بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

الأطراف الخالية من أمارة فهذا جواب آخر تام سواء كان هناك هدم لركن العلم الإجمالي تعبدا أم لا والا فالمنجزية باقية ولو هدم عنوان العلم الإجمالي تعبدا لأن المنجزية من آثار هذا السبب الواقعي سواء سمي علما إجماليا أم لا.

الثاني ـ الانحلال الحكمي بمعنى عدم تأثير العلم الإجمالي في التنجيز فينحل حكمه وان كان ذاتا غير منحل ، وهذا يختلف تقريبه باختلاف المسكين في منجزية العلم الإجمالي من حيث كونه مقتضيا للمنجزية أو علة تامة ، فبناء على المسلك المشهور والصحيح من ان العلم الإجمالي مقتض للمنجزية بحيث يتوقف تأثيره على تعارض الأصول في الأطراف يقال بان الأصول المؤمنة تجري في الشبهات الخالية عن الأمارات بلا معارض لأن الأطراف الأخرى قد وجد فيها حاكم على الأصل المؤمن وهو الأمارة المنجزة. وبذلك لا تنجيز للعلم الإجمالي في الأطراف الخالية عن الأمارة.

وهذا البيان لا يتم على مسلك العلية ، لأن العلم علة تامة عندهم للمنجزية فلا يجري الأصل حتى في الطرف الواحد ، ولكن على هذا المسلك يقال بان منجزية العلم الإجمالي فرع ان يكون صالحا لتنجيز المعلوم الإجمالي على كل حال أي سواء كان في هذا الطرف أو ذاك فإذا لم يكن صالحا لتنجيز المعلوم إذا كان في أحد الطرفين سقط عن التنجيز بلحاظ الطرف الآخر أيضا ، وهذا أصل موضوعي عند أصحاب هذا المسلك ، ومن جملة تطبيقات ذلك عندهم ما إذا كان أحد الأطراف فيه منجز آخر بقطع النّظر عن العلم كما في المقام فانه حينئذ لا يكون العلم منجزا لذلك الطرف لأنه متنجز بالحجة التعبدية والمتنجز لا يتنجز ، وعليه فيسقط العلم عن المنجزية في الأطراف الخالية عن الحجة أيضا فتجري فيها الأصول المؤمنة بلا محذور ، وهذا البيان كما عرفت بعكس البيان السابق حيث ان منجزية العلم على ذاك المسلك في طول سقوط الأصل المؤمن عن الحجية بينما على هذا المسلك يكون جريان الأصل المؤمن في طول سقوط العلم الإجمالي عن الحجية.

والصحيح هو المسلك الأول لا الثاني مع ان الأصل الموضوعي المذكور أيضا غير تام حتى على مسلك العلية على تفصيل يأتي في محله.

وهناك إشكال مشترك على كلا البيانين حاصله : ان الطرف الّذي قامت الأمارة فيه على التكليف انما يخرج عن مورد البراءة بناء على المسلك الأول أو عن

٨١

قابليته للتنجز بالعلم الإجمالي بناء على المسلك الثاني من حين وصول تلك الأمارة إلى المكلف والعلم بها لا من أول الأمر فيبقى الطرف قبل العلم بالأمارة مجرى للأصل المؤمن صالحا للتنجز بالعلم الإجمالي فيكون العلم الإجمالي بالتكليف فيه في فترة ما قبل قيام الأمارة أو في الطرف الآخر علما إجماليا منجزا على كلا المسلكين والخروج عن الطرفية لأحد الطرفين بعد ذلك لا يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي.

وهذه الشبهة عليها جوابان :

الأول ـ ما ذكره المحققون من ان الشبهات الحكمية التي قامت الأمارة عليها يكون التكليف فيها منجزا من أول الأمر لأنها شبهات قبل الفحص فلم تكن موردا للأصل المؤمن ولا صالحا للتنجز بالعلم الإجمالي. وهذا جواب صحيح ومفيد في المقام وان كان لا يتم في الشبهات الموضوعية التي لا يجب فيها الفحص.

الثاني ـ مبني على مسلكنا المتقدم في الجمع بين الحكمين الظاهري والواقعي ، من ان الأحكام الظاهرية في رتبة واحدة متنافية ومتعارضة بوجوداتها الواقعية كالاحكام الواقعية لا بوصولها. فانه على هذا بوصول الأمارة الإلزامية يستكشف ثبوت الحكم الظاهري الإلزامي من أول الأمر وبالتالي عدم جريان الأصل المؤمن فيها من أول الأمر فلا يكون الأصل المؤمن في الطرف الآخر معارضا مع أصل مؤمن في هذا الطرف في رتبته أي الأصل المؤمن الجاري عن الواقع ابتداء إذ يستكشف عدم ثبوته واقعا (١) نعم هذا الوجه لا يتم على مسلك العلية لأنه على كل حال لا منجزية للحكم الظاهري الأماري قبل وصوله فالعلم الإجمالي صالح لتنجيز كلا طرفيه.

__________________

(١) الا ان الأصل المؤمن في الطرف الحالي يكون معارضا مع الأصل المؤمن الجاري في الطرف الآخر قبل قيام الأمارة سواء كان هو البراءة عن الواقع في مرحلة الشك في الحجة أم استصحاب عدم الحجة المنقح لموضوع البراءة عن الواقع ، لأن هذا التنقيح ظاهري لا واقعي بحيث يرخص عن الواقع وهو محتمل حتى بعد قيام الأمارة ، فيكون الأصل في الطرف الحالي ساقطا من أول الأمر بالمعارضة مع أصل مؤمن جار في الطرف الّذي قامت فيه الأمارة قبل قيامها حقيقة ، لأنهما يؤديان إلى الترخيص في المخالفة القطعية فعدم كون الترخيص الظاهري الثابت في مورد قيام الأمارة قبل قيامها في رتبة الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لا ينفع في المقام شيئا.

٨٢

« أدلة وجوب الاحتياط شرعا »

واما البحث عن المرحلة الثانية وهو الاحتياط الشرعي فقد استدل عليه بالكتاب والسنة.

« الاستدلال بالكتاب على الاحتياط »

اما الكتاب فبجملة من الآيات :

منها ـ قوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (١) وتقريب الاستدلال انها تنهى عن تعريض الإنسان نفسه للهلكة وهذا ينطبق على الاقتحام في الشبهة البدوية لأنه في معرض الوقوع في محذور ارتكاب ما هو محظور شرعا وأي هلكة أشد من ذلك فيشمله إطلاق الآية فتثبت الحرمة ما لم تتم حجة على عدم كونه مخالفة له تعالى.

