بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

المقام الثاني ـ في أثر العلم الإجمالي بلحاظ حكم الثمرة وضمانها.

ولا إشكال على مبانينا في ضمانها لأنها تقع طرفا لعلم إجمالي ثان بغصبيتها أو غصبية الشجرة الأخرى ، وقد برهنا فيما سبق على عدم انحلاله بالعلم الإجمالي الأول الا ان المشهور حيث ذهبوا إلى عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني احتيج إلى الحديث عن منجزيته بالعلم الإجمالي الأول وفرعوا ذلك ـ كما فرعوا بحث الملاقي ـ على المسألة الفقهية من ان ملكية الثمرة هل هي ملكية أخرى مسببة عن ملكية الشجرة ومتولدة عنها أو انها انبساط لها ، فعلى الأول لا تنجيز لعدم العلم بتمام موضوعها بخلاف الثاني.

وقد عرفت بما لا مزيد عليه بطلان هذا التفصيل وعدم ثبوت التنجيز حتى على الانبساط الا بمعنى غير محتمل فقهيا وعلى كل حال فقد ذكروا في تقريب عدم المنجزية بناء على السببية في المقام بيانا ابتدائيا حاصله : ان المعلوم بالإجمال وضع اليد على أحد الأصلين الّذي هو ملك الغير وهو لا يكفي في ضمان الثمرة بل لا بد من العلم بوقوع اليد على ثمرة الأصل المغصوب.

وأورد عليه المحقق النائيني ( قده ) بكفاية وضع اليد على الأصل في ضمان الثمرة أيضا ولهذا يضمن الغاصب الأول في مسألة تعاقب الأيادي حتى للثمرة الحاصلة عند اليد الثانية ومن هنا عدل السيد الأستاذ هذا البيان بتعبير أعمق حاصله : ان وضع اليد على الثمرة زائدا على الأصول وان كان غير لازم في باب الضمان الا ان كون الثمرة من الأصل المغصوب لا بد من إحرازه لتحقق موضوع الضمان وهو غير محرز في المقام ، نعم لو أثمرت كلتا الشجرتين أحرز ذلك بالنسبة إلى أحدهما لا محالة.

وهذا البيان تام إذا لم يدع مطلب ارتكازي في المقام وهو دعوى ان الثمرة لها وجود عنائي تقديري لدى العقلاء تقع بلحاظه موردا للأثر من جواز بيعه قبل وجوده في السلف ونحوه فيدعى ان الغاصب كما يضمن أصل الشجرة يضمن ثمرتها التقديرية إذا كانت صالحة لذلك من أول الأمر ومثل هذا الارتكاز العقلائي يمكن القول به في موارد عديدة من فقه المعاملات في طرف المملوك أو المالك أو الملكية نفسها فيعتبر العقلاء طرفا تقديريا أو سلطنة تقديرية كذلك ، كما قد يدعى ذلك بالنسبة إلى الوقف على البطون قبل وجودها ، وعليه فلو بني على ذلك فقهيا فسوف تدخل الثمرة تحت

٣٢١

الضمان من أول الأمر قبل وجودها فيتنجز ضمانها بالعلم الإجمالي الأول ، وعلى كل حال فالعلم الإجمالي الثاني كاف في التنجيز على مبانينا.

٣٢٢

مباحث الحجج

الأقل والأكثر

ـ الأقل والأكثر في الاجزاء

ـ الأقل والأكثر في الشرائط

ـ التعيين والتخيير

ـ ملاحظات عامة حول الأقل والأكثر

١ ـ التمسك بالاستصحاب في الأقل والأكثر

٢ ـ الأقل والأكثر في المحرمات

٣ ـ الدوران بن الجزئية والمانعية

٤ ـ الشبهة الموضوعية للأقل والأكثر

٥ ـ الأقل والأكثر في المحصل الشرعي

٦ ـ الشك في الطلاق القيد لحال التعذر ـ قاعدة الميسور

٧ ـ الشك في مبطلية الزيادة ـ خاتمة

١ ـ وجوب الفحص قبل جريان المؤمن

٢ ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار

٣٢٣
٣٢٤

الوظيفة عند الشك في الأقل والأكثر

تمهيد :

إذا كان الوجوب معلوما ولكن تردد الواجب بين الأقل والأكثر ، فهناك حالتان :

الحالة الأولى ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، والّذي يعني ان ما يتميز به الأكثر على الأقل من الزيادة على تقدير وجوبه يكون واجبا مستقلا عن وجوب الأقل كما إذا علم المكلف بأنه مدين لغيره بدرهم أو درهمين.

ولا إشكال في تنجز وجوب الأقل فيه العلم التفصيليّ به ، وان وجوب الزائد مشكوك بشك بدوي فتجري عنه البراءة عقلا وشرعا أو شرعا فقط على الخلاف بيننا وبين المشهور.

الحالة الثانية ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، والّذي يعني ان هناك وجوبا واحدا له امتثال واحد وعصيان واحد ، وهو متعلق اما بالأقل أو الأكثر كما إذا علم المكلف بوجوب الصلاة عليه وترددت الصلاة عنده بين عشرة أمور ـ إجراء وشرائط ـ أو تسعة.

وقد وقع البحث والكلام بين المحققين في منجزية الأكثر وعدمه ، ومنشأ البحث في ان الدوران في الحالة الثانية هل يرجع بحسب الحقيقة والجوهر إلى الأقل والأكثر فينحل لا محالة ويكون الزائد مشكوكا بدوا كما ذكرنا في الحالة الأولى ، أو يرجع إلى الدوران بين المتباينين وان كان بحسب الظاهر دورانا بين الأقل والأكثر فلا يكون منحلا.

٣٢٥

ولكي تتضح النكات الأساسية في هذا البحث ينبغي الإشارة إلى ان هناك عوالم متعددة يمكن ملاحظة هذا الدوران والتردد في الواجب بلحاظها ، فقد يكون الحال بلحاظ بعضها من الدوران بين الأقل والأكثر وبلحاظ عالم آخر من الدوران بين المتباينين ، ولا بد من تشخيص ان الميزان أي منها. وهذه العوالم التي يلحظ فيها الوجوب كما يلي :

١ ـ عالم الجعل ولحاظ المولى ، فيبحث في ان الواجب الارتباطي المردد بين الأقل والأكثر بحسب عالم الجعل ولحاظ المولى هل يكون مرددا بين لحاظين متباينين أو لحاظين ولحاظ فيكون من الأقل والأكثر.

