه لا الترخيصي فيجري استصحاب الحكم الترخيصي حتى في الشبهات الحكمية.

ومدرك هذا التفصيل ليس هو قصور الأدلة المتقدمة فان أغلبها كانت تتضمن إطلاقا أو عموما شاملا للشبهتين معا وان فرض مورد الروايات المتقدمة جميعا الشبهة الموضوعية ، وانما مأخذ التفصيل ما ذكره المحقق النراقي ( قده ) من وقوع المعارضة دائما في الشبهات الحكمية بين استصحاب بقاء الحكم في الآن الثاني مع استصحاب عدم جعل الحكم فيه بنحو العدم الأزلي.

وهذا المقدار من البيان اعترض عليه الشيخ الأعظم ( قده ) بان الزمان الثاني ان كان مفردا للحكم فلا يجري استصحاب بقاء الحكم لعدم إحراز وحدة الموضوع وان لم يكن مفردا له بل مجرد ظرف للحكم غير معدد لموضوعه فلا معنى لاستصحاب عدمه لأنه بهذا اللحاظ يكون مسبوقا بالوجود.

من هنا حاول السيد الأستاذ توضيح مرامه بنحو فني سليم عن هذا الاعتراض ، وحاصل ما ذكره : ان الشك في الحكم الشرعي تارة : يكون راجعا إلى مقام الجعل ولو لم يكن المجعول فعليا لعدم تحقق موضوعه في الخارج كما إذا شك في بقاء أصل جعل وجوب القصاص مثلا وهذا هو المسمى باستصحاب عدم النسخ وهو خارج عن محل الكلام.

وأخرى : يكون راجعا إلى المجعول والشك فيه مرجعه إلى أحد امرين لا ثالث لهما لأن الشك في بقاء المجعول اما ان يكون لأجل الشك في دائرة المجعول سعة وضيقا من قبل الشارع ، كما إذا شككنا في ان المجعول من قبل الشارع هل هو حرمة الوطء حين وجود الدم فقط أو إلى حين الاغتسال والشك في سعة المجعول وضيقه يستلزم الشك في الموضوع لا محالة فانا لا ندري ان الموضوع للحرمة هل هو وطئ واجد الدم أو المحدث بحدث الحيض ويعبر عن هذا الشك بالشبهة الحكمية ، واما ان يكون الشك لأجل الأمور الخارجية بعد العلم بحدود المجعول سعة وضيقا من قبل الشارع فيكون الشك في الانطباق كما إذا شككنا في انقطاع الدم بعد العلم بعدم حرمة الوطء بعد الانقطاع ولو قبل الاغتسال ، ويعبر عن هذا الشك بالشبهة الموضوعية وجريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية

١٢٨

مما لا إشكال فيه ولا كلام.

واما الشبهات الحكمية فان كان الزمان مفردا للموضوع وكان الحكم انحلاليا فلا يمكن جريان الاستصحاب فيها حتى على القول بجريان استصحاب الحكم الكلي في نفسه لأن الشك بحسب الحقيقة في حكم فرد غير الفرد المتيقن ، وان لم يكن الزمان مفردا ولم يكن الحكم انحلاليا كنجاسة الماء القليل المتمم كرا فان الماء شيء واحد غير متعدد بحسب امتداد الزمان في نظر العرف ونجاسته حكم واحد مستمر ومن هذا القبيل الزوجية والملكية فهنا لا يجري الاستصحاب لابتلائه بالمعارض لأنه بالنظر إلى المجعول وان كان يجري استصحاب النجاسة لكونها متيقنة الحدوث مشكوكة البقاء ولكنه بالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدم النجاسة لكونه أيضا متيقنا وذلك لليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الإسلام لا مطلقا ولا مقيدا بعدم التتميم ، والقدر المتيقن انما هو جعلها للقليل غير المتمم اما جعلها مطلقا حتى للقليل المتمم فهو مشكوك فيه فنستصحب عدمه ويكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر فنأخذ بالأقل لكونه متيقنا ونجري الأصل في الأكثر لكونه مشكوكا فيه ، فتقع المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول واستصحاب عدم الجعل وكذا الملكية والزوجية (١).

ثم أفاد بان هذا التقريب لا يرد عليه شيء من الاعتراضات والمناقشات المثارة من قبل المحققين على كلام النراقي ( قده ) وأهمهما أربعة :

١ ـ ما اعترض به الشيخ الأعظم ( قده ) من أنه مع مفردية الزمان لا معنى لاستصحاب الحكم ومع ظرفيته لا معنى لاستصحاب عدم البقاء.

والجواب : ما أوضح من وقوع المعارضة مع عدم كون الزمان مفردا ووحدة الموضوع لأن المستصحب عدم الجعل الزائد لا عدم بقاء المجعول.