ويرد عليه : أولا ـ ان قوله تعالى هذا فيه ثلاثة احتمالات :

١ ـ ما بني الاستدلال عليه بان يكون هذا خطابا مستقلا حشر مع ما قبله وبعده.

٢ ـ ان تكون هذه الفقرة نهيا شرطيا بالنسبة إلى الأمر بالإنفاق في سبيل الله الّذي ورد قبلها فيكون تحديدا لمقدار الواجب وهو الإنفاق فلا ينبغي الإنفاق بدرجة يوجب الإفلاس والتعرض إلى الهلاك فيكون نظير قوله تعالى ( ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) (٢) وقوله تعالى ( ويسألونك ما ذا ينفقون قل العفو ) (٣) أي ما زاد على حاجته ، ولا يستغرب من ورود مثل هذا النهي الّذي يكاد ان يكون إرشاديا لأن المسلمين الأوائل الذين خاطبهم القرآن بهذه الخطابات بعد تربيتهم كانوا يتسابقون في مضمار الإنفاق والبذل وقد وقع تاريخيا ان المسلمين تصدقوا بكل ما يملكون ولعل هذا هو الّذي عبر عنه في ذيل الآية ( فأحسنوا ان الله يحب المحسنين ) أي اعدلوا في الإنفاق وهذا احتمال قريب من النّفس في الآية الكريمة.

٣ ـ ان تكون الجملة تكرارا سلبيا للجملة الأولى ، وهذا أيضا سياق عرفي رائج

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٥.

(٢) سورة الإسراء : ٢٩.

(٣) سورة البقرة : ٢١٩.

٨٣

فالمولى يأمر بفعل ـ وهو الإنفاق في المقام ـ وينهي عما يكون مقابلا لذلك الفعل ومن شئون تركه ـ وهو التهلكة ـ في مقام التأكيد على ذلك الفعل فشيء واحد ليس أولا ثوب الإيجاب فيكون أمرا به ويلبس ثانيا ثوب السلب فيكون نهيا نظير قولك ( صل أرحامك ولا تشغل نفسك بخصومتهم وبغضهم ) فيكون المقصود ان ترك الإنفاق في سبيله إلقاء في الهلكة وهذا مضمون جملة من الروايات التي أكدت ان ترك الإنفاق في سبيله يؤدي إلى الهلاك وقد ورد ذلك بلسان ( حصنوا أموالكم بالزكاة ) وهو صريح في النّظر إلى الهلاك المال لا المالك والنّظر في أماثل هذه الخطابات والتوجيهات مع الطبيعي والنوع لا الافراد فلا ينافي ان لا تهلك أموال بعض الأغنياء الذين لا ينفقونها.

وعليه فلا يمكن الاستدلال بالآية مع وجوده هذه الاحتمالات التي ان لم نستظهر أحد الآخرين منها فلا أقل من التردد بينها والإجمال.

ثانيا ـ لو سلمنا استظهار الاحتمال الأول فمثل هذا النهي لا يمكن ان يكون مولويا لأنه نهي عما فرض انه هلكة في المرتبة السابقة فان فرض ان التكليف كان منجزا في المرتبة السابقة على هذا النهي لم يكن النهي الا إرشادا وتحذيرا عن دخول نار الهلكة وان فرض انه لا احتمال للعقاب لوجود مؤمن مولوي ـ فلا موضوع للنهي عن إلقاء النّفس في الهلكة فيستحيل استفادة التنجيز والعقاب والهلكة من نفس هذا النهي لأنه أخذ في موضوعه ذلك.

ومن جملة الآيات التي يستدل بها على إيجاب الاحتياط قوله تعالى ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) (١).

وتقريب الاستدلال بها مبني على ان المجاهدة تعني المجاهدة في طاعة الله ، والتعبير بالمجاهدة لبيان لزوم غاية الجهد ومن المعلوم ان بذل غاية الجهد يشمل الاحتياط في الشبهات لأن من لم يحتط في الشبهة لم يبذل قصارى جهده في طاعة الله سبحانه.

وفيه أولا : ان الجهاد الّذي أمر به في الآية قد حذف متعلق المباشر ، إذ لا إشكال بان مصب المجاهدة لا يمكن ان يكون الباري تعالى مباشرة بل لا بد وان يكون أمرا وشأنا من شئونه فلا بد من ان يكون النّظر إلى حيثية مقدرة هي في الواقع متعلق

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

٨٤

الجهد ، وفي مقام تحديد تلك الحيثية كما يمكن افتراض انها إطاعة الله يمكن إبداء احتمال انه نصرة الله والدفاع عن الإسلام وقتال أعدائه كما يحتمل ان تكون معرفة الله حق معرفته ، فان هذه الاحتمالات الثلاثة لا معين لا حدها في قبال الآخر ان لم يدع ظهور الآية بحسب سياقها في الثالث لأنها واردة في سياق الرد على العقائد الباطلة فتكون على وزان قوله تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) (١) ، بل هذا المعنى هو الألصق بظاهر الآية لأن الجهاد لمعرفة الله كأنه جهاد في الله لعدم الاثنينية بين الشيء ومعرفته ، ولو تنزلنا عن هذا الاحتمال فالاحتمال الثاني اقرب من الأول لأنه أنسب مع التعبير بالجهاد.

وثانيا ـ لو سلم ان المجاهدة هنا بمعنى المجاهدة في الطاعة ، فسوف تكون هذه الآية على حد سائر الأوامر بإطاعة الله وعدم معصيته شاملة لموارد الطاعات الثابتة والمتنجزة بالعلم أو بغيره بل تشمل حتى المستحبات ومثل هذه الأوامر كما قلنا لا تكون أوامر تأسيسية مولوية بل إرشادية فلا يمكن ان نثبت بها إيجاب الاحتياط شرعا الّذي هو المطلوب.

ومن جملة الآيات .. ( وان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) (٢).

بتقريب ان الرد إليها عبارة أخرى عن التوقف وعدم الاقتحام نظير قوله عليه‌السلام قف عند الشبهة.