٢ ـ عالم الوجوب والإلزام ـ أي عالم الملحوظ لا اللحاظ ـ فقد يكون الأمر في عالم اللحاظ دائرا بين متباينين ولكن بلحاظ الإلزام والوجوب يكون اللحاظ الزائد في الأكثر مزيدا من الوجوب والضيق بينما اللحاظ الزائد في الأقل يستلزم التوسعة وإطلاق العنان.

٣ ـ عالم التحميل العقلي ، أي ما يرى العقل اشتغال ذمة المكلف به وتسجيله في عهدته ، فانه قد يفرض ان الأمر بلحاظ عالمي الجعل والوجوب دائر بين المتباينين ولكن بلحاظ ما يتسجل في عهدة المكلف وتشتغل به ذمته يكون الأمر دائرا بين الأقل والأكثر كما سوف يأتي في الدوران بين التعيين والتخيير.

٤ ـ عالم التطبيق الخارجي والامتثال ، فقد يكون الأمر فيه دائرا بين الأقل والأكثر أي ان مقدارا مما يقع في الخارج يصلح امتثالا للأمر بالأقل فإذا ضم إليه الزائد صار امتثالا للأمر على كل تقدير كما في موارد الشك في جزئية السورة في الصلاة وأخرى لا يكون الأمر كذلك بل الفعل الّذي يقع به امتثال الأكثر غير الّذي قد يقع به امتثال الأقل كما إذا دار الأمر بين وجوب أحد الخصال أو خصوص العتق فان عتق الرقبة مباين مع الإطعام أو الصوم.

وبالتأمل في هذه المراحل الأربع لكيفية لحاظ الحكم يظهر ان أوسع العوالم في قابليته لأن يكون الدوران فيه بين الأقل والأكثر هو عالم التحميل العقلي وشغل والذّمّة.

ونحن نجعل الضابط لموضوع البحث والّذي يكون جامعا لكل الأقسام ان يدور

٣٢٦

الأمر بين حكمين يكون امتثال أحدهما مساوقا لامتثال الآخر عقلا دون العكس ، وهذا يشمل فرض الدوران بين الأقل والأكثر بحسب الاجزاء والشرائط كما يشمل فرض الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي والتعيين والتخيير العقلي أي الجامع والحصة. وفيما يلي نستعرض البحث في كل واحد من هذه الأقسام.

١ ـ الدوران بين الأقل والأكثر في الاجزاء :

كما إذا تردد امر الصلاة بين تسعة اجزاء أو عشرة ، وقد اختلفت كلمات المحققين فيه إلى ثلاثة أقول :

١ ـ القول بجريان البراءة عن الزائد مطلقا ، وهو مختار الشيخ في الرسائل.

٢ ـ القول بعدم جريانها مطلقا ، وهو مختار المحقق الخراسانيّ في حاشيته على الكفاية.

٣ ـ القول بجريان البراءة الشرعية دون العقلية ، وهو مختار صاحب الكفاية في الكفاية.

وحيث ان وجوب الأكثر مشكوك ومشمول لأدلة البراءة عند الشك في التكليف في نفسه فيكون منهج البحث هو التفتيش عما يكون مانعا عنها وبرهانا على عدم جريان التأمين عن هذا الوجوب المشكوك.

وفيما يلي نستعرض الموانع التي ذكرت أو يمكن ان تذكر في هذا الصدد مع التعليق عليها.

والمانع الأول ـ وهو يقوم على أساس دعوى وجود العلم الإجمالي المانع عن إجراء البراءة وليس هو العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو وجوب الزائد لينفي ذلك بان وجوب الزائد لا يحتمل كونه بديلا عن الأقل فكيف يجعل طرفا مقابلا له في العلم الإجمالي بل هو العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو وجوب الأكثر المشتمل على الزائد الّذي هو أمر مباين مع الأقل لأن الوجوب ارتباطي والارتباطية تساوق الوحدة والوحدة تساوق التباين إذ لا يتعقل أقل وأكثر حقيقة الا مع فرض الكثرة فيكون العلم الإجمالي في المقام بحسب الحقيقة علما إجماليا بين متباينين ومعه لا يمكن إجراء الأصل لنفي وجوب الزائد لكونه جزء من أحد طرفي العلم الإجمالي.

٣٢٧

وقد أجيب على هذا المانع بدعوى انحلال هذا العلم الإجمالي بأحد وجوه :

الوجه الأول ـ ان هذا العلم الإجمالي منحل بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل على كل تقدير اما وجوبا نفسيا أو وجوبا غيريا لكونه جزء الواجب ومقدمة داخلية له ، وهذا هو ظاهر عبارة الشيخ في الرسائل.

ويرد عليه بعد تسليم ما افترض فيه من اعتبار الاجزاء مقدمات داخلية والقول بوجوب المقدمة حتى الداخلية ان المقصود إن كان دعوى الانحلال الحقيقي وانثلام الركن الثاني من أركان منجزية العلم الإجمالي ، فالجواب عليه ان الانحلال انما يحصل إذا كان المعلوم التفصيليّ مصداقا للجامع المعلوم بالإجمال كما تقدم وليس الأمر كذلك في المقام لأن الجامع المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسيّ والمعلوم التفصيليّ وجوب الأقل ولو غيريا أي ان المعلوم هو الجامع بين أحد طرفي العلم الإجمالي ـ وهو الوجوب النفسيّ للأقل ـ ووجوب آخر هو الوجوب الغيري وهذا لا يوجب الانحلال.

وان أريد الانحلال الحكمي وانهدام الركن الثالث بدعوى ان وجوب الأقل منجز على أي حال ولا تجري البراءة عنه فتجري البراءة عن الآخر بلا معارض ، فالجواب عليه : ان الوجوب الغيري ليس منجزا وانما المنجز هو الوجوب النفسيّ فقط على ما تقدم في بحوث الواجب الغيري والنفسيّ ، وعليه فلا يكون العلم بالجامع بين الوجوب النفسيّ أو الغيري للأقل علما بوجوب منجز على كل تقدير بل علم بالجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز وهو لا يكون منجزا.

