بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

الثالث ـ ان تكون الجملة مستعملة في الاخبار والنفي لكن المراد الجدي منه الإنشاء والنهي كما في مثل يصلي ويسجد.

الرابع ـ ان تكون الجملة مستعملة في إنشاء النفي كما تستعمل بعت في إنشاء البيع لأن الحكم إثباتا ونفيا عند ما كان تحت سلطان الشارع فكأنه يفرض ان المسبب وهو وجود الضرر إثباتا ونفيا تحت سلطانه التشريعي فينفيه تشريعا.

تخريج الاتجاه نفي الحكم الضرري :

واما المحتملات التي تنتج الاتجاه الفقهي الأول أي نفي الحكم الضرري فثلاثة :

الأول ـ ان يراد بالمنفي ـ وهو الضرر ـ الحكم الضرري.

الثاني ـ ان يراد من الضرر المنفي الحالة الضررية التي تطرأ على المكلف من ناحية الحكم الشرعي فينفي لا محالة ذلك الحكم الضرري بالملازمة.

الثالث ـ ان يراد بالضرر الموضوع الضرري الّذي له حكم فيكون من نفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

والاحتمال الأول يمكن تصويره بأحد وجوه :

١ ـ ان يكون على أساس المجاز في الحذف بان يكون لا ضرر بمعنى لا حكم ينشأ منه الضرر نظير واسأل القرية أي أهلها.

٢ ـ ان يكون على أساس المجاز في الكلمة بان تكون كلمة الضرر مستعملة في سببه ومنشأه وهو الحكم الضرري.

٣ ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من صحة إطلاق الضرر على منشئه وسببه حقيقة لا مجازا لكون اسم المسبب يطلق على السبب التوليدي حقيقة من قبيل أحرقه أو قتله مع انه بالدقة الفلسفية ليس الإلقاء في النار أو إطلاق الرصاص هو الإحراق أو القتل لأن الميزان بالمفهوم العرفي لا الدقي.

واعترض عليه : بان الضرر الناشئ من الوضوء منشئه فعل المكلف ، وليس الحكم الشرعي بوجوب الوضوء إلاّ مقدمة من المقدمات الإعدادية له لا مسببا توليديا.

إلاّ ان الظاهر ان مقصود المحقق النائيني ( قده ) إلحاق الحكم الناشئ منه الضرر بالمسببات التوليدية عرفا لا دقة ، لأن العرف يرى ان الحكم والقانون هو المنشأ الحقيقي

٤٦١

لهذا الضرر وإن كان يتخلل بينه وبين الضرر الخارجي إرادة الفاعل إلاّ انها لكونها إرادة مقهورة للقانون فكأنّها لا إرادة ، ولهذا يقال ان هذا القانون الّذي وضعته الدولة أضر بالرعية دون عناية أو مجاز.

واما الاحتمال الثاني ، فليس فيه مجازية ولكنه يشتمل عليه التقييد بالضرر الحاصل من الشرع وذلك بأحد نحوين :

١ ـ التقييد من ناحية الأسباب أي لا ضرر مسبب عن الحكم ٢ ـ التقييد من ناحية الظروف والحالات أي لا ضرر في فرض تطبيق السلطة التشريعية للمولى خارجا وبالمقدار الّذي يرتبط من المجتمع بالشارع فالإضرار التكوينية وإن كانت موجودة إلاّ انها ليست داخلة في الدائرة المربوطة بالسلطة التشريعية للمولى وانما ترتبط بعالم التكوين ، وكلا النحوين من التقييد يستلزمان نفي الحكم الضرري لا محالة.

واما الاحتمال الثالث ، والّذي اختاره المحقق الخراسانيّ ( قده ) ، فلتوضيحه ينبغي ان نشير إلى ان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يكون بأحد نحوين :

١ ـ ما يصطلح عليه بالحكومة وهو ما لا تسمح نكتته بنفي أصل الحكم بل لا بد من ان يكون المنفي إطلاق الحكم ، لأن تلك النكتة هي افتراض ان الحكم لازم ذاتي للموضوع ولا ينفك عنه كلما تحقق فإذا أريد نفيه يمكن بيان ذلك بنفي الموضوع الملزوم له لزوما لا ينفك عنه فيعبر بنفي الملزوم لإفهام نفي اللازم كقوله عليه‌السلام ( يا أشباه الرّجال ولا رجال ) حيث يفرض ان الوفاء والبطولة والثبات من لوازم الرجولة التي لا تنفك عنها.

وهذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما يمكن ان يكون بنحو النفي التركيبي كقولك هذا ليس بربا أو شكك ليس بشك ، كذلك يمكن أن يكون على نحو النفي البسيط كقوله عليه‌السلام التائب من الذنب لا ذنب له ) الّذي بنفي وجود الذنب بداعي نفي اثره عن الذنب الّذي صدر منه قبل التوبة ، وكما لعله ظاهر ( لا ربا بين الوالد والولد ) الّذي ينفي وجود الرّبا وتحققه بينهما (١). فما عن المحقق النائيني ( قده ) من ان هذا النحو

__________________

(١) قد يستظهر ان جملة ( لا ربا بين الوالد والولد ) ظاهرة في النفي التركيبي لا النفي البسيط أي نفي الربوية عن المعاملة الربوية.

٤٦٢

من الحكومة لا يكون إلاّ على نحو النفي التركيبي ليس صحيحا.

وأيّا ما كان فهذا القسم من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يختص بنفي إطلاق الحكم لا أصله لأن نكتته فرض كون الحكم أثرا لا ينفك عن الموضوع المنفي ، وهذا لا ينسجم مع نفي أصل ثبوت الحكم إذ بذلك يخرج عن كونه أثرا ولازما له.

٢ ـ ما يمكن نفي أصل الحكم به كما في مثل ( لا رهبانية في الإسلام ) وهذا يمكن ان يكون على أحد وجوه :

الأول ـ ان يكون النّظر إلى لوح التشريع وعالم الجعل والتقنين ، فان الحكم له نحو ثبوت موضوعا ومحمولا في هذا العالم فإذا كان وعاء النّظر هذا العالم أمكن نفي الحكم بلسان نفي موضوعه في هذا العالم شريطة ان يكون ثبوت الحكم لذلك الموضوع تشريعا مترقبا ومتوقعا في ذهن العرف ومأنوسا لديهم لثبوته في الشرائع السابقة أو لدى العقلاء ومرتكزاتهم كما في الرهبانيّة التي كانت في المسيحية ونفيت في الإسلام.

وهذا الوجه هو ظاهر كلام المحقق الاصفهاني ( قده) في المقام.

ويرد عليه : ان مجرد عناية ثبوت الحكم في لوح التشريع لا تكفي لتصحيح نفي الحكم بلسان نفي موضوعه في هذا العالم إلاّ بعنايات فائقة ، ولهذا لا يصح ان يقال لإطلاق في الإسلام بمعنى نفي حرمة الطلاق مثلا ، إذ كما يكون جواز الرهبانيّة حكما للرهبانية ثابتا في المسيحية كذلك كانت حرمة الطلاق مثلا ثابتة فيها فلما ذا لا يصح

__________________

الواقعة بين الوالد والولد ، ويستدل على ذلك بأحد وجهين لا يتم شيء منهما.