٢ ـ ما اعترض به المحقق النراقي ( قده ) من انه يعتبر في الاستصحاب اتصال زمان الشك بزمان اليقين وفي استصحاب عدم الجعل الزائد لا اتصال بين الزمانين ، لأن اليقين بعدم الجعل الثابت أولا يفصل بينه وبين زمان الشك زمان ثالث هو

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٣٧ ـ ٣٨

١٢٩

زمان العلم بالنجاسة حين فعلية موضوعها.

وجوابه : نفس ما تقدم في جواب السابق من ان المستصحب في استصحاب عدم الجعل ليس هو عدم المجعول بل عدم الجعل الزائد وهو مشكوك من أول الشريعة فزمان اليقين بعدم الجعل الزائد متصل بزمان الشك فيه.

٣ ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من ان استصحاب عدم الجعل غير جار في نفسه لعدم ترتب الأثر العملي عليه ، لأن الجعل عبارة عن إنشاء الحكم في مقام التشريع والأحكام الإنشائية لا تترتب عليها الآثار الشرعية بل ولا الآثار العقلية من وجوب الطاعة وحرمة المعصية مع العلم بها فضلا عن التعبد بها بالاستصحاب وانما يترتب ذلك على المجعول فلو فرض العلم بالجعل من دون قيد المجعول لم يحكم العقل بوجوب الإطاعة.

والجواب ـ ان الأثر العقلي أعني المنجزية يترتب إذا أحرز الجعل ـ الكبرى ـ وتحقق الموضوع ـ الصغرى ـ فإذا انتفى أحدهما انتفى التنجيز لا محالة. فكما يجري استصحاب بقاء الجعل في موارد الشك في النسخ لإثبات التنجيز عند إحراز تحقق موضوعه خارجا كذلك يكفي استصحاب عدمه في إثبات عدم فعليته كما في المقام.

٤ ـ ما أوردناه نحن عليه من ان استصحاب عدم جعل الوجوب أو النجاسة مثلا معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة أو الطهارة للعلم إجمالا بتشريع أحدهما لا محالة بعد انتهاء عصر التشريع.

والجواب عنه من وجوه :

فأولا ـ لا مجال لاستصحاب عدم جعل الحلية والرخصة لأنها كانت متيقنة في صدر الإسلام ولو بالإمضاء وانما شرعت الأحكام الإلزامية بالتدريج فعدم جعل الإباحة والرخصة يعلم بانتقاضه في صدر الشريعة فلا يجري استصحابه.

وثانيا ـ عدم التعارض على تقدير الجريان لعدم لزوم المخالفة القطعية العملية وعدم التنافي بنحو التناقض ـ أي التناقض في المنجزية ـ بينهما كما هو واضح.

وثالثا ـ لو فرض التعارض فغايته وجود طرف ثالث للمعارضة فاستصحاب عدم

١٣٠

جعل الوجوب الزائد يعارض استصحابين أحدهما استصحاب جعل الإباحة والاخر استصحاب عدم بقاء المجعول فيسقط الجميع أيضا (١).

هذا حاصل ما أوضحه السيد الأستاذ في شرح مرامه من التفصيل في جريان الاستصحاب بين الشبهات الحكمية والموضوعية. وقبل الشروع في التعليق عليه لا بأس أن نضيف في توضيحه ملاحظات ثلاث تدفع بها شبهات أخرى قد تثار بوجه هذا التفصيل.

الملاحظة الأولى ـ ليس المقصود باستصحاب عدم الجعل استصحاب عدم اللحاظ الزائد حين الجعل ليقال بان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل السلب والإيجاب أو العدم والملكة لا الضدين وانما المقصود استصحاب عدم نفس الوجوب والجعل ، ولو كان المقصود استصحاب عدم اللحاظ لاتجه عليه حتى بناء على افتراض ان التقابل بين الإطلاق والتقييد من التضاد ـ كما هو مختاره ـ بان استصحاب عدم لحاظ الإطلاق لا يثبت عدم الجعل الزائد الا بنحو الأصل المثبت لأن نسبة لحاظ المولى إلى جعله كنسبة حياته إليه يكون شرطا تكوينيا فيه.

الملاحظة الثانية ـ قد يتصور انه لا معنى لاستصحاب عدم الجعل الزائد لعدم الدوران بين الأقل والأكثر في عالم الجعل بل بين المتباينين لأن الجعل الزائد انما يتصور بأحد نحوين.

الأول ـ ان يفرض جعول متعددة مستقلة يقطع ببعضها ويشك في البعض الاخر ، وهذا خلاف الفرض ولو فرض لم يجر فيه استصحاب بقاء المجعول لتعدده بتعدد الجعول لا محالة.