وهذا هو الصحيح في مناقشة هذا الوجه ، لا ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من ان هذا العلم التفصيليّ معلول للعلم الإجمالي وفي طوله فلا ينحل به.

فانه إن كان المراد إبطال الانحلال الحقيقي فقد عرفت انه لا علم تفصيلي بأحد طرفي العلم الإجمالي ولو فرض وجوده أوجب انحلاله ولو كان متولدا منه وفي طوله لاستحالة بقاء العلم الإجمالي مع العلم التفصيليّ بأحد طرفيه.

وان كان المراد إبطال الانحلال الحكمي فكون العلم التفصيليّ معلولا للعلم الإجمالي ومتولدا منه وفي طوله لا ينافي إلغائه لأثره ومنجزيته فان العلم التفصيليّ متأخر عن ذات العلم الإجمالي لا اثره وتنجيزه ، فان كان الإشكال من ناحية ان المعلول لا يمكن ان يحل علته فالمفروض ان الانحلال حكمي لا حقيقي وان كان الإشكال ان

٣٢٨

العلم الإجمالي في الرتبة السابقة نجز الطرفين فلا يمكن للعلم التفصيليّ المتأخر عنه رتبة ان يمنع عن تأثيره فالمفروض ان العلم التفصيليّ متأخر عن ذات العلم الإجمالي وفي طوله لا عن اثره وتنجيزه ، فالتنجيزان عرضيان الا بناء على مبنى ان ما مع المتقدم متقدم وقد عرفت انه لا أساس له.

الوجه الثاني ـ ان العلم الإجمالي المذكور منحل بالعلم التفصيليّ بالوجوب النفسيّ للأقل على كل حال سواء كان هو الواجب مستقلا أو كان الوجوب عارضا عليه مع زيادة ، وهذا المعلوم التفصيليّ مصداق للجامع المعلوم بالإجمال فينحل به العلم الإجمالي لا محالة.

وقد حاول المحققون الإجابة على هذا الوجه بإبراز عنصر التباين بين وجوب الأقل ووجوب الأكثر فلا يكون العلم بوجوب الأقل على كل حال علما بأحد طرفي العلم الإجمالي لكلي ينحل به. ومهم ما ذكر في المقام محاولتان :

الأولى ـ ان المعلوم بالإجمال وجوب الأقل استقلالا أو الأكثر استقلالا أي وجوب الأقل بحده والأكثر بحده وبملاحظة حد الوجوب الاستقلالي للأقل والوجوب الاستقلالي للأكثر يتضح ان العلم التفصيليّ بوجوب الأقل لا يمكن ان يوجب الانحلال لأنه ليس علما بالوجوب الاستقلالي للأقل.

ويرد عليه : أن أريد حد الفعل المتعلق به الوجوب بقطع النّظر عن عروض الوجوب وان الواجب على تقدير كونه الأقل محدود بحد التسعة وعلى تقدير كونه الأكثر محدود بحد العشرة فهذا يرجع بحسب الحقيقة إلى أخذ التسعة بشرط لا عن الجزء العاشر تحت الوجوب وهو خروج عن الفرض لأنه من الدوران بين الجزئية والمانعية وهما متباينان يقينا ، وان أريد حد الوجوب أي ان الواجب بما هو واجب لا بقطع النّظر عن تعلق الوجوب له حد تنتزع منه الاستقلالية فانها تنتزع من حد الوجوب وعدم شموله لغير ما تعلق به وهو هنا مردد بين التسعة والعشرة ، فهذا صحيح الا ان حد الاستقلالية بهذا المعنى لا يقبل التنجز ولا يدخل في العهدة فالعلم الإجمالي بالوجوب النفسيّ الاستقلالي وان لم يكن منحلا ولكن معلوم هذا العلم لا يصلح للدخول في العهدة لعدم قابلية حد الوجوب والاستقلالية للتنجيز والعلم الإجمالي بذات الوجوب المحدود بقطع النّظر عن حده هو الّذي ينجز معلومه ويدخله في العهدة وهذا العلم منحل بالعلم

٣٢٩

التفصيليّ المشار إليه.

الثانية ـ ان وجوب الأقل إذا كان استقلاليا فمتعلقه مباين مع الأقل إذا كان واجبا ضمنيا ، لأنه على التقدير الأول تكون التسعة المطلقة متعلق الوجوب ، وعلى التقدير الثاني تكون التسعة المقيدة بالجزء العاشر متعلق الوجوب ، والمطلق يباين المقيد.

وهذه المحاولة أيضا غير تامة ، وقبل توضيح ذلك لا بد من الإشارة إلى مقدمة ترتبط بشرح حقيقة التقييد لاجزاء الواجب الارتباطي بعضها بالبعض ، فانه توجد في تفسيره نظريات ثلاث :

النظرية الأولى ـ ان حقيقة التقييد والتحصيص بمعنى ان الوجوب الارتباطي يتعلق بالاجزاء مع فرض ان كل جزء مشروط بسائر الاجزاء ومقيد بها ، ولا يتوهم ان هذا مستلزم للدور للزوم ان يكون كل جزء شرطا للجزء الآخر ومقدما عليه رتبة ومشروطا به ومتأخرا عنه في نفس الوقت ، فان المراد بالشرطية هنا مجرد التحصيص لا الشرطية في الوجود فليس الركوع متوقفا على السجود أو العكس بل نسبة كل منهما إلى الآخر ومقارنته معه متوقفة عليهما معا فلا دور.

وهذا النحو من التقييد والتحصيص بين اجزاء الواجب الارتباطي وان كان معقولا في نفسه الا انه لا مبرر له. فانه إن كان مبرره إيجاد الوحدة في متعلق الوجوب حيث ان الوجوب الارتباطي وجوب واحد على كل حال فيستحيل تعلقه بالمتكثر بما هو متكثر ، فلا بد من فرض وحدة في الرتبة السابقة على عروض الوجوب وهذا يكون بتقييد كل منهما بالباقي.