الأول ـ ان المقصود نفيه في المقام أثر لصفة المعاملة الربوية لا نفسها ، وتلك الصفة زائدة على نفس المعاملة حتى في نظر العرف فالأنسب نفي كون المعاملة الربوية ربوية لا نفي أصل تحقق المعاملة الربوية.

وفيه : ان ( لا ربا ) ليس نفيا للمعاملة الربوية وانما هو نفي لتحقق الرّبا الّذي هو الزيادة في المعاملة لا نفسها.

الثاني ـ ان العرف يفهم من هذه الجملة ان كيس الوالد والولد واحد وان الزيادة الواقعة بين الوالد والولد زيادة صورية لا حقيقية ، وإفادة هذا المطلب بالجملة النافية لا تكون إلاّ إذا كان النفي تركيبيا لا بسيطا أي تكون في قوة ( ليست الزيادة بين الوالد والولد زيادة ) بان تثبت الزيادة في طرف الموضوع أولا كزيادة صورية لتنفي عنها الزيادة الحقيقية ، وهذا بخلاف ما ذا حمل الكلام على النفي البسيط للزيادة بين الوالد والولد فانه بمجرده لا يفيد المعنى المذكور إذ لعله ينفي ذات الزيادة ادعاء لا حقيقة.

وفيه : ان النفي الادعائي للربا أيضا بحاجة إلى مصحح ، ومصححه في المقام ولو ارتكازا وعرفا هو وحدة الكيس وهذا أبلغ من إثبات الموضوع صورة ثم نفيه عنه حقيقة بل حمل الجملة على النفي التركيبي خلاف الظاهر بعد ان كان مدلوله الوضعي النفي البسيط ، ولعله غلط في الاستعمال فان ( لا ) النافية لا تستعمل في النفي التركيبي وجعله كناية عن إخطار المعنى التركيبي ممّا لا يساعد عليه العرف ولا الذوق.

٤٦٣

عرفا التعبير عن نفي حرمته بنفي موضوعها؟

الثاني ـ ان يكون النّظر إلى الوجود الاستساغي للمنفي ، فان الأمر المستساغ في شريعة كأنّه نحو وجود في تلك الشريعة لا لكونه موضوعا لحكم وإلاّ كان العنوان المحرم أيضا كذلك بل لكونه مباحا أو مستحبا أو واجبا بحيث له تحقق من جهة أحد هذه الأحكام في تلك الشريعة فينفي الجواز أو الاستحباب أو الوجوب بنفي وجود الموضوع ، ولهذا صح ان يقال لا رهبانية في الإسلام ولم يصح ان يقال لا طلاق في الإسلام. ومقتضى إطلاق نفي الوجود الاستساغي بهذا المعنى نفي تمام مراتب الاستساغة حتى الإباحة ، ولكن يمكن ان يراد نفي بعض مراتبه كما إذا قيل لا تحمل للضرر عن الغير في الإسلام بمعنى لا يجب تحمله عن الغير.

الثالث ـ ان ينفي الحكم الاستساغي بنفي وجود الموضوع خارجا ، باعتبار ان حكمه الاستساغي هو مصدر وجوده في الخارج فينفي السبب بنفي مسببه ومعلوله ، وفرقه عن السابق ان المنفي هنا الوجود الخارجي وفي الوجه الثاني الوجود التشريعي الاستساغي ، واثره انه في هذا الوجه يكون نفي الوجود الخارجي مساوقا مع انتفاء تمام مراتب الاستساغة من الإباحة والاستحباب والوجوب بلا حاجة إلى إطلاق النفي كما كان في الوجه السابق لأن انتفاء المسبب لا يكون إلاّ بسد تمام منافذ وجوده كما هو واضح.

ثم ان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ـ ولو بجعل الضرر عنوانا منطبقا على الموضوع الناشئ منه الضرر باعتباره مسببا توليديا عرفا كما يقول المحقق النائيني ـ بنحو الحكومة أي بالنكتة التي تختص بنفي إطلاق الحكم غير ممكن في المقام لا على نحو النفي البسيط ولا النفي التركيبي.

اما النفي البسيط ، فلأنّه يناسب مع خصوص موضوع الحكم الضرري كالعقد الغبني ولا يناسب مع متعلق الحكم الضرري كالوضوء الضرري ، إذ لا ينتفي الحكم بانتفاء متعلقه وانما ينتفي بانتفاء موضوعه الملزوم له ، واما المتعلق فهو الّذي يستدعيه الحكم ولا ينتفي الحكم بانتفائه.

واما النفي التركيبي ، بان يقصد من نفي الضرر نفي كون الوضوء الّذي انطبق عليه عنوان الضرر وضوء فلا يرد عليه ما تقدم ، لأن انتفاء كونه وضوء يستلزم عدم وجوبه

٤٦٤

إلاّ ان هذا لا يمكن استفادته من لا ضرر باعتبار ان المنفي به عنوان الضرر لا عنوان الوضوء عن الوضوء الضرري فهذا معناه عدم اسناد النفي إلى الضرر بل إلى الوضوء كما هو واضح وهذا بخلاف مثل لا ربا بين الوالد والولد لو حمل على النفي التركيبي فان النفي منصب فيه على الرّبا وان الزيادة الواقعة بين الوالد وولده ليست ربا فتفسير لا ربا بالنفي التركيبي لا يرد عليه مثل هذا الإيراد (١).

نعم مقتضى الأصل الأولي لنفي عنوان إرادة النفي البسيط منه لا التركيبي إلاّ ان تقوم قرينة على تعيين ذلك ، لأن أداة النفي داخلة على الرّبا ابتداء ولم يذكر شيء آخر لينفي عنه الرّبا فحمله على النفي التركيبي بحاجة إلى قرينة تدل على تقدير موضوع ينفى عنه ذلك العنوان ، وهذا قد يقال بوجوده في هذا المثال فان المناسبة لنفي الرّبا بين الوالد والولد ان يكون كيس الوالد كأنّه كيس الولد وأموال الولد كأنّها للوالد وهذه المناسبة تجعل النفي تركيبيا وبمعنى ان الزيادة الواقعة بين الوالد والولد ليس بزيادة بحسب الحقيقة ، وهذا بخلاف مثال ( التائب من الذنب لا ذنب له ) فان المناسب له نفي أصل الذنب عن التائب لا الاستهانة بالكذب الصادر منه مثلا قبل التوبة وانه ليس بذنب فيكون النفي بسيطا لا محالة لا تركيبيا.

واما نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بالنحو الثاني الّذي يمكن نفي أصل الحكم به فقد عرفت ان له أقساما ثلاثة لا بد من ملاحظة كل واحد منها :

الأول ـ نفي الوجود الاعتباري للضرر بلحاظ لوح التشريع ، وهذا الاحتمال مضافا إلى عدم صحته في نفسه إلاّ بعنايات فائقة ـ كما تقدم ـ لا يتم في المقام إلاّ بافتراض

__________________

(١) لعل الأولى ان يقال : بان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع بنحو الحكومة ورفع إطلاق الحكم لا أصله انما يكون فيما إذا كان الحكم المراد نفيه مرتبا على نفس العنوان المنفي مثل ( لا ربا بين الوالد والولد ) و ( لا شك لكثير الشك ) ونحو ذلك لا ما إذا كان الحكم مرتبا على عنوان آخر كوجوب الوضوء أو لزوم البيع ولكن قد يقع مصداقا للعنوان المنفي من قبيل الضرر والحرج ونحو ذلك ، فان هذا النحو من نفي الحكم والّذي يكون بملاك الملازمة وعدم الانفكاك بين ذلك الموضوع المراد نفي حكمه وبين حكمه لا يعقل في مثل هذه العناوين التي ليس لها الحكام لازمة يراد نفيها عنها حتى إذا افترضنا انطباق عنوان الضرر عليها للتسبيب لأن ذلك الحكم لا يصبح لازما لعنوان الضرر المنفي فيتعين ان يكون النفي لمثل هذه العناوين بالنحو الثاني.

