بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

الاعتراض الأول ـ ما جاء في الدراسات من مجرد استبعاد ذلك وان التضاد انما يكون بين الأفعال الواجبة المصلحة للملاكات لا بين نفس الملاكات.

وهذا الاعتراض كما ترى ، فانه مضافا إلى كونه مجرد استبعاد يرد عليه :

أولا ـ شيوع وقوع التضاد بين الملاكات في حياتنا والأوضاع العرفية كالمثال الّذي فرضناه في تقريب كلام صاحب الكفاية وكمصلحة الشبع أو الارتواء الّذي إذا حصل بالطعام والشراب غير اللذيذ فات إمكان حصوله ثانية بالطعام اللذيذ.

وثانيا ـ بالإمكان افتراض ان التضاد في المقام بين المحصلين لكونه القصر الواجب هو غير المسبوق بالتمام جهلا فبهذا القيد يكون التضاد بين المحصلين بالعرض ، واستبعاد مثل هذا التقييد كاستبعاد تقييد صلاة العصر بان تكون عقيب صلاة الظهر لا مأخذ له.

الاعتراض الثاني ـ ما في تقريرات المحقق الكاظمي لبحث المحقق النائيني ( قده ) من ان مصلحة القصر إن لم تكن مقيدة بعدم سبق التمام فلما ذا لا يعيدها قصرا ، وإن كانت مقيدة بذلك فلا مصلحة فيه عند الإتيان بالتمام.

وفيه ـ انه خلط بين أخذ سبق التمام بنحو قيد الواجب في القصر أو بنحو قيد الوجوب ، فان المدعى هو الأول وان عدم سبق التمام من شرائط ترتب المصلحة لا الاتصاف بها ، وانقسام الشرائط إلى شرط الاتصاف وشرط الترتب من تنقيحات نفس المحقق النائيني ( قده ) فلعل قصور هذا الاعتراض ناشئ عن المقرر.

الاعتراض الثالث ـ ما جاء في أجود التقريرات من ان مصلحة الجامع ومصلحة الخصوصية إن فرضتا مترابطتين لا يمكن التفكيك بينهما لزم عدم صحة التمام لعدم واجديته لمصلحة الخصوصية ، وان فرض استقلالهما لزم تعدد العقاب مع ان تعدد العقاب في المقام واضح البطلان.

وفيه ـ ان تعدد العقاب ـ سواء كان بمعنى كثرة العقاب أو تعدد الاستحقاق ـ انما يكون بتعدد ملاك استحقاق العقوبة وموجبه وهو التعدي على حق الطاعة المولى ، ولا إشكال ان هذا الحق كما يتأثر بالعامل الكمي وهو مقدار الملاكات والواجبات المفوتة على المولى كذلك يتأثر بالعامل الكيفي وهو نوعية الملاك فقتل ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفسدته وعقابه أكبر وأعظم من قتل أي مؤمن آخر ، وعلى هذا الأساس يقال بان فرضية صاحب الكفاية لم تدخل ملاكا وغرضا مولويا جديدا في

٤٢١

المقام وانما حلل الغرض الواحد إلى غرضين لزومين ، فتعدد العقاب في المقام يكون بمقدار العقاب الواحد في العالم بالقصر التارك له. ولو فرض ان الميزان بالجانب الكمي فقط مع ذلك لم يكن هذا إشكالا على صاحب الكفاية لأنه يدعي تعدد التكليف في حق العالم أيضا أحدهما بالجامع المذكور والآخر بالحصة وحينئذ إن ادعي استبعاد تعدد العقاب في نفسه فهذا لا موجب له ، وإن أريد استبعاد كون عقاب الجاهل للقصر التارك للصلاة أكثر من عقاب الجاهل المقصر الّذي صلى التمام فهذا أيضا غير تام لوضوح ان هذا أفضل حالا من الجاهل التارك لأصل الصلاة ، وإن أريد استبعاد كون عقاب الجاهل التارك أكثر من عقاب العالم بوجوب القصر التارك لله فلم يلزم هنا كون عقابه أكثر منه لأن الملاك الكمي موجود في حق العالم بوجوب القصر التارك له أيضا إذ هو أيضا مكلف بتكليف بالجامع بين التمام المقيد بفرض الجهل وبين القصر وبالقصر بالخصوص ، غاية الأمر هذا الجامع لا يتمكن من أحد فرديه لكونه عالما بوجوب القصر فلو ترك الصلاة يكون تاركا للجامع وللفرد معا فيعاقب بعقابين ، نعم قد يستشكل بلغوية تعدد الجعل في حق العالم بوجوب القصر لأن امره بالجامع لا يمكن ان يكون محركا إلاّ إلى الفرد وهو القصر لكونه عالما بوجوبه فلا يمكنه الإتيان بالفرد الآخر من الجامع ، إلاّ ان هذا غاية ما يلزم منه تأكد وجوب القصر على العالم في مقام الجعل للغوية لا وحدة العقاب على انه قد يكفي في دفع اللغوية ثبوت جعل عام يمكن ان يشمل العالم والجاهل لكون ملاكه كذلك.

الاعتراض الرابع ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) من منافاة هذه الفرضية مع ما تقدم من صاحب الكفاية في بحث تبديل الامتثال بالامتثال من ان فعل المكلف ليس إلاّ مقدمة إعدادية لترتب الملاك وليس علّة تامة له ولهذا أمكن تبديله بفرد أفضل ليختار الله أحبهما إليه. فانه إذا كان الأمر كذلك في باب الصلاة فلما ذا لا يمكن إعادتها قصرا بعد التمام.

وفيه ـ إمكان افتراض ان تأثير فعل المكلف في تحقيق المصلحة يكون بنحو الاعداد ولكن تأثيره في إبطال دور القصر وعدم جدواه يكون بنحو العلية التامة ، وكأن هذا الإشكال نشأ من الأخذ بحرفية كلام المحقق الخراسانيّ في المقام من تحقق المصلحة في الجامع بالتمام.

٤٢٢

الاعتراض الخامس ـ ما ذكره صاحب الكفاية نفسه وأجاب عنه من ان هذه الفرضية تؤدي إلى مانعية التمام عن القصر فيحرم الإتيان به ومعه لا يمكن ان يقع مأمورا به وقربيا. وأجاب عنه ان الأمر بين الملاكين انما هو بنحو التمانع والتضاد وعدم أحد الضدين لا يمكن ان يكون علّة للضد الآخر على ما تقدم في بحوث الضد.