فالجواب : ان استحالة تعلق الوجوب الواحد بالكثير بما هو كثير وان كان صحيحا وبديهيا عندنا الا ان هذا لا يحصل بمجرد تقييد كل جزء بالباقي ، فان تقييد الاجزاء لا يوحدها بل غايته تبدل الاجزاء المتكثرة بما هي ذوات إلى متكثرة بما هي متقيدات ، وهذا غير توحيد المتكثر ، ويشهد على ذلك انه يمكن افتراض هذا التحصيص بين واجبات استقلالية متعددة بان يشترط في صحة صلاة الظهر مثلا تعقبها بالعصر وبالعكس دون ان يلزم من ذلك وحدتها.

وان كان مبرره ان الجزء للواجب الارتباطي لو بقي غير مقيد بالاجزاء الأخرى

٣٣٠

فاما يفترض إطلاقه أو إهماله من ناحيتها ، والأول يلزم منه تحقق الامتثال حتى لو جيء به وحده وهو خلف الارتباطية ، والثاني مستحيل ثبوتا ، فلا بد من افتراض التقييد.

فالجواب : ان الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ عدم القيد والسريان إلى كل الحصص ، وانما يعني عدم لحاظ القيد مع الطبيعة وحينئذ يمكن ان يقال بان عدم اتصاف الجزء المنفرد في الوجود بالمطلوبية والوجوب ليس لعدم الإطلاق في الموضوع بل لعدم قابلية المحمول وهو الوجوب الضمني للانبساط عليه لكونه جزء مشدودا إلى سائر الاجزاء الضمنية للوجوب (١).

وهكذا يتضح انه لا مبرر لافتراض تقيد اجزاء الواجب الارتباطي بعضها بالبعض.

النظرية الثانية ـ ما أفاده المحقق العراقي ( قده ) من ان وحدة الوجوب وتعدده تتبع وحدة الملاك وتعدده لا وحدة معروضة وتكثره ، نعم لا إشكال في ان وحدة الوجوب تستلزم وحدة الواجب الا ان هذه الوحدة ليست مأخوذة في معروض الوجوب ومتقدمة عليه بل متأخرة عنه.

توضيح ذلك : ان الشيء المتكثر بذاته قد يصبح واحدا بوحدة عرضية ناشئة من وحدة ما عرض عليه ، فمثلا اللحاظ الواحد إذا طرأ على أمور متكثرة حصل لها وحدة عرضية لحاظية ، وكذلك الشوق الواحد والملاك الواحد ونحو ذلك. والواجب الارتباطي بذاته وان كان عبارة عن أمور متكثرة لكن تعرض عليها الوحدة من ناحية وحدة جملة من عوارضها كاللحاظ والوجوب والملاك الا ان هذه الوحدة العارضة

__________________

(١) لا معنى لهذا الانشداد بين أبعاض الوجوب ، فانه لو كان مبرره وحدة الجعل فمن الواضح ان وحدة الجعل لا تستلزم ذلك فان الجعل في الأحكام الانحلالية الاستقلالية أيضا واحد مع عدم استلزامه للارتباطية فيما بينهما ، وان كان مبرره وحدة المجعول فالمجعول تابع لمرحلة الفعلية التابعة لكيفية ملاحظة الموضوع والمتعلق من حيث الانحلال وعدمه فلا بد من افتراض الارتباطية في رتبة سابقة على الوجوب العارض ليكون الوجوب ارتباطيا أيضا ، اما تصور الارتباطية في الوجوبات بقطع النّظر عن وحدة متعلقة فهو غير معقول.

ولعل الأولى الإجابة على هذا الشق بان عدم إطلاق الواجب الضمني للجزء المنفرد في الوجود لا يتعين وجهه بتقييد كل جزء بالاجزاء الأخرى ، بل يمكن بنحو آخر يأتي في النظريتين القادمتين ، ولعل هذا هو المقصود من انشداد اجزاء الوجوب بعضها بالبعض.

٣٣١

يستحيل أخذها في معروض الوجوب ، اما الوحدة الناشئة من وحدة الوجوب فهي في طول الوجوب فلا يعقل أخذها في متعلقه ، واما الوحدة الناشئة من وحدة الملاك فهي وان لم تكن في طول الوجوب لكن الوجوب تابع للملاك فلا بد وان يتعلق بما فيه الملاك ، ومن المعلوم ان تلك الوحدة العارضة على متعلق الملاك في طول الملاك غير دخيلة في الملاك لكونها في طوله ، وكذلك اية وحدة أخرى تفرض كوحدة اللحاظ فانها أيضا غير مربوطة بمعروض الملاك فلا يمكن ان تؤخذ في معروض الوجوب.

وهكذا يثبت عدم وجود وحدة سابقة على الوجوب مأخوذة في متعلقه ، نعم هناك وحدة للوجوب العارض نفسه من باب وحدة الملاك فانه إذا كان واحدا كان الوجوب واحدا أيضا ، وهذه وحدة طولية وليست في متعلق الوجوب الارتباطي فالجواب الارتباطي متكثر وانما الوحدة بوحدة الوجوب العارض عليه الناشئة من وحدة الملاك وعدم تكثره وهي وحدة طولية ثابتة حتى في الجعل الواحد للواجبات الاستقلالية الانحلالية.

ويرد على هذه النظرية : انه إن أراد بان متعلق الوجوب الارتباطي متكثر بحسب الخارج فلا إشكال في ذلك ولكنه خارج عن البحث ، إذ لم يتوهم أحد ان اجزاء الصلاة مثلا في الخارج امر واحد لوضوح انها ماهيات ومقولات مختلفة ، وان أراد بان متعلق الوجوب الارتباطي في عالم النّفس وبما هو ملحوظ للمولى متكثر مع وحدة الوجوب التعارض عليها فهذا مستحيل لأن الوجوب والحب والإرادة كالعلم من الأوصاف الحقيقة ذات الإضافة إلى متعلقاتها ، وهذه الإضافة داخلة في قوامها بحسب الحقيقة بحيث لا اثنينية بينهما الا بالتحليل العقلي ، وحينئذ يستحيل ان تكون معروضاتها الحقيقة أي المعلوم بالذات والمحبوب بالذات والواجب بالذات متكثرة مع وحدة العلم والحب والوجوب فانه في صقع العروض لا بد من وحدة العارض والمعروض ، خصوصا إذا كان العروض مجازيا وكان العارض عين المعروض كما في هذه الصفات على ما عرفت ، اذن فوحدة الوجوب والإرادة والحب تابعة لا محالة لوحدة متعلقاتها بالذات في عالم النّفس أي وحدة الملحوظ من خلالها وهي وحدة متقدمة رتبة على الوجوب.

