بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

تفصيلا ويشك في نجاسة الثاني زائدا عليه.

وفيه : ان موارد الأقل والأكثر لا يوجد فيها من أول الأمر الا علم واحد لا علمان بخلاف المقام الّذي كان يوجد فيه علم إجمالي تام الأركان من أول الأمر ، ولهذا نجد انه في باب الأقل والأكثر لو شك في وجوب صوم يوم واحد زال العلم أيضا بينما في المقام لا يزول العلم ولو شك في نجاسة الإناء الأحمر ، فلانحلال في باب الأقل والأكثر سالبة بانتفاء الموضوع.

الوجه الثاني ـ ما ذكرته مدرسة المحقق النائيني ( قده ) من ان العلم الإجمالي له ركنان علم بالجامع واحتمالات الانطباق بعدد الأطراف ، ومع العلم التفصيليّ ينهدم الركن الثاني إذ يتبدل احتمال الانطباق فيه بالعلم بالانطباق.

وهذا الوجه لا بد من تمحيصه وتعميقه وحاصله : ان الركنين المذكورين يرجعان بحسب الحقيقة إلى نكتة واحدة هي ان العلم الإجمالي علم بالجامع بحده الجامعي أي بشرط لا عن السريان إلى الحد الشخصي وبهذا يفترق عن العلم بالجامع ضمن الفرد المحفوظ في العلم التفصيليّ أيضا ولكن لا بحده ، وكون العلم واقفا على الجامع بحده الجامعي هو الّذي يستلزم ما ذكر من احتمالات الانطباق وإذا تعلق العلم تفصيلا بأحد الأطراف فقد زاد المنكشف فلا محالة يزيد الانكشاف ويسري إلى الفرد ، لأنه انما توقف الانكشاف على الجامع لنقض في المنكشف فباكتمال هذا النقض يكتمل العلم لا محالة فلا يبقي الانكشاف على الجامع بحده الجامعي وهو معنى الانحلال.

ولكن هذا البرهان على الانحلال يتوقف على ان نثبت ان متعلق العلم الإجمالي أي الجامع بحده بما هو معلوم متحد مع الفرد أي يكون عاريا عن أخذ خصوصية فيه محتملة الآباء عن الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلا والا لم ينحل العلم الإجمالي بل بقي على معروضه وهو ذلك الجامع المأخوذ فيه خصوصية محتملة الانطباق على كل من الطرفين ، فلا بد من استئناف برهان على نفي أخذ خصوصية كذلك في متعلق العلم الإجمالي ، وهذا ما لم يتكفله هذا الوجه وسوف يأتي الحديث عنه مفصلا.

الوجه الثالث ـ ان العلم الإجمالي بعد ان تعلق بالجامع وعلم انطباق الجامع على الطرف المعلوم تفصيلا فلا محالة يستحيل بقاء العلم الإجمالي مع العلم التفصيليّ إذ يلزم منهما اجتماع المثلين على موضوع واحد ، لأن العلم التفصيليّ متعلق بالجامع ضمن

٢٤١

الفرد المعين ـ الجامع بشرط شيء ـ فلو بقي العلم الإجمالي المتعلق بالجامع المنطبق على هذا الفرد أيضا لزم ان يكون الجامع في هذا الفرد مطبقا لعلمين ومعرضا لعرضين متماثلين وهو مستحيل.

وفيه : أولا ـ اننا إذا أثبتنا وحدة متعلق العلم الإجمالي بحده بما هو معلوم مع الفرد انحل العلم الإجمالي وسرى إلى الفرد بالبرهان المتقدم حتى إذا قلنا بإمكان اجتماع المثلين على معروض واحد ، وان فرض ان الجامع المعلوم كان متخصصا بخصوصية محتملة الآباء عن الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلا فلا إشكال حينئذ في وجود العلمين معا لأن كان الطرفين يسلم عدم الانحلال إذا كان متعلق العلم الإجمالي قد أخذ فيه خصوصية زائدة لا يعلم بها في الفرد ، فما يجاب به عن شبهة اجتماع المثلين هناك يجاب به هنا أيضا.

وثانيا ـ ان العلم الإجمالي لو قطعنا النّظر عن البرهان الّذي تقدم منا لانحلاله وافترضنا عدم موجب لسريانه إلى الفرد متعلقه الجامع بحده الجامعي وهو غير الفرد الّذي هو متعلق العلم التفصيليّ ، وبعبارة أخرى : معروض العلم الإجمالي هو الجامع بشرط لا عن الخصوصية بينما معروض العلم التفصيليّ هو الجامع بشرط الخصوصية واحدهما غير الآخر بحسب عالم الذهن والمعروض بالذات الّذي هو عالم عروض العلم فحال هذا حال الكلية التي تعرض على الجامع بحده الجامعي رغم ان الجامع موجود ضمن الفرد ولكن لا بحده الجامعي ولهذا لا توصف الافراد بالكلية ، اذن فالمعروض بالذات الّذي هو المعروض الحقيقي للعلم متعدد وان كان المعروض بالعرض في الخارج واحدا.

الوجه الرابع ـ ان العلم الإجمالي له لازم وهذا اللازم غير موجود في المقام فنستكشف من عدم وجوده عدم وجود الملزوم ، واللازم هو صدق قضية منفصلة هي ان المعلوم الإجمالي إن كان في هذا الطرف فليس موجودا في الطرف الآخر وان كان في ذاك الطرف فليس في هذا الطرف ، فالإناء الأحمر إن كان هو النجس المعلوم بالإجمال مثلا لم يكن الإناء الأسود نجسا وان كان الإناء الأسود هو النجس المعلوم لم يكن الإناء الأحمر نجسا ، وهذه القضية المنفصلة التي هي من لوازم العلم الإجمالي كما صرح بذلك المحقق العراقي ( قده ) نفسه ـ لا تصدق بعد العلم التفصيليّ بنجاسة

٢٤٢

الإناء الأحمر تفصيلا إذ سوف يكون نجسا سواء كان الإناء الآخر نجسا أم لا.

وفيه : ليس مقصود المحقق العراقي ان الجامع لو وجد في هذا الطرف فهو معدوم في الطرف الآخر ، كيف وقد يكون كلا الطرفين نجسا واقعا ، وانما المقصود ان المعلوم بالعلم الإجمالي والمنكشف به يستحيل ان يكون أكثر من واحد بنحو مفاد النكرة لا اسم الجنس فنشير إلى ذلك الواحد المعلوم بما هو معلوم ونقول انه إذا كان في هذا الطرف فليس في الطرف الآخر وبالعكس وهذا صحيح في المقام الا ان انطباقه موقوف على تحقيق تلك النكتة التي أشرنا إليها من ان المعلوم الإجمالي إذا كان فيه خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلا أمكن إيجاد القضية المنفصلة هذه والا لم يمكن ذلك وكان ذلك الجامع المعلوم إجمالا معلوم الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلا فينحل العلم الإجمالي بالبرهان المتقدم ، فملاك الانحلال ونكتته يتخلص في تحقيق هذه النقطة الجوهرية وهي انه هل توجد للمعلوم الإجمالي خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق في الفرد أم لا فيكون المعلوم الإجمالي بحده المعلوم به مقطوع الانطباق على الفرد.