وأورد عليه المحقق الأصفهاني ( قده ) بان التضاد انما هو بين معلولي التمام والقصر ، ومن المعلوم ان عدم علّة أحد الضدين ممّا يتوقف عليه وجود الضد الآخر لكونه مانعا عن اقتضاء مقتضي الضد الآخر وتأثيره على ما تقدم في بحوث الضد.

ويمكن الإجابة عن هذا الإيراد بافتراض ان المانع عن تحقق ملاك القصر المضاد مع التمام انما هو خصوصية التمام لا الجامع أي ان خصوصية التمام فيها ما يمنع عن تحقق ملاك القصر ولكن الجامع بينه وبين القصر يكون محققا للملاك المشترك ، وهذا من موارد إمكان اجتماع الأمر والنهي لإمكان الأمر بالجامع والنهي عن الخصوصية لا الخاصّ.

وهكذا يتضح ان فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) صحيحة ثبوتا في نفسها (١).

النحو الثاني ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من أنه يوجد عندنا واجبان مستقلان أحدهما أصل الصلاة والآخر القصر أو الجهر فيها بنحو واجب في واجب فإذا صلى تماما أو إخفاتا جهلا عن تقصير صحت صلاته بلحاظ الإيجاب الأول وعوقب على تركه للواجب الثاني ، وامّا عدم صحة التمام أو الإخفات مع العلم فقد فرض في تفسيره ان العلم بوجوب القصر أو الجهر استقلالا يوجب انقلابه إلى الوجوب الضمني ، ولا محذور فيه لإمكان أخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر.

ونوقش فيه بعده اعتراضات :

الاعتراض الأول ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من ان هذا يلزم منه أخذ عدم العلم بشيء وهو وجوب القصر أو الجهر الاستقلالي في موضوع المعلوم وكون العلم بشيء رافعا للمعلوم وهذا محال.

__________________

(١) الا أن هذا تصحيح على مستوى الملاك واما بلحاظ الخطاب فلا بد له من فرض تعدد الخطاب في حق الجاهل فيرجع إلى أحد النحوين القادمين.

٤٢٣

ويرده ما تقدم مراراً من إمكان أخذ العلم بالجعل أو عدم العلم به في موضوع فعلية المجعول (١).

الاعتراض الثاني ـ انه يلزم عدم قابلية الخطاب النفي الاستقلالي للتنجز لأنه ما لم يعلم به تجري البراءة عنه ، وإذا علم به ارتفع التكليف بارتفاع موضوعه ، وجعل خطاب لا يقبل الوصول والتنجز لغو محض.

وفيه : انَّ عدم الوصول وعدم العلم ليس مساوقاً مع البراءة والتأمين ، لأنه من تبعات ترك الفحص فلا تجري الأصول المؤمنة العقلية أو الشرعية ، فهذا التكليف قابل للتنجيز.

الاعتراض الثالث ـ انَّ التكليف وإِن كان قابلاً للمنجزية ولكنه لا يقبل المحركية ، لأنَّ المراد بالجهل على ما هو ظاهر الفتاوى الجهل المركب أي اعتقاد وجوب التمام أو الإخفات أو ما بحكمه كالغفلة فلا يشمل موارد التردد والشك مع الالتفات الّذي يمكن فيه الاحتياط والتحرك ، وعليه فلا يعقل محركية وجوب الجهر أو القصر الاستقلالي لا حال الجهل لما عرفت ولا حال العلم لارتفاع موضوعه فيكون جعله لغواً.

وهذا الاعتراض تام إذا فرض تمامية أصله الموضوعي الفقهي (٢).

الاعتراض الرابع ـ لزوم تعدد العقاب الّذي أورده المحقق النائيني ( قده ) في أحد تقريري بحثه على فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) وهذا الاعتراض وان لم يكن متجهاً هناك فانه متجه هنا ، لأنَّ صاحب الكفاية لم يفرض غرضاً مستقلا في الخصوصية المجهولة بخلاف هذه الفرضية التي تفترض في الخصوصية غرضاً مستقلاً نفسيا زائداً على الغرض الموجود في الجامع (٣).

__________________

(١) تقدم في محله انَّ العلم بالجعل في موضوع عدم المجعول ، أو العلم بالعدم في موضوع فعليته محال من جهة عدم معقولية محركية مثل هذا الجعل ، إلاّ انَّ هذا يرجع إلى الاعتراض الثالث القادم.

ثم انَّ هنا جواباً آخر حاصله : انَّ العلم بالحكم لا يوجب ارتفاع أصله بل ارتفاع حده الاستقلالي ، فكأنّ المأخوذ العلم بأصل الوجوب في موضوع الوجوب الضمني وأصل الوجوب ثابت ومتأكد حتى بعد طرو الوجوب الضمني.

(٢) بل لا يتم على هذا التقرير أيضاً ، لأنَّ العلم بوجوب القصر أو الجهر لا يرفع أصل إيجابه وانما يرفع حد الوجوب الاستقلالي مع ثبوت أصله وتأكده وهذا لا ينافي المحركية ، فجعل وجوب لو وصل لتأكد مع وجوب آخر ليس لغواً لأنَّ ذات الوجوب وأصله قابل للمحركية لتعدد المحرّك عندئذ وقد لا يتحرك شخص عن مجرد الوجوب الضمني أي الوجوب الواحد وانما يحركه وجوبان نحو الخصوصية وهذا كاف في إمكان الجعل ، وبهذا أيضا يمكن ان يجاب على الاعتراض السابق.

(٣) لا يتم هذا الاعتراض أيضاً ، لأنَّ الخصوصية الواجبة بملاك نفسي ثابتة على كل حال في حق العالم والجاهل وانما الفرق من

٤٢٤

ثم انَّ هنا إشكالاً يعود إلى ما فرض في هذه الفرضية من انقلاب الوجوب الاستقلالي للخصوصية إلى الوجوب الضمني في حق العالم لا من جهة انقلاب الملاك الاستقلالي إلى الضمني بل لاستحالة اجتماع الوجوبين ولزوم اندكا اندكاكهما ، فيندك الأمر غير ذي المزية في الأمر ذي المزية ، فالامر الاستحبابي يندك في الأمر الوجوبيّ لكونه ذي المزية والأمر الاستقلالي يندك في الأمر الضمني لكونه ذي المزية ، وهذه قاعدة عامة أسسها المحقق النائيني وطبقها في المقام ، ومحل تنقيحها بحث الواجب المطلق والمشروط ، والصحيح عدم تماميتها.