النظرية الثالثة ـ ان متعلق الوجوب الارتباطي عنوان وحداني ذهنا ولو بالوحدة

٣٣٢

الاعتبارية وان كان متكثرا خارجا. وتوضيح ذلك : ان العناوين على قسمين قسم منها يستورده الذهن من الخارج كعنوان الإنسان والبياض ، وقسم منها يصطنعه بنفسه كعنوان أحدهما المتعلق به العلم الإجمالي وكعنوان المجموع والكل (١) وحينئذ إذا فرض في مورد ان الملاك كان في مجموع أمور بحيث لو ترك أي جزء منها لم ينفع الباقي أصلا فلا محالة ينقدح في النّفس حب وإرادة واحدة نحو المجموع ، ولكن حيث ان الحب والإرادة والوجوب من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة فلا بد وان تكون متعلقاتها بالذات في ظرف العروض واحدة أيضا ـ كما عرفت ـ فتضطر النّفس إلى اصطناع عنوان المجموع وإلباسه لما في الخارج من الأمور المتكثرة ليمكن ان تعرض عليه الإرادة الواحدة والوجوب الواحد فيكون التكثر بلحاظ الخارج الّذي هو المعروض بالعرض لا بالذات.

وفي ضوء هذه النظريات في كيفية تفسير الواجب الارتباطي نقول في مقام الجواب على هذه المحاولة اما بناء على النظرية الثانية المتبناة من قبل المحقق العراقي ( قده ) فالمفروض تكثر المتعلق في الواجب الارتباطي وعدم أخذ وحدة سابقة فيه فبالنسبة إلى المتعلق يوجد هناك انحلال حقيقي إذ يعلم بان التسعة بما هي متكثرة واجبة ويشك في أخذ العاشر أيضا.

واما بناء على النظرية الأولى القائلة بأخذ كل جزء قيدا في الجزء الآخر ، فإذا بنينا على ان الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد مع الطبيعة لا لحاظ عدم القيد فائضا لا تباين بلحاظ متعلق الوجوب الارتباطي المعلوم في المقام لأن الملحوظ مردد بين ان يكون التسعة أو هي بقيد العاشر فالتسعة ملحوظة على كل حال ولا يعني وجوب الأقل ـ وهو التسعة ـ الا كونها ملحوظة وهو معلوم على كل حال ، نعم حد اللحاظ للمتعلق كحد الوجوب في المحاولة الأولى غير معلوم الا ان ذلك خارج عن الإطلاق ومعروض الوجوب.

__________________

(١) بالإمكان دعوى ان هذه المفاهيم الاصطناعية انتزاعية بحسب الدقة أيضا غاية الأمر ليست منتزعة بلحاظ الخارج بل بلحاظ كيفية تعامل الذهن مع الخارج فمنشأ انتزاعها ليس خارجيا ثابتا بقطع النّظر عن الذهن بل عنوان أحدهما منتزع من التردد في الإشارة الذهنية التصديقية إلى الخارج ، وعنوان المجموع والجميع منتزعان من كيفية لحاظ الذهن وإشارته إلى الافراد فإذا أشار إليهما بإشارة واحدة فهذا هو المجموع وإذا أشار بإشارات متعددة فالجميع ، ولعل فيما تقدم في تصوير حقيقة العلم الإجمالي وفرقه عن التفصيليّ ما ينفع في إثبات هذه الدعوى.

٣٣٣

واما إذا بنينا على ان الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد فالمتعلق بناء على وجوب الأقل غيره بناء على وجوب الأكثر ومباين معه ، الا انه لا ينبغي الإشكال في ان الإطلاق لا يدخل في العهدة لأنه يقوم الصورة الذهنية وليس له محكي ومرئي ليراد إيجابه زائدا على ذات الطبيعة ولو قلنا ان الإطلاق لحاظ عدم القيد بخلاف التقييد لأن المولى لا يريد من المكلف إيجاد الصورة الذهنية بل يريد إيجاد محكيها الخارجي ، وعليه فبلحاظ عالم المفروض الذهني للوجوب وان كان الواجب دائرا بين متباينين الا انه بلحاظ ما يتسجل في العهدة عقلا وهو المحكي الخارجي دائر بين الأقل والأكثر ، وبعبارة أخرى ان أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد فهو غير ممكن لأن الإطلاق لا يقبل التنجز ، وان أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالوجوب بالقدر الّذي يقبل التنجيز ويدخل في العهدة فهو دائر بين الأقل والأكثر.

ومثله يقال بناء على النظرية الثالثة في حقيقة الارتباطية ، فان الوحدة الذهنية الاصطناعية للصورة الذهنية ، لا تدخل في العهدة بل محكيها ومعنونها وما تقتضيه من الضيق يدخل فيها وفي هذه المرحلة الأمر دائر بين الأقل والأكثر.

وهكذا يتضح : ان إرجاع العلم الإجمالي في هاتين المحاولتين إلى العلم الإجمالي الدائر بين طرفين متباينين لو كان النّظر فيه إلى مرحلة ما يدخل في العهدة من التكليف فليس بصحيح ولا يمكن ان يكون دليلا على وجوب الاحتياط وعدم الاكتفاء بالأقل ، وان كان بلحاظ عالم عروض الوجوب فهو صحيح الا أن متعلق العلم بهذا المعنى ليس هو الّذي يتنجز على المكلف ويدخل في عهدته.

وبهذا ظهر ان الوجه الثاني للانحلال بالعلم التفصيليّ بالأقل إن أريد به دعوى الانحلال الحقيقي بلحاظ ما يدخل في العهدة فهو صحيح ، وان أريد به دعوى انحلال بلحاظ تمام العوالم أي بلحاظ عالم تكوين الوجوب فهو غير صحيح إذ لا يوجد علم تفصيلي بأحد طرفيه بلحاظ هذا العالم.