والوجوه المتقدمة لم تتصد للبرهنة على هذه النقطة الجوهرية ، وفي قبال تلك الوجوه وجوه وتقريبات لعدم الانحلال يمكن اقتناصها من كلمات مدرسة المحقق العراقي ( قده ) لا بأس بالتعرض إليها قبل تحقيق الفذلكة الحقيقة للانحلال.

الوجه الأول ـ دعوى الوجدان وانه شاهد بوجود علمين ، والغريب ان كلا الطرفين استند في إثبات مدعاه إلى دعوى الوجدان.

والصحيح على ما يأتي هو التفصيل ، فالوجدان في مورد يقتضي البرهان الانحلال شاهد على الانحلال ، والوجدان في مورد يقتضي البرهان عدم الانحلال شاهد على عدم الانحلال على ما سوف يظهر.

الوجه الثاني ـ اننا نثبت بقاء العلم الإجمالي بإثبات لازمه وهو احتمال انطباق الجامع المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر غير المعلوم تفصيلا ، فان هذا الاحتمال موجود وجدانا وهو دليل عدم الانحلال إذ مع الانحلال يستحيل هذا الاحتمال فالركن الثاني للعلم الإجمالي موجود.

وفيه ـ ان مجرد احتمال انطباق الجامع لا يكفي بل لا بد من إثبات اتحاد حده بما هو

٢٤٣

معلوم وحده بما هو محتمل الانطباق ، وهذا انما يكون إذا لم يكن المعلوم بالإجمال عاريا عن خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل والا لانتقض بالعلم التفصيليّ فانه أيضا علم بالجامع ضمنا فلو علم بوجود زيد في المسجد واحتمل وجود جامع الإنسان ضمن عمرو أيضا كان الجامع محتمل الانطباق على عمرو والجامع معلوم الوجود في المسجد مع وضوح انه لا يتشكل علم إجمالي ، والنكتة في ذلك اختلاف الحدود فان ما يحتمل الانطباق على عمرو الجامع بحده الجامعي وبهذا الحد الجامعي ليس معروضا للعلم وما هو معروض للعلم الجامع ضمن الخصوصية وبهذا الحد ليس محتمل الانطباق على عمرو.

وهكذا يتضح ان مجرد احتمال انطباق الجامع لا يكفي لإثبات عدم الانحلال بل لا بد من البرهنة على احتمال انطباق حد الجامع بما هو معلوم ، وهذا يتوقف على إثبات ان للمعلوم الإجمالي حدا وخصوصية محتملة الانطباق على الطرف الآخر أي محتملة الآباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلا ، فهذه النقطة هي فذلكة الموقف كما أشرنا.

الوجه الثالث ـ لا إشكال في الانحلال في مورد يكون العلم فيه بالفرد معينا للمعلوم بالإجمال ، كما لو علمنا إجمالا بموت ابن زيد المردد بين خالد وبكر ثم علم تفصيلا بان ابن زيد هو بكر فهنا ينحل العلم الإجمالي بلا إشكال كما ذكرنا في مستهل البحث ، فلو قلنا بالانحلال في المقام الّذي ليس العلم التفصيليّ فيه ناظرا إلى تعيين المعلوم بالإجمال كما إذا علمنا بموت زيد أو بكر ثم علمنا بموت بكر لزم عدم الفرق بينهما مع ان الأثر الوجداني مختلف والحالة النفسيّة متفاوتة كما يشهد به الوجدان السليم فنستكشف من ذلك عدم الانحلال.

وجوابه : ان هذا الفرق الوجداني بين الحالتين صحيح الا ان ذلك ليس على أساس الانحلال في الأول وعدم الانحلال في الثاني بل تفسير هذا الفرق انه في الأول يكون المعلوم بالإجمال له تعين واقعي والعلم التفصيليّ باعتباره يعين ذلك المعلوم بالإجمال يكون له منطوق ومفهوم إثباتا ونفيا أي يدل على ان ابن زيد هو بكر وعلى ان خالد ليس هو ابن زيد فهو علم بالانطباق في هذا الطرف وعدم الانطباق في الطرف الآخر ، واما في المقام فحيث ان العلم التفصيليّ لم يكن في مقام تعيين المعلوم الإجمالي

٢٤٤

لعدم تعين واقعي وعلامة مخصصة له فليس له مفهوم بلحاظ المعلوم بالإجمال بل مجرد منطوق أي يزول احتمال الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلا بتبدله بالعلم بالانطباق والسريان إلى الفرد بالبرهان المتقدم مع بقاء احتمال الجامع في الطرف الآخر ولكنه بحده الجامعي الّذي خرج عن كونه معروضا للعلم الإجمالي بعد الانحلال لازدياد الانكشاف والعلم بالجامع المحدود بحد الفرد ، وهذا من قبيل ان يخبرك المعصوم بوجود الجامع بين الإنسان الطويل والقصير في المسجد ثم يخبرك إضافة إلى وجود جامع الإنسان بوجود الإنسان الطويل فيه فيزداد علمك من مجرد العلم بالجامع إلى العلم بوجود الإنسان الطويل وان كان وجود الفرد القصير محتملا أيضا.

وهكذا ننتهي إلى النقطة المركزية من هذا البحث والتي يرتبط انحلال العلم الإجمالي وعدمه بتحقيقها ، وهي ان المعلوم بالإجمال هل يكون له حد وخصوصية محتمل الآباء عن الانطباق في الطرف المعلوم تفصيلا أم لا ، فان ثبت بالبرهان وجود حد كذلك لم يجد البرهان المتقدم ، في الوجه الثاني لإثبات الانحلال ، وان ثبت عدم وجوده حصل الانحلال بالبرهان المتقدم ، فلا بد من تحقيق حال ذلك فنقول :

قد يقال ـ بإمكان أخذ خصوصية في متعلق العلم الإجمالي محتمل الآباء عن الانطباق على الطرف المعلوم من ناحية نفس العلم الإجمالي فيقال بان المعلوم هو الجامع المقيد بوصف العلم الإجمالي أي بما هو معلوم الإجمالي ، وهو بما هو معلوم إجمالي محتمل الآباء عن الانطباق على الفرد المعلوم تفصيلا.