النحو الثالث ـ الالتزام بالترتب في المقام كما ذكره الشيخ الكبير كاشف الغطاء ( قده ) امّا حقيقة بان يكون الأمر بالتمام في حق الجاهل مشروطاً بتركه للقصر مثلاً لكونه أقل ملاكاً منه ، أو مسامحة بان يلتزم بثبوت امرين أحدهما تعلق بالجامع الّذي أحد فرديه مقيد بحال الجهل كما تقدم والثاني بأحد الفردين بالخصوص ، وهذا ينسجم روحه مع فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) إلاّ انه كان يفرض التعدد بهذا النحو في عالم الملاك وهنا نفترضه بلحاظ الملاك والخطاب.

وقد أثير حول هذه الفرضية بكلتا صيغتيها اعتراضات أيضاً لا بأس بالإشارة إلى جملة منها.

امّا بالنسبة إلى صياغة الترتب المسامحي أعني الأمر بالجامع والأمر بالحصة الخاصة منه فقد اعترض عليه باعتراضين :

الاعتراض الأول ـ ما قد يقتنص من مباني المحقق النائيني ( قده ) في بحث المطلق

__________________

ناحية انَّ ملاك الجامع في حال الجهل لا تكون الخصوصية دخيلة في إيجاده وفي حال العلم تكون دخيلة فيه ، فهذه الفرضية من هذه الناحية كفرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ) تحليل للملاك الثابت في الواجب على كل تقدير إلى جزءين غاية الأمر انَّ المحقق الخراسانيّ ( قده ) جزأه إلى مرتبتين والمحقق النائيني ( قده ) جزأه إلى ملاكين أحدهما يتحقق ضمن الآخر دائماً. هذا لو كان النظر إلى تعدد العقاب.

وامّا إذا كان النّظر إلى تعدد التكليف وانَّ المستظهر من أدلة أعداد الفرائض انَّ الواجب على كل مكلف حاضراً كان أو مسافراً في كل وقت فرض واحد لا فرضان وواجبان مستقلان ، وهذا ينسجم مع هذه الفرضية ولا الفرضيات القادمة ، فهذا مربوط بان يستفاد من تلك الروايات النّظر إلى الواجبات التحليلية ضمن كل فض لا إلى مجرد النتيجة العملية المفروضة على المكلف خارجاً ، ولا ينبغي ، الإشكال في انَّ المستفاد منها ليس أكثر من ذلك ، وعلى كل حال ففرضية المحقق النائيني ( قده ) لا تختلف روحاً عن فرضية المحقق الخراسانيّ إلاّ من ناحية تبديله لملاك الخصوصية من الضمنية إلى الاستقلالية لكي لا يبتلي بالمحذور الّذي تخيل وروده على المحقق الخراسانيّ نتيجة الخلط بين قيد الوجوب وقيد الواجب على ما تقدم.

٤٢٥

والمقيد واجتماع الأمر والنهي من استحالة الأمر بالجامع مع تعلق امر آخر بأحد فرديه ، لأنَّ الأمر بالجامع يدل بالالتزام على جواز تطبيقه على كل من افراده وهذا الجواز والإباحة كما ينافي الحكم بالحرمة على الفرد ـ وبهذا أثبت امتناع الاجتماع ـ كذلك ينافي الإلزام بهذا الفرد ، وبهذا برهن على وحدة الحكم في مثل أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة ، وبه أثبت لزوم حمل المطلق على المقيد دائماً ، وهذه النكتة تقتضي في المقام وعدم إمكان تعلق امر بالجامع وامر بفرد منه.

وفيه : وما تقدم في محله من بطلان هذه النكتة ، فانَّ جواز تطبيق الجامع على فرده ليس حكماً تكليفياً بل هو ترخيص وضعي عقلي بمعنى تحقق الامتثال للجامع وعدم المانع من ناحيته بتطبيقه على هذا الفرد أو ذاك على ما تقدم مفصلاً في بحث اجتماع الأمر والنهي.

الاعتراض الثاني ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من انَّ الجامع في المقام يكون في طول الأمر لأنه جامع بين القصر والتمام الصادر من الجاهل بوجوب القصر فهذه الحصة الخاصة من الجامع تكون في طول الجهل بهذا الأمر فكيف يتعلق به؟.

وفيه : أولا ـ إمكان جعل الحصة عبارة عن التمام المقيد بفرض اعتقاد وجوب التمام بالخصوص الّذي هو امر خيالي لا واقعي.

وثانياً ـ ما ذكره المحقق العراقي نفسه من إمكان جعل التمام مقيداً بالجهل بالأمر الثاني أي بالفرد ـ وهو القصر ـ لا بالجهل بالأمر بالجامع المتعلق به.

وثالثاً ـ لو سلمنا أخذ الجهل بالأمر بالجامع مع ذلك قلنا انَّ المتأخر عن الأمر انما هو العلم به لا الجهل وعدم العلم إلاّ بناء على مبنى انَّ مانع المتأخر متأخر ، وقد عرفت مراراً بطلانه.

ورابعاً ـ ما تقدم من بحث التعبدي والتوصلي من انَّ المستحيل انما هو أخذ ما هو متأخر عن الأمر ومتوقف عليه في موضوع شخص ذلك الأمر لا أخذه في متعلقه كما هو المفروض في المقام (١).

وامّا بالنسبة إلى الترتب الحقيقي ، فقد اعترض عليه باعتراضات عديدة تقدم

__________________

(١) ويمكن ان يعترض على فرضية الترتب المسامحي باعتراض آخر أوجه من الاعتراضين المذكورين وحاصله : انَّ الأمر بالجامع.

٤٢٦

استعراضها في بحث الترتب ونشير فيما يلي إلى أهمها مع التعليق عليها :

الاعتراض الأول ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من اشتراط إمكان الترتب بان يكون التضاد بين الواجبين اتفاقياً لا دائمياً كالحركة والسكون والجهر والإخفات والقصر والتمام في الصلاة.

والسيد الأستاذ وافق على الصغرى ولكن ناقش في كبرى اشتراط ان لا يكون التضاد دائمياً في إمكان الترتب.