كما ظهر ان الجواب الحقيقي على المانع الأول الّذي أبرز للمنع عن جريان البراءة عن الأكثر ان البراءة انما تجري عما يدخل في العهدة ويتنجز بالعلم والخصوصيات الحدية للوجوب كالاستقلالية والإطلاق لا تدخل فيها وانما المحدود وما يستتبعه من الثقل خارجا على المكلف يدخل في عهدة المكلف فالوجوب الداخل في العهدة امره

٣٣٤

دائر بين الأقل والأكثر حقيقة وهذا يعنى انه بلحاظ مركز جريان البراءة هناك شك بدوي في وجوب الزائد ولا علم إجمالي أصلا وان كان بلحاظ عالم حقيقة الوجوب وتكوينه يوجد علم إجمالي لا انحلال فيه ، وهذا هو الوجه الثالث للجواب على المانع الأول.

الوجه الرابع ـ ما ذكره السيد الأستاذ من دعوى الانحلال الحكمي أي انهدام الركن الثالث بحسب اصطلاحنا لأن الأصل يجري عن وجوب الأكثر أو الزائد ولا يعارضه الأصل عن وجوب الأقل ، لأنه إن أريد به التأمين في حالة ترك الأقل مع الإتيان بالأكثر فهو غير معقول إذ لا يعقل ترك الأقل مع الإتيان بالأكثر ، وان أريد به التأمين في حالة ترك الأقل وترك الأكثر بتركه رأسا فهو غير ممكن أيضا لأن هذه الحالة هي حالة المخالفة القطعية ولا يمكن التأمين بلحاظها ، وهكذا تعرف ان الأصل عن وجوب الأقل ليس له دور معقول فلا يعارض الأصل الآخر وهذا الوجه مبتن على مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الإجمالي وهو صحيح في نفسه ولكنه يستبطن الاعتراف بعدم انحلال العلم الإجمالي بلحاظ ما يتنجز من الوجوب ويدخل في العهدة مع انك عرفت انه لا علم إجمالي بلحاظ هذا العالم بل شك بدوي في وجوب الزائد ، فبلحاظ ما هو مركز جريان الأصل العملي هناك انحلال حقيقي لا حكمي.

المانع الثاني ـ ان وجوب الأقل منجز على كل حال وهو مردد بين كونه استقلاليا أو ضمنيا وفي حالة الاقتصار على الإتيان بالأقل لا يحرز سقوطه لأنه على تقدير كونه ضمنيا لا يسقط الا ضمن الإتيان بالكل لأن الوجوبات الضمنية امتثالها أيضا ضمني فيكون من الشك في المحصل والخروج عن عهدة تكليف معلوم على كل حال فيجب الاحتياط ، وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد حتى يقال انه شك في التكليف بل انما هو رعاية للتكليف بالأقل المنجز بالعلم واليقين نظرا إلى ان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ويرد عليه :

أولا ـ ان سقوط الفعلية بالامتثال أساسا غير معقول ، إذ لو أريد به سقوط الجعل فهو

٣٣٥

لا يكون الا بالنسخ ، وان أريد سقوط فعلية المجعول بارتفاع موضوعه فهو فرع ان يكون عدم الامتثال قيدا فيه ومن الواضح ان أخذ قيد في الموضوع ليس جزافا بل باعتبار دخله في الملاك والمحبوبية ومن المعلوم ان عدم الامتثال ليس دخيلا فيه لأن صدور المحبوب وما فيه الملاك لا يخرجه عن كونه محبوبا كما يظهر بمراجعة الوجدان ومراجعة المطلوب التكويني ، نعم قد لا يكون الفرد الثاني بعد الفرد الأول محبوبا وذلك أمر آخر كما لا يخفى.

وعليه فكبرى سقوط الفعلية بالامتثال غير صحيحة وانما الساقط بحسب الحقيقة فاعلية التكليف ومحركيته ، وفي المقام لو ادعي الشك في سقوط الفعلية فقد عرفت انه لا شك فيها ، وان ادعي الشك في سقوط الفاعلية تجاه الأقل فمن الواضح ان فاعلية الأقل المعلوم ومحركيته لا تكون بأكثر من الإتيان بالأقل فان فاعلية أي تكليف تعني لزوم الإتيان بمتعلقه وسد باب عدمه والمفروض تحقق ذلك خارجا وانما الشك في سقوط فاعلية التكليف بالزائد لكن المفروض ان التكليف به مشكوك ومجرى للبراءة.

وثانيا ـ لو سلمنا سقوط التكليف بالامتثال مع ذلك نقول : ان الشك في سقوط تكليف معلوم انما يكون مجرى لأصالة الاشتغال فيما إذا كان بسبب الشك في الإتيان بمتعلقه وهذا غير حاصل في المقام ، لأن التكليف بالأقل سواء كان استقلاليا أو ضمنيا قد أتى بمتعلقه بحسب الفرض ، إذ ليس متعلقه الا الأقل ، وانما ينشأ احتمال عدم سقوطه من احتمال قصور في نفس الوجوب بلحاظ ضمنيته المانعة عن سقوطه مستقلا عن وجوب الزائد ، وهكذا يرجع الشك في السقوط هنا إلى الشك في ارتباط وجوب الأقل بوجوب زائد ومثل هذا الشك ليس مجرى لأصالة الاشتغال بل يكون مؤمنا عنه بالأصل المؤمن عن ذلك الوجوب الزائد ، لا بمعنى ان ذلك الأصل يثبت سقوط وجوب الأقل بل بمعنى انه يجعل المكلف غير مطالب من ناحية عدم السقوط الناشئ من وجوب الزائد.