ولكن هذا البيان غير صحيح لأن الكلام في متعلق العلم الإجمالي ووجود خصوصية مأخوذة فيه في المرتبة السابقة على تعلق العلم وعروضه بحيث ان العلم يتعلق بجامع متخصص بتلك الخصوصية لئلا يسري. فلو أريد إثباتها بنفس العلم وفي طوله لزم الدور ، لأن ثبوت العلم الإجمالي متوقف على ثبوت الخصوصية في معروضه فانتزاعها بلحاظ نفس العلم وتعلقه يعني توقفه على نفسه أو تعلقه بنفسه وهو محال.

وقد يقال : بان العلم الإجمالي وان تعلق بالجامع بلا خصوصية وتعين الا انه متعلق بالجامع بما هو مفروغ عن وجوده لا بما هو جامع تصوري كما هو الحال في الجامع الّذي يتعلق به الأمر والنهي ، فلو علمنا بنجاسة أحد الإناءين كان معناه العلم بجامع للنجاسة مفروغ عن تحققه ووجوده في الخارج بحيث نستطيع ان نشير إليه إجمالا ،

٢٤٥

وعليه فلو لاحظنا نفس الجامع بقطع النّظر عن المفروغية عن وجوده فهذا الجامع غير آب عن الانطباق على المعلوم التفصيليّ على حد انطباق كل جامع على مصداقه ، واما إذا لاحظنا هذا الجامع بما هو مفروغ عن وجود فذلك الوجود المفروغ عنه والمشار إليه بتوسط هذا الجامع خصوصية وحد لا يجزم بانطباقه على المعلوم التفصيليّ إذ لا يعلم انه هو المعلوم التفصيليّ أو غيره فهي خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق على المعلوم التفصيليّ.

والجواب ـ ان خصوصية الوجود المفروغ عنه لا يكون داخلا تحت العلم الا بمقدار معرفية الجامع لا أكثر فإذا كان الجامع منطبقا على الفرد المعلوم تفصيلا تماما انحل العلم الإجمالي بالبرهان المتقدم لعدم وجود خصوصية في معلومه محتملة الآباء عن الانطباق عليه (١).

__________________

(١) الظاهر ابتناء المسألة على تحقيق ان الفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ هل يكون بالإجمال والتفصيل في الصورة العلمية كما تقوله مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ، أو بالإجمال والتفصيل في الإشارة التي بها قوام العلم التصديقي كما يقوله المحقق العراقي ( قده ) ، وقد تقدم شرح كل من المسكين مفصلا في بحوث القطع.

فعلى الأول صح ان يقال بان العلم بالجامع إذا لم تكن له خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق بعد ان ينضم إليه العلم بالخصوصية يصبح المعلوم والمنكشف تفصيليا فينحل العلم الإجمالي لتبدل الإجمال في الصورة الذهنية إلى التفصيل لا محالة ، وهذا هو البرهان المتقدم في الوجه الثاني من تقريبات الانحلال.

واما بناء على التفسير الثاني العلم الّذي نبه عليه المحقق العراقي وقد أوضحنا المعنى الصحيح له فيما سبق فانحلال العلم الإجمالي لا يكون الا بزوال الإشارة الذهنية المرددة التي هي حقيقة العلم الإجمالي بحسب الفرض ، وزوال الإشارة لا يكون بمجرد حصول العلم التفصيليّ الّذي يعني إمكان الإشارة بالمفهوم التفصيليّ إلى الفرد الخارجي طالما يحتمل ان يكون المشار إليه متعددا إذ لا يكون العلم التفصيليّ ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي.

لا يقال ـ مع حصول الإشارة التفصيلية المعينة يزول التردد في الإشارة الذهنية أيضا الا إذا كان المشار إليه قد أخذت فيه خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق ، واما إذا كان المعلوم الإجمالي منطبقا تماما على المعلوم التفصيليّ فمع الإشارة به إلى الخارج تستوعب الإشارة الإجمالية بحيث لا تبقى إشارة أخرى الا الإشارة الضمنية بالجامع المتوفرة في سائر موارد العلم التفصيليّ أيضا.

فانه يقال ـ أولا ـ يشهد الوجدان بالفرق بين العلم التفصيليّ بالفرد من أول الأمر مع الشك البدوي في وجود فرد آخر للجامع وبين العلم إجمالا بأحدهما والعلم تفصيلا بالفرد بلا تعيين المعلوم الإجمالي من حيث ان من له العلم الإجمالي يحتمل ان يكون معلومه الإجمالي ضمن الفرد الآخر وهذا يلازم بقاء العلم وعدم انحلاله وليس هذا من باب احتمال ان يكون معلومه السابق ـ الّذي قد انحل بالفعل ـ في ذاك الطرف لوجدانية ان ذلك المعلوم لم يظهر خطأه والمفروض انه لم يتعين في هذا الطرف فمجموع هذين الأمرين خير منبه وجداني إلى ان العلم الإجمالي والإشارة الإجمالية لا يزال موجودا في عالم النّفس.

وثانيا ـ لا ينبغي الإشكال في عدم الانحلال فيما إذا كان للمعلوم الإجمالي خصوصية ولو من ناحية سبب حصول العلم كما إذا أخبرك المعصوم بموت أحدهما ( زيد أو عمرو ) وعلمت خارجا بموت زيد فان العلم الإجمالي بموت من أخبرك المعصوم باق على حاله مع انه لا يمكن ان تكون هذه الخصوصية المنتزعة من سبب حصول العلم مأخوذة في المعلوم الإجمالي ـ كما تقدم ذلك في أخذ

٢٤٦

والتحقيق ان يقال بالتفصيل بين ما إذا كان سبب حصول العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف على حد سواء فيتم الانحلال ، وما إذا لم يكن كذلك فلا يتم الانحلال.

وتوضيح ذلك ـ انه تارة يكون سبب حصول العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف ليس على حد واحد أي له نسبة مع طرف واقعي بالخصوص ولكنه مجمل لدى الإنسان وغير معلوم كما إذا علم بوقوع قطرة دم في أحد الإناءين فهو يعلم بنجاسة أحدهما بتلك القطرة من الدم ثم علم تفصيلا بقطرة في أحدهما بالخصوص ولكنه يحتمل انها قطرة أخرى غير تلك القطرة. وهنا لا ينبغي الإشكال في عدم الانحلال لأن المعلوم الإجمالي يكون مقيدا بحد وخصوصية محتمل الآباء عن الانطباق وتلك الخصوصية هي السبب الخاصّ للمعلوم الإجمالي.