وفيه : ان الآية أجنبية عن وجوب الاحتياط موضوعا ومحمولا. اما موضوعا فلان الوارد فيها عنوان المنازعة المساوق مع المخاصمة لا مجرد الشك وعدم العلم بالحكم الشرعي الكلي سواء أريد مطلق النزاع والمخاصمة أو مخاصمة خاصة فعلى كلام التقديرين الآية موضوعا أجنبية عن موضوع إيجاب الاحتياط بل على تقدير إرادة مخاصمة خاصة كالمخاصمة في الأمور السياسية والاجتماعية فالأجنبية أوضح ، ويحتمل قويا إرادة النزاع بين الأمة وولي الأمر في الأمور العامة لأنها وردت بعد قوله تعالى ( أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

(٢) سورة النساء : ٥٩.

٨٥

فيكون تأكيدا لمزيد الطاعة ولزوم تحكيم الله والرسول في المنازعات ، والوجه في تخصيص الرد حينئذ إلى الله والرسول فقط مع حذف أولي الأمر في التفريع رغم ولايتهم والأمر بإطاعتهم في المفرع عليه يمكن ان يكون أحد افتراضين :

١ ـ ان المنظور إليه النزاع في الكبريات والشبهات الحكمية وفي مثل ذلك يكون المرجع الله والرسول فقط لا أولي الأمر بما هو أولي الأمر.

٢ ـ ان المراد التنازع بين الأمة وأولي الأمر من الأمة ، فان المذكور في المفرع عليه الأمر بإطاعة أولي الأمر منكم أي من الأمة فيراد بذلك التنازع الّذي قد يقع في شروط الولاة واختياراتهم كبرويا أو صغرويا فيكون حل مثل هذا النزاع أيضا منحصرا في مراجعة الله والرسول ويكون أولي الأمر حينئذ جزء من الأمة المتنازعة فتكون الآية من أدلة ان الولاية تحدد من قبل الله والرسول لا من قبل الناس أنفسهم ، وبذلك تكون الآية متعرضة لمسألة هامة من أصول المذهب وأجنبية بالمرة عن مسألة الاحتياط في الشبهات الفرعية.

واما محمولا فلان الرد إلى الله والرسول ليس الا بمعنى الأمر بتحكيم الله والشريعة في شئون الحياة وعدم الاحتكام إلى أهواء الناس وعدم جواز تصدي أمور الناس الا من قبل من يعينه الله أو الرسول أمر مفروغ عنه وأجنبي عن محل الكلام ولا نزاع فيه.

هذا مضافا إلى ان المراد من رد الشبهة بعد التنزل عما ذكرنا في تفسير الآية وحملها على الشبهات الحكمية ان كان بلحاظ الحكم الواقعي المشتبه كان مفاده وجوب رفع الشبهة إليهم لاستعلام الحكم الواقعي فيدل على وجوب الفحص والاستعلام للأحكام الواقعية ، وان كان بلحاظ الحكم الظاهري أي حكم حالة الشك نفسه كان معناه وجوب الرجوع إلى الله والرسول في تعيين حكم الشبهة وانه إيجاب الاحتياط أو البراءة وكلا المطلبين لا ينفع الاخباري شيئا ، لأنهما مسلمان حتى عند الأصولي غاية الأمر يدعي الأصولي اننا فحصنا وبعد الفحص انتهينا إلى ان حكم الشبهة عند الله والرسول هو البراءة فالآية على كل حال أجنبية عن محل الكلام (١) ..

__________________

(١) ولكن بناء على الاحتمال الثاني حيث ان النّظر يكون إلى الحكم الظاهري فيكون ظاهر وجوب الرد إليهم حينئذ وجوب الاحتياط عند عدم معرفة حكم الله لأن هذا هو المناسب مع لسان الأمر بالرد إليهم إذا كان النّظر إلى مرحلة الحكم الظاهري واما الرد إليهم لمعرفة الحكم الظاهري المجعول عند الشك فهذا هو الاحتمال الأول لأن معرفة حكم الشبهة كمعرفة حكم أي.

٨٦

ومن جملة الآيات قوله تعالى ( واتقوا الله حق تقاته ) (١).

وتقريب الاستدلال بها نظير ما تقدم في آية المجاهدة في الله حق جهاده ، فان غاية التقوي تقتضي الاجتناب في الشبهات وعدم اقتحامها أو عدم المبالاة بها.

وفيه : ان التقوي لا تصدق الا بعد فرض ما يتقى منه ويتحذر في الرتبة السابقة فلا بد من افتراض تنجز التكليف والعقوبة في المرتبة السابقة على الأمر بالتقوى فيكون مثل هذا الأمر إرشاديا لا محالة ولا يمكن ان ينقح بنفسه موضوع التقوي كما لا يخفى.

ومن جملة الآيات قوله تعالى ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (٢) ونحوها من الآيات الناهية عن الإفتاء والإسناد في مورد الشك وعدم العلم.

والواقع ان هذا من أضعف ما يمكن ان يستدل به على الاحتياط ، فانه لا شك لدى الاخباري والأصولي في حرمة اسناد الحكم الواقعي في موارد الشبهة والا فكما يحرم اسناد الإباحة كذلك يحرم اسناد الحرمة الواقعية. واما الإفتاء بالإباحة الظاهرية فهو إفتاء بعلم يستند فيه الأصولي إلى الأدلة الشرعية واما الإفتاء بالبراءة العقلية ـ على القول بها ـ فهو ليس إسنادا إلى الشارع أصلا بل إفتاء بالوظيفة الفعلية والموقف العملي عقلا عند الشك.

الاستدلال بالسنة على الاحتياط

واما السنة الشريفة فهناك طوائف عديدة استدل بها الأخباريون على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية ، ونحن لم نجد فيها حديثا تام السند يمكن ان يستفاد منه وجوب الاحتياط. وتفصيل الحديث عن ذلك يكون من خلال تصنيفها إلى طوائف عديدة كالتالي :

الطائفة الأولى ـ ما يستفاد منه مجرد الترغيب في الاحتياط وحسنه والّذي لا يناقش فيه اثنان.

من قبيل المرسلة المعروفة المورية عن الإمام الصادق عليه‌السلام ( من اتقى الشبهات فقد

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٠٢.

(٢) سورة الإسراء : ٣٦.

٨٧

استبرأ لدينه ) (١). وهي لم يبين فيها كبرى وجوب الاستبراء ومجرد الدلالة على ان اتقاء الشبهة استبراء للدين لا يقتضي ذلك.