واما ما ذكر من ان النفي البسيط لا يناسب إلاّ مع موضوع الحكم الضرري كالعقد الغبني ولا يناسب مع متعلق الحكم الضرري كالوضوء فهذا لا يوجب إبطالا لهذا الاحتمال بل غايته اختصاص النفي فيها بالموضوع الضرري كالعقد الغبني لا أكثر.

والصحيح ان يقال في إبطال هذا الاحتمال ان الموضوع الضرري كالعقد الغبني أيضا لا يمكن نفيه بلا ضرر لأن لزوم العقد الغبني ليس حكما للضرر لينفى بنفي الضرر ولو فرض انطباق عنوان الضرر على العقد الغبني

٤٦٥

عناية انَّ عنوان الضرر منطبق عرفاً على العقد الغبني ـ الموضوع الضرري ـ أو الوضوء الضرري ـ المتعلق الضرري ـ حقيقة باعتباره مسببا توليديا عنهما ، وان انطباق ذلك عليهما كأنّه نحو وجود للضرر في لوح التشريع وإن لم يكن التشريع حكما لعنوان الضرر بل لمعنونه ، وامّا إذا أريد نفي حكم الضرر الحقيقي أي نفس الحالة الضررية والنقص فلا يصح نفي وجوده الاعتباري في لوح التشريع لما مضى من كونه مشروطا بكون الحكم المقصود نفيه ممّا يترقب ثبوته له ولو لثبوته في الشرائع السابقة أو لدى العقلاء ، وليس للضرر حكم يترقب ثبوته له عدا الحرمة ونفيها خلاف المقصود.

الثاني ـ نفي الوجود الاستساغي للضرر من قبيل ( لا رهبانية في الإسلام ) وهذا ينتج تحريم الضرر والإضرار وعدم جواز إيقاعه خارجا ـ وهو أحد التخريجاب المتقدمة للاتجاه الفقهي الثاني ـ وهل يمكن ان نستنتج بناء على هذا التخريج نفي الأحكام الضررية أيضا ـ أي الاتجاه الفقهي الأول ـ؟

الصحيح : إمكان ذلك لأن وجود أحكام تستوجب الضرر خارجا كالوضوء الضرري أيضا نحو استساغة من قبل الشريعة للضرر كما لو كانت للشريعة أحكام تستوجب الرهبنة بحسب النتيجة فيكون نفي الوجود الاستساغي للضرر رفعا لها بلسان نفي موضوعها ولو باعتبار ان عنوان الضرر ينطبق على موضوعاتها بالعناية المتقدمة عن الميرزا فيكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع (١).

الثالث ـ نفي الوجود الخارجي للضرر لنفي حكمه الاستساغي ، فهذا ينتج كالاحتمال السابق حرمة الإضرار ، واما نفي الأحكام الضررية ـ الاتجاه الفقهي الأول ـ فاستفادته من هذا التخريج مبني على إعمال العناية المتقدمة عن الميرزا وان

__________________

(١) الإنصاف ان عناية نفي الوجود الاستساغي للضرر والّذي يكون على وزان ( لا جدال ولا فسوق في الحج ) غير عناية نفي استناد الضرر إلى الشارع ونشوئه من حكمه ولا يمكن الجمع بينهما معا لأن ملاك العناية الأولى ملاحظة المكلف الملتزم بحدود الشريعة وأفعاله الممسوح بها ولهذا تختص هذه العناية بخصوص العناوين التي تكون أفعالا للمكلفين كعنوان الجدال والفسوق والرهبنة بينما ملاك العناية الثانية ملاحظة نتائج نفس الأحكام مع قطع النّظر عن افعال المكلفين بل ما يتولد من التشريع قد لا يكون فعلا للمكلف أصلا ولهذا تستخدم هذه العناية عادة في عناوين لا تكون فعلا من افعال المكلفين كعنوان الحرج والعسر والضرر ونحو ذلك وبهذا يظهر ان فقرة ( لا ضرر ) لا يستفاد منها أكثر من نفي الحكم الضرري نعم فقرة ( لا ضرار ) تناسب أن يكون النفي فيها بلحاظ الوجود الاستساغي للضرار لكونه فعلا للمكلف فيستفاد منها حرمة الإضرار وبهذا يندفع إشكال لزوم التكرار الّذي أشير إليه في تفسير مادة الضرار لو أريد به الضرر المتعمد فتأمل جيدا.

٤٦٦

الضرر ينطبق على الموضوعات الضررية فينفي وجوب الوضوء الضرري ولو لم تنتف تمام مراتب الاستساغة باعتبار ان الوضوء الضرري مثلا حيث انه لا داعي لأحد في تكلف الإتيان به لو لا الأمر الشرعي فكأن زوال امره كاف لتحتم انتفائه خارجا.

ثم انه ربما يدعى التلفيق بين بعض الأقسام وبعضها الآخر وذلك بأحد نحوين :

الأول ـ ان يفرض ان النفي للضرر بلحاظ جميع أنحاء وجوده ، أي وجوده الاعتباري والاستساغي والخارجي معا تمسكا بإطلاق النفي.

وفيه : ان هذه الأنحاء من الوجود للضرر ليست كلها حقيقية ليجري الإطلاق في نفيها ، بل الأول والثاني منهما عنائيان لا يمكن افتراض شيء منهما إلاّ في طول إعمال تلك العناية المصححة لكل منهما والصارفة لظاهر اللفظ عن إرادة وجوده الحقيقي إلى ذلك الوجود ، وتلك العناية إن لم يثبت ما يدل عليها فلا بد من حمل اللفظ على وجوده الحقيقي ، وإن ثبت ما يدلّ عليها انصرف الكلام إلى ملاحظة ذلك النحو من الوجود بالخصوص لا محالة لا إرادة جامع الوجودات.

الثاني ـ ان نجمع بين نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على نحو الحكومة ونفي الحكم بلسان نفي وجود متعلقه خارجا ـ القسم الثالث من الأقسام الثلاثة المتقدمة ـ باعتبار ان المنظور إليه في كليهما هو نفي الوجود الخارجي لا الاعتباري أو الاستساغي للضرر ، ولكنه تارة لنفي حكمه وهو لزوم العقد الضرري مثلا باعتباره ملزوما له ، وأخرى لنفي الحكم بنفي متعلقه خارجا باعتبار انعدام المتعلق في الخارج بانتفاء الحكم الاستساغي المتعلق به.

وهذا أيضا مما لا يمكن المساعدة عليه إثباتا ، لما فيه من الجمع بين عنايتين وتنزيلين ، والإطلاق لا يقتضي الجمع بين العنايات فهذا يشبه استعمال اللفظ في معنيين ولكن بلحاظ مرحلة المدلول الجدي واقتناص المرام.