وأخرى يفرض ان سبب العلم الإجمالي نسبته إلى الأطراف على حد واحد سواء كان برهانيا أو استقرائيا ، مثال الأول ما إذا افترضنا دعوى شخصين في زمن واحد للنبوة وقام البرهان في علم الكلام مثلا على استحالة اجتماع نبيين في زمن واحد ولأمة واحدة فانه سوف يعلم إجمالا بكذب أحدهما ، لأن المحتملات عقلا أربعة صدقهما معا وكذبهما معا وصدق هذا وكذب ذاك وبالعكس ، وبقيام البرهان على عدم اجتماع نبوتين تبطل الصورة الأولى ويتردد الأمر بين الصور الثلاث التي بينها جامع مشترك وهو كذب أحدهما فلو علم بعد ذلك بان أحدهما يشرب الخمر مثلا فلا يمكن ان يكون نبيا فهو كاذب على كل حال انحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بكذبه وشك بدوي في كذب الآخر.

ومثال الثاني ما تقدم ذكره من مساورة الكافر لأحد إنائيه على الأقل بحساب

__________________

نفس العلم الإجمالي قيدا في معلومه ـ كما لا يمكن أخذ واقع من أخبر به المعصوم بنحو الحصة التوأم قيدا في المعلوم لأنا نفترض ان المعصوم لم يخبر الا بالجامع لا انه أخبر بأحدهما بالخصوص بل هذه خصوصية لنفس الإشارة الذهنية بالعلم الإجمالي وباعتبارها واضحة التغاير مع الإشارة المستبطنة في العلم التفصيليّ أصبح عدم الانحلال واضحا فيه ، وهذا بنفسه موجود في المقام. فان المعلوم الإجمالي لا يزال مشارا إليه إجمالا حتى بعد حصول العلم التفصيليّ غاية الأمر لعدم وجود ميز للإشارة ولو من ناحية سبب حصولها كأنه يرى ان العلم الإجمالي قد زال وانحل بحصول ما هو أعلى منه انكشافا وهو العلم التفصيليّ والإشارة التعيينية إلى الخارج مع انه لا يمكن ان يزول العلم الإجمالي حقيقة بعد حصوله الا بأن يزول سببه أو يتعين معلومه الإجمالي ، فالصحيح ما عليه المحقق العراقي ( قده ) من عدم الانحلال الحقيقي في أمثال المقام.

٢٤٧

الاحتمالات طيلة فترة طويلة مثلا ثم العلم تفصيلا بمساورته لأحدهما بالخصوص. وفي هذا الفرض يمكن إثبات الانحلال بأحد تقريبين :

الأول ـ ان نسبة سبب العلم الإجمالي إلى أطرافه حيث تكون واحدة اذن فلا خصوصية في المعلوم بالإجمال عدا الجامع بين الأطراف وهو معلوم الانطباق جزما على الطرف التفصيليّ فيتحقق الانحلال على الأساس المتقدم من انه كلما لم يكن في المعلوم الإجمالي خصوصية محتملة الآباء عن الانطباق انحل العلم الإجمالي لا محالة.

وهذا البيان يمكن المناقشة فيه بان المعلوم الإجمالي هنا وان لم يكن له قيد وحد خارجي يجعله محتمل الآباء عن الانطباق ولكن يكون له قيد وحد ذهني وهو ان معلومنا الإجمالي هنا مطلق من ناحية صدق المعلوم التفصيليّ أو كذبه بخلاف المعلوم التفصيليّ فانه مشروط بتقدير صدق سببه فالعلم بمساورة الكافر للإناء نتيجة رؤيته مشروط بصحة إحساسي ورؤيتي لذلك رغم فعليته ، فان فعلية الجزاء بتحقق شرطه لا تنافي التعليق والشرطية ، فعلمي بأنه قد ساور الإناء الأحمر بالخصوص ليس علما بالنجاسة على كل تقدير بل على تقدير صحة إحساسي بمساورته (١) ، وهذا بخلاف معلومي الإجمالي فانه مطلق ثابت حتى على تقدير كذب الإحساس بالمساورة لأنني أستطيع ان أشكل قضية شرطية وأقول بان أحد الإناءين نجس حتى إذا كان علمي بمساورته للإناء الأحمر خطأ ، اذن فهناك حد إطلاقي للمعلوم الإجمالي وهذا الحد وان كان ذهنيا وبلحاظ المعلوم بالذات لا خارجيا وبلحاظ المعلوم بالعرض ولكنه يجعل للمعلوم بالإجمال خصوصية بها يكون محتمل الآباء عن الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلا.

الثاني ـ انحلال العلم الإجمالي بالتفصيلي في هذه الموارد انما يكون باعتبار زوال سبب العلم الإجمالي ، لأنه كان عبارة عن استواء نسبة الأطراف إليه فتعيينه في أحدها دون الباقي كان ترجيحا بلا مرجح فكان العلم إجماليا وهذا ينتفي لا محالة إذ

__________________

(١) الا أن هذا التقدير والشرطية ليس مأخوذا في متعلق العلم بل تقدير لحصول نفس العلم فبعد حصوله يكون متعلقه مطلقا كالعلم الإجمالي والمفروض ان خصوصية سبب العلم لا تؤخذ في متعلقه نعم لو أريد من الحد الذهني خصوصية الإشارية المقدمة للعلم حسب التفسير المتقدم كان هذا خير منبه على عدم انحلال العلم الإجمالي.

٢٤٨

يكون الطرف المعلوم تفصيلا فيه مرجح بالخصوص ، فقد اختل برهان الترجيح بلا مرجح مع وجود العلم التفصيليّ في بعض الأطراف وأصبح المعلوم الإجمالي تفصيليا ومتعينا فيه (١).

المقام الثاني ـ في انحلاله الحكمي فيما لو فرض عدم تحقق الانحلال الحقيقي ، وهو يعني جريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف بلا محذور.

وتقريبه : ان الأصل الترخيصي في الطرف الّذي لا علم به تفصيلا أو خارج عن دائرة العلم الإجمالي الصغير يجري بلا معارض ، لأن الطرف الآخر لا موضوع للأصل فيه ، وهذا يعني انهدام الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي المتقدم شرحها.

الا ان هذا الانحلال الحكمي بناء على مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الإجمالي واضح ، واما بناء على مسلك العلية فحيث يقال بان العلم الإجمالي ينجز الواقع ابتداء لا من باب تعارض الأصول الشرعية أو العقلية في الأطراف فلا يجري الأصل حتى في الطرف الواحد لاحتمال الانطباق المعلوم بالإجمال المنجز عليه.

ومن هنا حاول أصحاب مسلك العلية إثبات الانحلال الحكمي في المقام بإبراز قصور في العلم الإجمالي عن التنجيز بعد ان تنجيز أحد طرفية بمنجز تفصيلي بدعوى ان العلم الإجمالي لا بد وان يكون صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير أي سواء كان في هذا الطرف أو ذاك فإذا كان أحد طرفيه منجزا بمنجز آخر كالعلم التفصيليّ لم يتمكن العلم الإجمالي ان ينجز معلومه في ذلك الطرف لأن المتنجز لا يتنجز مرة أخرى وعليه فلا يكون العلم الإجمالي منجزا في المقام فيجري الأصل الترخيصي العقلي أو الشرعي عن الطرف الآخر بلا محذور.

