بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

ولا بأس بالتعرض لكيفية تطبيق القاعدة على الخيارات بالقدر المناسب مع المقام فنقول :

يمكن ان تطبق قاعدة لا ضرر على مثل خيار الغبن بأحد وجوه :

الوجه الأول ـ باعتبار الغبن ضررا ماليا على المشتري.

وقد نوقش فيه من قبل المحققين بمناقشات عديدة نذكر أهمها :

المناقشة الأولى ـ ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ) من ان الضرر المالي ناشئ من صحة المعاملة أيضا لا لزومها فحسب فتنفي القاعدة صحتها وبذلك يرتفع موضوع الخيار هذا إذا جعلنا الخيار حكما آخر غير الصحة بقاء وإلاّ كان التعبير الأصح ان لا ضرر ينفي حدوث الصحة لأن منها الضرر المالي.

وقد حاول الإجابة على هذه المناقشة تارة بان الضرر بوجوده الحدوثي ثبت بالإجماع وخصصت القاعدة بإخراجه عنها بالإجماع فنتمسك بالقاعدة لنفي الضرر بوجوده البقائي الّذي يعني نفي اللزوم ، وأخرى بان نفي الصحة خلاف الامتنان بخلاف نفي اللزوم المستوجب غالبا ونوعا لإعطاء فرصة للمكلف للتفكير واختيار ما هو الأفضل بحاله من الفسخ والإمضاء.

ويرد على كلا الجوابين بأنهما مبتنيان على الصيغة الأولى للمناقشة أي افتراض تعدد الحكم بالصحّة واللزوم ، واما إذا قيل بان هناك حكما واحدا هو الصحة وترتب الأثر على المعاملة حدوثا وبقاء حتى بعد الفسخ ففرض إخراج الحصة الحدوثية للضرر بالقاعدة تخصيصا أو لكونه خلاف الامتنان يوجب عدم إمكان نفي الصحة بقاء بها ، اما على الأول فلأن القاعدة ليس لها إطلاق أحوالي يرجع إليه بعد تخصيص إطلاقه الأفرادي ، واما على الثاني فلأنّه إذا فرض ان الضرر المالي حصل بنفس صحة المعاملة فالامتنانية وعدمها لا بد وان تلحظ بلحاظها ومن الواضح ان انتفاء الصحة المحققة للضرر على المشتري أوفق بحاله نوعا من ثبوتها ، نعم ثبوتها حدوثا وانتفائها بقاء بعد الفسخ أكثر امتنانا عليه الا ان الامتنانية في الحديث ليس بمعنى اختيار أفضل الأحكام وأوفقها بحاله واستفادته من لا ضرر بل تكون بمعنى انه يجب ان يكون

__________________

في الوقت الّذي يصح استناد في نفي أصل اللزوم إلى لا ضرر أيضا.

٤٨١

المكلف أحسن حالا بعد جريان القاعدة في حقه منه قبل جريانه وهذا متحقق بنفي أصل الصحة.

وسوف يتضح الجواب الصحيح عن هذه المناقشة.

المناقشة الثانية ـ ان ظاهر حديث لا ضرر نفي أصل الضرر وحدوثه ، وفي المقام أصل الضرر حادث بصحة البيع يقينا وانما يراد نفيه بقاء ، وهذا ما لا يمكن استفادته من القاعدة.

وهذا الإيراد انما يتجه بناء على استظهار كون المنفي حدوث الضرر وأصله واستظهار ان مصبّ النفي الضرر الخارجي أو الحكم الضرري بعد فرض ان الصحة واللزوم حكم واحد.

والجواب على هذه المناقشة بحيث يتضح به الجواب على المناقشة السابقة أيضا ان الضرر ليس عبارة عن مجرد النقص ، بل النقص الّذي لا يمكن رفعه ولا يكون تحت اختيار المكلف وممّا يوجب تضايقه ، ومن الواضح ان صحة البيع حدوثا لا ينشأ منه ضرر بهذا المعنى وانما ينشأ الضرر من اللزوم أو الصحة بقاء ، فالضرر انما ينشأ في الأحكام المترتبة الطولية من الحكم الأخير دائما وينسب إليه فيكون هو المرفوع بلا ضرر دون الأحكام الأخرى.

المناقشة الثالثة ـ ان فرض الخيار ليس نفيا للضرر بل تدارك له بعد وقوعه ، وظاهر القاعدة نفي الضرر لا تداركه.

والجواب ـ ما عرفت من ان الضرر لا يصدق لمجرد صحة البيع حدوثا ، فهذا الإيراد لا يتم على مبنانا ولا على مبنى المحقق الأصفهاني الّذي يفترض ان لا ضرر ينفي صحة البيع بقاء أو اللزوم ، فان نفي ذلك نفي للضرر أيضا لا تدارك له وانما يكون التدارك بمثل الأرش ونحوه.

المناقشة الرابعة ـ ما تقدم من المحقق العراقي ( قده ) من ان لا ضرر لا يمكن ان يثبت ما يريده الفقهاء من الجواز الحقي والخيار وانما يثبت جامع الجواز المناسب مع الجواز الحكمي مع انهم حكموا بالجواز الحقي ورتبوا على ذلك آثاره من قابلية الإسقاط والإرث وغير ذلك.

والجواب : أولا ـ ما عرفت من إمكان إثبات نتيجة الجواز الحقي بلا ضرر بعد

٤٨٢

ملاحظة انه لا ينفي الضرر المقدم عليه من قبل المكلف نفسه ، والمشتري بعد قبوله بالضرر يكون مقدما عليه كما إذا كان عالما به حين البيع.

وثانيا ـ بالإمكان إثبات الجواز الحقي بلا ضرر ابتداء ، وذلك باعتبار انه في قبال اللزوم الحقي الّذي هو عبارة عن تمليك الالتزام.

توضيح ذلك : ان البيع بالمطابقة تمليك للمال وبالالتزام يستبطن تمليك هذا الالتزام للطرف الآخر أيضا كما ملكه المال وهذا هو اللزوم الحقي في قبال ما إذا لم يملكه التزامه بالملك كما في موارد شرط الخيار فيبقي الجواز الحقي ثابتا ، وقد يفرض ان الشارع لا يمضي تمليكه للالتزام هذا ولو في الجملة كما في خيار المجلس والحيوان ، وفي قبال ذلك الجواز الحكمي واللزوم الحكمي وهما حكمان شرعيان من دون نظر إلى التزام المتعاملين ، فالأوّل من قبيل جواز الهبة ، والثاني من قبيل لزوم النكاح ولذا لا تصح الإقالة فيه لكون لزومه حكما شرعيا لا حقا وضعه المتعاقدان.