هذه هي الأنحاء المتصورة لنفي الحكم بلسان نفي الموضوع في المقام. والمحقق الخراسانيّ ( قده ) وإن ذكر ان لا ضرر من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الا ان ظاهر عبارته في الكفاية تطبيق ملاك الحكومة أي نفي إطلاق الحكم بلسان نفي الموضوع بنكتة التلازم بين الحكم وموضوعه بقرينة تشبيهه ذلك بأمثال ( يا أشباه

٤٦٧

الرّجال ولا رجال ) و ( لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد ) الّذي هو نفي للأثر بلسان نفي ذي الأثر.

وظاهر عبارته في حاشيته على الرسائل ان المقام من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الّذي يمكن فيه نفي أصل الحكم لأنه شبّهه بمثل ( لا رهبانية في الإسلام ) و ( لا سرقة في الإسلام ) والّذي يكون من نفي الموضوع بوجوده الاستساغي ، وإن كانت عبارته لا تصرح بذلك فلعلّه يريد نفي الوجود الاعتباري أو الحقيقي ، وقد جعل ذلك منشأ لعدم إمكان استفادة نفي الأحكام الضررية من الحديث بل مجرد تحريم الضرر ، بينما في الكفاية جعل الضرر عنوانا للموضوع الضرري فرفع بذلك الأحكام الضررية.

تخريج الاتجاه الفقهي الثالث :

واما كيفية تخريج الاتجاه الفقهي الثالث وهو نفي الضرر غير المتدارك فهذا يكون باعمال عناية ان المراد بالضرر هو الضرر المستقر الثابت ، واما الضرر المتدارك والمضمون فليس بضرر عرفا ، وحينئذ تارة تجعل ( لا ) ناهية فيكون المتحصل تحريم الضرر غير المتدارك على المكلفين فقط ، وهذا هو القول الأول تحت هذا الاتجاه وأخرى تجعل ( لا ) نافية للضرر غير المتدارك فيثبت وجوب التدارك إذا كان الضرر من فعل الإنسان ونفي الحكم الضرري إذا كان مسببا من حكم الشارع ، وهذا هو القول الثاني تحت هذا الاتجاه.

وقد اتضح ممّا سبق ان الوجوه التي تثبت نفي الحكم الضرري تستبطن أيضا نفي جواز الإضرار لكونه أيضا حكما وجوديا ينشأ منه الضرر أو يفرض عموم القاعدة لعدم الحكم أيضا إذا كان ينشأ منه الضرر. نعم لو فرض ان نفي الحكم بلسان الضرر كان بملاك ان الشارع هو مسبب الضرر ومقتضية فلا يشمل جواز الإضرار فانه وإن كان يصدق في مورده انه لو لا تجويز الشارع لما كان يتحقق الضرر إلاّ ان هذا بحسب الحقيقة من باب عدم المنع عن إضرار الناس بعضهم بعضا لا ان الشارع هو مسبب الضرر.

٤٦٨

المختار في لا ضرر :

والتحقيق : ان جملة ( لا ضرر ) لو خليت ونفسها تكون متضمنة لظهورات عديدة كما يلي :

١ ـ ظهورها في النفي دون النهي ، بل لعل استعمال ( لا ) الداخلة على الاسم في النهي لا يصح حتى مجازا.

٢ ـ ظهور الكلام في عدم التقدير وان المنفي هو المذكور صريحا وهو الضرر لا الحكم الناشئ منه الضرر.

٣ ـ عدم المجازية في كلمة الضرر بإرادة الحكم الضرري منه.

٤ ـ عدم العنائية بان يراد من نفي الموضوع نفي حكمه لكونه لازما له ، أو غير ذلك من العنايات المتقدمة لنفي الحكم بلسان نفي الموضوع ٥ ـ ظهور الكلام في ان المنفي هو الوجود الحقيقي للضرر لا التشريعي أو الاستساغي.

٦ ـ ظهوره في أخذ الضرر بنحو الموضوعية لا الطريقية ، وهذا ينفي احتمال المحقق النائيني ( قده ) في المقام حيث جعل الضرر عنوانا للحكم باعتباره مسببا توليديا عنه.

توضيح ذلك : ان جعل الضرر عنوانا للحكم وإن كان صحيحا عرفا ـ كما ذكرنا ـ باعتباره طريقا إلى الضرر الحقيقي وسببا له إلاّ ان هذا لا يعني ان مفهوم الضرر يصبح له مصداقان عرفا أحدهما الضرر الخارجي والآخر مسببه في عرض واحد ، وانما يعني صحة إطلاقه على الفرد الطريقي عرفا إلاّ انه عند ما يستعمل العنوان دون قرينة ينصرف لا محالة إلى إرادة الفرد الحقيقي منه كما هو في المقام. على ان كلمة لا ضرار على ما اختاره واخترناه يراد منه الضرر المتعمد والمتفنن فيه وهو ليس عنوانا للحكم الشرعي قطعا ولا مسببا عنه بل عن فعل المكلف واستغلاله الخبيث للحكم الشرعي فيكون المراد منه فرده الحقيقي وهو قرينة على إرادة الوجود الحقيقي من الضرر المنفي أيضا.

٧ ـ الظهور الإطلاقي في ان المنفي مطلق الضرر.

وهذه الظهورات السبعة لو أريد التحفظ عليها جميعا لزم نفي كل ضرر خارجي في

٤٦٩

العالم وهو بديهي البطلان كما ذكرنا سابقا فلا بد من رفع اليد عن بعض هذه الظهورات.

والظهورات الثلاثة الأخيرة وإن كانت أضعفها فتتعين هي في مقام السقوط ولكن هذا المقدار لا يكفي في تعيين المقصود ، إذ تتردد الأمر بين هذه الظهورات الثلاثة ولا معين لأحدهما قبال الآخرين ، نعم لو كانت كلمة ( في الإسلام ) ثابتة أمكن رفع اليد عن الظهور الخامس وإرادة نفي الوجود الاستساغي في الشريعة كما في ( لا رهبانية في الإسلام ) إلاّ ان هذا لم يثبت في سند صحيح.

هذا ولكن الصحيح تعين الظهور الأخير للسقوط في قبال الظهورات السابقة لا لمجرد كونه ظهورا إطلاقيا وهو أضعف عادة من الظهورات الوضعيّة ، أو كونه إطلاقا في طرف الموضوع فيرفع اليد عنه في أمثال المقام لا عن الظهورات الوضعيّة في طرف المحمول والحكم كما هو منقح في بحوث التعارض ، بل لقيام القرينة المتصلة على ذلك أيضا لبداهة وجود الإضرار التكوينية في الخارج كثيرا وظهور كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه صادر عنه بما هو مشرع ومقنّن فلا يكون نظره إلى الإضرار التكوينية التي لا ربط لها بالشريعة أصلا ، وهذا يشكل قرينة لبّية متصلة بالخطاب مانعة عن انعقاد أصل الظهور الأخير الإطلاقي دون الظهورات الوضعيّة الأخرى لكونها اقتضائية لا سكوتية كما هو منقح في بحث التعارض (١).