الثاني ـ ان يفرض جعل واحد ولكن تعلق بالحصص بشكل تفصيلي فكأنه جعل النجاسة حين تغير الماء بعنوانه ويشك في جعلها له حين زوال تغيره مثلا فيكون الجعل دائرا بين الأقل والأكثر بلحاظ ذاتي الجعلين بغض النّظر عن حديهما نظير ما يقال في بحث الأقل والأكثر في المتعلق.

الا ان هذا أيضا خلاف الفرض فان الإطلاق والعموم لا يريان الحصص بعناوينها

__________________

(١) راجع مصباح الأصول ، ج ٣ ، ص ٤٠ ـ ٤٤

١٣١

التفصيلية بل الإطلاق لا يرى الا ذات الجامع على ما تقدم ، فالأمر يدور بين جعل على الجامع بنحو الإطلاق والعموم أو جعل على الحصة الأولى وهما دائران بين متباينين لا أقل وأكثر فلا معنى لاستصحاب عدم الجعل الزائد.

الا ان هذا التصور غير تام وكأنه ينشأ من تعبير الأستاذ وتشبيهه للمقام بباب الأقل والأكثر والا فحاق مقصوده إرادة استصحاب عدم جعل يشمل الحصة الثانية سواء كان بنحو الجعول التفصيلية أو بنحو الجعل على الجامع المنطبق على الحصة الثانية ولا يعارض باستصحاب عدم جعل متعلق بالحصة الأولى فقط إذ لا أثر لهذا الاستصحاب فانه ان أريد به نفي أصل الحكم في الحصة الأولى فهو مقطوع به وان أريد إثبات تعلق الجعل بالمطلق فهو تعويل على الأصل المثبت كما هو واضح.

الملاحظة الثالثة ـ قد يناقش في شبهة التعارض بان استصحاب بقاء المجعول يثبت إطلاق المجعول في الحكم المعلوم للحصة الثانية واستصحاب عدم الجعل ينفي ثبوت جعل على الحصة الثانية بالخصوص وهذان ليسا متنافيين أصلا.

وفيه : أولا ـ ما عرفت من ان استصحاب عدم جعل زائد لا يراد به نفي جعل مخصوص بالحصة الثانية بل نفي جعل يشمل الحصة الثانية ولو بإطلاقه وهو مناف مع استصحاب بقاء المجعول للحكم المعلوم كما لا يخفى.

وثانيا ـ ان استصحاب بقاء المجعول لا يثبت إطلاق المجعول أصلا بل يثبت بقاء المجعول على إهماله ، لأن بقاؤه وان كان مستلزما لإطلاق الحكم ولكنه استلزام عقلي لا يمكن إثباته بالأصل.

هذا غاية ما يمكن توضيحه في الدفاع عن هذا التفصيل الّذي ذهب إليه المحقق النراقي ( قده ) ووافقه عليه السيد الأستاذ.

وللتعليق على هذا التفصيل لا بد وان نبدأ بإثارة مشكلة لم يثرها أحد في استصحاب بقاء المجعول فيما عدا المحقق العراقي ( قده ) ـ على ما نعلم ـ حيث آثار جانبا منها في بحث اشتراط وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة كما سوف يأتي الحديث عنه ، وهذه المشكلة كان ينبغي التعرض لها وحلها مسبقا ليفهم المعنى المعقول لاستصحاب بقاء المجعول قبل الدخول في مسألة التعارض بينه وبين

١٣٢

استصحاب عدم الجعل الزائد ، وسوف يظهر انه بالالتفات إلى فذلكة حل الإشكال تنحل شبهة التعارض أيضا ، كما ان عدم خطور الإشكال المذكور على ذهن الاعلام بنفسه يؤكد ما سوف نبينه في مقام حله من ارتكازية نظرة خاصة إلى فعلية الحكم بمعنى المجعول تجري على أساسه استصحاب بقاء المجعول دون استصحاب عدم الجعل الزائد.

وحاصل المشكلة : ان الاستصحاب يعتبر فيه كون المشكوك امتدادا وبقاء للمستصحب ومتفرعا عليه ، اما إذا كان المشكوك معاصرا زمانا مع المتيقن ولا طولية بينهما أصلا فلا يكون التعبد به استصحابا ولا تشمله أدلته ، وفي باب المجعول حيث ان المجعول والمعتبر ليس امرا حقيقيا بل وهميا فهو في الحقيقة يوجد بوجود جعله رأسا فليس هناك تدرج في وجود شيء في الخارج ، وهذا يعني انه بالدقة تكون الحصة الثانية المشكوكة من المجعول على تقدير ثبوتها معاصرة مع الحصة الأولى وليس بقاء لها بل هما موجودتان بجعل واحد وفي آن واحد فلا معنى لإثباتها بالاستصحاب.