فإذا اتضح ذلك قلنا : بان الضرر ينشأ من إمضاء الشارع لتمليك الالتزام الّذي هو اللزوم الحقي فنفيه يكون بنفي إمضائه الّذي يساوق الجواز الحقي لا محالة.

وبهذا عرف أيضا تخريج إرث الخيار الثابت بلا ضرر فانه :

أولا ـ يكفي فيه مالية الجواز الناشئة من إمكان إسقاطه وبذل المال بإزائه.

وثانيا ـ انه لو كان يشترط في موضوع الإرث ان يكون مالا أو حقا فقد عرفت إمكان استفادة الجواز الحقي من لا ضرر ابتداء فيورث.

المناقشة الخامسة ـ انه لما ذا لا يثبت لا ضرر الأرش بدل الخيار فانه يرتفع به الضرر أيضا؟.

وفيه : ما تقدم من ان الأرش تدارك للضرر لا نفي له ، والقاعدة مفادها نفي الضرر حدوثا أو بقاء كما عرفت.

المناقشة السادسة ـ ان جعل الخيار على خلاف الامتنان بالنسبة لمن عليه الخيار ، ولا ضرر قاعدة امتنانية.

وفيه : إنكار الكبرى ، فان لا ضرر لا يشترط فيه ان لا يكون على خلاف الامتنان بالنسبة لغير من يجري في حقه ما لم يبلغ مرتبة الضرر به.

المناقشة السابعة ـ ان الخيار ضرر على من عليه الخيار لأنه قد ملك الثمن بالبيع

٤٨٣

فإرجاعه في قبال ما هو أقل قيمة منه ضرر عليه فيكون من تعارض الضررين بالدقة.

وفيه : إنكار الصغرى ، فان المال الناقص كان لمن عليه الخيار من أول الأمر فاسترداد ثمنه الّذي ملكه بهذه المعاملة الضررية ليس ضررا عليه.

المناقشة الثامنة ـ ان ثبوت الخيار للمغبون دون الغابن ضرري من ناحية انه يستلزم تمليك الغابن التزامه بتمليك العين إلى المغبون دون العكس وهذا بنفسه ضرر لأن تمليك الالتزام من المتعاقدين لا بد وان يكون بنحو التقابل لا من طرف واحد.

وفيه : ان هذا الضرر في طول فرض ارتكاز عقلائي يقضي بثبوت حق للغابن وهو حق ان لا يخرج التزامه من ملكه إلاّ ويعطي له في مقابله التزام الآخر ولا يتملك عليه التزامه مجانا ومثل هذا الارتكاز غير موجود للغابن لكونه غابنا فلا يثبت له مثل هذا الحق ليكون سلبه عنه ضررا عليه. نعم لو أسقط المغبون حقه والتزم بالبيع بعد علمه بالغبن ثبت مثل هذا الارتكاز ولهذا يحكم بسقوط خيار الغابن بذلك ، وهذا وجه آخر لسقوط الخيار بالإسقاط.

وهكذا يتضح صحة تطبيق لا ضرر على خيار الغبن ونحوه باعتبار الضرر المالي.

الوجه الثاني ـ تطبيقه عليه بلحاظ الضرر الحقي لأن العقلاء يرون للمغبون حقا على فسخ العقد فسلبه عنه ضرر عليه فنطبق القاعدة بهذا الاعتبار فتكون إمضاء لحق الخيار المجعول عقلائيا.

وهذا التخريج يسلم عن أهم المناقشات المتقدمة على الوجه الأول وملاك جعل العقلاء لحق الخيار يمكن ان يكون بإحدى صياغات :

الصياغة الأولى ـ ان يجعلوا الغبن منشأ لحق الخيار للمغبون ابتداء.

الصياغة الثانية ـ ان يكون هذا الخيار بملاك تخلف الشرط الضمني ، لأن المتعاقدين يشترط كل منهما على الآخر ضمنا انحفاظ مالية ماله في العوضين وعدم غبنه فيه ، والعرف يرى ان فوات هذا الشرط يكون موجبا لضمانه ، وضمانه يكون بالخيار وحق الفسخ ، وقد أشار إلى هذه الصياغة المحقق العراقي ( قده ).

الصياغة الثالثة ـ نفس الفرضية السابقة مع افتراض ان تخلف الشرط يوجب عند العقلاء حق الخيار ابتداء لا بتوسط الضمان كما في تلك الصياغة ، فلا يقال لما ذا يكون الضمان بالخيار بالخصوص دون الأرش.

٤٨٤

الصياغة الرابعة ـ إرجاع خيار الغبن إلى خيار تخلف الشرط كما في الصياغة السابقة وإرجاع خيار تخلف الشرط إلى شرط الخيار ضمنا عند تخلف الشروط ، وهذا هو مبنى مدرسة المحقق النائيني ( قده ) في أمثال هذه الخيارات وتفصيل الكلام حول هذه الصياغات واختيار ما هو الأرجح منها متروك إلى محله من علم الفقه.

الوجه الثالث ـ تطبيق لا ضرر على خيار الغبن بلحاظ الغرض المعاملي للمتعاقدين والّذي لا شك في تعلقه بالعوضين مع التحفظ على نفس المقدار من المالية فيهما معا.

وهذا الوجه هو الّذي أورد عليه المحقق العراقي فيما سبق بأنه لا عبرة في باب لا ضرر بتخلف الأغراض وإلاّ لزم ثبوت الخيار في كثير من الموارد ، ولا يلتزم بذلك فقيه.

والتحقيق : انه يمكن التفكيك بين هذا الغرض وسائر الأغراض الشخصية في المعاملات ، فان الغرض إذا كان نوعيا عاما لا يلحظ فيه شخص معين بل هو ثابت بالنسبة إلى كل إنسان ولو باعتبار ارتكازية شدة اتصال هذا الغرض بكل إنسان فسوف يصدق على تخلفه الضرر بقول مطلق وبلا مئونة وهذا بخلاف الأغراض الخاصة الشخصية. فإذا جزمنا بثبوت مثل هذا الارتكاز كان هذا الوجه في تطبيق لا ضرر على خيار الغبن تاما أيضا.

ثم ان هناك موردين آخرين ذكرهما المحقق العراقي ( قده ) من تطبيقات القاعدة في الفقه ، وذكر عدم انطباق القاعدة عليهما بالدقة :

أحدهما ـ مسألة تعارض الضررين ، وهذا ما سوف نتعرض له في تنبيهات قاعدة لا ضرر مفصلا.