والصحيح المناقشة في الصغرى وتسليم الكبرى ، اما صحة الكبرى فقد شرحناها مفصلاً في بحوث التزاحم والتعارض فراجع ، وامّا بطلان الصغرى فلأنَّ الترتب في المقام ليس بين الأمرين الضمنيين بالجهر والإخفات أو التمامية والقصرية لاستحالة الترتب بين الا وامر الضمنية وانما الترتب بين الأمر بالصلاة الإخفاتية والصلاة الجهرية أو التمام والقصر ولا تضاد بينهما فضلاً من ان يكون دائمياً.

الاعتراض الثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) أيضا من انَّ الترتب انما يفعل بين الضدين اللذين لهما ثالث ليعقل عصيان الأمرين معاً لا الضدين اللذين ليس لهما ثالث إذ لا يعقل تركهما معاً ، والمقام من هذا القبيل لأنَّ الصلاة امّا ان تكون إخفاتية أو جهرية ، وامّا ان تكون مقصورة أو تامة.

وأجاب عنه السيد الأستاذ بأنَّ الواجب هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية ويمكن تركهما معا. وقد عرفت انَّ الترتب ليس بين الأوامر الضمنية بل الاستقلالية بأصل الصلاة جهراً أو إخفاتاً ، تماماً أو قصراً ولا تضاد بينهما فضلاً من ان لا يكون لهما

__________________

مع الأمر بحصة منه انما يعقل إذا كان لكل منهما محركية معقولة ، وفي المقام لا محركية معقولة للأمر بالجامع ، لأنَّ من لا يعلم بالأمر بالجامع لا يمكن ان يتحرك منه ، ومن يعلم به لا يمكنه ان يمتثله إلاّ من خلال الحصة ، لأنَّ الفرد الآخر منه مقيد بفرض الجهل به ، فمن لا يريد الإتيان بالحصة لا يمكنه ان يتحرك من الأمر بالجامع ، فمحركية هذا الأمر نفس محركية الأمر بالحصة فلا يكون هناك إلاّ امر واحد بالحصة. وهذا هو روح الاعتراض المتقدم على فرضية المحقق النائيني والّذي سوف يأتي أيضاً على فرضية الترتب الحقيقي.

والجواب : أولا ـ انَّ هذا لا يمنع عن صحة التمام لثبوت الملاك وروح الحكم في الجامع وإن كان الخطاب والجعل والتحريك على الحصة إلاّ انَّ هذا بحسب الحقيقة رجوع إلى فرضية المحقق الخراسانيّ ( قده ).

وثانياً ـ يكفي في المحركية اللازمة في معقولية الجعل على الجامع بعد ان كان فيه الملاك إمكان وصوله ومحركيته لمن لم يتنجز عليه الأمر بالحصة.

٤٢٧

ثالث كما هو واضح.

الاعتراض الثالث ـ ما يستفاد من كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) وحاصله بتوضيح منا : انَّ الأمر بالتمام امّا ان يكون مترتباً على ترك القصر في تمام الوقت ، أو في الآن الأول ، أو على إتيان التمام الّذي يفوت إمكان تدارك ملاك القصر وكلّها غير صحيحة في المقام. امّا الأول فلأنّه يلزم منه صحة الإتيان بالقصر بعد التمام إذا ما التفت إلى وجوبه وهذا خلاف الفتوى الفقهية ، والثاني يلزم منه إيجابهما معاً عليه بعد مضي جزء من الوقت وهو واضح البطلان ، والثالث محال لأنَّ الأمر بشيء مشروطاً بتحققه تحصيل للحاصل.

وهذا الاعتراض إشكال في الصياغة لا أكثر ، ويكون الجواب عليه بافتراض انَّ الشرط هو جامع تفويت ملاك القصر بنحو الشرط المتأخر سواءً كان من جهة ترك القصر في تمام الوقت أو الإتيان بالتمام المستلزم لتفويته.

وإن شئت قلت نقيد خطاب التمام بعدم الإتيان بالقصر إلى حين إتيانه بالتمام وعدم خروج الوقت ـ اقرب الأجلين ـ ويتقيد القصر المأمور به بنحو قيد الواجب لا الوجوب بعدم الإتيان بالتمام قبله جهلاً ، وبذلك يرتفع المحذور ويكون سقوط وجوب القصر بالإتيان بالتمام من باب التفويت والعصيان لا ارتفاع شرط الوجوب.

الاعتراض الرابع ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) أيضا من انَّ الأمر الترتبي موضوعه عصيان الأمر بالأهم المترتب عليه ، وفي المقام لا يعقل جعل الأمر بالتمام مشروطاً بعصيان الأمر بالقصر لأنَّ موضوعه وهو عصيان الأمر بالقصر لا يمكن ان يصل إلى المكلف إذ لو علم به لخرج عن موضوع وجوب التمام والأمر الّذي لا يمكن وصوله لا يعقل جعله.

وأجاب عنه السيد الأستاذ بأنَّ الشرط ترك الأهم وهو القصر في المقام لا العصيان بعنوانه ، وترك القصر يمكن ان يصل إلى المكلف.

وفيه : انَّ هذا لا يدفع روح الإشكال ، لأنَّ المفروض انَّ الأمر بالتمام المشروط بترك القصر مجعول في حق الجاهل بوجوب القصر بمعنى المعتقد وجوب التمام عليه ، ومن المعلوم انَّ جعل وجوب التمام على موضوع هو المعتقد بوجوب التمام لغو محض ، لأنَّ من اعتقد بذلك لا حاجة إلى إعمال المولوية عليه في مقام تحريكه بإيجاب التمام عليه ،

٤٢٨

بل لا يعقل ذلك في حقه لأنه لو كان يتحرك من الأمر بالتمام لتحرك من اعتقاده بذلك وإلاّ فلا يتحرك من الأمر الترتبي ، بل لا يعقل تحركه منه لأنه لا يعقل إحرازه له إذ لو أحرز انه نفس الأمر بالتمام الّذي اعتقده كان من تأخر الشيء عن نفسه بحسب عالم اللحاظ وهو محال ، وإن أحرز انه امر آخر بالتمام لزم اجتماع المثلين في نظره فهذا الاعتراض متجه في المقام على كل حال.

هذا كله في كيفية تصوير صحة المأتي به جهلاً ثبوتاً مع كون المكلف معاقباً على جهله بالقصر أو الجهر والإخفات ، وامّا البحث عن مقام الإثبات فهو في ذمة علم الفقه.

السادس ـ إذا شك المكلف في دخول مسألة لم يتعلم حكمها في محل ابتلائه في المستقبل أم لا ، فالظاهر وجوب التعلم بمعنى منجزية احتمال التفويت الناجم عن ترك التعلم عقلا وشرعا تمسكا بإطلاق اخبار التعلم.