__________________

(١) الإنصاف ان هذا القرينة المقامية نسبتها إلى الظهورات المذكورة على حد واحد لا انها تعين ان يكون المراد من الضرر المنفي هو الوجود الحقيقي منه مع تقييده بالناشئ من الحكم الشرعي ، لأن هذه القرينة لا تقتضي أكثر من ان المتكلم وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس ناظرا إلى نفي الإضرار التكوينية ولا يناسبه ذلك بل لا محالة ناظر إلى عالم تشريعاته ، وحينئذ إن لم يدع بان هذا يجعل كلامه ناظرا إلى عالم التشريع ووعائه أو عالم الاستساغة التشريعية أو ان المراد من الضرر منشأه الشرعي ـ المعنى الطريقي للضرر ـ فلا إشكال في ان إرادة ذلك ليس بأخفى من إرادة الوجود الخارجي للضرر المقيد بل لعل هذا المعنى لا يخلو من ركاكة تنشأ من إطلاق الضرر الخارجي وإرادة قسم معين منه.

وان شئت قلت : ان تعيين وعاء النّظر وانه عالم التشريع أو الاستساغة ونحو ذلك من العنايات هي أيضا كالدلالة الإطلاقية ليست دلالة لفظية فالتصرف فيها بإرادة الاخبار عن عالم التشريع أو إرادة موضوع تشريعي ليس بأكثر مخالفة من تقييد الضرر الخارجي بالناشئ من حكم الشارع إن لم يكن أخف مئونة بحسب نظر العرف وأبلغ فيتعين ان يكون المنفي هو الوجود الاستساغي والتشريعي للضرر أو إرادة المعنى الطريقي منه كما ذكره الميرزا ( قده ).

٤٧٠

المشاكل المثارة في فقه لا ضرر :

الجهة الخامسة ـ في استعراض المشكلات التي أثيرت في مقام اقتناص المدلول النهائيّ من الحديث بعد فرض إمكان نفي الحكم الضرري به ، وهي كما يلي :

الأول ـ ان الحديث على هذا يبتلي بتخصيص الأكثر ، لأن كثيرا من الأحكام الفقهية تستبطن الضرر كالحدود والدّيات والقصاص والضمان والخمس والزكاة والجهاد والحج وغير ذلك فلا بد من ان يراد منه معنى آخر غير نفي الحكم الضرري ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى إجمال الحديث وعدم إمكان العمل به ، وبعضهم إلى انه يعمل به في حدود ما عمل به المشهور. وأجاب عن الإشكال آخرون بان الحديث باعتباره حاكما على أدلة الأحكام الأولية ينظر إلى تحديد إطلاقاتها لا أصلها فلا يشمل الأحكام المذكورة التي تكون ضررية بحسب طبعها.

الثاني ـ ان الحديث طبق في مسألة الشفعة في بعض رواياته مع ان بيع الشريك لحصته لا يكون ضررا على شريكه إلاّ نادرا وبنحو قد يكون مقدمة إعدادية للضرر كما إذا كان المشتري رجلا خبيثا قد يضر بالشريك الأول ، ومثل هذه المقدمات الإعدادية للضرر لا تمنع عن ترتب الحكم الشرعي جزما.

وقد أجيب عن ذلك تارة بان ذلك من الجمع في الرواية المروي فلا يرتبط حديث لا ضرر بحكم الشفعة ، وأخرى بان الضرر في باب الشفعة من باب الحكمة لا العلّة ، وثالثة بان لا ضرر تفريع على حكم الشفعة لا علّة له أي باعتبار ان حق الشفعة مجعول للشريك فلا يترتب ضرر على بيع الشريك خارجا لإمكان فسخه من قبل الشريك الأول ، وعلى هذا فيسقط الاستدلال بهذا الطريق للحديث على القاعدة.

الثالث ـ ان الحديث طبق في بعض طرقه على مسألة منع فضل الماء مع انه ليس بضرر على الثاني وانما هو من باب عدم النّفع ، فهل يراد بالضرر مجرد عدم النّفع وكيف يمكن ان يلتزم بذلك؟ بل هنا لا يمكن ان يكون الضرر حتى حكمة للحكم بحرمة منع فضل الماء ، ومن هنا جعل بعضهم ذلك أيضا من باب الجمع في الرواية لا المروي.

الرابع ـ ان تطبيق الحديث على قضية سمرة بن جندب أيضا لا يخلو من إشكال لأن

٤٧١

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طبق ذلك لإثبات جواز قلع النخلة الراجعة لسمرة مع ان الأمر الضرري انما هو جواز الدخول بلا استئذان فلا بد من ارتفاع هذا الحكم لا حرمة قلع النخل ، ومن هنا جعل بعضهم ذلك تعليلا لعدم جواز الدخول بلا استئذان لا لجواز قلع النخلة ، بل كان حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقلع من باب كونه ولي الأمر.

والتحقيق : في دفع كل ما أثير من المشكلات ان نلتفت إلى أمور ثلاثة :

الأمر الأول ـ ان وجود الشيء قد يكون حقيقيا ثابتا في نفسه ، وقد يكون حقيقيا ثابتا في طول عناية عرفية ، وثالثة يكون عنائيا اعتباريا. فالأوّل من قبيل التعظيم بالسجود أو الثناء لشخص ، والثاني من قبيل التعظيم بالقيام له في مجتمع جعل القيام فيه أسلوبا من أساليب التعظيم ، ومن هنا يكون تحقق التعظيم في طول ذلك الجعل ، والثالث من قبيل العناوين العنائية والمجازية أو الاعتبارية. وإذا ورد لفظ مطلق في لسان دليل فكما يشمل الفرد الحقيقي الأول يشمل أيضا الفرد الحقيقي الثاني الّذي يكون في طول عناية العرف إذا كانت تلك العناية ثابتة في المجتمع أو العرف الّذي يتكلم فيه الشارع.

وعلى هذا الأساس نقول : ان عنوان الضرر كما يشمل المصداق الحقيقي للضرر كقطع اليد مثلا كذلك يشمل منع الشريك عن حق الشفعة فانه ضرر في طول افتراض ان العرف يرى بحسب ارتكازه حقا للشريك في الشفعة فإذا لم يكن له مثل هذا الحق كان نحو إضرار به وهو ضرر حقيقي لأنه نقص لحق مركوز عقلائيا ـ كما تشهد بذلك الشواهد التاريخية القانونية ـ وكذلك حق الانتفاع من فضل الماء وما أشبه ذلك في الثروات العامة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى للناس عموما لإشباع حاجاتهم بها فيكون منع الزائد على الحاجة منه نحو إضرار بالآخرين في طول هذه العناية حقيقة.

وبهذا يعرف الوجه أيضا في تطبيق القاعدة على مثل خيار الغبن أو تبعض الصفقة مع انه لا ضرر في تبعض الصفقة وتبعض الثمن بتبعه ، فان هذه الخيارات حقوق عقلائية. وإن شئت قلت : ان إلزام المشتري بذلك وتحميله عليه نحو إضرار به عقلائيا فيكون مشمولا للقاعدة وتكون القاعدة إمضاء لمثل هذه الحقوق أيضا كما تفيد التأسيس في موارد أخرى.

٤٧٢

وكأن خفاء هذا مطلب هو الّذي دعى مثل المحقق العراقي ( قده ) ان يفترض متمما لهذه القاعدة في المرتبة السابقة فسلخها عن التأسيسية وحملها على انها إشارة إلى قواعد مجعولة في موردها من قبل نظير ما ذكره في حديث مسعدة بن صدقة ( كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام ) الوارد في مورد السوق واليد ونحو ذلك ، وقد عرفت ان الصحيح ما ذكرناه.