والآخر ـ ما إذا غاب الزوج ولم ينفق على زوجته ، فان الفقهاء حكموا بان للحاكم ان يطلقها دفعا للضرر ، وهذا ما سوف نتكلم عنه لدى البحث عن فقه الحديث بلحاظ جملة لا ضرار.

تطبيق القاعدة بلحاظ الإضرار الاعتبارية :

الجهة السابعة ـ قد عرفت ممّا سبق ان الضرر في الحديث يشمل الضرر الحقيقي كقطع اليد ، والضرر الاعتباري الّذي يكون في طول ارتكاز حق عقلائي كما في حرمان الشخص من حقوقه العرفية ، ونريد هنا البحث عن تطبيق القاعدة بلحاظ هذا

٤٨٥

النوع من الإضرار من ناحيتين :

الناحية الأولى ـ مدرك هذا التطبيق وشمول الحديث لهذا النوع من الإضرار رغم انها ليست إضراراً حقيقية.

الناحية الثانية ـ ضابط هذا النوع من الإضرار الاعتبارية ، وانَّ الدليل هل يشمل الافراد الاعتبارية المتجددة بعد زمن المعصوم عليه‌السلام أم لا.

اما الناحية الأولى ـ فيمكن إثبات شمول الحديث لهذا النوع من الإضرار بأحد تقريبين :

الأول ـ دعوى الإطلاق اللفظي في الحديث ، لأن الشارع عند ما يخاطب العرف يقصد بألفاظه ما هو معناها عرفا وخارجا ، ومفهوم الضرر عرفا يشمل الضرر الحقيقي والارتكازي فانه في طول ترسخ ذلك الحق ارتكازا يرى ذلك النقص ضررا لا محالة.

الثاني ـ دعوى الإطلاق المقامي ، فانه لو فرض ان الضرر لا يشمل إلاّ الضرر الحقيقي أو الضرر الاعتباري الّذي يقبله المتكلم نفسه مع ذلك قلنا بان المتكلم إذا كان في مقام البيان لا الإجمال فسوف ينعقد لخطابه إطلاق مقامي يدل على إمضائه لنفس الاعتبارات العقلائية والعرفية واعتماده عليها في تعيين ما هو الضرر ، فكأنّه اعتمد على الارتكاز العرفي في تحديد مراده.

واما الناحية الثانية من البحث فتحقيق الكلام فيها ان العناوين التي لها افراد ومصاديق غير حقيقية ـ اعتبارية وعنائية ـ تكون بأنحاء عديدة :

الأول ـ ان تكون العناية في الفرد غير الحقيقي من جهة الخطأ في التطبيق ، كما إذا تصور العرف نتيجة نظرته المسامحية ان زيدا مصداق للعالم بالله لمجرد كونه معتقدا بوجوده تعالى.

ولا إشكال انه لا عبرة بمثل هذه العناية العرفية بعد فرض انه من باب الخطأ في التطبيق والاخبار بحيث لو التفت إليه العرف لتنبه إلى خطأه.

الثاني ـ ان تكون العناية في الفرد إنشائية لا إخبارية أي ان العرف يوجد فردا حقيقيا من ذلك العنوان بإيجاد منشئه.

وهذا يكون في عناوين يمكن إيجادها بعمل إنشائي كعنوان التعظيم والدلالة ، فانه

٤٨٦

في طول وضع عرف القيام مثلا من أجل تعظيم القادم ، أو وضع لفظ للدلالة على معنى معين يتحقق التعظيم بالقيام والدلالة باستعمال ذلك الوضع حقيقة ، لأن التعظيم لا يراد به إلاّ إظهار الاحترام بمبرز ما ، والدلالة لا يراد بها إلاّ الاقتران بين اللفظ والمعنى تصورا ، وكلاهما يمكن ان يحصل بالتواضع والإنشاء حقيقة. وفي مثل هذا النوع من الافراد العنائية لا إشكال في شمول إطلاق الدليل لافراده المتجددة بعد زمن المعصوم أيضا لكونها افرادا حقيقية للمعنى نظير إيجاد مصداق للماء بعلاج لم يكن متيسرا في زمن المعصوم فإنه مشمول أيضا لإطلاق دليل المطهرية.

الثالث ـ ان تكون فردية الفرد إنشائية ولكنها مختصة بعرف خاص لكونها في طول إمضاء العرف وقبوله لذلك الأمر الإنشائي أو الاعتباري وليس كما في القسم السابق ، وهذا نظير عنوان الضرر فانه عبارة عن النقص الحقيقي أو الاعتباري لملك أو حق عند عرف يعتبر الملكية أو الحقية في ذلك المورد ، فانه بمنظار ذلك العرف يكون نقصه ضررا بخلاف منظار عرف لا يعتبر ذلك الحق.

وفي هذا القسم من الافراد الاعتبارية لا يشمل إطلاق الدليل إلاّ ما يكون مصداقا للعنوان عند الشارع أي في الموارد التي تكون تلك الاعتبارات المحققة للعنوان ممضاة من قبل الشارع نفسه ، وهذا يختص لا محالة بالافراد العنائية للعنوان المتواجدة في عصر الشارع حيث يكون نفس إطلاق الدليل أو سكوت الشارع إمضاء لها ، واما الإضرار العنائية المستجدة بعد عصر التشريع فلا يشمله إطلاق الدليل إذ لا ينعقد إطلاق لشمولها لا لفظا ولا مقاما كما لا يخفى.

ومنه يعرف حال قاعدة لا ضرر ، فانها لا يمكن ان تشمل كافة مصاديق الضرر العنائية المستجدة في العصور المتأخرة إلاّ في حدود ما يحرز قبول الشارع لثبوت الحق فيها ، بل حتى إذا افترضنا الإطلاق اللفظي في لا ضرر لمثل هذه الإضرار كان لا بد من تقييد مفادها بما كان في عصر الشارع ضررا لا أكثر ، إذ من الواضح ان حكم الشارع ليس تابعا لأحكام العقلاء دائما وأبدا فان هذا لا بد وان يكون على أساس أحد امرين كلاهما يقطع بخلافه وخلاف ظاهر الخطابات.

أحدهما ـ ان يكون مجرد حكم العقلاء كافيا لحكم الشارع لأن مطابقة حكم العقلاء بما هو تمام الموضوع لحكم الشارع ، وهذا يقطع بعدمه.

٤٨٧

الثاني ـ ان يكون المولى قد علم بمقتضى علمه بالغيب ان كل ما سيجعله العقلاء خارجا سوف يكون على طبق ما يريده هو أيضا ، وهذا أيضا خلاف ظاهر الخطابات ومقطوع البطلان.