وهذه المشكلة يمكن ان تعالج بأحد وجوه :

الأول ـ ما يخطر في الذهن ابتداء من قياس القضايا الحقيقية المجعولة بالقضايا الشرطية الخارجية كقولنا النار حارة من أن هناك نحوين من الثبوت للمحمول في هذه القضايا ، الثبوت التقديري المعلق على فرض تحقق موضوعه والّذي يكون صدقه تاما ولو لم يتحقق موضوع في الخارج بعد ، وهذا ما يسمى بالجعل ، وثبوت فعلي عند فعلية الموضوع في الخارج ويسمى بالمجعول ، والجعل يوجد بوجود القضية التقديرية بينما المجعول لا يوجد الا بوجود موضوعه في الخارج ، والحصة الثانية المشكوكة من الحكم إذا أريد بها الوجود الأول التقديري له فلا يكون بقاء للحصة الأولى واما إذا أريد بها الوجود الثاني الفعلي فهي لا محالة بقاء وامتداد للحصة الأولى فيكون التعبد بها استصحابا.

وهذا العلاج قد أوضحنا مرارا عدم تماميته ، حيث قلنا في محله من بحوث الواجب المطلق والواجب المشروط ان قياس القضايا المجعولة بالقضايا الحقيقية الخارجية غير صحيح ، وان الحكم الّذي يتحقق في طول الجعل والاعتبار لا يعقل

١٣٣

ان يكون له وجود ثان وراء نفس الجعل يتحقق خارجا عند تحقق موضوعه ، لأن هذا الوجود الثاني ان أريد به الوجود الخارجي فهو واضح الفساد ، وان أريد به وجود اعتباري في نفس المولى فمن الواضح عدم تحقق شيء في نفس المولى عند تحقق الموضوع خارجا ، بل قد لا يكون المولى ملتفتا أو عالما بتحقق موضوع جعله بل يستحيل ذلك على ما قرر في محله.

على انه إذا كان مركز الاستصحاب الوجود الفعلي بهذا المعنى للحكم لزم عدم جريان استصحاب المجعول الا عند ما يتحقق هذا الوجود للحكم فلا يمكن للمجتهد ان يجري استصحاب بقاء النجاسة في الماء المتغير بعد زوال تغيره الا إذا تحقق ماء متغير في الخارج فوجدت نجاسته الفعلية وشك في بقاءها (١) لأن حال هذا الاستصحاب عنده حال استصحاب بقاء أي وجود خارجي يشك في بقائه ، وهذا خلاف ما هو المرسوم والمرتكز في محله فقهيا من ان المفتي في الشبهات الحكمية يفتي بالمستصحب على أساس الاستصحاب في الحكم الكلي كما إذا دل عليه دليل اجتهادي لا انه يفتي مقلديه بالرجوع إلى الاستصحاب عند تحقق الحكم الفعلي في حقهم وشكهم في بقائه.

الثاني ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) حينما آثار شبهة عدم وجود الحكم بمعنى المجعول في الخارج مع انه يشترط في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة

__________________

(١) لا وجه لذلك لأن الحكم المشكوك ليس جزئيا وخاصا بالموضوع الّذي يتحقق في الخارج وانما هو حكم الطبيعي الموضوع فالماء المتغير الزائل عنه تغيره مشكوك النجاسة من أول الأمر حتى إذا قلنا بالتفكيك بين الجعل والمجعول والمفروض ان هذه الحصة من الحكم على تقدير ثبوته يكون في طول الحصة الأولى فالمجتهد متيقن بان كل ماء متغير يكون نجسا أولا وشاك في بقاء نجاسته إلى ما بعد زوال التغير وهذا هو يقين بالحدوث وشك في البقاء سواء وجد مصداق للمتيقن والمشكوك بالفعل خارجا أم لا فيجري الاستصحاب بلحاظه. وان شئت قلت : ان الشرط في جريان الاستصحاب اتصاف التعبد الاستصحابي على تقدير ثبوته بأنه بقاء للمتيقن بنحو مفاد كان الناقصة لا التامة وهذا حاصل في المقام فالمجتهد يجري بنفسه الاستصحاب لأنه يرى حكم الشارع تعبدا وظاهرا ببقاء كل حكم فرغ عن حدوثه ، ونجاسة الماء المشكوك بعد زوال تغيره منه ، نعم توجد هنا شبهة أخرى تقدم علاجها في بحوث القطع وهي ان اليقين والشك في المقام للمجتهد لا للمقلدين فكيف يثبت التعبد الاستصحابي لهم وهذه حيثية أخرى عولجت فيما تقدم.