الأمر الثاني ـ ان حديث كثرة التخصيصات على قاعدة لا ضرر انما ينجم من الجمود على الظهور الأولي للكلام بقطع النّظر عن تحكيم مناسبات الحكم والموضوع والارتكازات العقلائية والاجتماعية عليه ، ذلك ان الشريعة من مقوماتها بحسب المرتكز العقلائي اشتمالها على قواعد وأنظمة تحقق العدالة الاجتماعية وتنظم الحياة العامة للناس وهي تستتبع لا محالة تحميلا على الناس أو تحديدا لهم إلاّ ان هذا ليس بضرر اجتماعيا بلحاظ المشرع ـ وإن فرض بالقياس إلى الفرد لو أراد ان يحمل شيئا على آخر كان ضررا ـ بل الضرر ان تخلو الشريعة عن تلك الأنظمة فان الشريعة التي لا تضمن من أتلف ما الغير ولا تقتص من جان ولا تعاقب سارقا ولا تأخذ زكاة للفقراء هي التي تكون ضررية وهكذا يتضح انه بالنسبة إلى المشرع الصادر منه هذه القاعدة لا تكون الأحكام المذكورة بحسب مناسبات الحكم والموضوع الاجتماعية أحكاما ضررية لكي يقال بأنها تخصيص الأكثر.

واما الأحكام العبادية الأخرى فلو فرض فيها ما يستلزم نقص مال أو تحديد حرية ولم تكن مشمولة للارتكاز والمناسبة المشار إليها فلا إشكال في ان هناك ارتكازا آخر محكما على هذا الدليل الصادر من شارعنا الأقدس وهو انه ليس للعبد تجاه مولاه الحقيقي حق الحرية والملك ليكون تكليفية بذلك من أجل المولى ضررا عليه نعم تحمله لذلك تجاه الآخرين يكون ضررا وهو المنفي بهذه القاعدة.

وهكذا يتضح في ضوء هذا الأمر الجواب على إشكال كثرة التخصيص الّذي تجشم الشيخ في مقام دفعه بان التخصيص الوارد قد تعلق بعنوان واحد لا بعناوين متعددة فانه ليس هناك تخصيص بل تخصص.

واما الأجوبة المتقدمة فجواب الشيخ قابل للمناقشة من ناحية عدم ورود التخصيصات بعنوان واحد بل عناوين عديدة حسب الأبواب الفقهية المختلفة ،

٤٧٣

ولو فرض ذلك فلا فرق في استهجان تخصيص الأكثر بين كونه بعنوان واحد أو عناوين عديدة خصوصا في مثل هذا اللسان الآبي عن التخصيص والناظر إلى الشريعة وأحكامها بما هي قضايا خارجية متعينة لا قضية حقيقية.

واما جواب المحقق الخراسانيّ من ظهور القاعدة في مانعية الضرر فلا يشمل فرض كون الضرر بنفسه مقتضيا لحكم فيرد عليه :

ان المقتضي للأحكام التي تكون من أصلها ضررية ـ بقطع النّظر عما ذكرناه ـ ليس هو الضرر بل المصالح المترتبة في تلك الأحكام وإن كانت ملازمة مع تضرر المكلفين فلما ذا لم يجعل الضرر مانعا عن تأثير تلك المصالح كما منعت عن تأثير مصلحة الوضوء الضرري.

واما جواب المحقق النائيني ( قده ) من ان حديث لا ضرر حاكم على أدلة الأحكام الأولية بملاك النّظر إليها فلا بد من ان يفترض ثبوت ذلك الحكم في المرتبة السابقة فلا يمكن للحديث ان يرفع أصل الحكم الضرري وانما ينحصر مفاده في نفي إطلاق الحكم الضرري.

فالجواب : ان الحديث ناظر إلى الشريعة ككل لا إلى كل حكم حكم وهو ينفي ثبوت الحكم الضرري فيها سواء كان أصله ضرريا أو إطلاقه ، واما الشريعة فهي مفترضة وثابتة في المرتبة السابقة.

واما ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) أيضا من المناقشة في ضررية هذه الأحكام فذكر في الخمس والزكاة مثلا بأنه ليس ضررا بل عدم النّفع فانه ليس إلاّ عبارة عن جعل الفقير شريكا مع الغني من أول الأمر نظير جعل غير الولد شريكا معه في الإرث.

فيرد عليه : انه لو قطعنا النّظر عن المناسبات التي أشرنا إليها كان عنوان الضرر صادقا هنا لأن الخمس والزكاة انما يكون في طول تحقق ملكية الغني أولا فما يخرجان عن ملكه إلى ملك الفقير أو الإمام عليه‌السلام.

وذكر في ضمان اليد بأنه ليس ضررا لأنه هو الّذي أقدم عليه فكأنّه لا ضرر عرفا

وفيه : ان الضمان كثيرا ما يكون من دون اقدام من الضامن على الإتلاف كما في الإتلاف غير العمدي وكما في موارد الجهل واعتقاد ان هذا المال له فأخذه فتبين بعد التلف انه لغيره.

٤٧٤

والمحقق العراقي ( قده ) أشكل على هذا الكلام من المحقق النائيني ( قده ) بإشكال الدور ، فان الإقدام على الضرر فرع ثبوت الضمان الّذي هو فرع عدم جريان قاعدة لا ضرر الّذي هو فرع الإقدام على الضرر وهذا دور ، وسوف يأتي التعليق على هذا الإشكال.

وذكر في مطلق الضمان والقصاص بأنه من موارد تعارض الضررين ، فان عدم الضمان ضرر على المضمون له وعدم القصاص ضرر على ولي الدم ، والحديث لا يشمل موارد تعارض الضررين.

وفيه : ان هذا في القصاص معقول باعتبار ان الاقتصاص ضرر حقيقي على المقتص منه من دون ان يكون في طول جعل حق عقلائي في المرتبة السابقة وعدم القصاص أيضا ضرر على ولي الدم في طول جعل حق الاقتصاص له ارتكازا وعقلائيا ، واما في الضمان فحيث ان الضمان ليس نقصا حقيقيا على الضامن بل هو نقص في طول فرض حق عقلائي وهو تسلط الإنسان على ذمته حتى في قبال من أتلف ماله فكونه من تعارض الضررين فرع افتراض حق للمضمون له على ذمة الضامن في المرتبة السابقة ليكون عدمه ضررا عليه ، ومثل هذين الفرضين لا يمكن تحققهما معا لأن العقلاء اما ان يفترضوا التحقق والسلطنة للضامن على ذمته أو للمضمون له ولا يمكن افتراض جعلهما معا فانهما متضادان ومعه لا يعقل ان يكون باب الضمان من تعارض الضررين (١).

وفي الدراسات عبارة يحتمل ان يراد منها ان التخصيصات المذكورة كانت معلومة لدى المخاطبين لوضوحها في الشريعة ، فان الرواية لم ترد في أوائل التشريع فلا قبح ولا استهجان في كثرتها لكونها كالمتصل ، ويحتمل ان يراد منها ما تقدم عن الشيخ من كون التخصيصات بعنوان واحد هو الأحكام الضررية من أصلها فلا يكون مستهجنا.