ثم انه لا ينبغي ان يعتبر هذا الكلام تحديدا مطلقا لمفاد القاعدة وأمثالها من الخطابات الشرعية وإلغاء لها أو تخصيصها بالافراد الارتكازية التي يحرز وجودها في عصر الشارع فقط فلا يمكن تعميمها للمصاديق العرفية في أزمنتنا للضرر ، فان هناك نكتتين أخريين توجبان التوسعة بمقدار ما :

إحداهما ـ إذا فرض ان فردا من افراد الضرر في عرفنا المعاصر لم يكن موجودا في عصر الشارع بشخصه ولكنه كان ثابتا بنكتته ، أي ان ذلك الحق المشروع في عرفنا المعاصر كان نظيره أو كبراه مركوزا في عصر التشريع أيضا ولم يردع عنه الشارع بل أمضاه كفى ذلك في شمول القاعدة له ، فالعبرة بسعة النكتة العقلائية الممضاة في عصر التشريع لا بالحدود الواقعة خارجا من مصاديق تلك النكتة كما أشرنا إلى ذلك في بعض البحوث السابقة.

الثانية ـ انه عند الشك في ثبوت هذا الحق في زمن التشريع ، أو دخوله تحت نكتة ممضاة من قبله لا نحتاج إلى إثبات ذلك بالشواهد التاريخية القطعية الأمر الّذي يتعسر غالبا أو يتعذر ، بل يمكن إثبات ذلك بطريق آخر تعبدي وهو إجراء أصالة الثبات في الظهور لما ذكرنا من ان هذه الافراد العنائية توجب ظهورا وتوسعة في مدلول الخطاب لفظا أو مقاما بحيث يشمل الخطاب هذه الافراد فإذا شك في إمضاء الشارع لها رجع إلى الشك في تحديد ظهور الخطاب وان ما نفهمه اليوم من إطلاقه هل كان ثابتا له في عصر التشريع أيضا أم لا فيكون من موارد التمسك بأصالة الثبات وعدم النقل في الظهور (١).

__________________

(١) تارة يشك في ان معنى اللفظ هل هو الجامع الأعم أو الحصة الخاصة منه ، وأخرى يحرز المعنى وانه عبارة عن النقص مثلا على كل حال وانما يشك في شموله للنقص في حق من جهة الشك في إمضاء الشارع لذلك الحق ، ففي الحالة الأولى تجري أصالة الثبات إذا أحرز ان معنى اللفظ اليوم هو الجامع لا الحصة فيثبت الإطلاق في طول ذلك ، واما في الحالة الثانية فلا تجري أصالة الثبات إذ لا شك في ما هو المدلول اللغوي للفظ وانما الشك في امر محقق لمصداق من مصاديق اللفظ وهذا ليس تغييرا في ما هو مدلول اللفظ بحسب الحقيقة لكي تجري أصالة الثبات فيه.

٤٨٨

وبإحدى هاتين الطريقتين نستطيع تخريج الكثير من الحقوق والمرتكزات العقلائية المستجدة بعد عصر المعصومين عليهم‌السلام.

فقه الحديث بلحاظ لا ضرار :

الجهة الثامنة ـ في المراد من فقرة ( لا ضرار ) في الحديث ، وقد ذكرنا فيما سبق ان الضرار هو تعمد الضرر وتقصيده باستخدام حق من الحقوق بنحو يوقع الضرر بالغير ، ومن هنا يكون ذلك الحق كأنه سبب وذريعة للإضرار بالآخرين ، ومن هنا يكون المنفي بلا ضرار امرا زائدا على أصل حرمة الضرر أو عدم الحكم الضرري وهو نفي أصل الحق الّذي قد يستوجب تمسك المكلف به لإيقاع الضرر المحرم بالآخر وهو في مورد الرواية حق إبقاء الشجرة وتملكها من قبل سمرة بن جندب.

وتوضيح ذلك : ان الحكم قد يكون بذاته ضرريا كما في لزوم البيع الغبني وقد يكون ضرريا بتوسط إرادة مقهورة للحكم كما في ضررية وجوب الوضوء فان الضرر وإن كان في طول إرادة الوضوء إلاّ انها إرادة مقهورة ومن هنا يكون الحكم بالوجوب ضرريا ، وثالثة يكون ضرريا بتوسط إرادة غير مقهورة كما في جواز الدخول إلى حائط الأنصاري بلا استئذان. ولا ضرر ينفي الأقسام الثلاثة للضرر معا أي حتى الحكم الضرري في المورد الثالث باعتبار ما تقدم من ان لا ضرر ينفي الوجود الاستساغي للضرر أو ينطبق على الجواز المذكور باعتباره سببا له ولو عرفا ، إلاّ ان هذا المقدار من نفي الحكم لا يكفي لمنع سمرة بن جندب عن عدم الإضرار بالأنصاري في دخوله إذا كان عاصيا لهذا الحكم وأراد الدخول بلا استئذان ، وهنا يصل دور لا ضرار لنفي موجب إمكانية الإضرار المحرم على سمرة بن جندب بالتمسك بحق من حقوقه بنحو يضر بالآخرين ولو كان محرما عليه ، فلا ضرار نفي للضرر الحرام بلحاظ ما في الشريعة لا نفي للضرر بلحاظ ما في الشريعة ، ومعنى ذلك انه ينفي سبب وقوع الضرر الحرام وهو في المقام حق إبقاء الشجرة في حائط الأنصاري فيرتفع هذا السبب ويجوز للأنصاري ان يقلع شجرته ويرم بها وجهه.

وبهذا يظهر الجواب عمّا مضى من الاعتراض في كيفية تطبيق القاعدة في الحديث على قصة سمرة بن جندب ، حيث أشرنا فيما سبق بان هذا التطبيق ليس

٤٨٩

باعتبار لا ضرر بل لا ضرار بالتقريب المتقدم ، وهذه قاعدة عامة يمكن الاستفادة منها في موارد كثيرة من الفقه من قبيل ما إذا استغل الزوج مثلا حقه في الطلاق للإمساك على الزوجة والإضرار بها وتحريمها عن حقها.