والحاصل : إفتاء المجتهد بالحكم الاستصحابي مربوط بكلية الحكم المراد استصحابه أو جزئيته فانه إذا كان حكما للطبيعي وكان يشك في بقائه أو زواله بعد حدوثه كلما تحقق لم يتوقف جريان الاستصحاب فيه على انتظار تحقق مصداق من الموضوع خارجا لتحقق الشك في البقاء في القضية الكلية بنحو مفاد كان الناقصة من أول الأمر ، وان كان المشكوك حكما جزئيا كما في الشبهة الموضوعية توقف استصحابه على تمامية أركانه في ذلك الحكم الجزئي ولا تتم الا بعد تحقق الموضوع المشكوك خارجا.

١٣٤

والمشكوكة وجودا وخارجا ولا تكفي وحدتهما ماهية ونوعا ـ وسوف يأتي تفصيل الشبهة ـ فأجاب بان الأحكام والمجعولات الشرعية وان كان ظرف عروضها الذهن الا ان ظرف اتصافها هو الخارج وهذا قسم وسط من الاعراض بين ما يكون ظرف عروضها واتصافها معا الخارج كالبياض وبين ما يكون ظرف عروضها واتصافها معا الذهن كالنوع والجنس ـ وقد تقدم شرح هذه الأنواع المختلفة للاعراض في بحوث سابقة ـ وبناء على ذلك يقال بان المجعول كنجاسة الماء المتغير حيث يكون الاتصاف به خارجيا صح إجراء الاستصحاب فيه لأن الوحدة المعتبرة في الاستصحاب أعني الوحدة الخارجية في الاتصاف محفوظة فيه.

وهذا الجواب قد يحاول إسراؤه إلى المقام لحل المشكلة المثارة من قبلنا ببيان أن العارض وهو الحكم وان لم يكن له حدوث وبقاء لكن الاتصاف به يكون له حدوث وبقاء تبعا للمتصف والمعروض الّذي هو امر خارجي فيجري فيه الاستصحاب بهذا الاعتبار.

وفيه : بطلان مبنى هذا الجواب في نفسه لما ذكرناه في محله من عدم معقولية هذا القسم الثالث للعروض بان يكون ظرف العروض ذهنيا وظرف الاتصاف خارجيا ، لأن ظرف الاتصاف هو نفس ظرف العروض وما توهم الحكماء كون ظرف العروض به ذهنيا وظرف الاتصاف به خارجيا نشأ من الخلط بين الاعراض الواقعية والاعراض الوجودية على تحقيق وتفصيل متقدم في محله.

هذا مضافا إلى ان هذا الوجه أيضا يبتلى بنفس المحذور الّذي ذكرناه على الوجه السابق في الإفتاء في الشبهات الحكمية فلا يمكن للمجتهد ان يفتي فيها استنادا إلى الاستصحاب الا بالحكم الجزئي عند تحقق الموضوع خارجا.

الثالث ـ يمكن ان يجعل تعبيرا عرفيا لما اراده المحقق العراقي ( قده ) في حل مشكلة وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة بعيدا عن التصورات الفلسفية المذكورة في باب العروض وحاصله : ان الحكم وان كان دقة وحقيقة من العوارض المتعلقة بالصور الذهنية لا الخارج الا ان عروضه على الصور الذهنية يكون باعتبار مرآتيتها وحكايتها عن الخارج لا باعتبار نفسها فالنوعية مثلا تعرض على مفهوم الإنسان بما هو مفهوم لا بما هو مرآة عن زيد وعمرو في الخارج ولكن النجاسة تعرض على الماء

١٣٥

المتغير في الذهن بما هو مرآة عن الماء الخارجي واما صورة الماء ومفهومه فلا معنى لنجاسته ، وهذا يعني ان الحكم كأنه عارض على الموضوع الخارجي فتتحد القضية المتيقنة مع المشكوكة بلحاظ المعروض بالعرض ، ويكفي هذا المقدار من الوحدة بين القضيتين أي الوحدة بينهما بلحاظ المحكي والمعروض بالعرض في جريان الاستصحاب لأن دليل الاستصحاب أيضا ناظر إلى الأحكام بما هي عارضة على الخارج بالعرض والمجاز.

وهذا الجواب بهذا المقدار من البيان لئن تم في علاج مشكلة الوحدة المعتبرة في الاستصحاب فهو لا يعالج مشكلتنا لأن هذا العروض المسامحي هو عين العروض الحقيقي الّذي يحصل دفعة بلحاظ كل حصص الموضوع فلا تكون الحصة المشكوكة منها بقاء للحصة المتيقنة.

الرابع ـ اننا وان أنكرنا ثبوت مجعول حقيقي في الخارج قبال الجعل الا انه لا إشكال في طرفية الشيء الخارجي للحكم ، فيقال مثلا ان هذا الماء المتغير كان طرفا للحكم بمعنى الجعل ويشك بعد زوال تغيره في طرفيته أو زوالها فنستصحب طرفيته له.