وقد يقال في قبال ذلك بجريان استصحاب عدم الابتلاء مستقبلاً بذلك نظراً إلى انَّ الاستصحاب كما يجري بلحاظ ما سبق يجري بلحاظ المستقبل أيضا إذا تمت أركانه على ما يأتي في بحث الاستصحاب وعدمه وبذلك ينفي موضوع وجوب التعلم.

وأشكل عليه السيد الأستاذ بأنَّ عدم الابتلاء ليس حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي لأنَّ وجوب الفحص وعدمه ليس دائراً مدار الابتلاء الواقعي وعدمه وانما يدور مدار العلم بعدم الابتلاء وعدمه حيث انه يخرج من إطلاق اخبار التعلم ما يعلم بعدم الابتلاء به لظهورها في انَّ إيجاب التعلم حكم طريقي لا نفسي ، فان قلنا بأنه يشترط في المستصحب ان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي لم يجر هذا الاستصحاب ، وإن أنكرنا ذلك واكتفينا بان يترتب على الاستصحاب أثر عملي وقلنا بقيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي جرى الاستصحاب لأنه يحقق علماً تعبدياً بعدم الابتلاء فيكون حاكما على دليل وجوب الفحص المقيد بعدم العلم بعدم الابتلاء. نعم قد يلزم من ذلك محذور إلغاء اخبار التعلم إذ أكثر الشبهات والمسائل يحتمل فيها المكلف عدم ابتلائه به في أول بلوغه ، فلو أريد الاعتماد على ذلك ادى إلى شبه إلغاء اخبار التعلم فلا بدَّ من تقديمها على دليل الاستصحاب.

والتحقيق ان يقال : تارة يفرض فعلية التكليف وانما الشك في الابتلاء به من

٤٢٩

ناحية المتعلق كما إذا دخل الوقت فوجبت عليه الصلاة الجامع بين التمام في الحضر والقصر في السفر وشك المكلف في ابتلائه بالسفر ، وفي مثل ذلك لا إشكال في وجوب تعلم الأحكام القصر لأنَّ الاشتغال بالتكليف يقيني فلا بد من الخروج اليقيني عنه واستصحاب عدم السفر لا يثبت انه قادر على الامتثال اليقيني عن التكليف المعلوم إلاّ بنحو الأصل المثبت.

وأخرى يفرض انَّ التكليف مشروط بشرط يشك في الابتلاء به كصلاة الزلزلة مثلاً مع الشك في ابتلائه بها ، فان قلنا انَّ موضوع وجوب التعلم الابتلاء الواقعي بالتكليف جرى استصحاب عدم الابتلاء بالزلزلة حتى على القول باشتراط كون المستصحب حكماً شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي إذ سوف يكون استصحاب عدم الزلزلة استصحاباً في موضوع الحكم الشرعي ، وإن قلنا بأنَّ موضوع وجوب التعلم عدم العلم بعدم الابتلاء أي احتمال الابتلاء ـ كما هو الصحيح ـ فالصحيح عدم جريان الاستصحاب حتى على مباني قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وعدم اشتراط كون المستصحب حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، فانه مضافا إلى انَّ قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي فرع جريانه في نفسه بلحاظ المستصحب لترتب أثر علمي عليه ليقوم مقام القطع الموضوعي في أثره وفي المقام لا أثر عملي للمستصحب ، يرد عليه : انَّ قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وحكومته عليه انما يقولون به بالنسبة لدليل أخذ فيه عدم العلم لفظاً كما في مثل ( كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر ) وامّا إذا استفيدت غائية العلم لحكم بالدليل العقلي ومن باب استحالة جعل الحكم فيه كما في حجية الأمارات وكما في وجوب التعلم الطريقي فلا معنى لافتراض حكومة الاستصحاب عيلة ، ولهذا لم يقل أحد من القائلين بهذا المبنى بحكومة الاستصحاب على أدلة الأمارات مع انها أيضاً مغياة بعدم العلم بالخلاف.

فلا ينبغي الإشكال في وجوب التعلم كلما احتمل الابتلاء بتكليف لو لم يتعلم تفاصيله احتمل فواته عليه.

وبهذا ينتهي البحث عن المقام الأول الّذي عقدناه في هذه الخاتمة لبحث الشرط الأول من شرطي جريان البراءة وهو وجوب الفحص.

٤٣٠

مباحث الحجج

قاعدة

لا ضرر ولا ضرار

٤٣١
٤٣٢

( قاعدة لا ضرر )

المقام الثاني ـ في الشرط الآخر لجريان البراءة الّذي نقله الشيخ الأعظم ( قده ) عن الفاضل التوني (١) من لزوم عدم ترتب الضرر من جريان البراءة على مسلم كما إذا لزم من شرب التتن الضرر عليه أو على غيره.

وناقش في ذلك المحققون بأنَّ الشبهة إذا كانت مورداً لقاعدة لا ضرر فهي حاكمة على الأمارات فضلاً عن البراءة باعتبارها قاعدة ثابتة بالأمارة وحاكمة على كل الإطلاقات الأولية ، وان لم تكن تلك الشبهة مورداً للقاعدة جرت البراءة لا محالة فليس هذا شرطاً مرتبطاً بالبراءة.

وأجاب عن ذلك السيد الأستاذ بأنَّ البراءة لا تجري في مورد الضرر ولو فرض عدم

__________________

(١) هناك شرط آخر نقله الشيخ الأعظم ( قده ) عن الفاضل التوني أيضاً وهو ان لا تكون البراءة مستلزمة لثبوت حكم إلزاميّ من جهة أخرى ، ومثل له بما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين فانَّ جريان البراءة عن وجوب أحدهما يوجب وجوب الاجتناب عن الآخر. وهذا الشرط واضح الفساد ، لأن ذلك الحكم الإلزامي إن كان مترتبا أو ملازماً مع ثبوت الإباحة الواقعية فأصالة البراءة لا تثبته لأنها لا تثبت الإباحة الواقعية وانما تنفي إيجاب الاحتياط ولهذا لم تكن من الأصول التنزيلية ، وإن كان مترتباً على الأعم من الإباحة الواقعية والترخيص الظاهري ترتب بجريان البراءة واقعاً لأنه يكون عندئذ مدلولا التزاميا لدليل أصالة البراءة الّذي هو دليل اجتهادي بحسب الحقيقة. واما مثال العلم الإجمالي فعدم جريان البراءة فيه انما هو من جهة الترخيص في المخالفة القطعية والتعارض على ما تقدم مفصلاً ، ولعله لهذا لم ير سيدنا الأستاذ ( قدس‌سره الشريف ) أهمية للتعرض إلى هذه الشرطية.