ومنها ـ ما رواه ابن الشيخ الطوسي في أماليه عن الرضا عليه‌السلام يقول : ( ان أمير المؤمنين قال لكميل بن زياد فيما قال ) أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت ) (٢). والأمر فيها بقرينة التعليق في الذيل على مشيئة المكلف نفسه لا يفهم منه أكثر من الرجحان أو الاستحباب ، إذ لا معنى لتعلق الواجب أو مقداره إلى مشيئة المكلف نفسه ، بل سياق الحديث من تشبيه الدين بالأخ ومعنى الاحتياط الّذي يعني وضع الحائط للحفظ والعناية بنفسه يدل على ان المراد من الأمر الحث والترغيب على مزيد الرعاية وحفظ الدين لكونه عزيزا وجديرا بمزيد الرعاية والحفظ لأحكامه وحدوده وعدم تجاوزها وهذا معنى لطيف دقيق ولكنه أجنبي عن مسألة الاحتياط في الشبهة البدوية وكأن مجرد التشابه اللفظي أوقع الأخباريون في هذا الوهم.

ومنها : ما ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ( أورع الناس من وقف عند الشبهة ) (٣). وهو أيضا لا يدل على وجوب التورع والتوقف عند الشبهة كما هو واضح. فهذه الطائفة لا دلالة فيها على الوجوب.

الطائفة الثانية ـ ما يستفاد منها لزوم الرجوع إلى الأئمة وتحكيم أقوالهم وعدم جواز الاستقلال عنهم واعتماد الرّأي والاستحسانات في استنباط الحكم الشرعي كما يفعل المخالفون وهذا أيضا لا خلاف فيه بين الأصولي والاخباري وانما الخلاف فيما حكم به الأئمة في الشبهة البدوية من الاحتياط أو الإباحة.

من هذه الروايات حديث ابن جابر ( والصحيح ان الله لم يكلفهم اجتهادا لأنه نصب لهم أدلة وأقام لهم أعلاما وأثبت عليهم الحجة فمحال ان يضطرهم إلى ما لا يطيقون بعد إرساله إليهم الرسل بتفصيل الحلال والحرام ) (٤). ومن قبيل خبر حمزة بن طيار ( انه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٢٨.

(٢) نفس المصدر ، ح ٣٠.

(٣) المصدر السابق ، ح ٣٣.

(٤) المصدر السابق ، الباب السابع من أبواب المقدمات ، ح ٣٢.

٨٨

له : كف واسكت ثم قال أبو عبد الله : لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون الا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق ، قال تعالى « فاسئلوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون » (١).

الطائفة الثالثة ـ ما ورد الأمر فيها بإلا رجاء ومراجعة الإمام عليه‌السلام مما يدل على انه ناظر إلى حال وجود الإمام عليه‌السلام فحتى لو دل على شيء فهو مخصوص بحال إمكان مراجعة الإمام كما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة ( فأرجئه حتى تلقى إمامك ) (٢) وهذا أيضا أجنبي عن محل النزاع.

الطائفة الرابعة ـ ما يكون سياقه وجوب الفحص والتعلم كأخبار وجوب التعلم وعدم معذرية الجهل الناشئ من ترك التعلم ، وهو أيضا أجنبي عن محل الكلام.

الطائفة الخامسة ـ ما يدل على تحريم القول بلا علم كرواية زرارة عن أبي عبد الله ( لو ان العباد جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا ) (٣) وخبر علي بن الحسين عليهما‌السلام قال لأبان بن عياش ( يا أخا عبد قيس إن وضح لك امر فاقبله والا فاسكت نسلم ورد علمه إلى الله فانك أوسع مما بين السماء والأرض ) (٤). وهذه أيضا أجنبية عن محل الكلام لما تقدم في مناقشة الاستدلال بآية ( لا تقف ما ليس لك به علم ) ، على ان فيها قرائن على ان النّظر إلى أصول الدين وإنكار أو جحود الولاية.

الطائفة السادسة ـ ما دل على حرمة الجري والحركة بلا علم من قبيل قوله عليه‌السلام ( من هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه ) (٥) ، وهذا إرشاد إلى مسألة عقلائية وانه لا بد وان يستند الإنسان إلى ركن وعلم وهذا لا نقاش فيه عند الأصولي فانه يستند إلى العلم بالإباحة شرعا أو البراءة عقلا في اقتحامه للشبهة ، على ان النّظر فيها ليس إلى حكم الشك والشبهة بل إلى ان التصدي لأمور ومسائل يحتاج إعطاء الرّأي أو اتخاذ موقف فيها إلى العلم والمعرفة يورط المتصدي إلى مشاكل وعقبات ، وهذا أيضا مطلب صحيح

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ١٩.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٤٦.

(٤) المصدر السابق ، ح ١٨.

(٥) المصدر السابق ، ح ٢٠.

٨٩

وأجنبي عن مسألة البراءة أو الاحتياط في الشبهات البدوية بعد الفحص وعدم الظفر على الدليل.

الطائفة السابعة ـ ما دل على انه كلما دار الأمر بين طريق متيقن وطريق مريب يحتمل فيه خطورة فدع المريب إلى ما لا ريب فيه (١) ، وهذا اللسان أيضا أجنبي عن محل الكلام وناظر إلى أصل عقلائي واضح لا نقاش فيه ، فان الأصولي يرى الإباحة الظاهرية مما لا ريب فيه.

الطائفة الثامنة ـ ما ورد الأمر فيه بالاحتياط في مورد خاص ولافراد مخصوصين من قبيل ما ورد في كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى عثمان بن حنيف وإليه على البصرة ( وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم ، عائلهم مجفوٌّ ، وغنيهم مدعوٌّ ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ) (٢) ومن الواضح ان هذا أمر ولايتي صادر من الإمام عليه‌السلام إلى أحد ولاته في مقام الحكومة على الناس ولا إشكال في ان هذا المقام يحتاج إلى مزيد احتياط ورعاية والتزامات ربما تكون غير واجبة على الرعية ولكنها تجب على الوالي اما شرعا أو بحكم الإمام عليه‌السلام باعتباره قد ولاه.

على انه من المحتمل ان يكون المقصود من الطيب والمشتبه طيب وجه نفس الإحسان لا طيب المال في قبال كونه حراما أو مغصوبا ، فان الإمام لا يريد ان يلغي قاعدة اليد بل يريد ان ينبه الوالي إلى ان هذه الأطعمة التي تقدم إليه من قبل هؤلاء الأغنياء ليست من أجل الله بل من أجل التملق إلى الحكام والارتشاء فان هذا هو المناسب مع سياق الخطبة كما لا يخفى.