٤٩٠

تنبيهات

وبعد ان اتضح فقه القاعدة بلحاظ كل من لا ضرر ولا ضرار ، يقع البحث عن أمور متعلقة بهذه القاعدة نوردها ضمن تنبيهات أربعة :

١ ـ شمول القاعدة للأحكام العدمية :

في انه هل يمكن ان يستفاد من القاعدة وضع حكم يكون عدمه ضررا كما يستفاد رفع حكم ضرري أم لا؟

ذهبت مدرسة المحقق النائيني إلى الثاني وإن كان في الدراسات استدل على استفادة حرمة الإضرار بالغير من القاعدة بتقريب : ان الترخيص فيه ضرري وهذا يعني الالتزام بإمكان استفادة تشريع حكم يكون عدمه ضرريا من القاعدة.

وأيّا ما كان فقد استندت هذه المدرسة في منعها عن استفادة تشريع حكم عدمه ضرري من القاعدة إلى أحد مأخذين :

الأول ـ دعوى قصور المقتضي وعدم الإطلاق فيها.

الثاني ـ دعوى وجود المانع ، وهو لزوم فقه جديد.

امّا المأخذ الأول فيمكن ان يقرب بأحد وجوه :

الأول ـ ان حديث لا ضرر ناظر إلى ما جعله الشارع من الأحكام ، وعدم الحكم

٤٩١

ليس مجعولا لكي يشمله إطلاق الحديث.

ويرد عليه : ان هذا غير تام لا على تفسيرنا للنفي في لا ضرر ولا على تفسير المحقق النائيني ( قده ) ، اما الأول فلأنّا جعلنا النفي منصبا على الإضرار الخارجية وقد خرج من إطلاقها بمقيد كالمتصل الضرر غير المرتبط بالشارع والّذي لا يستطيع الشارع بما هو مشرع رفعه أو وضعه فيبقي ما عداه تحت الإطلاق سواء كان من جهة حكم من الشارع أم عدم حكم كالترخيص من قبله ، واما الثاني فلأن المحقق النائيني جعل مفاد الحديث نفي الحكم الضرري أي نفي تشريعي للضرر ، ولكن من الواضح ان لفظ الحكم غير وارد في لسان الحديث ليستظهر اختصاصه بالضرر الناشئ من جعل الحكم ، والنفي التشريعي للضرر كما يناسب نفي الحكم الناشئ منه الضرر كذلك يناسب نفي الترخيص الناشئ منه الضرر.

والحاصل : لا موجب لافتراض ان الحديث ناظر إلى خصوص الجعل والحكم الشرعي المجعول ـ بالمعنى الأصولي ـ بل هو ناظر إلى مطلق الموقف الشرعي المسبب للضر فينفيه بلسان نفي الضرر.

الثاني ـ ان نفي الترخيص يعني نفي نفي الحكم وهو إن كان معقولا فلسفيا أو منطقيا ويعطي معنى الإثبات ولكنه خلاف الطبع الأولي للعرف بحيث لا يستساغ استفادة الإثبات من لسان النفي.

وفيه : ان المفروض انصباب النفي على عنوان الضرر ، اما بوجوده الخارجي التكويني أو التشريعي بعد تطبيقه على سببه وهو الموقف الشرعي فلا يلزم من شمول إطلاق الحديث للموقف الشرعي الناشئ من عدم الحكم توجه النفي على النفي بحسب المدلول الاستعمالي للكلام.

الثالث ـ ان كلمة ( في الإسلام ) الواردة في بعض طرق الحديث قرينة على إرادة الأحكام المجعولة لأن عدم الحكم ليس من الإسلام.

وفيه : مضافا إلى عدم ورود هذا الذيل في النص المعتبر ، ان الإسلام عبارة عن مجموعة حدود ومواقف تشريعية معينة سواء كانت وجودية أم عدمية إلزامية أو ترخيصية.

وهكذا يتضح تمامية الإطلاق للحديث بالنسبة إلى الأحكام العدمية أيضا.

٤٩٢

وهذا هو الصحيح في إبطال هذا المأخذ لا ما قد يقال من ان الترخيص عرفا وبالمسامحة حكم وجودي أيضا وإن كان بالدقة عدميا ، أو القول بان الإباحة الشرعية حكم وجودي كباقي الأحكام الخمسة فترفع بالقاعدة (١).

فانه مضافا إلى ان الترخيص ليس حكما وجوديا بل مجرد عدم الإلزام ، ان نفي الإباحة بالمعنى الوجوديّ لا يثبت الحرمة التي هي المطلوب لنفي الضرر.

ودعوى : ان نفي الإباحة كحكم وجودي يستلزم الحرمة بعد ضم كبرى عدم خلو أية واقعة عن حكم من الأحكام الخمسة ، أو بدعوى الملازمة العرفية من باب دفع اللغوية.

مدفوعة فان ما يدلّ على عدم خلو كل واقعة عن حكم من الأحكام لا يراد منها إلاّ ان الشريعة ليست ناقصة ومهملة لبعض الوقائع وهذا أعم من الإلزام والترخيص بمعنى عدم الحكم كما هو واضح ، وقرينة اللغوية انما تتم فيما إذا نفيت الإباحة بالخصوص لا بالإطلاق ونحوه فان اللغوية تمنع حينئذ عن انعقاد الإطلاق ولا تعيّن اللازم.

وامّا المأخذ الثاني للمنع وهو لزوم تأسيس فقه جديد من شمول القاعدة للحكم العدمي فقد استعرض المحقق النائيني ( قده ) لتوضيح ذلك عدة تطبيقات نقتصر فيما يلي على أهمها وهو فرعان :

الأول ـ لزوم إمكان رفع عدم ولاية الزوجة مثلا على الطلاق عند ضررية ذلك كما إذا لم ينفق الزوج عليها عصيانا أو كان معسرا.

وأفاد السيد الأستاذ بان قاعدة لا ضرر لا تثبت ولاية الطلاق للزوجة أو لوليها وهو الحاكم الشرعي حتى إذا قلنا بعموم القاعدة للأحكام العدمية ، وذلك لأن الضررية تنشأ من عدم الإنفاق لا من الزوجية أو عدم الطلاق ، فالقاعدة تدل على وجوب الإنفاق لدفع الضرر وهذا لا ربط له بالولاية على الطلاق.

وهذا الاعتراض مبنيٌّ على اختصاص تطبيق القاعدة على الضرر المالي أي النقص في المال ، واما بناء على ما تقدم من ان للضرر مصاديق أخرى اعتبارية فمن

__________________

(١) ويرد على مثل هذا الكلام أيضا ان عدم الحكم ليس دائما مساوقا مع الإباحة أو الترخيص فقد يكون عدم الضمان مثلا على المتلف للمتلف منه ضرريا فيراد إثبات الضمان بالقاعدة مع ان عدمه ليس أحد الأحكام التكليفية الخمسة.