وهذا الاستدلال يشتمل على مقدمتين كلتاهما مما لا يمكن المساعدة عليه :

الأولى ـ ان العلم الإجمالي لا بد وان يكون صالحا لتنجيز معلومه على كل تقدير أي

__________________

(١) إذا أريد ان استحالة الترجيح بلا مرجح سبب للإجمال فمع العلم التفصيليّ لا منشأ لبقاء الإجمال فهذا رجوع إلى التقريب السابق بحسب الحقيقة ، إذ معناه ان المعلوم بالإجمال هو الجامع وهو منطبق على الفرد المعلوم تفصيلا ، وإن أريد ان استحالة الترجيح بلا مرجح سبب لنفس العلم الإجمالي ، فمن الواضح ان سبب حصول العلم ليس ذلك بل برهان استحالة اجتماع النبوتين أو حساب الاحتمالات التي تنفي احتمال طهارة الإناءين معا ، وكلا الأمرين باقيان حتى بعد حصول سبب العلم التفصيليّ بل ما تقدم في جواب التقريب السابق من ثبوت حد الإطلاق الذهني للعلم الإجمالي بنفسه برهان على عدم زوال سبب العلم الإجمالي حتى بعد حصول العلم التفصيليّ.

٢٤٩

سواء كان في هذا الطرف أو ذاك.

الثانية ـ ان المتنجز بمنجز آخر لا يمكن ان يتنجز بالعلم الإجمالي.

والمقدمة الأولى قد تقدم في بحث سابق انه لا يناسب مسلك العلية القائل بتنجز الواقع بالعلم الإجمالي وان كل طرف من أطراف العلم انما يتنجز ولا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان لكونه من موارد احتمال التكليف المنجز وانما يناسب مع مسلك اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية التي نسبتها إلى الطرفين على حد واحد فيقال بأنه إذا لم يجب الموافقة القطعية بالعلم الإجمالي فهو لا يوجب الموافقة في أحد الطرفين بخصوصه.

والمقدمة الثانية يرد عليها :

أولا ـ ان هذا النهج من الاستدلالات في المسائل الأصولية والفقهية التي هي أمور ترتبط بالاعتبارات الشرعية أو بمدركات العقل العملي في نفسه غير سديد ، إذ ليس باب التنجيز باب الآثار والظواهر الطبيعية ليقاس بها فيقال مثلا بان المتنجز لا يتنجز كما ان الموجود لا يوجد أو العرض لا يتعدد على محل واحد بل بابه باب إدراك العقل لحق الطاعة وقبح المخالفة وعدمه فلا بد وان يرجع إليه ليرى هل يخصص حكمه بعدم التنجيز وقبح العقاب بخصوص ما إذا كان التكليف محتملا أو يعم ما إذا كان معلوما بعلم إجمالي محتمل الانطباق ولكن كان أحد طرفيه معلوما بعلم تفصيلي. ومن الواضح انه على تقدير القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان والقول بعدم جريانها في موارد العلم الإجمالي لأن التكليف المعلوم بالإجمال قد تنجز بالعلم فمجرد حصول علم أو منجز تفصيلي في أحد طرفيه لا يوجب تخفيف حق طاعة المولى وازدياد التأمين والعذر للمكلف بل على العكس يستوجب مزيد التنجيز في أحد الطرفين.

وثانيا ـ لو تنزلنا عن الملاحظة المنهجية أيضا نقول بأنه أي مانع من ان يكون حال العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ حال اجتماع سببين كل منهما تام في نفسه على مسبب واحد هو التنجيز في ذلك الطرف مع استقلال العلم الإجمالي أي احتمال الواقع المنجز بالعلم لتنجيز الطرف الآخر ، فهذه الكلمات أساسا لا مأخذ لها.

ثم انه في كل حالة يثبت فيها الانحلال الحقيقي يجب ان يكون المعلوم التفصيليّ والمعلوم الإجمالي متحدين زمانا ولا يشترط التعاصر بين نفس العلمين لأن العلم

٢٥٠

التفصيليّ المتأخر زمانا إذا أحرز كون معلومه مصداقا للمعلوم الإجمالي من أول الأمر أيضا يوجب انحلال العلم الإجمالي وانهدام ركنه الثاني فيسري العلم من الجامع إلى الفرد فلا يبقى علم إجمالي له طرفان ـ حتى الطرف القصير زمانا في طرف والطويل في الطرف الآخر ـ ليقال بتنجيزه وهذا بخلاف الانحلال الحكمي بالعلم التفصيليّ فانه يشترط فيه تعاصر العلمين زمانا فلو تأخر العلم التفصيليّ عن الإجمالي لم يجز ارتكاب الطرف الآخر وان فرض ان المعلوم التفصيليّ كان ثابتا من أول الأمر لأن هذا المعلوم التفصيليّ بالنسبة إلى تلك الفترة الزمنية السابقة لم يكن منجزا بشيء فالأصل في الطرف الآخر يعارض الأصل في هذا الطرف بلحاظ تلك الفترة الزمنية من أول الأمر ، وهذه من الثمرات المترتبة بين الانحلالين.

٥ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول :

إذا فرض قيام أمارة أو أصل منجز في بعض أطراف العلم الإجمالي فلا إشكال في عدم الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي بذلك لانحفاظ كلا ركنيه وجدانا ، ولكن تبقى دعوى حصول الانحلال بأحد نحوين آخرين :

النحو الأول ـ الانحلال الحقيقي تعبدا إذا كان المنجز أمارة لأن المجعول فيها العلمية والطريقية فيترتب عليها كل آثار العلم تعبدا ومن جملتها الانحلال وجريان الأصل في الطرف الآخر.

وهذا الكلام غير سديد ولو سلمنا أصوله الموضوعية من جعل الطريقية والعلمية وقد أوضحنا ذلك مفصلا عند البحث عن الدليل العقلي على الاحتياط في الشبهات البدوية وحاصله : ان الانحلال أثر تكويني للعلم وليس أثرا شرعيا فان كان مفاد دليل حجية الأمارة تنزيلها منزلة العلم في الآثار والأحكام فمن الواضح ان هذا ليس منها ، وان كان مفاده جعل ما ليس بعلم علما على طريقة المجاز العقلي فمن المعلوم ان هذا الاعتبار والجعل لا يترتب عليه الآثار واللوازم الحقيقة للعلم والتي منها الانحلال وانما يترتب عليه الآثار الاعتبارية فحسب.