ومثله ما جاء في عهده الشريف إلى مالك الأشتر ( ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك .... وأوقفهم في الشبهات ) (٣) وهو أيضا ناظر إلى وظيفة الحاكم بين الناس القاضي في أحوالهم وهذا مضافا إلى اختصاصه بالحاكم موضوعا لا ربط له بمسألة الاحتياط في الشبهة الحكمية محمولا بل النّظر إلى أحكام القاضي وانها

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ٢٧.

(٢) نهج البلاغة ، ص ٤١٦ ، ضبط الدكتور صبحي الصالح.

(٣) المصدر السابق ، ص ٤٣٤.

٩٠

لا بد وان تكون مستندة إلى العلم لا الوهم والظن والاستعجال في الحكم. ومن الواضح ان العلم في حكم القاضي بين الناس مأخوذ بنحو الموضوعية كيف وأكثر موارد التحاكم تكون من الشبهة الموضوعية لا الحكمية.

على ان المراد من الوقوف عند الشبهة على ما سوف يأتي ليس هو الاحتياط بالمعنى المقابل للبراءة بل بمعنى عدم الاستناد إلى مبنى للإقدام.

وهكذا يتضح عدم إمكان الاستدلال بشيء من الطوائف المتقدمة في المقام هذا ولكن هناك ثلاث طوائف أخرى من الروايات أحسن حالا من كل ما تقدم لا بد من ملاحظتها بإمعان :

الطائفة الأولى ـ الاخبار الدلالة على ان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.

الطائفة الثانية ـ الاخبار الدالة على التثليث.

الطائفة الثالثة ـ الاخبار الآمرة بالاحتياط في موارد من الشبهات الحكمية.

اما الطائفة الأولى ـ فمن قبيل رواية أبي سعيد الزهري عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه ) (١).

وقد استدل بها جماعة من الأصحاب على وجوب الاحتياط والوقوف عند الشبهة لما فيها من الدلالة على احتمال وجود الهلكة فيه وهذا لا ينسجم مع ثبوت البراءة.

وفيه : أولا ـ ان الوقوف جعل مقابلا للاقتحام وهذا ليس من الواضح انه بمعنى الاجتناب مقابل الارتكاب لأن الاقتحام عبارة عن الإقدام بلا تريث وبلا روية وفجأة فالنهي عن الاقتحام في الشبهة يكون بمعنى النهي عن الدخول بلا تريث ومبالاة فيكون الحديث من قبيل سائر ما دل على انه لا بد من مستند ومدرك للاقتحام ومن الواضح ان الأصولي يستند في ارتكابه للشبهة إلى مدرك شرعي أو عقلي وليس مقتحما للشبهة.

وثانيا ـ كلمة الشبهة لا ينبغي ان تحمل على مصطلحات الأصوليين للشبهة أي

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٤٠.

٩١

الشك ، بل معناها اللغوي المثل والمماثلة وباعتبار تماثل الطرفين في مورد الشك سمي بالشبهة ، ومن يتتبع موارد استعمال كلمة الشبهة في الروايات يستنتج انها كانت تستعمل بالمعنى اللغوي أي التشابه والتماثل في مورد يراد فيه بيان ان هذا المطلب بظاهره يشبه الحق ولكنه في باطنه ضلال وانحراف. وقد ورد في خطبة للإمام عليه‌السلام ( وانما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق ، فاما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى ، واما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ، ودليلهم العمى ) (١).

وفي بعض الروايات ان الشبهة من الشيطان لأن الخديعة والمكر منه ، وفي رواية عن الباقر عليه‌السلام انه قال قال جدي رسول الله ( أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة الا وقد بينهما الله عز وجل في الكتاب وبينتهما في سنتي وفي سيرتي وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي فمن تركها صلح له امر دينه وصلحت له مروءته وعرضه ) فساق البدع والشبهات مساقا واحدا مما يعني إرادة ذلك المعنى من الشبهة لا مجرد الشك وعدم العلم ، ومما يؤيد هذا المعنى رواية أخرى عنه عليه‌السلام انه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر ( يا أبا ذر ان المتقين الذين يتقون الله من الشيء الّذي لا يتقى منه خوفا من الدخول في الشبهة ) (٢) أي يكون بابا للدخول في بدعة من الدين ونحو ذلك.

فمجموع هذه القرائن توجب الاطمئنان بان المراد بالشبهة في الطائفة الأولى ، بل في أكثر كلمات الأئمة عليهم‌السلام معنى آخر غير المعنى الأصولي لكلمة الشبهة أي المراد بها الضلالة والخديعة والبدعة التي تلبس ثوب الحق ومن الواضح ان لزوم التريث والوقوف عند الشبهة بهذا المعنى مما لا إشكال فيه ولكنه أجنبي عن محل الكلام.

وثالثا ـ ان ظاهر هذه الطائفة التحذير من الدخول في الشبهة بلحاظ المحتمل لا الاحتمال فهي لا تدل على منجزية الاحتمال وجعل إيجاب الاحتياط شرعا الّذي هو مدعى الاخباري بل تدل على انه إذا كان في المحتمل خطر وهلكة فقف عندها ولا تلج الباب لكي لا تسقط فيها ، وهذا انما يكون في الموارد التي تكون الشبهة فيها في أمور

__________________

(١) نهج البلاغة ، ص ٨١.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ، الباب الثامن من أبواب المقدمات ، ح ٣٧.

٩٢

مضرة وخطيرة في نفسها كما في العقائد والدعاوي الباطلة أو ما يكون فيها نتائج عملية صعبة ، ويؤيد ذلك ما ورد في قوله عليه‌السلام ( لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وذلك مثل ان يبلغك عن امرأة انها رضعت معك أو انها محرمة عليك وقفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من اقتحام الهلكة ) فان هذه الرواية من الواضح كون النّظر فيها إلى خطر المحتمل لا الاحتمال ، فان الشبهة موضوعية والاستصحاب أيضا يقتضي حلية النكاح فالمنظور فيها الخطر الّذي ينشأ بعد ذلك من جانب المحتمل إذا ما انكشف ان المرأة كانت محرمة عليه. ولا أقل من احتمال هذا المعنى في هذه الطائفة والّذي يوجب سقوط الاستدلال بها.