٤٩٣

الواضح ان سوء الحالة التي تنشأ من عدم ولاية الزوجة على طلاق نفسها من زوجها الّذي لا ينفق عليها من أوضح مصاديق الضرر والّذي يكون رفع الضرر عنها بولايتها على طلاق نفسها والانفكاك عن مثل هذه الزوجية.

والصحيح في الجواب على هذا التطبيق ان يقال :

أولا ـ انه لا يرتبط بعموم القاعدة للأحكام العدمية بل يتجه على كل تقدير ، إذ لو كان عدم الطلاق ضرريا كما هو المفروض كان معناه ضررية بقاء الزوجية وهي حكم وجودي وحيث ان الإجماع والضرورة الفقهية قد دلاّ على ان الزوجية لا تنقطع إلاّ بالطلاق فيدل لا ضرر بالملازمة على ثبوت الطلاق بيد طرف الزوجة اما نفسها أو وليها وهو الحاكم الشرعي الّذي هو القدر المتيقن ، هذا إذا كان الزوج غير قادر على الإنفاق للإعسار واما إذا كان قادرا عليه ولكنه لا ينفق عصيانا وتمردا فهنا يمكن التمسك بفقرة لا ضرار بالتقريب المتقدم شرحه إذا لم يمكن إجباره على الإنفاق فأيضا يثبت الحكم بالطلاق للحاكم الشرعي على الأقل.

وثانيا ـ ان هذا ليس فقها جديدا بل امر قد أفتى به جملة من الفقهاء ، ووردت به بعض الروايات المعتبرة وانما ادعي وجود بعض الحدود والمقيدات له من قبيل فرض غيبة الزوج أو إعساره ممّا هو موكول إلى الفقه فإذا ثبت شيء من تلك القيود والتحفظات في الفقه أخذ بها كتقييد لإطلاق القاعدة وإلاّ التزم بإطلاقها وليس في ذلك تأسيس فقه جديد.

الثاني ـ تطبيق القاعدة بلحاظ عدم الضمان على المتلف للمتلف له ، فقد أورد عليه في تقريرات المحقق النائيني ( قده ) بما لا يخلو من تشويش واضطراب وخلط بين أصل التعميم للأحكام العدمية ، وما فرع عليه من مسألة الضمان على المتلف ، وبالإمكان استخلاص أحد إشكالين من عبائر التقريرات.

أحدهما ـ ان لا ضرر ينفي الضرر لا انه يثبت التدارك ، والضمان تدارك للضرر.

الثاني ـ النقض بموارد التلف ، فان من تلف ماله أيضا يكون عدم الضمان في حقه ضرريا فليقل بضمان بيت المال لماله وهذا ما لا يلتزم به فقهيا.

ويرد على الإشكال الأول ، بان الضمان ليس تداركا للضرر اما باعتبار ارتكازية حق الضمان على المتلف عقلائيا وقد ذكرنا فيما سبق عموم القاعدة للإضرار العقلائية

٤٩٤

الاعتبارية ، أو باعتبار ان الضمان وإن كان بالتدقيق العقلي تداركا للضرر إلاّ انه بالنظر العرفي المسامحي نفي له ولو بمرتبة من مراتبه.

ويرد على الثاني ان التلف السماوي لا يتم فيه شيء من التقريبين السابقين إذ ليس التلف له انتساب إلى الحكم الشرعي في المقام أصلا ، وليس تداركه من بيت المال إرجاعا له ونفيا للضرر بل مجرد فضل على من تلف منه المال وإحسان عليه.

ويرد على الإشكالين معا ما أشرنا إليه من انا لو سلمنا عدم انطباق القاعدة على باب الضمان لكونه تداركا للضرر لا نفيا له فهذا لا يستدعي عدم عموم القاعدة وشمولها للأحكام الترخيصية العدمية كعدم حرمة الإضرار مثلا.

بل ظاهر القاعدة في حديث الشفعة ومنع فضل الماء ان التطبيق كان بلحاظ الحكم العدمي الترخيصي حيث استخرج منها حرمة منع الماء وثبوت حق الشفعة للشريك ، بل الأمر في قصة سمرة بن جندب أيضا كذلك إذا كان التطبيق بلحاظ ( لا ضرر ) لا ( لا ضرار ) فان الضرري ليس هو أصل الحق في الدخول بل جواز عدم الاستئذان والترخيص فيه فيرتفع ويثبت حرمة الدخول بلا استئذان.

ثم ان للمحقق الأصفهاني ( قده ) كلاما في تطبيق القاعدة في باب الضمان لإثبات الضمان فيمن أتلف مال الغير سهوا مثلا حاصله : ان القاعدة انما تنفي إطلاق الحكم الضرري كوجوب الوضوء إذا استلزم ضررا لا الحكم الّذي يكون من أصله ضرريا ، وعدم الضمان في مورد التلف أصله ضرري لا ان إطلاقه وقسما منه ضرري لكي يرفع بلا ضرر.

وفيه : مضافا إلى ما تقدم من ان القاعدة ناظرة إلى الشريعة ككل ويحكم عليها لا إلى كل فرد فرد من الأحكام مستقلا ، ان دائرة عدم الضمان تتحدد بتحديد دائرة الضمان فإذا كان الشارع قد حكم بالضمان في مورد الإتلاف العمدي فيكون موضوع عدم الضمان ما لم يكن كذلك بان تلف بلا عمد أو بتلف سماوي أو لم يتلف أصلا ، وهذا الحكم العدمي أصله ليس ضرريا بل إطلاقه لصورة الإتلاف غير العمدي هو الضرري فيرفع بالقاعدة.

٤٩٥

٢ ـ تطبيق القاعدة فيمن أقدم على الضرر :

هناك في بادئ الأمر نحو تهافت بين موقفين للأصحاب في تطبيق القاعدة ، فانهم في باب خيار الغبن ونحوه قالوا بعدم الخيار فيما إذا كان المغبون عالما بالغبن من أول الأمر لأنه أقدم بنفسه على الضرر ، بينما ذهبوا في مسألة من أقدم على الجناية متعمدا وهو مريض لا يتمكن من الغسل بسقوط وجوب الغسل عليه لكونه ضرريا والانتقال إلى التيمم مع انه أيضا قد أقدم على الضرر.