وفيه : مضافا إلى ان هذا الوجه لجريان الاستصحاب الحكمي أيضا يتوقف على تحقق الموضوع خارجا لتتحقق الطرفية ، ان الطرفية للجعل ليست موضوعا لحكم العقل بالتنجيز ليجري الاستصحاب فيها ، على ان الطرفية لو أريدت بالنسبة إلى الحكم والجعل بالحمل الشائع فلا طرفية بينهما وان أريدت بالنسبة إلى الحكم بالحمل الأولي فهذا يعني بالدقة ملاحظة الجعل بالحمل الأولي التي بها يصح استصحاب الحكم ابتداء على ما سوف يظهر في الوجه القادم.

الخامس ـ ما بيناه في بحوث عديدة متقدمة من ان القضية المجعولة لها اعتباران ولحاظان ، لحاظ بالحمل الشائع فتكون صورة في نفس الجاعل والمولى ، ولحاظ بالحمل الأولي فيكون صفة ثابتة للموضوع الملحوظ بذلك اللحاظ وجاريا عليه ، من دون فرق في ذلك بين العوارض الاعتبارية أو الخارجية ، وهذان لحاظان واقعيان ثابتان لكل وجود ذهني كما حققناه في بحوث متقدمة ، وهذا هو منشأ ما يتراءى من ان ظرف العروض غير ظرف الاتصاف فتأمل جيدا. وبناء عليه يقال بان المجعول كنجاسة

١٣٦

الماء المتغير إذا لاحظناه بالحمل الشائع فهو اعتبار نفساني قائم بنفس المولى وهو بهذا اللحاظ يوجد دفعة واحدة وله خصائص الوجود الذهني ، وإذا لاحظناه بالحمل الأولي فهو صفة وقذارة قائمة بالماء المتغير وجارية عليه ولهذا تكون حادثة بحدوث التغير ولعلها باقية بعد زواله أيضا ، فبهذه النظرة صار للحكم حدوث وبقاء وهذه النظرة وان كانت نظرة أولية إلى عنوان القضية المجعولة لا إلى واقعها بالحمل الشائع وحقيقتها الا ان المعيار في تطبيق دليل الاستصحاب على الأحكام التي يراد التعبد الاستصحابي بها هذه النظرة لا النّظر إليها بالحمل الشائع ، ومما يشهد على ذلك انه لم يخطر على بال أحد من أيام العضدي والحاجبي وإلى زماننا هذا الإشكال في استصحاب الحكم بعدم تصور الحدوث والبقاء فيه بل حتى من أنكر جريانه فيه كالمحقق النراقي ( قده ) والسيد الأستاذ قد اعترف بجريانه في نفسه وتمامية أركان الاستصحاب فيه وانما وجده معارضا مع استصحاب اخر. وهذا الجواب كما يحل أصل الشبهة التي آثرناها في استصحاب الحكم يعالج مشكلة إفتاء المجتهد في الشبهة الحكمية استنادا إلى الاستصحاب لأن الحدوث والبقاء العنواني الثابت بالحمل الأولي للمجعول الكلي من أول الأمر بهذا النّظر بلا حاجة إلى انتظار تحققه في الخارج كما هو واضح (١).

وعلى ضوء علاج المشكلة التي آثرناها في معقولية استصحاب المجعول في نفسه نأتي إلى دراسة شبهة المعارضة التي أثارها المحقق النراقي وبنى عليه السيد الأستاذ بين هذا الاستصحاب وبين استصحاب عدم الجعل الزائد فنقول : تارة نبني على الوجه المختار في معنى استصحاب بقاء الحكم وبناء عليه يكون من الواضح اندفاع شبهة التعارض ، لأننا إذا وافقنا على ان الميزان في تطبيق دليل الاستصحاب بقاء المجعول دون استصحاب عدم الجعل الزائد ، لأنه مبني على ملاحظة الحكم بالحمل الشائع ، ولو لم نوافق على ذلك واعتبرنا لزوم ملاحظة الحكم بالحمل الشائع الحقيقي فائضا

__________________

(١) الحكم بالحمل الأولي حدوثه يكون بحدوث موضوعه أيضا لا قبله ، فان أريد بالحدوث والبقاء العنواني مفهوم الحدوث والبقاء فمن الواضح انه ليس ملاكا في جريان الاستصحاب وان أريد به الحدوث والبقاء بنحو مفاد كان الناقصة فقد عرفت ان هذا ثابت على القول بالتفكيك بين الجعل والمجعول حقيقة أيضا.

١٣٧

لا تعارض إذ يجري عندئذ استصحاب عدم الجعل الزائد دون استصحاب بقاء المجعول لعدم الشك في بقاء ما هو الحكم بالحمل الشائع ، وهذا يعني انه لا بد من تحكيم أحد النظرين دائما ولا يعقل تحكيم كليهما ـ كما فعل الأستاذ ـ فانه تهافت.