ثم ان الأصوليين بعد ان حملوا الشبهة في هذه الطائفة على المعنى الأصولي لها ناقشوا في الاستدلال بها بما يمكن تمحيصه ضمن مناقشتين.

الأولى ـ ان هذه الطائفة فرضت ثبوت الهلكة في الرتبة السابقة على النهي فتكون إرشادا إلى حكم العقل بلزوم تجنب الهلكة والعقوبة المحتملة ولا يمكن ان يكون مولويا لأن النهي المولي لا يعلل بالوقوع في الهلكة المحتملة والثابتة في المرتبة السابقة على النهي ، وعليه فتختص هذه الطائفة بالموارد التي يكون الحكم منجزا فيها كما في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو قبل الفحص واما الشبهة البدوية بعد الفحص فلا احتمال للهلكة فيها لقبح العقاب بلا بيان.

وأجيب على هذا الاعتراض بان إطلاق الأمر الإرشادي شامل للشبهة البدوية أيضا فيكشف عن ثبوت الهلكة ووجوب الاحتياط فيها أيضا بحكم الشارع.

وكلا من الجواب وأصل المناقشة غير تام.

اما الجواب ، فلان هذا يخرج القضية عن كونها حقيقية إلى كونها خارجية أي ناظرة إلى حكم شرعي خارجي وهو إيجاب الاحتياط المجعول شرعا في موارد الشبهة البدوية أو مطلقا وهذا خلاف الظاهر الأولي في الخطابات.

واما أصل المناقشة فهي غير تامة أيضا لا مبنى ولا بناء اما مبنى فلإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل العقل يحكم بالهلكة واستحقاق العقوبة في موارد اقتحام الشبهة البدوية من دون مؤمن شرعي أيضا كما تقدم.

واما بناء فلانا لو سلمنا القاعدة فلا ينبغي الإشكال بان من ألسنة بيان الحكم

٩٣

المولوي الإلزامي ذكر العقاب والهلكة المترتبة على الاقتحام في الشبهة ومثل هذا كثير رائج في أدلة الأحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية والتي يكون الحكم الواقعي محفوظا في موردها.

الثانية ـ ان ترتب الهلكة والعقاب فرع وصول التكليف وإيجاب الاحتياط فلا يكفي ثبوته واقعا ، فان فرض إرادة إيصاله بنفس هذا البيان لزم الدور وان فرض وصوله في المرتبة السابقة وكون هذا البيان إرشادا إلى ذلك كفى ذلك الخطاب الواصل في إثبات الاحتياط من دون حاجة أو فائدة في مثل هذه الروايات.

وقد أجيب عليها بأنا نستكشف من هذه الروايات بالمطابقة ثبوت الهلكة بالفعل في اقتحام الشبهة لمن كان يخاطبه الإمام عليه‌السلام وبالالتزام وصول وجوب الاحتياط إليهم وتنجزه في حقهم إذ من دونه لا يعقل الهلكة بالنسبة إليهم ثم نثبت ذلك في حقنا من باب عدم احتمال الفرق واشتراك المكلفين في الأحكام.

وأجاب عن هذا الجواب المحقق العراقي ( قده ) بان هذا من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية لأن إطلاق قف عند الشبهة للشبهة البدوية في حق المخاطبين فرع وصول إيجاب الاحتياط إليهم لأنه مقيد عقلا ولبا بذلك فمع الشك فيه كيف يمكن التمسك به لا ثبات المدلول المطابقي ثم الالتزامي وهل هذا الا من التمسك بالعالم في الشبهة المصداقية.

وهذا الجواب مبنى على عدم جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية إذا كان العالم قضية خارجية تعهد المولى بنفسه إحراز قيدها في الخارج كما هو مبنى صاحب الإشكال على المناقشة. فالأولى دفع الإشكال بان هذا خلاف ظاهر الخطاب في كونه قضية حقيقية لا خارجية.

الا ان أصل المناقشة الثانية أيضا غير تامة وذلك :

أولا ـ للنقض بأدلة بيان الأحكام الواقعية بلسان ترتب العقاب مع ان هذا البيان بعينه جار فيها.

وثانيا ـ عدم تمامية المبنى ، إذ لا يشترط في العقوبة وصول التكليف كما تقدم.

وثالثا ـ انه سواء حملت هذه الروايات على القضية الخارجية أو الحقيقية يمكن ان يكون دليلا على الاحتياط.

٩٤

اما على الفرض الأول ، فلأنه بناء على فرضها قضية خارجية يكون المنظور فيها أولئك الذين كانوا يعيشون في عصر الإمام وهم كلا أو جلا من يتنجز التكليف في حقهم إذا كان المجعول وجوب الاحتياط واقعا لأنهم بين عالمين بذلك أو جاهلين ولكن جهلا قبل الفحص الّذي يمكنهم الوصول إلى الواقع والإمام عليه‌السلام يبين لأولئك الذين لا يعلمون وجوب الاحتياط ثبوت هذا الحكم بلسان بيان اللازم الغالبي له وهو ترتب العقاب لأن هذا أبلغ في مقام الزجر والتخويف ومتضمن للوعظ في نفس الوقت.

لا يقال : هذا الجواب انما يجري بلحاظ الأحكام الواقعية التي كانت تبين لهم بلسان ترتب العقاب ولا يتم في دليل الحكم الظاهري لأن هذا العقاب ليس لازما لا يجاب الاحتياط بل لتنجز الواقع عليهم في زمن الأئمة لا مكان الفحص.

فانه يقال : العقاب بلحاظ شدة اهتمام المولى بأغراضه الواقعية الّذي هو روح إيجاب الاحتياط فيصح ان يكون هذا بيانا عرفيا لا يجاب الاحتياط بنحو القضية الخارجية.

واما على الفرض الثاني ، وان الخطاب قضية حقيقية كما هو الصحيح فيفترض قيد مستتر في مثل هذه الألسنة من الخطابات بحسب الارتكاز العرفي وهو ان من وصل إليه حكم الشبهة ـ أو أي موضوع آخر يفترض ـ دخل النار والهلكة إذا أقدم واقتحم فيه وهذه القضية الحقيقية لا تكون صادقة الا بافتراض ان الحكم هو الاجتناب والا كانت الشرطية كاذبة ، ونكتة افتراض هذا القيد هي ان الخطاب بنفسه متكلف لا لإيصال الحكم وتحقيق هذا القيد. وان شئت قلت : ان القضية بلحاظ هذا القيد خارجية لأن المولى بنفس الخطاب يحرزه في حق المخاطبين على الأقل.