وكلا المطلبين غير تام ، فان مجرد معلومية الأحكام الضررية لدى المخاطب لا يرفع استهجان المخاطبة بعموم من قبيل لا ضرر ولا ضرار ما لم يكن قرينة متصلة صارفة لأصل الظهور في الخطاب إلى معنى آخر لا يشمل تلك الموارد والثابت فيها الحكام ضررية في

__________________

(١) الظاهر ان صدق الضرر على المضمون له في فرض عدم الضمان انما هو بلحاظ خسارته للمال التالف لأنه كان مملوكا له من الأول الأمر لا بلحاظ حق له على ذمة الضامن.

٤٧٥

الشريعة ، كما انَّ تلك الأحكام على القول بضرريتها لا تكون مخصصة بعنوان الحكم الضرري من أصله بل بعناوينها التفصيلية حسب تلك الأبواب الفقهية المتنوعة.

الأمر الثالث ـ واما كيفية انطباق القاعدة على قصة سمرة بن جندب مع الأنصاري وتجويز قطع عذقه من قبل الأنصاري فقد يذكر بصدد ذلك ما عن الشيخ الأعظم ( قده ) من انَّ صعوبة فهم هذا التطبيق لا يمنع من التمسك بأصل القاعدة في نفسها ، إلاّ انَّ هذا المطلب غير تام إذا كان الاعتماد في سند هذه القاعدة على الحديث الناقل لقصة سمرة لكونه الصحيح فقط ، لأنَّ إجمال المورد المطبق فيه القاعدة في هذا الحديث يسري لا محالة إلى أصل القاعدة إذ لعل فهم المورد ونكتة التطبيق فيه يغير من ظهور القاعدة نفسها.

والمحقق النائيني ( قده ) جعل تطبيق القاعدة في الحديث بلحاظ الحكم الأول وهو المنع عن الدخول بلا استئذان لا بلحاظ قلع العذق فانه حكم آخر صدر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصفه ولي الأمر تأديباً لسمرة بن جندب.

وهذا الفهم للحديث أيضاً غير تام ، لأنه خلاف ظاهر الحديث لأنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولا امر سمرة بالاستئذان من الأنصاري فلم يقبل ثم أراد ان يشتري منه العذق فلم يقبل أيضاً فقال حينذاك للأنصاري اقلعه وارم بها وجه صاحبه فانه لا ضرر ولا ضرار ، وهذا واضح الظهور في انه تعليل للحكم بالقطع.

والتحقيق ان يقال : انَّ كل هذا البحث انما يتجه بناءً على توهم انَّ تطبيق القاعدة في هذا الحديث على قصة سمرة بن جندب انما هو بلحاظ فقرة ( لا ضرر ) مع ان الصحيح ان التطبيق بلحاظ فقرة ( لا ضرار ) كما يؤيده ما ورد في بعض أسانيد القاعدة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لسمرة انك رجل مضار ، أو ما أراك يا سمرة إلاّ مضارا بناء على ان الضرار مصدر لضار ، والضرر مصدر لضر. واما كيفية تطبيق لا ضرار على الحكم بقلع العذق فسوف يأتي بيانه مفصلا في الجهة القادمة.

ثم ان الحكم الأول في الحديث وهو لزوم الاستئذان من قبل سمرة في الدخول على عذقه هل يمكن تخريجه على أساس قاعدة لا ضرر أم لا؟.

ذكر المشهور في تخريج ذلك بان حق سمرة في الدخول في صورة عدم الاستئذان ضرري فينفي بالقاعدة.

٤٧٦

وعلّق المحقق العراقي ( قده ) على ذلك ان نفي القاعدة لهذا الحق يكون خلاف الامتنان على سمرة والحديث ظاهره الامتنان فلا يمكن ان يكون التطبيق بهذا الاعتبار وانما الحديث أثبت حقا للأنصاري في حفظ عياله لأن عدمه ضرر عليه فيقع تزاحم بين هذا الحق وحق سمرة في الدخول على عذقه فيقدم عليه لأهميته لا بقاعدة لا ضرر لكي يلزم كونها خلاف الامتنان.

أقول : سيأتي ان امتنانية القاعدة ليست بهذا المعنى بل بمعنى لا يتنافى مع تضرر من منه الضرر.

واما مسألة التزاحم بين ضررين وحقين فهذا فرع ان يكون حق الدخول لسمرة بن جندب مجعولا بشكل مستقل كما إذا كان ذلك شرطا ضمن عقد مثلا لا ما إذا كان من جهة توقف حقه في عذقه على الدخول مقدمة ، فانه في مثل ذلك لا يقع أي تزاحم بين حقه في عذقه وبين حق الأنصاري في حفظ عياله وسترهم وعدم الدخول عليهم بلا استئذان ، فان المقصود منه في المقام مجرد اخبارهم من أجل التستر لا توقف دخوله على اذنه بحيث له ان لا يأذن له بالدخول ، ومن الواضح انه مع كون المقدمة ممكنة ومقدورة لصاحب العذق لا يقع تزاحم بين حقه في العذق وحق الأنصاري فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق حقه في عذقه للضرر أو للتزاحم وعليه فيكون تطبيق لا ضرر على المورد بلحاظ إثبات أصل حق الأنصاري وحرمة الدخول على بيته بلا استئذان بالمعنى المتقدم.

نعم لو جعل لسمرة حق في الدخول مستقلا ـ وهذا ما لا يمكن استفادته من الحديث ـ لوقع التزاحم بين حقه هذا في الدخول وحق الأنصاري في الستر على عياله فيكون تطبيق القاعدة عندئذ بلحاظ التزاحم وتقديم حق الأنصاري على حق سمرة ، وليس فيه مخالفة للامتنان على ما سوف يظهر وجهه.

لا يقال ـ أي فرق بين الفرضيتين ، فانه كما ان الحق في العذق يتوقف على جامع الدخول الأعم من الدخول الاستئذاني وغير الاستئذاني كذلك لو تعلق حق بالدخول ابتداء فانه متعلق بجامع الدخول فلا يتزاحم مع حق الأنصاري في المنع عن أحد فرديه وهو الدخول غير الاستئذاني.

لأنه يقال ـ الدخول له فرد واحد والاستئذان وعدمه من المقارنات وحينئذ إذا

٤٧٧

كان حق سمرة متعلقا بالدخول ابتداء فيكون منعه أو تحديده منعا له عن متعلق حقه لا محالة بخلاف ما إذا كان حقه في العذق المتوقف على الدخول فان المنع عن المقدمة في حال يمكن للشخص تغييرها إلى حال أخرى ليس منعا عن ذي المقدمة الّذي هو متعلق حقه فلا تزاحم بين المتعلقين في هذه الصورة.

وهكذا يتضح عدم تمامية شيء من الاعتراضات المثارة بشأن كلية هذه القاعدة وعمومها.

مشكلات مثارة على تطبيقات فقهية للقاعدة :

الجهة السادسة ـ ثم ان هناك اعتراضا عاما أثاره المحقق العراقي ( قده ) بشأن تطبيقات هذه القاعدة من قبل الفقهاء في الأبواب المختلفة من الفقه بدعوى ان هذه القاعدة لا تنطبق بالدقة على تلك الموارد اذن فليست هي قاعدة في نفسها يصح استنباط الحكم منها وانما هي إشارة إلى قواعد أخرى ثابتة في المرتبة السابقة في تلك الموارد أدركها الفقهاء بارتكازاتهم العقلائية أو المتشرعية ، واستنادهم إلى القاعدة لمجرد الاستئناس والتبرك. والدليل على ذلك ما نراه من ان موارد التطبيق المتنوعة تكون النتيجة الفقهية المستنبطة فيها اما أوسع من مفاد القاعدة أو أضيق منه فلا يمكن ان تكون هي مستندهم في كل ذلك ، وقد تصدى لذكر جملة من تلك التطبيقات :

منها ـ ما ذكروه من سقوط الوضوء الضرري مستشهدين عليه بقاعدة لا ضرر مع ان مستندهم الواقعي فيه قاعدة أخرى هي امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم النهي على الأمر ، وذلك يتضح ضمن توضيحات ثلاثة آثارها في المقام.