لا يقال : لما ذا لا نحكم كلا النظرين ونجري الاستصحابين معا أحدهما بالنظر الحقيقي الدقي والآخر بالنظر الأولي العرفي فيتعارضان.

فانه يقال : التعارض انما يكون بلحاظ مدلول دليل الاستصحاب وشموله لليقين والشك بالبقاء في المقام وباعتبار التهافت بين النظرين ذاتا لا بد من جري دليل الاستصحاب على أحد النظرين وهو الّذي يساعد عليه العرف ولا إشكال في انه النّظر الأولي لا الشائع.

ان قيل : على هذا لا يجري استصحاب عدم الجعل عند الشك في أصل جعل حكم من الأحكام.

قلنا : بل يجري استصحاب عدم الجعل بمعنى المجعول الكلي أيضا فان الشيء المشكوك حرمته مثلا كشرب التبغ يجري فيه استصحاب عدم ثبوت الحرمة كمجعول شرعي لنفيه عنه كما يجري استصحاب بقاء المجعول لإثباته.

وأخرى : نبني في معنى استصحاب الحكم على التفكيك بين الجعل والمجعول بافتراض المجعول أو الاتصاف به امرا خارجيا حقيقيا ، وبناء عليه أيضا لا تتم شبهة المعارضة رغم فساد المبنى في نفسه لأننا نسأل عن ترتب المجعول حينئذ على الجعل حين تحقق موضوعه هل يكون شرعيا أو عقليا؟ فان قيل بالأول كان استصحاب عدم الجعل الزائد حاكما على استصحاب بقاء المجعول لا محالة فلا تعارض ، وان قيل بالثاني ـ كما هو الصحيح ـ فنسأل عن ان المنجز عقلا هل الجعل أو المجعول أو كل منهما أو مجموعهما وشيء منها لا ينتج التعارض ، لأنه ان قيل بان المنجز هو الجعل كما هو ظاهر كلامه في رد إشكال المحقق النائيني ( قده ) فلا معنى لاستصحاب بقاء المجعول إذ لا يترتب عليه التنجيز بنفسه وإثبات إطلاق الجعل به من الأصل المثبت ، وان قيل بان المنجز هو المجعول كما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) في اشكاله على المعارضة فلا معنى لاستصحاب عدم الجعل إذ لا أثر له بنفسه ولا يمكن إثبات المجعول به ، وان قيل بان المنجز كل من الجعل أو المجعول جرى الاستصحابان بلا تعارض بينهما إذ يكون استصحاب

١٣٨

عدم الجعل الزائد نافيا للتنجيز من ناحية الجعل وهو لا ينافي التنجيز من ناحية المجعول الّذي يثبته استصحاب المجعول ، وان قيل بان المنجز مجموعهما كان الجاري استصحاب عدم الجعل الزائد من دون معارضة أيضا لأن استصحاب بقاء المجعول وحده لا يكفي في إثبات التنجيز بحسب الفرض والمركب ينتفي بانتفاء أحد اجزائه. وهكذا يتضح ان شبهة التعارض بين الاستصحابين لا تتم على شيء من المباني في فهم حقيقة المجعول ومعنى استصحابه.

ثم ان الاعتراض الّذي أوردناه على السيد الأستاذ من إيقاع المعارضة بين استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب عدم الإباحة (١) يمكن تسجيله عليه بناء على مبانيه بنحو لا يتم عليه الأجوبة التي ذكرها ، وتوضيح ذلك :

اما فيما يتعلق بالجواب الثالث من ان إيقاع التعارض بين الاستصحابات الثلاثة وتساقطها جميعا فجوابه : انه بناء على مبانيه المتقدم شرحها في تنبيهات العلم الإجمالي وملاقي الشبهة المحصورة من عدم سقوط الأصل المتأخر زمانا بالأصل المتقدم إذا لم يكن معلوما من أول الأمر سوف يبقى استصحاب بقاء المجعول سليما عن المعارض ، لأن استصحاب عدم الجعل الزائد يسقط مع استصحاب عدم جعل الإباحة بمجرد شك المجتهد بنحو الشبهة الحكمية في الجعل واما استصحاب بقاء المجعول فهو انما يجري بناءً على توهم التفكيك بين الجعل والمجعول ـ كما هو مبنى شبهة المعارضة ـ في زمان متأخر أعني زمان فعلية الموضوع في الخارج على ما شرحناه آنفا فلا وجه لسقوطه بالمعارضة مع تأخر زمان جريانه.