٤٣٣

تمامية قاعدة لا ضرر ، لأنَّ مثل حديث الرفع الدال على البراءة مسوق مساق الامتنان على الأمة فلا يشمل موارد الإضرار بالغير لكونه خلاف الامتنان.

وهذا الجواب غير سديد ، فانه لو فرض تمامية في حديث الرفع فيكفي القائلين بالبراءة التمسك بالبراءة العقلية على القول بها وبسائر أدلة البراءة من قبيل ( كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام ) ، ومثل حديث الرفع ليس له مفهوم يمكن ان يعارض به هذا الإطلاق على ان الميزان في الامتنانية ـ في غير حديث الرفع ـ ان يكون الرفع امتنانا بالنسبة إلى المرفوع عنه التكليف لا كلّ الناس.

وعليه فالإشكال المنهجي متجه على هذه الشرطية ، إلاّ اننا تبعاً للشيخ الأعظم ( قده ) نتحدث حول هذه القاعدة ضمن جهات عديدة.

سند الحديث

الجهة الأولى ـ في سند القاعدة فانها وردت ضمن روايات كثيرة ربما ادعي استفاضتها إلاّ انَّ أهمها ثلاث طوائف.

الطائفة الأولى ـ ما ورد في قصة سمرة بن جندب وهي ثلاث روايات :

١ ـ ما ينقله الصدوق عن أبيه عن محمد بن موسى بن المتوكل عن علي بن الحسين أسعدآبادي عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن الحسن بن زياد الصيقل عن أبي عبيدة الحذاء وليس فيه ذكر لكبرى ( لا ضرر ولا ضرار ) وانما ورد فيه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمرة : ( ما أراك يا سمرة إلاّ مضاراً اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه ) (١).

٢ ـ ما في الكافي والفقيه عن ابن بكير عن زرارة وقد ورد فيه ( اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا ضرار ) (٢).

٣ ـ ما في الكافي عن ابن مسكان عن زرارة ، وفيه انَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لسمرة ( انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) (٣).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، ج ٣ ، ص ٥٩ ، ح ٩.

(٢) فروع الكافي ، ج ٥ ، كتاب المعيشة ، باب الضرار ، ح ٢. الفقيه ، ج ٣ ، ص ١٤٧ ، ح ١٨.

(٣) فروع الكافي ، ج ٥ ، كتاب المعيشة ، باب الضرار ، ح ٨.

٤٣٤

الطائفة الثانية ـ الروايات المتعرضة لجملة من أقضية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل الماء والأرض ، فمن طريقنا ورد ذلك في خبرين بسند واحد وكلاهما ينتهيان إلى عقبة بن خالد عن الصادق عليه‌السلام في أحدهما قال : ( وقضى بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ وقال : لا ضرر ولا ضرار ) (١) وفي الآخر : ( قضى رسول الله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار ) (٢).

ومن طريق العامة روى أحمد بن حنبل عن عبادة بن صامت حديثاً اشتمل على أقضية عديدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيها قضاؤه بحق الشفعة وقضاؤه بعدم منع فضل الماء ليمنع فضل كلأ وانه لا ضرر ولا ضرار (٣).

الطائفة الثالثة ـ المراسيل كمرسلة الصدوق ( قده ) ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) (٤) ، ومرسلة الشيخ في كتاب الشفعة ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) ومرسلته في كتاب البيع ( لا ضرر ولا ضرار ).

وإثبات سند القاعدة بهذه الطوائف من الروايات يمكن ان يكون بطرق عديدة تتفاوت من حيث النتائج المترتبة على كل واحد منها :

الطريق الأول ـ تطبيق قواعد التصحيح السندي عليها ، وعلى أساسها لا يسلم شيء من هذه الروايات من حيث السند إلاّ الرواية الثانية من الطائفة الأولى ، لسقوط الطائفة الثالثة بالإرسال ، وسقوط الطائفة الثانية من حيث السند لأنَّ ما نقل في مصادرنا قد وقع في سنده من لم يثبت توثيقه كعقبة بن خالد.

وأمّا الطائفة الأولى ، فالرواية الثالثة منها فيها إرسال لأنه ينقلها علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن بعض أصحابنا عن ابن مسكان ، والرواية الأولى منها في سندها محمد بن موسى بن المتوكل وعلي بن الحسين السعدآبادي والحسن بن زياد الصيقل وهم لم يوثقوا في كتب الرّجال ، نعم خصوص السعدآبادي باعتباره من مشايخ ابن قولويه المباشرين والذين قد شهد بوثاقتهم في أول الكتاب

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، باب ٧ من أبواب إحياء الموات ، ح ٢.

(٢) المصدر السابق ، باب ٥ من أبواب الشفعة ، ح ١.

(٣) مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٣١٣. ج ٥ ، ص ٣٢٧.

(٤) الفقيه ، ج ٤ ، باب ميراث أهل الملل ، ح ٢.

٤٣٥

والقدر المتيقن من ذلك مشايخه المباشرين أمكن إثبات وثاقته بذلك.

وقد يحاول تصحيح السند من ناحية محمد بن موسى بن المتوكل وعلي بن الحسين السعدآبادي بتطبيق نظريتنا في تعويض الأسانيد التي سميناها بنظرية التعويض ، بدعوى انَّ الصدوق في مشيخته يذكر طريقاً صحيحاً إلى كل كتب وروايات أحمد بن محمد بن خالد البرقي الّذي وقع في هذا السند بعد هذين الرجلين فتكون هذه الرواية أيضاً ممّا ينقلها الصدوق عن البرقي بذلك الطريق وهو صحيح بحسب الفرض.

إلاّ انَّ هذا التطبيق لنظرية التعويض غير صحيح ، لأنَّ من المحتمل أو المطمئن به انَّ مقصوده من أسانيد المشيخة انَّ كل ما ينقله عن أحد الرّواة المذكورين في الكتاب بحيث يبتدأ السند بهم يكون طريقه إليه ما يذكره في المشيخة اختصاراً فلا يشمل كل رواية يقع ذلك الشخص في سنده (١).