وقد تصدى المحقق النائيني ( قده ) على ما في تقريرات بحثه لحل هذا الإشكال ، وعبائر التقرير لا تخلو من تشويش وفيها محتملات عديدة ، وفيما يلي نصوغ مطلب هذا المحقق بتقريبات ثلاثة :

الأول ـ ان لا ضرر انما ينفي الحكم المتولد منه الضرر باعتبار مسببا توليديا له على ما تقدم في شرح الحديث ، وهذا انما يكون فيما إذا كانت إرادة المكلف مقهورة للحكم الشرعي كما في الأمر بالغسل فانه بعد فعلية الجنابة تكون إرادة المكلف مقهورة للوجوب ، وأمّا من يقدم على الغبن فالحكم بصحة المعاملة لا يقهر إرادة المكلف على الإقدام على الغبن كي يكون الضرر منتسبا إليه لا إلى إرادة المكلف.

وفيه : انه خلط بين الجعل والمجعول ، فانه إذا لوحظ جعل الحكم بوجوب الطهور وصحة المعاملة الثابتان قبل تحقيق موضوعهما خارجا فلا إرادة مقهورة لهذا الحكم في الموردين ، وإن لو حظ فعلية الحكم بها بعد تحقق الموضوع فكما ان إرادة المكلف مقهورة لإيجاب الطهور على المجنب كذلك هي مقهورة لصحة المعاملة ولزوم الوفاء بها على المتعاقد.

الثاني ـ ان الضرر في باب الجنابة ضرر تكويني ثابت حتى إذا كانت جنابته عمدية ، فان ذلك لا يرفع ضرر الماء عنه وهذا بخلاف باب الغبن فان اقدامه من أول الأمر على المعاملة مع العلم بالغبن فيها معناه عدم اشتراط التساوي في القيمة فلا موضوع للحق ليكون انتفاؤه ضرريا.

وفيه : ما تقدم من إمكان تطبيق لا ضرر في الغبن بلحاظ الضرر المالي ، وهو ثابت تكوينا كالضرر في باب الجنابة.

٤٩٦

الثالث ـ ان المعاملة الغبنية بنفسها الضرر وقد أقدم عليه المشتري مثلا فلا تشمله القاعدة لأنها مشروطة بعدم الإقدام ، واما الجنابة التي أقدم عليها فليست هي الضرر وانما الضرر في إيجاب الغسل عليه وهو لم يقدم عليه وانما أقدم على موضوعه ، نعم لو كان حكم هذا الموضوع بالخصوص الغسل فقد أقدم على الضرر لأن المقدم على موضوع حكم ضرري مقدم عليه فصدق الإقدام موقوف على كون حكم هذه الجنابة وجوب الغسل وعدم جريان لا ضرر الموقوف على الإقدام فأصبح صدق الإقدام دوريا فلا اقدام ، وهذا التقريب نقله المحقق العراقي ( قده ) عن أستاذه صاحب الكفاية فلعله مقصود المحقق النائيني ( قده ) أيضا.

ولتحقيق البحث يقع الكلام في مقامين :

المقام الأول ـ في صدق الإقدام في مسألة الغبن فنقول : قد يتوهم عدم صدقه من باب ان المكلف أقدم على الإنشاء وهو ليس بضرري ، وانما الضرر يترتب على ما أقدم عليه وهو الصحة والنفوذ كما في باب الغسل.

وفيه : ان المدلول الجدي الّذي يقدم عليه المتعاملان هو إيجاد النتيجة القانونية وحصول المبادلة خارجا وليس الإنشاء إلاّ استطراقا إلى تحصيل ذلك في الخارج ، فإذا كانت المبادلة ضررية صدق الإقدام على الضرر بذلك.

وقد يمنع عن ذلك بان الإقدام يكون على حدوث المعاملة وصحتها وهو ليس ضرريا وانما الضرر في بقاء الصحة بعد الفسخ أي لزومها الّذي هو حكم شرعي مترتب على المعاملة فيكون حاله حال وجوب الغسل.

وهذا البيان أيضا غير تام بناء على مسلك المحقق النائيني ( قده ) والمختار من ان اللزوم منشأ في المعاملة بالالتزام فيكون هو مقصود المتعاملين الّذي أقدما عليه ، وعليه فلا ينبغي الشك في صدق الإقدام على الضرر في مسألة الغبن بنفس اقدامه على المعاملة عالما بالغبن.

المقام الثاني ـ في صدق الإقدام على الضرر في مسألة الجنابة العمدية. والبحث عن ذلك يقع في جهات :

الجهة الأولية ـ في علاج شبهة الدور التي آثارها المحقق الخراسانيّ ( قده ) في صدق الإقدام على الضرر ، ولتوضيح ذلك نتكلم ضمن نقاط :

٤٩٧

النقطة الأولى ـ انه لو صحّ ما أفاده من ان الإقدام على الضرر دوري لتوقفه على عدم جريان لا ضرر المانع عن وجوب الغسل وعدم جريانه متوقف على الإقدام لصح انا ان نقول ذلك في طرف عدم الإقدام أيضا لتوقفه على جريان لا ضرر حتى ينفي وجوب الغسل فلا يكون اقدام عليه وجريانه متوقف على صدق عدم الإقدام وهذا دور.

النقطة الثانية ـ ما ذكرناه مرارا من خطأ أصل هذه المنهجة في علاج الدور ودفع محذوره ، فان المحال ليس هو تحقق الدائرين في الخارج بل الاستحالة في نفس التوقفين سواء وجد الموقوف والموقوف عليه خارجا أم لا فلا بد مع إبطال أحد التوقفين دائما في مقابل شبهة الدور لا التسليم بذلك والمنع عن تحققهما خارجا.

النقطة الثالثة ـ ان العام دائما يتعنون بنقيض العنوان الوارد في المخصص أو الحاكم ، فإذا ورد أكرم العالم دائما وورد لا تكرم فساق العلماء كان موضوع العالم الواجب إكرامه هو العالم الّذي لا يكون فاسقا ، وفي المقام دليل وجوب الغسل على المجنب بعد تحكيم دليل لا ضرر عليه يكون موضوعه نقيض العنوان المأخوذ في لا ضرر الّذي هو عنوان عدم الإقدام ـ بحسب الفرض ـ أي الإقدام على الضرر فلا بد من ملاحظة ان عدم الإقدام على الضرر المأخوذ في موضوع لا ضرر بأي معنى من المعاني لكي يتحدد عنوان الإقدام المأخوذ في موضوع وجوب الغسل.

النقطة الرابعة ـ ان عدم الإقدام في موضوع لا ضرر فيه بدوا احتمالات ثلاثة :

الأول ـ ان يراد به عدم الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر لا مطلق عدم الإقدام ولو من ناحية جريان لا ضرر فيكون موضوع وجوب الغسل على هذا الاحتمال الإقدام الثابت بقطع النّظر عن لا ضرر ، وبناء عليه يجب الغسل على المجنب متعمدا لأنه مع قطع النّظر عن لا ضرر يصدق الإقدام على الضرر ـ بقطع النّظر عمّا سوف نذكره ـ.