ان قيل ـ نحن لا نريد ان نثبت الانحلال الحقيقي بالتعبد لكي يقال بأنه أثر تكويني تابع لعلته ولا يحصل بالتعبد تنزيلا أو اعتبارا بل نريد استفادة التعبد

٢٥١

بالانحلال من دليل حجية الأمارة بالملازمة لأن مفاده التعبد بإلغاء الشك والعلم بمؤدى الأمارة وهذا بنفسه تعبد بزوال أحد ركني العلم الإجمالي فيكون تعبدا بزوال العلم الإجمالي.

قلنا ـ ان التعبد المذكور ليس تعبدا بالانحلال بل بما هو علة للانحلال والتعبد بالعلة لا يساوق التعبد بمعلولها. وان شئت قلت : ان العلم الإجمالي حقيقته العلم بالجامع بحده الجامعي ـ كما تقدم ـ وهو يلازم عدم العلم بالخصوصية فالتعبد بالعلم بالخصوصية تعبد بزوال لازم العلم الإجمالي وحصول سبب الانحلال تكوينا وهو لا يساوق التعبد بزوال نفس العلم الإجمالي.

أضف إلى ذلك ان التعبد بالانحلال لا معنى له ولا أثر في المقام فيكون لغوا لأنه لو أريد التأمين بالنسبة إلى الفرد الآخر بلا حاجة إلى إجراء الأصل المؤمن فيه فهذا غير صحيح لأن التأمين عن كل شبهة بحاجة إلى التأمين عنه بالخصوص ، وان أريد بذلك التمكين من إجراء ذلك الأصل في الفرد الآخر فهذا يحصل بدون حاجة إلى التعبد بالانحلال لأن ملاكه زوال المعارضة بسبب خروج مورد الأمارة عن موضوع دليل الأصل المؤمن سواء كان التعبد بعنوان الانحلال أم لا.

النحو الثاني ـ الانحلال الحكمي أي نتيجة الانحلال وهي جريان الأصل الترخيصي في الطرف الّذي لا توجد فيه أمارة أو أصل منجز بلا معارض والكلام هنا فيما إذا كان المنجز أمارة أو أصلا لا علما إجماليا آخر يشترك فيه بعض أطراف هذا العلم الإجمالي المقتضي للاشتغال فان هذا امر آخر سوف نتحدث عنه في بحث مقبل تحت عنوان العلاقة بين العلوم الإجمالية.

والمنجز إن كان أمارة شرعية فمن الواضح انه يوجب الانحلال الحكمي على كل المسالك إذا كانت معينة للمعلوم بالإجمال حيث تدل بالملازمة على انتفائها في الطرف الآخر واحتمال وجود التكليف آخر فيه كان تحت التأمين من أول الأمر. واما إذا لم يكن المنجز كذلك بان كان أمارة ولكنها غير معينة للمعلوم الإجمالي أو كان أصلا شرعيا أو عقليا منجزا ـ كموارد الشك في الفراغ ـ فالانحلال الحكمي يتوقف على توفر شروط ثلاثة :

أحدها ـ ان لا يقل البعض المنجز بالأمارة أو الأصل عن عدد المعلوم بالإجمال من التكليف.

٢٥٢

الثاني ـ ان لا يكون المنجز مثبتا لتكليف مغاير مع ما هو المعلوم إجمالا كما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الإناءين بسبب نجاسته وقامت بينة على حرمة أحدهما المعين بسبب الغصب.

الثالث ـ ان لا يكون وجود المنجز متأخرا عن حدوث العلم الإجمالي فكلما اجتمعت هذه الشروط الثلاثة انهدم الركن الثالث لجريان الأصل المؤمن في غير مورد المنجز بلا معارض وفقا لمسلك الاقتضاء ولعدم صلاحية العلم الإجمالي للاستقلال في تنجيز معلومه على كل تقدير وفقا لمسلك العلية.

اما إذا اختل الشرط الأول فالعلم الإجمالي منجز للعدد الزائد والأصول بلحاظه متعارضة ، وإذا اختل الشرط الثاني فالامر كذلك أيضا لأن ما ينجزه العلم في مورد الأمارة غير ما تنجزه الأمارة فتتعارض الأصول بلحاظه ولا يقال بان ما قامت الأمارة على حرمته محرم على كل حال فلا يجري فيه التأمين ليعارض بالأصل المؤمن في الطرف الآخر. لأن الأصل المؤمن يجري في الطرف المعلوم في نفسه للتأمين عن الحرمة الأخرى ونفي العقاب الزائد عليها فيعارض الأصل في الطرف الآخر وهذا واضح.

وإذا اختل الشرط الثالث كان العلم الإجمالي منجزا والأصول المؤمنة في غير مورد الأمارة أو الأصل معارضة بالأصول المؤمنة التي كانت تجري في موردهما قبل ثبوتهما. وبتعبير آخر : إذا أخذنا من مورد المنجز فترة ما قبل ثبوت المنجز ومن غير الفترة الزمنية على امتدادها حصلنا على علم إجمالي تام الأركان فينجز ولهذا قلنا في موارد الانحلال الحكمي بالعلم التفصيليّ اشتراط تعاصر العلمين ولا يكتفي بالتعاصر بين المعلومين والمؤديين فكذلك في المقام لأن سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في حالات قيام المنجز في بعض أطرافه انما هو بسبب المنجزية في طرف معين والمنجزية لا تبدأ الا من حين قيام الأمارة أو جريان الأصل سواء كان المؤدى مقارنا لقيامها أو سابقا على ذلك.

ثم ان هذا الانحلال الحكمي بالأمارة أو الأصل المنجز انما هو بلحاظ وجوب الموافقة القطعية ولكن يبقى العلم الإجمالي على منجزيته من حيث حرمة المخالفة القطعية بمعنى انه إذا اقتحم المكلف كلا الطرفين يكون عصيانه ومخالفته أشد مما إذا اقتحم الطرف المنجز بالخصوص لأن منجزية العلم أشد من منجزية الحجة غير العلم

٢٥٣

ومخالفة أقبح وأكثر جرأة على المولى من مخالفة الحجة التي يحتمل عدم اصابتها للواقع.

٦ ـ اشتراك علمين إجماليين في طرف :

إذا افترض ان أحد طرفي العلم الإجمالي أصبح طرفا لعلم إجمالي آخر كما إذا علمنا بنجاسة الإناء الأسود أو الأبيض وعلمنا بنجاسة الإناء الأسود أو الأحمر فأصبح الإناء الأسود طرفا مشتركا لعلمين إجماليين. فان كان العلمان متعاصرين حدوثا فلا شك في عدم انحلال أحدهما بالآخر وتنجيزهما معا وتلقي الطرف المشترك التنجيز منهما معا لأن مرجح العلمين حينئذ إلى العلم بثبوت تكليف واحد في الطرف المشترك أو تكليفين في الطرفين الآخرين.