وكلا هذين البيانين عرفيان صحيحان ، وعليه فلا إشكال في بيان الحكم بلسان ترتب الهلكة والعقوبة على المخالفة سواء في القضايا الخارجية والحقيقية.

واما الطائفة الثانية : أعني اخبار التثليث فالذي عثرنا عليه ثلاث روايات رغم ما قيل من استفاضتها.

منها ـ رواية جميل بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حديث طويل ـ ( الأمور ثلاثة ، امر بين لك رشده فاتبعه ، وامر بين لك غيه

٩٥

فاجتنبه ، وآخر اختلف فيه فرده إلى الله ) (١).

والاستدلال بها على وجوب الاحتياط غير تام وذلك :

أولا ـ ان الوارد فيه عنوان بين الرشد وبين الغي وهذا العنوان انما يناسب المستقلات العقلية ومدركات العقل العملي أي ما يكون رشدا وحسنا وهداية في قبال ما يكون ظلما وضلالة فتكون دالة على ان ما لم يدرك العقل العملي حسنه بشكل بين فلا تحكم فيه ذوقك واستحساناتك بل رد حكمه إلى الله والرسول فتكون من أدلة النهي عن إعمال الرّأي في الدين ولا أقل من احتمال ذلك.

وثانيا ـ احتمال ان يكون المراد بين الرشد وبين الغي المجمع على صحته والمجمع على بطلانه أو حرمته ، بقرينة جعل القسم الثالث ما اختلف فيه لا ما شك فيه فان المختلف فيه قد يكون بين الرشد أو الغي لدى الإنسان. فالحاصل كما يمكن حمل المختلف فيه على المشكوك كذلك يمكن جعله قرينة على إرادة البين إثباتا أي المجمع عليه من القسمين فيكون النّظر إلى لزوم الأخذ بما هو مجمع عليه وترك المختلف فيه إلى أهله وهذا ان لم يكن هو الظاهر فلا أقل من احتماله وبناء عليه تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام وثالثا ـ لو افترضنا إرادة المشكوك من المختلف فيه مع ذلك نقول : بان الشك لا بد وان يضاف إلى ما أضيف إليه التبين وهو الغى والرشد فيكون المعين ان ما يشك في انه رشد أو غي لا بد وان يجتنب لا ما يشك في حرمته وحليته ، ومن الواضح ان أدلة البراءة حتى العقلية لو تمت كبراها سوف تكون واردة على هذا العنوان ، إذ تجعل ارتكاب الشبهة بين الرشد وان بقي الحكم الواقعي مشكوكا فمثل هذا اللسان لا يمكن ان نثبت به إيجاب الاحتياط شرعا في مورد مدعى الأصولي.

ومنها ـ ما رواه نعمان بن بشير ـ وهو أحد الصحابة المطعون فيهم ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنحوين :

الأول ـ انه قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ( حلال بين وحرام بين وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ٤٥.

٩٦

في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك ان يقع فيه ألا وان لكل ملك حمى وان حمى الله تعالى محارمه ) (١).

الثاني ـ انه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ( ان لكل ملك حمى وان حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو ان راعيا رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه ان تقع في وسطه فدعوا المشتبهات ) (٢).

والرواية من حيث السند عامية وقد نقلها مرسلة عن رسول الله في غوالي اللئالي وفي كتب العامة نقلها البخاري تارة بعنوان ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان اترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك ان يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك ان يواقع ).

وأخرى بعنوان ( الحلال بين والحرام بين وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه ).

وفيهما قد عرف الحلال والحرام البينين باللام. ونقلها أحمد في مسندة بالتنكير ( حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ... إلخ ) ، كما ذكر في كتب الاستدلال لدينا وهو أنسب بالاستدلال من نقل البخاري خصوصا الثاني ، لا مكان دعوى انه إذا كان الحلال بينا والحرام بينا فلا بد وان يراد بالشبهة المعنى المتقدم من الطائفة الأولى أي الالتباس بين الحق والباطل أي موارد الضلالة ولبس الباطل ثوب الحق.

وأيا ما كان فالاستدلال بهذه الرواية غير تام سندا لما عرفت ، ودلالة لأنها لا تدل على ما يريده الاخباري من وجوب الاحتياط في موارد الاشتباه والشك لا من جهة انه لو كان يجب الاحتياط في مورد الشك دخل ذلك في الحرام البين وفي الحمى ولو بعنوان كونه مشتبها الّذي لا بد وان يجتنب عنه على كل حال وان كانت حرمته ظاهرية. فان جواب هذا الكلام ان إيجاب الاحتياط روحه على ما تقدم إبراز الاهتمام

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ٤٤.

(٢) المصدر السابق ، ح ٤٣.

٩٧

بالمحرمات الواقعية في فرض الشك وليس بملاك نفسي ليلزم توسعة دائرة الحمى للمشتبهات بل تبقى الحمى للمحرمات البينة ويكون هذا التحذير من ألسنة إبراز اهتمام المولى بملاكاته الواقعية وإيجاب حفظها ، بل الوجه في عدم تطابق هذا اللسان والتقسيم مع مدعى الاخباري ان الاخباري يفترض ان حمى الله هو المحرمات الواقعية وان المشتبهات حول الحمى وحريمها فمن يرتكبها يوشك ان يقع في الحرام الواقعي وهو معنى وجوب الاحتياط في مورد احتمال الحرمة الواقعية ، بينما الحديث يدل على ان الحمى هي المحرمات البينة ، والمعاصي والمشتبهات حول الحمى إذا ارتكبها الإنسان يوشك ان يقع في الحمى أي في المعاصي والإثم أو فيما استبان على حد تعبير نقل البخاري وهذا مطلب صحيح على كل حال لأن ارتكاب الشبهة لو كان يؤدي إلى جرأة المكلف في اقتحام المعاصي والإثم وجب بحكم العقل اجتنابها مقدمة لترك الإثم والعصيان ، فتكون الرواية إرشادا إلى هذا الحكم العقلي.

ومنها ـ مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في مورد تعارض الخبرين ( انما الأمور ثلاثة ، امر بين رشده فمتبع ، وأمر بين غيه فمجتنب ، وامر مشكل يرد حكمه إلى الله ) ثم استشهد الإمام عليه‌السلام في ذيلها بالحديث النبوي ( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم ) (١).