الثاني ـ ان يراد عدم الإقدام بالفعل أي ولو كان من ناحية لا ضرر ، وهذا هو المحال لاستلزامه الدور فان عدم الإقدام المتفرع على لا ضرر لا يمكن ان يكون موضوعا له.

الثالث ـ ان يراد عدم الإقدام ولو الناشئ من لا ضرر ولكن لا بنحو الفعلية بل بنحو القضية التعليقية الشرطية فكلما صدقت قضية شرطية مقدّمها ثبوت لا ضرر وتاليها عدم الإقدام تحقق موضوع لا ضرر وهذا لا يلزم منه الدور لأن صدق القضية

٤٩٨

الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها فلو فرض ان الله سبحانه وتعالى علّق خلق الشيخ المفيد على نصرة الشيخ المفيد للإسلام بنحو القضية الفعلية كان دورا ومحالا ولكن إذا كان خلقه متوقفا على نصرته للإسلام بنحو القضية الشرطية أي صدق قولنا لو خلق لنصر الإسلام فهذا ليس دورا.

وهذا الاحتمال كالاحتمال الثاني في النتيجة إلاّ انه من دون محذور الدور ، وعدم الإقدام بناء على هذا يكون أعم وأوسع من العدم المأخوذ بناء على الاحتمال الأول فيكون الإقدام المأخوذ في موضوع وجوب الغسل بناء على هذا الاحتمال أخص منه على الاحتمال الأول لأن نقيض الأعم أخص ونقيض الأخص أعم ، وقد عرفت انه عل الاحتمال الأول يجب الغسل لصدق الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر بينما على هذا الاحتمال تجري القاعدة لأنه يصدق عدم الإقدام في طول جريانها بنحو القضية الشرطية فلا يجب الغسل.

لا يقال ـ هذا معناه ان وجوب الغسل موضوعه صدق الإقدام على الضرر ولو في طول وجوب الغسل وهذا دور.

فانه يقال ـ اما على الاحتمال الثالث فالمفروض ان كل ضرر ينشأ من ثبوت الحكم الإلزامي ولو أقدم عليه المكلف يرفعه لا ضرر لأن المفروض ان موضوع القاعدة عدم الإقدام ولو الناشئ من جريانها فلا محالة تكون القاعدة مفنية لإقدام ينشأ من الحكم الّذي ينفيه فيكون موضوع الأحكام الإلزامية الإقدام على الضرر الناشئ من غير نفس تلك الأحكام فلا دور.

واما على الاحتمال الأول أي ان يكون موضوع لا ضرر صدق عدم الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر ، فقد يقال انه سوف يكون موضوع وجوب الغسل الإقدام على الضرر الناشئ ولو من وجوب الغسل ـ أي بقطع النّظر عن لا ضرر ـ وهذا دور.

الا ان الصحيح عندئذ ان يقال بما ذكرناه في الاحتمال الثالث بلحاظ الإقدام ، فالموضوع صدق الإقدام على الضرر بنحو القضية الشرطية الصادقة حتى مع عدم صدق طرفيها فلا دور ولا محذور في ان يكون موضوع لا ضرر عدم الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر ولكن موضوع وجوب الغسل الإقدام لو وجب الغسل بنحو القضية الشرطية أي يكون الموضوع في دليل لا ضرر الاحتمال الأول وفي دليل وجوب الغسل الاحتمال الثالث ،

٤٩٩

فان مدرك أخذ هذا الاحتمال في دليل لا ضرر الاستظهار العرفي بحسب قرينة الامتنان ومناسبات الحكم والموضوع على ما سوف يظهر ، بينما مدرك أخذ الاحتمال الثالث في دليل وجوب الغسل حكم العقل بتقيد العام بنقيض موضوع الخاصّ لا غير وهو يقتضي سعته وشموله حتى لما إذا صدقت القضية الشرطية المذكورة فتأمل جيدا.

النقطة الخامسة ـ ان المستظهر من حديث لا ضرر أخذ عدم الإقدام على الضرر في موضوعه بنحو الاحتمال الأول لا الثالث ، لأن هذا القيد لم يؤخذ لفظا في حديث لا ضرر وانما مدركه ظهور سياق الحديث في الامتنان على الأمة وهذا لا يقتضي إطلاقها لأكثر من الاحتمال الأول أي عدم الإقدام بقطع النّظر عن لا ضرر ولا تنفي الضرر في مورد يصدق عدم الإقدام في طول جريان لا ضرر ، لأن هذا معناه ان القاعدة تكون مورد الامتنان لنفسها مع انها ناظرة إلى مورد يكون الامتنان فيه ثابتا بقطع النّظر عنها.

وهكذا يثبت إلى هنا ان الإقدام على الضرر ثابت في باب الإجناب العمدي من دون لزوم الدور ، فلا بد من القول بعدم جريان القاعدة لنفي وجوب الغسل الضرري كما في مسألة الغبن.

الجهة الثانية ـ ان لا ضرر هل يكون مقيدا بعدم أي اقدام على الضرر أو يختص بعدم اقدام خاص؟ لا إشكال ان عنوان عدم الإقدام لم يرد في لسان القاعدة ليستظهر الإطلاق ، وانما مأخذ ذلك كما أشرنا سياق الامتنان ومناسبات الحكم والموضوع الّذي يقتضي في مورد وجود غرض عقلائي للمكلف في الإقدام على الضرر عدم انتفاء الحكم لأنه خلاف غرض المكلف فلا يكون نفيه منّة عليه ولو بحسب النّظر العرفي ـ ولو فرض ان مصلحته الواقعية على خلاف غرضه ـ نعم لو كان ذلك الغرض سفهيا فلا بأس بإطلاق القاعدة لثبوت الامتنان في رفع الحكم عندئذ وهذا واضح ، انما الحديث في انه إذا تعلق غرض عقلائي بحكم ضرري فأقدم عليه المكلف فهل يكون نفيه على خلاف الامتنان مطلقا أم هناك تفصيل؟.

الصحيح : هو التفصيل بين ما إذا كان ذلك الغرض هو نفس الأمر الضرري أو معلولا له بحيث ينتفي بنفي الحكم الضرري ، وما إذا كان الغرض في امر يكون مستلزما للضرر أو علّة له ، فالأوّل هو الحاصل في الإقدام على المعاملة الغبنية فان غرض

٥٠٠