واما إذا كان أحدهما سابقا على الآخر معلوما أو علما فهنا ثلاث نظريات :

الأولى ـ انحلال العلم المتأخر من حيث المعلوم بالعلم الإجمالي الّذي يكون زمان معلومه متقدما وهذا ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ).

الثانية ـ انحلال العلم الإجمالي المتأخر زمان حصوله بالعلم الإجمالي المتقدم وان لم يكن معلومه متقدما ، وهذا هو ما ذهب إليه السيد الأستاذ ـ وان كان الموجود في تقرير الدراسات النظرية الأولى ـ.

الثالثة ـ عدم الانحلال في جميع الفروض وهو المختار.

اما النظرية الأولى فقد أفاد في تخريجها المحقق النائيني ( قده ) بأنا إذا علمنا إجمالا بنجاسة الإناء الأسود أو الأبيض ثم علمنا بوقوع نجاسة أخرى اما في الإناء الأسود أو الأحمر فمثل هذا ليس علما بتكليف وان كان علمنا بوقوع قطرة الدم مثلا لأن هذه القطرة إذا كانت واقعة في الطرف الأسود وكان هو النجس المعلوم بالعلم الإجمالي الأول فلا تستوجب تكليفا ، لأن هذا الإناء كان يجب الاجتناب عنه قبل سقوط القطرة الثانية وانما يستوجب ذلك تكليفا إذا كان قد سقط في الإناء الأحمر أو كانت النجاسة الأولى في الإناء الأبيض الا ان شيئا من هذين التقديرين ليس معلوما ليكون من العلم بتكليف زائد.

وهذا إذا كان العلم والمعلوم معا متأخرا واضح ، واما إذا كان المعلوم بالعلم المتأخر متقدما كما إذا علم بوقوع قطرة دم الآن اما في الإناء الأحمر أو الأسود

٢٥٤

وعلم بعد ذلك بان الإناء الأسود أو الأبيض كان نجسا منذ الصباح فان العلم الإجمالي الأول لا يكون منجزا لأنه بعد حصول العلم بنجاسة الإناء الأسود أو الأبيض منذ الصباح ينكشف ان قطرة الدم التي علم إجمالا بإصابتها لأحد الإناءين لم تستوجب تكليفا على كل تقدير إذ لو كانت قد أصابت الإناء الأسود وكان هو النجس منذ الصباح لم يكن مستوجبا لتكليف وهكذا يكون الميزان بالعلم المتقدم من حيث المعلوم فانه يوجب انحلال العلم الإجمالي الآخر انحلالا حقيقيا بمعنى انه لا يكون علما بتكليف على كل تقدير ، وواضح من هذا البيان ان نظر الشيخ النائيني ( قده ) إلى مورد مسانخة التكليفين لا ما إذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي الثاني تكليفا من سنخ آخر كما إذا علم بنجاسة أحدهما ثم علم بغصبية الإناء الأسود أو الأحمر.

وهذا التقريب غير تام. لأنه لو كان المقصود ان العلم الإجمالي المتأخر لا يكون علما إجماليا بان القطرة الثانية مثلا سبب التكليف فهذا صحيح الا انه لا يشترط ذلك وانما اللازم ان يكون علما بما يلازم التكليف ويساوقه سواء كان سببا له أم لا وفي المقام يعلم بان تلك القطرة مساوقة وملازمة مع التكليف في أحد طرفي الإصابة والا لانتقض بما إذا كان أحد الطرفين من الأول مشكوك النجاسة ثم علم بوقوع قطرة دم فيه أو في إناء آخر فانه من العلم الإجمالي بالتكليف رغم انه لا يعلم بسبيتها لتكليف إذ لعلها أصابت الإناء المشكوك نجاسته وكان نجسا واقعا.

وان أريد أنه ليس علما بتكليف آخر أو ليس علما بحدوث تكليف وان كان علما بما يلازمه فمن الواضح انه لا يشترط ذلك في منجزية العلم فان المنجز هو العلم بأصل التكليف سواء كان بقائيا أو حدوثيا وسواء كان آخر أم لا والا لاتجه النقض المتقدم كما هو واضح.

أما النظرية الثانية فهي دعوى انحلال العلم الإجمالي المتأخر انحلالا حكيما بالعلم الإجمالي المتقدم وان كان معلومه معاصرا أو متقدما وذلك باعتبار ان العلم الإجمالي الأسبق زمانا قد نجز الطرف المشترك اما ابتداء ـ بناء على مسلك العلية ـ أو في طول تساقط الأصول ـ بناء على مسلك الاقتضاء ـ ومعه لا يكون العلم الإجمالي الثاني صالحا للتنجيز اما بالبيان المتقدم على مسلك العلية من ان المتنجز لا يتنجز فلا يمكن لهذا العلم ان ينجز كلا طرفيه أو بالبيان المبني على مسلك الاقتضاء

٢٥٥

من عدم تعارض الأصول في الأطراف لأن الطرف المشترك قد سقط الأصل فيه بالعلم الإجمالي الأول من أول الأمر فيجري الأصل في الطرف المختص من أطراف العلم الإجمالي الثاني بلا معارض.

وفيه : ان العلم الإجمالي لا يوجب التنجيز أو تعارض الأصول في الأطراف في أي زمان الا بوجوده الفعلي في ذلك الزمان لا بمجرد حدوثه في زمان سابق ولهذا لو زال العلم في أي زمان واحتمل ان ما تخيل نجاسته لم يكن نجسا ارتفع التنجز وجرى الأصل بلا محذور وعليه فتنجز الطرف المشترك بالعلم الإجمالي السابق في زمان حدوث العلم المتأخر انما يكون بسبب بقاء ذلك العلم السابق إلى ذلك الحين لا بمجرد حدوثه وهذا يعني ان تنجز الطرف المشترك فعلا له سببان : أحدهما ـ بقاء العلم السابق. والآخر ـ حدوث العلم المتأخر واختصاص أحد السببين بالتأثير دون الآخر ترجيح بلا مرجح فينجزان معا.

كما ان الأصل المؤمن في الطرف المشترك يقتضي الجريان في كل آن وهذا الاقتضاء يؤثر مع عدم المعارض ومن الواضح ان جريان الأصل المؤمن في الطرف المشترك في الفترة الزمنية السابقة على حدوث العلم الإجمالي المتأخر كان معارضا بأصل واحد ـ وهو الأصل في الطرف المختص بالعلم السابق ـ غير ان جريانه في الفترة الزمنية اللاحقة يوجد له معارضان وهما الأصلان الجاريان في الطرفين المختصين معا ، فالعلمان الإجماليان منجزان معا.