التوضيح الأول ـ انهم قالوا ببطلان الوضوء الضرري ولم يقتصروا على القول بنفي وجوبه مع ان القاعدة لا تنفي أكثر من الوجوب فيبقي ملاكه المقتضي للصحة لو لا النهي والحرمة.

وفيه : أولا ـ مجرد حكمهم بالبطلان لا يعنى عدم استنادهم إلى القاعدة في نفي الوجوب حقيقة ، إذ لعلهم نفوا الوجوب بلا ضرر بحرمة الإضرار بالنفس فيكون مدركهم على نفي الوجوب كلا الأمرين.

وثانيا ـ إثبات الصحة بعد نفي الوجوب بلا ضرر مبني على القول بإمكان إحراز

٤٧٨

الملاك بعد سقوط الخطاب ، اما على أساس عدم التبعية بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الحجية ، أو على أساس إطلاق المادة. وكلا المبنيين غير صحيح في نفسه ولم يعلم موافقة الأصحاب عليه.

ثم ان الصحيح فقهيا في هذا الفرع على ما تقدم في أبحاث سابقة صحة الوضوء الضرري إذا لم يبلغ حد الحرمة بالأمر الاستحبابي المتعلق به والّذي لا يكون منفيا بمثل دليل لا ضرر.

التوضيح الثاني ـ انهم اعترفوا بصحة الوضوء الضرري في صورة جهل المكلف بالضرر ، وهذا ينسجم مع كون مدرك البطلان في صورة العلم مسألة اجتماع الأمر والنهي وتغليب جانب النهي ، والّذي ذكر الأصحاب ان العبادة صحيحة فيها مع الجهل بالحرمة لا قاعدة لا ضرر التي تنفي الوجوب الواقعي على كل حال.

وفيه : ان الصحيح هو الصحة في صورة الجهل بالضرر حتى إذا كان المستند قاعدة لا ضرر ، لأنه لا موجب لرفع وجوب الوضوء الضرري على الجاهل بالضرر الّذي سوف يقدم على الوضوء على كل حال لكونه جاهلا بضرريته إذ لا فائدة في رفعه إلاّ إبطال عمله ولزوم إتيانه بالتيمم بعد ان يتوضأ لا ان ينتفي بذلك الضرر عليه خارجا ، وظاهر الحديث نفي الحكم الّذي يساوق بحسب النتيجة ارتفاع الضرر عن المكلف خارجا فيكون تسهيلا عليه ومنة ولا يمكن في المقام إلفات الجاهل بالضرر بعدم وجوب الوضوء عليه إلاّ بنسخ وجوب الوضوء عليه رأسا في الشريعة وهو ما لا يمكن استفادته من القاعدة كما هو واضح.

وعليه فلعل الأصحاب بارتكازهم العرفي فهموا هذه النكتة فلم يستفيدوا إطلاق النفي لحال الجهل بالضرر.

التوضيح الثالث ـ ان المكلف إذا علم بالضرر وجهل بوجوب الوضوء عليه يلزم القول بصحة وضوئه إذا توضأ رجاء بناء على ان مدرك نفي الوجوب هو القاعدة ، إذ نفي وجوب غير منجز لا امتنان فيه ولا تشمله القاعدة لعدم نشوء الضرر من حكم غير متنجز على المكلف مع ان الأصحاب حكموا بالبطلان في ذلك ممّا يدلّ على ان مدركهم فيه حرمة الضرر وتغليبها على الأمر الّذي لا يفترق فيه حال العلم بالوجوب أو الجهل به.

وفيه : أولا ـ ما ذكرناه من إمكان استنادهم إلى القاعدة وحرمة الضرر معا ،

٤٧٩

فما ذكر من التوضيح لا ينفي صحة استنادهم إلى القاعدة في نفي وجوب الوضوء الضرري في حال العلم بأصل الوجوب.

وثانيا ـ ان ثبوت وجوب الوضوء الضرري للجاهل بوجوب الوضوء بالخصوص اما غير معقول ـ كما ذهب إليه المحقق الأصفهاني ( قده ) ـ أو غير عرفي على الأقل فيكون دليل نفي وجوبه للعالم به دالا على نفيه مطلقا حتى عن الجاهل بوجوبه كما هو واضح.

ومنها ـ الخيارات التي استند في إثباتها الأصحاب إلى قاعدة لا ضرر كخيار الغبن والعيب وتبعيض الصفقة ، مع ان هذا الاستناد منهم لا يعدو ان يكون من قبيل التعليل بعد الوقوع لأن تبعيض الصفقة ليس فيه ضرر مالي على المشتري لكي يوجب الخيار عليه غايته انتفاء الغرض والداعي إذا كان متعلقا بمجموع الصفقة وتخلفه شايع من غير ان يوجب الخيار للمشتري. على ان غاية ما يقتضيه لا ضرر في هذه الموارد نفي اللزوم المستوجب للضرر مع ان الثابت عندهم حق الخيار للمشتري القابل للإسقاط والإرث وغير ذلك ، وهذه الحيثيات أيضا لا يمكن استفادتها من القاعدة لو كانت هي المدرك عند الأصحاب.

ويرد عليه : أولا ـ ان ما ذكر من عدم وجود ضرر مالي في مثل تبعيض الصفقة انما يمنع عن التمسك بلا ضرر فيما إذا ادعى إرادة خصوص الضرر المالي منه ، واما إذا أُريد الأعم من ذلك بنحو يشمل الإضرار العقلائية فلا إشكال في ان إلزام المشتري ببعض الصفقة إضرار عليه عرفا فيكون مشمولا للقاعدة لا محالة.

وثانيا ـ ما ذكره من عدم إمكان إثبات الجواز الحقي بلا ضرر غير تام ، اما بدعوى ان المجعول عقلائيا في أمثال المقام هو الحق فيعتبر سلبه عنه ضرريا ، أو دعوى ترتيب آثار الحقية من السقوط بالإسقاط والإرث ، اما السقوط فبدعوى ان رضى المشتري بلزوم المعاملة والتزامه به كرضاه بالبيع من أول الأمر إذا كان عالما بالغبن أو العيب فيكون من قبيل الضرر المقدم عليه غير مشمول للقاعدة ، واما الإرث فبدعوى ان دليل الإرث يشمل كل ما يبذل بإزائه مال عرفا لأنه يكون مما تركه الميت ومع قابلية الجواز المذكور للإسقاط يصح بذل المال بإزائه فيكون مشمولا لإطلاق أدلة الإرث (١).

__________________

(١) ويمكن ان يكون مدرك الأصحاب في إثبات الخيار الحقي الارتكاز العقلائي الممضى شرعا أو الشرط الضمني غير المصرح به.

٤٨٠