ولا ينبغي الشك في ان التثليث المذكور أولا في كلام الإمام لا يمكن الاستدلال به على الاحتياط في الشبهة البدوية لأنه وارد في الخبرين اللذين أحدهما مجمع عليه أي من حيث الرواية دون الآخر فيفهم انه شاذ نادر ، ويكون المراد من الرد حينئذ عدم الاعتماد عليه في مقام أخذ الحكم الشرعي ، وهذا أمر صحيح متفق عليه بين الطرفين.

ومما يشهد على هذا المعنى في التثليث الأول في المقبولة التعبير بالاتباع فانه يناسب باب الروايات والدلالات ولا يناسب إضافته إلى الحرمة والحلية كحكمين واقعين ، بل لا معنى لإسناده إلى المشكل لأن الوارد فيها ( وأمر مشكل يرد حكمه إلى

__________________

(١) وسائل الشيعة ، باب ٩ من أبواب القاضي ، ج ١٨.

٩٨

الله ) إذ لو كان المقصود به الاحتياط دخل ذلك فيما يجتنب ولم يكن الرد قسما ثالثا ، فلا محالة يراد بالرد عدم الحجية.

واما الذيل الّذي استشهد به الإمام عليه‌السلام والظاهر انه بلحاظ الأمر المشكل وتطبيق ترك الشبهات في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه ، فائضا لا يدل على مدعى الاخباري إذ المراد من ترك الشبهات عدم الاعتماد عليها لا الاجتناب لكي يكون مناسبا مع الحكم المعلل في كلام الإمام عليه‌السلام وهو رد المشكل إلى الله ، ويؤيد ذلك تعبيره بالأخذ بالشبهة الّذي يناسب باب بالاعتماد والاستناد لا مجرد العمل.

هذا مضافا إلى ما قلناه في رد الاستدلال بالطائفة الأولى من ان الشبهة يراد بها ما يلتبس فيه الحق مع الباطل ويتشابه وهذا يناسب مع مثل الحديث والمستند الّذي يعتمد عليه صاحب البدعة في مقام التضليل وليس النّظر إلى مسألة الشك في الحكم الفرعي.

واما الطائفة الثالثة ـ أي الاخبار الآمرة بالاحتياط في وقائع معينة فنقتصر على اثنين منها يعتبران أنقاها سندا وأحسنها للاستدلال على المطلوب.

إحداهما ـ موثقة عبد الله بن وضاح قال ( كتبت إلى العبد الصالح يتوارى عني القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ويستر عني الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر ان كنت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة فوق الجبل؟ فكتب أرى لك ان تنتظر حتى تذهب الحرمة وتأخذ بالحائط لدينك ) (١).

وفي فقه الرواية احتمالات ثلاثة :

الأول ـ ان يراد اشتراط ذهاب الحمرة المغربية ، فتكون الرواية من أدلة اشتراط ذهابها في صلاة المغرب كما يقول بذلك الخطابيون وعلى هذا لا بد من رد الرواية إلى أهلها لما ثبت في الفقه من عدم اشتراط ذلك ومن الطعن على الخطابيين الذين أظهروا هذه البدعة.

الثاني ـ ان يراد من الحمرة الحمرة المقارنة مع آخر أزمنة وجود قرص الشمس ، فكأن السائل يفترض ان القرص استتر وراء الجبل ولكن حمرتها باقية فهو يشك في ان

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، كتاب الصلاة ، باب ١٦ من أبواب المواقيت ، ح ١٤.

٩٩

القرص قد سقط حقا أم لا يزال خلف الجبل ، ويكون فرض الجبل بنكتة انه يوجب حصول هذا الشك ، فانه لو كان المراد من الحمرة غير ذلك فلا فرق بين فرض وجود جبل أم لا ، والتعبير بأنه يتوارى منا القرص ويستر عنا الشمس أيضا يلائم مع ان يكون نظر السائل إلى فرض الشك في سقوط القرص لوجود حائل هو الجبل. وأما التعبير بإقبال الليل وازدياد ارتفاعه فهذا أيضا منسجم مع هذه الفرضية لو أريد من الليل الكناية عن ظلمة الليل حيث كان يحتمل ان هذه الظلمة هي ظلمة الليل. وعلى هذا التقدير يكون الأمر بالاحتياط على القاعدة لأنه من موارد الشك في المكلف به بعد تنجز أصل التكليف فيحكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني ، ولا يمكن استفادة إيجاب الاحتياط في مطلق الشبهات من الأمر به في هذا المورد ، كيف ومورد الرواية شبهة موضوعية ولا يقول فيها بالاحتياط حتى الاخباري في غير موارد الشك في المكلف به ، بل وفي المورد يجري استصحاب موضوعي منجز أيضا وهو استصحاب عدم دخول الوقت وان كان تعبير الإمام يناسب الإشارة إلى نكتة الاحتياط لا عدم نقض اليقين بالشك.

الثالث ـ ان يكون المراد بالحمرة الحمرة المشرقية وان السائل كان يحتمل اشتراط ذهاب الحمرة المشرقية في تحقق المغرب. وبناء على هذا الاحتمال كالاحتمال الأول تكون الشبهة لدى السائل حكمية فكان ينبغي للإمام ان يجيب عليه ببيان الحكم الواقعي من اشتراط ذهاب الحمرة أو عدم اشتراطه لا بالأمر بالاحتياط ، فقد تحمل الرواية على التقية في خصوص هذه المسألة التي كانت موضع الخلاف مع العامة ، ويكون هذا اللسان من البيان من أجل التقية كناية عن اشتراط ذهاب الحمرة المشرقية لا وجوب الاحتياط في الشبهة واقعا ومعه يسقط الاستدلال بها على ذلك.

هذا ولكن الصحيح إمكان حمل الرواية على الجدية حتى من ناحية الاحتياط وذلك بدعوى : ان ذهاب الحمرة المشرقية ليس مأخوذا في الحكم الواقعي بنحو الموضوعية والشرطية بل بنحو المعرفية والطريقية إلى مرتبة من غياب الشمس في الأفق لا يمكن إعطاء ضابطها الموضوعي الدّقيق فجعل ذهاب الحمرة المشرقية قرينة وكاشفا عنها باعتبار انه كلما تحقق ذهاب الحمرة تحققت تلك المرتبة من استتار الشمس وان كان قد تتحقق تلك المرتبة ـ ولو في بعض البلدان ـ قبل ذهاب الحمرة المشرقية كاملة

١٠٠