وبتعبير آخر ان المكلف إذا ترك الزائد فهو وان كان يحتمل حصول مخالفة للوجوب الضمني لكن احتمال المخالفة هنا ليس من باب انه يعلم بان العمل الفلاني مخالفة ويشك في حصوله وعدم حصوله كما لو علم بان عدم قتل الكافر مخالفة وشك في

٣٣٦

ان ترك إطلاق الرصاصة الثانية هل يوجب عدم قتله أم لا ، أو علم بان ترك الصلاة مخالفة وشك في انه هل ترك الصلاة أم لا يكون مجرى لأصالة الاشتغال ، بل الشك في المخالفة في المقام من باب انه لا يدري ان وجوب الأقل هل هو بنحو يكون له مخالفة واحدة وهي ترك الأقل أو بنحو يكون له مخالفتان إحداهما ترك الأقل والأخرى ترك الزائد فيجري البراءة عن أصل ثبوت المخالفة الثانية لأنه ضيق وتكليف زائد غير معلوم سواء بصيغة البراءة عن الوجوب الزائد المشكوك أو وجوب الأكثر أو المخالفة والضيق الزائد.

المانع الثالث ـ وهو يتركب من ثلاث خطوات :

الأولى ـ ان الشك في المحصل للواجب مجرى للاشتغال.

الثانية ـ ان الغرض والمحبوب حاله حال متعلق الوجوب في حكم العقل بلزوم تحصيله لأنه روح الحكم وحقيقته.

الثالثة ـ ان الأمر بلحاظ متعلق الوجوب وان كان دائرا بين الأقل والأكثر ولكنه بلحاظ الغرض المعلوم يكون من الشك في المحصل ، لأن الغرض امر وحداني لا يدري هل يتحقق بالأقل أم لا فيجب الاحتياط من هذه الناحية.

ويرد عليه :

أولا ـ ان الغرض أيضا يمكن ان يكون مرددا بين الأقل والأكثر كنفس الواجب ، اما بفرض ان الغرض عبارة عن نفس الأفعال اما بذاتها لكونها حسنة ذاتا أو بعنوان منطبق عليها في طول الأمر كعنوان الطاعة فيكون الأمر بلحاظ الغرض دائر بين الأقل والأكثر ، أو بفرض ان الغرض يتولد من الفعل ولكن يكون له مراتب عديدة وبعض مراتبه تحصل بالأقل ولا تستوفي كلها الا بالأكثر ويشك في ان الغرض الفعلي قائم ببعض تلك المراتب أو كلها. أو بفرض ان الغرض المترتب على الفعل متعدد بعدد الأفعال فكل جزء يحقق غرضا ـ إعداديا أو نهائيا ـ ولكن الكمال المطلوب في حصول مجموعها فيشك في ان الكمال في مجموع تسعة من تلك الأغراض أو عشرة ، فهذه كلها فرضيات معقولة لكون الغرض أيضا دائرا بين الأقل والأكثر فيجري عليه نفس ما جرى على الواجب.

٣٣٧

لا يقال ـ الغرض امر تكويني لا معنى لجريان مثل حديث الرفع عنه.

فانه يقال ـ مضافا إلى كفاية البراءة العقلية على القول بها والبراءة الشرعية بسائر أدلتها التي تكون بلسان نفي العقاب ، ان الرفع هنا لا يراد به الا رفع الثقل والعهدة والتسجيل أي رفع الوظيفة ، والغرض كالتكليف مستدع لذلك فيمكن رفعه بالترخيص الشرعي على حد رفع منجزية التكليف به.

لا يقال ـ لا يعلم في المقام بكون الغرض مركبا فلعله غرض واحد بسيط.

فانه يقال ـ حيث لا يحرز وحدة الغرض وبساطته ، فلا يتم البرهان المذكور لإثبات الاحتياط بل تجري البراءة عن احتمال وجود غرض وحداني لا يسقط الا بالأكثر كما هو واضح.

وثانيا ـ ان الغرض انما يتنجز عقلا كالتكليف بالوصول إذا وصل مقرونا بتصدي المولى لتحصيله تشريعا ، وذلك بجعل الحكم والاعتبار على وفقه أو إبراز مطلوبيته ، فما لم يثبت مثل هذا التصدي التشريعي بالنسبة إلى الأكثر بمنجز وما دام مؤمنا عنه بالأصل فلا أثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالأكثر ، وقد تقدم توضيح هذا المطلب أيضا في بحث التعبدي والتوصلي عند البحث عن مقتضى الأصل العملي في حالة الشك ، حيث كان يبرز نفس هذا المانع لإثبات وجوب الاحتياط. كما تقدم هناك محاولة أخرى للجواب على هذا المانع من قبل المحقق النائيني ( قده ) مع مناقشتها فراجع.

المانع الرابع ـ ما ذكره المحقق العراقي ( قده ) من تشكيل علم إجمالي منجز (١) ، وهو مخصوص بالواجبات التي يحرم قطعها عند الشروع فيها كالصلاة ، إذ يقال بان المكلف إذا شك في وجوب السورة فهو وان كان أول الأمر يجري البراءة عن وجوبها لكنه إذا ترك السورة إلى ان دخل في الركن فلم يمكن تداركها ، وبنينا على ما هو المشهور من عدم جريان لا تعاد في صورة الجهل ولو مع فرض معذرية الجهل ، أو فرض ان الشك في جزء لا تشمله لا تعاد كالطهارة ، أو شك في الاكتفاء بالتكبيرة الملحوظة مثلا ، فحينئذ يحصل له علم إجمالي اما بوجوب إتمام هذه الصلاة عليه وحرمة قطعها إذا كان الواجب هو الأقل أو تجب عليه الإعادة فلا بد له من الاحتياط لمنجزية هذا العلم

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ص ٤١٨.

٣٣٨

الإجمالي ومعارضة أصالة البراءة عن وجوب الزائد بالبراءة عن حرمة القطع.

وهذا التقرير أوجه مما جاء في تقريراته من انه يحصل للمكلف بعد الركوع العلم الإجمالي بأنه اما انقلب وجوب طبيعي الصلاة عليه إلى وجوب هذا الفرد بالخصوص أو يجب عليه طبيعي الصلاة مع السورة ، فكأنه يفترض ان وجوب الإتمام وحرمة الابطال مرجعه إلى انقلاب وجوب الطبيعي إلى وجوب هذا الفرد.

فان هذا الانقلاب وان كان معقولا ثبوتا بان يفترض ان الواجب من أول الأمر هو الصلاة التي لم يشرع قبلها في صلاة ، وهذا العنوان بعد الشروع يصبح منحصرا بما في يده ، الا ان المستفاد فقهيا ان وجوب الإتمام وحرمة القطع حكم آخر مستقل يتوجه إلى المكلف بمجرد شروعه في الصلاة غير مربوط بوجوب الصلاة.