وكيف ما كان فيكفي في سقوط السند عدم طريق إلى توثيق حسن بن زياد الصيقل.

وهكذا يتضح انَّ المعتبر سنداً من الروايات رواية زرارة والتي لم يرد في متنها إلاّ التعبير بأنه ( لا ضرر ولا ضرار ) بلا أيّة إضافة ، فما ذكره الشيخ الأنصاري ( قده ) من انَّ أصح الروايات سنداً ما ورد فيه ( لا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) غير تام.

ويترتب على هذا الطريق انه لا بدَّ من تحديد مفاد هذه الصيغة ولا ضير في الاختلاف أو التهافت الواقع في الروايات الأخرى لكونها غير معتبرة سنداً ، ويكون مدرك القاعدة على هذا الأساس رواية معتبرة لا بدَّ وان يتعامل معها معاملة الدليل الظني السند المعتبر.

الطريق الثاني ـ دعوى التواتر الإجمالي ، فانَّ روايات الباب وإن لم تكن تحكي جميعا قصة واحدة وبلفظ واحد الا انَّ فيما بينها وحدة موضوع تتفق عليها جميعا مما يوجب القطع ولو إجمالا بصحة ذلك الموضوع رغم عدم تكثر الروايات بدرجة بحيث

__________________

(١) الإنصاف إمكان تصحيح السند من ناحية محمد بن موسى بن المتوكل وعلي بن الحسين السعدآبادي ، اما الثاني فلما ذكر مضافا إلى ما جاء في كتاب الفهرست للشيخ وفي رجال النجاشي في ترجمة أحمد بن محمد بن خالد البرقي بسندهما المعتبر عن أحمد بن محمد بن سليمان الزراري رحمه‌الله انه عبر عن شيخه السعدآبادي ( حدثنا مؤدبي علي بن الحسين السعدآبادي ) ممّا يدلّ على أكثر من الوثاقة. واما محمد بن موسى فهو مضافا إلى كونه شيخ الصدوق قد وثقه العلامة وابن داود وداعي ابن طاوس في فلاح السائل عند التعرض لرواية في فضل صلاة الظهر وصفتها في سندها محمد بن موسى الاتفاق على وثاقته وكل هذا ممّا يكفي للاطمئنان بوثاقته.

٤٣٦

يكفي الكم وحده للعلم بصدق بعضها.

هذا إلاّ انَّ الإنصاف قلة روايات الباب بدرجة لا تكفي حتى مع وحدة الموضوع المطروق فيها جميعا لحصول التواتر ، لأنَّ الطائفة الأولى الثنتان منها يرويها راو واحد وهو زرارة ، والطائفة الثانية اثنتان منها تكونان في طرقنا بسند واحد وراو واحد وهو عقبة بن خالد ورويت من طرق العامة عن عبد الله بن عباس وعبادة بن صامت ، والطائفة الثالثة كلها مراسيل. نعم قد يضم إلى ذلك شهرة هذه الرواية شهرة عظيمة جدا عند العامة والخاصة منذ قرون طويلة فيدعى حصول الاطمئنان بصدور مثل هذا المضمون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويترتب على هذا الطريق عدم وقوع التهافت في المتن ، فانه إذا دار الأمر بين المطلق والمقيد ثبت ذات المطلق مهملا من حيث الإطلاق والتقييد ، وإذا دار بين مقيدين مختلفين ثبت ذات المطلق دون شيء من القيدين إلاّ إذا كان التواتر على أساس عامل الكم فقط فعلم بصدور أحدهما أو قيل بانجبار السند الضعيف بالشهرة مثلا.

ومن حيث المقدار الثابت بهذا الطريق يثبت المتيقن به لا محالة ، فإذا شك في شمول القاعدة لمورد لم يمكن الأخذ بمفادها ، وإذا فرض دوران مدلولها بين ان يكون حكما تكليفيا بحرمة الإضرار أو قاعدة تشريعية تنفي الأحكام الضررية ثبت أحدهما إجمالا لا أكثر فإذا كان هناك ما ينفي أحد المعنيين كإطلاقات أدلة التشريعات الأولية كانت حجة لا محالة إن لم يكن هناك ما ينفي المعنى الآخر أيضا وإلاّ حصل التعارض.

كما انه يترتب على هذا الطريق ان يكون سند القاعدة خبرا قطعي الصدور.

الطريق الثالث ـ ان يصحح مرسلة الصدوق حيث نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلسان انه قال ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) بدعوى انَّ الخبر المرسل إذا كان بلسان ( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بلسان ( روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحتملنا عقلائيا كون هذا النقل مستندا إلى ما يكون كالاخبار الحسي وذلك لتواتر أجرينا أصالة الحس في اخباره ونثبت انه كان في زمن الصدوق هذا النص عن النبي واضحا متواترا وانما لم ينقل لنا بالطرق المتعددة لأنَّ ديدن الأصحاب لم يكن على ضبط الاخبار النبوية المروية عن غير طريق الأئمة وانما كانوا يهتمون بما ينقل عنهم ، وهذا الحديث عند ما

٤٣٧

يرسله الصدوق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان متواترا واضح الصدور ، ولعل هناك غيره من الأحاديث النبوية كانت أيضا بهذه المثابة ولكنها لم تنقل إلينا ، وأيّا ما كان فلا استبعاد في كون هذا الخبر في زمان الصدوق ( قده ) متواترا.

ويترتب على هذا الطريق ثبوت هذا النص بالتواتر فيدور الأمر مداره ويتعامل معه كخبر قطعي السند لأننا نقطع بصدق الصدوق.

والتحقيق عدم صحة هذه الطريق لعدة جهات :

منها ـ انَّ هذه الصيغة التي أرسلها الصدوق فيها قيد ( في الإسلام ) وهذا لا عين ولا أثر له في أخبارنا بل ولا اخبار العامة ، والصدوق كان ينظر إلى إثبات هذا القيد حيث أرسل الحديث بصدد إثبات انَّ المسلم يرث الكافر لأنَّ الإسلام لا يوجب إضرارا.

ومنها ـ انَّ الصدوق يرسل أمورا أخرى أيضا يقطع بعدم تواترها بلسان قال الصادق عليه‌السلام أو قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومنها ـ انه في المقام عطف على ذلك حديثين آخرين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع بعدم تواترهما وهما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( انَّ الإسلام يزيد ولا ينقص ) و ( انه يعلو ولا يعلى عليه ).