واما فيما يتعلق بالجواب الثاني من عدم التعارض بين استصحاب عدم الجعل الزائد واستصحاب عدم جعل الإباحة لعدم لزوم المخالفة القطعية العملية وعدم التنافي بينهما في المنجزية ، فيمكن ان يقال بأنه بناء على مبانيه من جعل الطريقية والعلمية في الاستصحاب وقيامه مقام القطع الموضوعي سوف يترتب أثر عملي ومخالفة قطعية في المقام حيث يلزم من جريان الاستصحابين جواز الإفتاء بعدم جعل الإلزام ولا الإباحة

__________________

(١) هذه المعارضة فرع القول بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وعدم توقف قيامه مقام القطع الموضوعي على قيامه في المرتبة السابقة مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير والا فليس للمستصحب أي أثر تنجيزي كما لا يخفى.

١٣٩

مع العلم إجمالا بحرمة أحد الإفتائين (١).

وقد يناقش هذا الكلام بأحد أمور :

١ ـ ان استصحاب عدم جعل الإلزام يترتب عليه أثران جواز الإفتاء والتعذير في مقام العمل ، واما استصحاب عدم الإباحة فلا يترتب عليه الا أحد الأثرين وهو جواز الإفتاء دون الاخر لأنه لا يثبت الإلزام الا بالملازمة العقلية غير الثابتة بالأصول العملية وعندئذ نطبق في المقام قاعدة ادعاها الميرزا ( قده ) في بعض كلماته من انه كلما كان للأصلين المتعارضين أثر مشترك يترتب على كل منهما وكان لأحدهما أثر مختص بمورده جرى الأصل بلحاظ الأثر المختص من دون معارض ، وهذه القاعدة تقتضي جريان استصحاب عدم جعل الإلزام الزائد بلحاظ الأثر المهم في المقام وهو عدم التنجيز.

وهذه المناقشة مبنية على تمامية تلك القاعدة وسوف يأتي عدم صحتها وان الاستصحاب بلحاظ الأثر المختص أيضا يعارض الاستصحاب في الطرف الاخر بلحاظ الأثر المشترك فيه.

٢ ـ ان حرمة الإفتاء أو اسناد ما ليس من الدين إلى الدين ليس موضوعها الإسناد

__________________

(١) بل الصحيح لزوم المعارضة بملاك التنافي والتكاذب أيضا لأن ترتيب الأثر الموضوعي للقطع بالاستصحاب انما يكون بدليل حجية الاستصحاب لا بالاستصحاب لأن حكومة دليل حجية الاستصحاب على دليل الأثر الموضوعي للقطع واقعي لا ظاهري وبناء عليه يكون العلم الإجمالي بحرمة أحد الإسنادين في المقام موجبا للتكاذب بين إطلاقي دليل الاستصحاب لكل من الاستصحابين بلحاظ حرمة الإسناد فلا نحتاج إلى إبراز المخالفة العملية القطعية ، نعم هذا مبني على القول بثبوت حرمة أحد الإسنادين ولو من جهة العلم إجمالا بان أحدهما خلاف الواقع ، واما إذا قلنا بان الحرام اسناد ما لا يعلم لا الكذب الواقعي فلا تكاذب بين الاستصحابين لتحقق موضوع جواز الإسناد حقيقة. هذا ولكن بناء على الالتفات إلى هذه النكتة قد يدفع إشكال المعارضة بين هذين الاستصحابين حتى على مباني جعل الطريقية للاستصحاب ، بدعوى : ان استصحاب عدم الإباحة إذا فرض عدم جريانه لعدم قيامه ، مقام القطع الموضوعي في المقام فلا معارضة ، وان فرض جريانه بلحاظ هذا الأثر فحيث انه يثبت بالأمارة وهي دليل حجية الاستصحاب فلا محالة يكون حاكما على استصحاب عدم الإلزام بلحاظ أثره الطريقي أعني التعذير لأن لوازم الأمارة حجة فيثبت في المقام بضم العلم الإجمالي بحرمة اسناد عدم الإباحة أو ثبوت الإلزام إلى دليل حجية الاستصحاب الإلزام لا محالة فلا يجري استصحاب عدم الإلزام بلحاظ اثره الطريقي لكونه محكوما لدليل حجية استصحاب عدم الإباحة بلحاظ الأثر الموضوعي ، وهذا يعني إمكان الرجوع إليه بعد سقوط الاستصحابين في الطرفين بلحاظ الأثر الموضوعي بالتكاذب بلا محذور ، الا ان هذا الكلام غير صحيح لأنه بناء على كون الحرمة موضوعها عدم العلم لا الكذب الواقعي لا علم إجمالي بحرمة اسناد عدم الإباحة أو ثبوت الإلزام بل يمكن ثبوتهما معا واقعا لأن حكومة الاستصحاب بلحاظ الأثر الموضوعي للقطع واقعي كما أشرنا ، نعم إذا لاحظنا الإسنادين معا فقد يقال بحرمة إضافية فيتنافى الاستصحابان كما سيأتي في المتن.

١٤٠