ثم ان المحقق العراقي بعد ان ذكر هذا المانع حاول الإجابة عليه بأحد نحوين :

الأول ـ ان هذا العلم الإجمالي حصل في طول عمله بما كان معذورا فيه من ترك السورة شرعا وعقلا ، وما وقع من المكلف معذورا فيه وغير قبيح يستحيل ان ينقلب في المرتبة المتأخرة عن وقوعه ويصبح قبيحا وغير معذور فيه.

ويرد عليه : ان هذا العلم الإجمالي انما هو في طول تركه للسورة في هذه الصلاة وليس الجزء الزائد المشكوك في وجوبه شخص هذه السورة بل طبيعي السورة ، كيف وتركه للسورة في هذه بالصلاة مع الإتيان بها في صلاة أخرى جائز بقطع النّظر عن البراءة ، فان الأمر بالصلاة مع السورة انما يوجب طبيعي الصلاة مع السورة في تمام الوقت لا خصوص هذه الصلاة ، فلو كان العلم الإجمالي في طول ترك السورة في تمام الوقت وهو الّذي تؤمننا عنه البراءة عن وجوب السورة لاتجه ما ذكر من ان العلم الإجمالي الحاصل في طول ذلك لا يوجب قبح ما تحقق في السابق بشكل غير قبيح الا مع فرض عامل جديد هو الأمر بالقضاء حيث يعلم إجمالا بوجوب إتمام هذه الصلاة أو القضاء وهو علم إجمالي منجز.

وان شئت قلت : ان البراءة عن وجوب السورة لا يؤمن عن تكليف آخر يصبح منجزا بالعلم الإجمالي بعد الشروع في العمل ، لأن التأمين عنه ليس تأمينا مطلقا عن ذلك التكليف حتى إذا صار طرفا لعلم إجمالي منجز بل تأمين عنه ما دام مشكوكا ومن ناحية العلم الإجمالي الدائر بين الأقل والأكثر لا كل علم إجمالي آخر كالعلم الإجمالي

٣٣٩

الدائر بين المتباينين الّذي يحصل بعد الشروع في العبادة باعتبار حرمة القطع ووجوب الإتمام.

نعم هنا كلام آخر وجيه مبتن على دعوى فقهية ، هي ان حرمة قطع الصلاة موضوعها الصلاة التي يجوز للمكلف بحسب وظيفته الفعلية الاقتصار عليها في مقام الامتثال ، إذ لا إطلاق في دليل الحرمة لما هو أوسع مع ذلك ، ومن الواضح ان انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة عن وجوب الزائد والا لما جاز الاقتصار عليها عملا ، وهذا يعني ان حرمة القطع مترتبة على جريان البراءة عن الزائد فلا يعقل ان تكون أصالة البراءة عنها معارضة مع أصالة البراءة عن وجوب الزائد.

الثاني ـ ان هذا العلم الإجمالي الحاصل بعد شروعه في الصلاة بوجوب إتمام ما بيده أو وجوب الإتيان بصلاة أخرى مع الزائد أحد طرفيه منجز في نفسه وهو وجوب إتمام ما بيده أي الإتيان بسائر الاجزاء من أول الأمر لأنه قبل إخلاله بالجزء المشكوك كان يعلم بوجوب إتمام هذه الصلاة اما بالإتيان بالجزء الزائد مع سائر الاجزاء ـ إذا كان الواجب هو الأثر ـ أو بالإتيان بسائر الاجزاء ـ إذا كان الواجب هو الأقل ـ وهذا علم إجمالي بوجوب الإتمام مردد بين الأقل والأكثر وينحل إلى العلم بوجوب الإتيان بسائر الاجزاء على كل حال لأن في تركها إبطالا للصلاة وهذا يعني ان الإتيان بسائر الاجزاء في هذه الصلاة بعد الركوع منجز عليه كل حال فلا أثر للعلم الإجمالي بوجوبه أو وجوب الإتيان بصلاة أخرى مع السورة لأن أحد طرفيه متنجز في نفسه في المرتبة السابقة والمتنجز لا يتنجز فيجري الأصل عن الطرف الآخر بلا محذور.

وهذا الوجه لا يتم على مسالك المحقق العراقي ( قده ) في منجزية العلم الإجمالي (١)

__________________

(١) بل لا يتم حتى على مسلك الاقتضاء لأن حرمة قطع الصلاة أو وجوب إتمامها حكم انحلالي موضوعه كل صلاة صحيحة بيد المكلف خارجا إذ لا إشكال في عدم وجوب إتمام الفرد الباطل من الصلاة خارجا بل لا يعقل إتمامه فينحل هذا الحكم بعدد الصلوات الخارجية وحالات المكلف فيها ، وحينئذ إن قيل بان الموضوع الصلاة الصحيحة بحسب الظاهر والوظيفة كان هذا الحكم في طول تحديد الوظيفة في المقام بالأصل العملي الجاري عن الأكثر فلا يعقل أن يكون الأصل فيه معارضا مع البراءة عن الأكثر كما تقدم. وإن كان الموضوع الصلاة الصحيحة واقعا فالمكلف قبل إتيانه بالركوع وإن كان يتشكل له علم إجمالي دائر بين الأقل والأكثر ، إذ يعلم بأنه اما يجب عليه الإتيان بالسورة فما بعدها أو بالركوع فما بعده وهو ينحل إلى العلم بإتيان الركوع وما بعده على كل حال ، الا ان هذا الوجوب موضوعه ما بيده من الصلاة المعلوم صحتها قبل الركوع فهو يعلم بوجوب إتمام الصلاة التي لم يركع فيها اما بإتيان السورة وما بعدها أو الركوع وما بعده وهو في هذا الحال يعلم بوجوب الإتيان بالركوع فما بعده عليه اما مع السورة أو بدونها فلا يمكنه إجراء البراءة عنه ، الا ان هذا الوجوب ليس هو الطرف للعلم الإجمالي الدائر بين المتباينين وانما طرفه.

٣٤٠