ومنها ـ انَّ الصدوق أرسلها بصدد الاستدلال الفقهي ، وهذا يضعف احتمال التواتر ويوجب قوة احتمال انَّ ذكره للنبوي كان لمجرد الاحتجاج فلا ظهور في كلامه للنقل عن الحس.

الطريق الرابع ـ إثبات التواتر بنقل فخر المحققين ( قده ) في الإيضاح ، وهو لم ينقل صيغة معينة بل أشار إلى القاعدة وادعى تواتر نقلها ، وحيث اننا نحتمل تواترها وقتئذ فنثبت ذلك اعتمادا على اخباره إذ من المحتمل انَّ هذا الخبر كان منقولا في الأصول والكتب الأصلية واندرست ضمن ما يحتمل اندراسه من الكتب والروايات.

وفيه : انَّ تصريح فخر المحققين لا يثبت شيئا أكثر من الشهرة الروائيّة إلى درجة قد تعد تواترا عند بعض الأنظار كفخر المحققين ، وهذا امر لا إشكال فيه كما قلنا خصوصا وانَّ فخر المحققين ذكر ذلك في مقام الاستدلال والبحث الفقهي لا في مقام النقل والرواية.

الطريق الخامس ـ التمسك ببعض المسالك المبنية على المواسعة في حجية الاخبار

٤٣٨

المروية في الكتب الأربعة ، وقد تقدم عدم كفاية مجرد ذلك في الحجية ، وبناء على هذا الطريق سوف يقع التهافت في الصيغ المختلفة المنقول بها هذه القاعدة فتصل النوبة إلى البحث عن متنها.

تحديد متن الحديث :

الجهة الثانية ـ في البحث عن التهافت الواقع في كيفية المتن المنقول لهذه القاعدة وقد عرفت انَّ هذه القاعدة وردت في ثلاث طوائف من الروايات طائفة تنقل قصة سمرة بن جندب مع الأنصاري ، وطائفة تذكر أقضية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطائفة مراسيل تنقل أصل القاعدة فلا بد من ملاحظة كل ذلك.

فنقول : امّا قصة سمرة فقد وردت بثلاثة طرق :

الأول ـ ما اختص بنقله ثقة الإسلام الكليني عن ابن مسكان عن زرارة انَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لسمرة ( انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) ..

الثاني ـ ما اختص بنقله الصدوق ( قده ) في الفقيه عن أبي عبيدة الحذاء. وفيه :

( انَّ رسول الله قال لسمرة ، ما أراك يا سمرة إلاّ مضارّا اذهب يا فلان فاقلعها واضرب بها وجهه ).

الثالث ـ ما عن ابن بكير عن زرارة وقد ذكره المشايخ الثلاث كلهم وقد ذكره الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب بلسان ( اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانه لا ضرر ولا ضرار ) ، وامّا الصدوق فقد ذكره في كتاب المضاربة من دون ذكر فاء التفريع بل قال : انَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امر الأنصاري ان يقلع النخلة فيلقيها إليه وقال لا ضرر ولا ضرار.

وهذه الوجوه من النقل رغم انها تنقل قصة واحدة يوجد فيما بينها اختلاف بالزيادة والنقصان ، وفي موارد الدوران بين الزيادة والنقيصة انما يقع التهافت والتعارض بين أصالة عدم الزيادة وعدم النقيصة فيما إذا كانت الزيادة أو النقيصة مؤثرة في المعنى ومغيرة له ، وامّا إذا لم يكن المعنى الا واحدا على كل تقدير أو شك في ذلك بحيث لم يفهم من أحدهما ما يخالف الآخر بالفعل فلا موضوع للتهافت والتعارض لأنَّ الّذي يتعهد به الراوي هو ان لا ينقل ما بغير المعنى ويزيد عليه أو ينقص ولا يتعهد

٤٣٩

بنقل أكثر من ذلك بحسب ظاهر حاله.

وعلى هذا الأساس قد يقال في المقام بوقوع التهافت في نقل قصة سمرة بن جندب من عدة وجوه :

الأول ـ عدم وجود جملة لا ضرر رأسا في رواية الحذاء بخلاف رواية زرارة فيقع التهافت من هذه الناحية بينهما.

والجواب ـ انَّ هذه الزيادة في رواية زرارة لا توجب تغييرا في المقدار الّذي نقله الحذاء فلعل الحذاء لم يكن يقصد نقل أريد مما نقله ، وليس في كلامه شهادة بعدم هذه الزيادة التي هي مطلب آخر مستقل.

الثاني ـ ورود فاء التفريع في رواية ابن بكير عن زرارة بحسب نقل الكليني والشيخ بخلاف نقل الصدوق ممّا يدلّ على انَّ القاعدة تفريع على الأمر بقلع الشجرة ، وامّا نقل الصدوق فيحتمل ان تكون القاعدة فيه خطابا مستقلا أو تفريعا على الحكم التكليفي الّذي وجهه إلى سمرة.

والجواب : انَّ هذا أيضا ليس تهافتا فانَّ نقل الصدوق أيضا ظاهر في التفريع على القلع وإن كان نقل الكليني أظهر في التفريع ، بل لو فرض عدم الظهور في ذلك أيضا لم يكن هناك تهافت لأنَّ نقل الصدوق لا ينفي التفريع ، والمظنون انَّ الصحيح ما نقله الشيخ ، والصدوق انما لم يذكر الفاء لأنه لم يكن بصدد نقل لفظ الرواية بل نقل فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعنى من انه امر الأنصاري بقلع النخلة فلم يمكن يناسب ان يأتي بالفاء.

الثالث ـ انَّ جملة ( لا ضرر ولا ضرار ) في رواية ابن مسكان عن زرارة انما خوطب بها سمرة بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انك رجل مضار ، وعليه فلا يكون مربوطا بقلع الشجرة ولا تفريعا عليه.

والجواب ـ انه يحتمل صدور هذه الجملة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتين ، مرة لسمرة ومرة أخرى للرجل الأنصاري ، كما في رواية ابن بكير لأنها تناسب التكرار في المقامين فلا تهافت أيضا.

الرابع ـ زيادة كلمة ( على مؤمن ) في رواية ابن مسكان عن زرارة بخلاف الروايتين الأخريين ، وثبوت كلمة ( على مؤمن ) يجعل الحديث ظاهرا في الحرمة التكليفية.

٤٤٠