٧ ـ إذا كان في أحد الطرفين أثر زائد :

ذكر المحقق النائيني ( قده ) انه إذا كان هناك أثر مشترك في الطرفين وأثر زائد في أحدهما المعين كما إذا علم بنجاسة هذا الماء المطلق أو ذاك الماء المضاف فانه يترتب العلم بحرمة الشرب وهو أثر مشترك في الطرفين ويوجد في الماء المطلق أثر زائد على تقدير نجاسته وهو عدم جواز التوضي به ، فالعلم الإجمالي ينجز الأثر المشترك في الطرفين واما الأثر المختص فهو شبهة بدوية لا علم به فيجري الأصل الترخيصي عنه بلا محذور.

واعترض عليه السيد الأستاذ بان الأثر الزائد ينفيه نفس الأصل الترخيصي

٢٥٦

الّذي ينفي الأثر المشترك في الماء المطلق وهو أصالة الطهارة أو استصحابها والمفروض سقوطه بالمعارضة فلا يبقى ما يثبت جواز الوضوء به وهذا البيان يظهر منه الاعتراف بان الأثر الزائد خارج عن دائرة العلم الإجمالي وانما لا ينفي باعتبار عدم وجود أصل ترخيصي مخصوص به ونتيجة ذلك انه إذا كان له أصل مخصوص به جرى في نفيه بلا محذور.

وفيه : ان الأثر المختص إذا كان منجزا بالعلم الإجمالي وطرفا من أطرافه تنجز بالعلم ولم يجد في نفيه حتى الأصل المختص ، وإذا لم يكن منجزا بالعلم وطرفا من أطرافه أمكن نفيه بالأصل الترخيصي ولو كان واحدا وذلك بالتمسك بإطلاق دليله بلحاظ هذا الأثر بالخصوص إذا لا مانع منه.

والصحيح ان الأثر المختص أيضا طرف للعلم الإجمالي وتفصيل ذلك : ان الأثر الزائد والأثر المشترك تارة يكونان في موضوع واحد كما إذا علم إجمالا بأنه اما مدين لزيد خمسة دنانير أو قد نذر ان يعطيه عشرة دنانير وفي مثل هذا وان كان بلحاظ السبب يوجد علم إجمالي الا انه بلحاظ المسبب الّذي هو التكليف الداخل في العهدة لا علم إجمالي لأنه من موارد الدوران بين الأقل والأكثر الانحلاليين أو الارتباطيين فيجري فيه الأصل عن الأثر الزائد وهذا خارج عن محل الكلام.

وقد استثنى من ذلك السيد الأستاذ ما إذا كان هناك أصل حاكم على الأصل الترخيصي النافي للأثر الزائد وهذا كبرويا واضح ومن القضايا التي قياساتها معها الا انه مثل له بما إذا علم بنجاسة الثوب اما بقطرة دم فيجب غسله مرة واحدة أو بول فيجب غسله مرتين فانه لا يمكن إجراء الأصل عن وجوب الغسل مرة ثانية لأنه محكوم باستصحاب بقاء النجاسة بعد الغسل مرة واحدة.

وهذا التمثيل غير فني حيث يرد عليه :

أولا ـ ان الأصل المحكوم سواء أريد به البراءة عن وجوب الغسل مرة ثانية أو استصحاب عدم وجوبه لا موضوع له في نفسه لأن الغسل ليس واجبا تكليفا وانما هو حكم وضعي بحصول الطهارة بعد الغسل مرة أو مرتين فلا معنى لإجراء البراءة أو استصحاب عدم وجوبه.

وثانيا ـ الأصل الّذي ادعي حاكميته وهو استصحاب بقاء النجاسة محكوم بحسب

٢٥٧

الحقيقة لاستصحاب موضوعي هو عدم ملاقاته مع البول المنقح لموضوع عموم مطهرية مطلق الغسل الّذي خرج منه خصوص الثوب الملاقي مع البول فمع الشك فيه يجري استصحاب عدمه الموضوعي ولا يعارض باستصحاب عدم ملاقاته بالدم لأنه لا يجري في نفسه إذ لو أريد به إثبات ملاقاته بالبول فهو من الأصل المثبت وان أريد نفي أثر الملاقاة مع الدم وهو وجوب الغسل مرة واحدة فهو معلوم تفصيلا على كل حال وليس مشكوكا ليجري بلحاظه الأصل وهذا واضح.

وأخرى يكون الأثر الزائد والأثر المشترك في موضوعين ـ كما في مثال الماء المطلق والماء المضاف إذا علم بنجاسة أحدهما أو الاستقراض من زيد خمسة دنانير أو من عمرو عشرة ـ وهنا قد يتخيل إمكان جريان الأصل المؤمن عن الأثر الزائد المشكوك بدعوى انا نعلم بخطاب لا يكون الأثر الزائد دخيلا في امتثاله وهو خطاب الاجتناب عن النجس مثلا ولا يعلم بالخطاب الآخر وهو خطاب الوضوء بالماء الطاهر.

وفيه : انه كما يمكن ان يلحظ ذلك يمكن ان يلحظ العلم الإجمالي بحرمة شرب المضاف أو حرمة الوضوء بالماء المطلق وهو خطاب لا يكون لحرمة شرب الماء المطلق دخل فيه ولا نعلم بحرمة شرب الماء وهذا يعني ان لدينا علمين إجماليين عرضين وأوضح من ذلك ما إذا كان الأثر الزائد ارتباطيا كما إذا علم إجمالا بأنه نذر ان يدفع خمسة دنانير لزيد أو عشرة لعمرو بنحو الارتباط.

نعم لو فرض انه بلحاظ الأثر الزائد يجري أصل ترخيصي غير مسانخ مع الأصل النافي للأثر المشترك في الطرفين جرى بلا معارض بعد سقوط الأصل المسانخ في الطرفين باعتبار إجمال دليله ، وهذه نكتة مستقلة لا تختص بكون الأثر الشرعي المختص بأحد الطرفين زائدا بل يتم في الأثر المشترك أيضا إذا كان يوجد لنفيه أصل غير مسانخ في أحد الطرفين بالخصوص كما إذا علم بنجاسة أحد الماءين مع اختصاص أحدهما باستصحاب الطهارة دون الآخر كما تقدم توضيحه فيما سبق مفصلا.

٨ ـ العلم الإجمالي بالحكم الإلزامي الظاهري :

إذا تعلق العلم الإجمالي بتكليف ظاهري كما إذا قامت بينة على نجاسة أحد الإناءين ـ وقد يسمى بالعلم التعبدي بالحكم الواقعي ـ فتارة يكون الإجمال في العلم

٢٥٨

كما إذا كان الإجمال في طول قيام الحجة على فرد معين بان تشهد البينة بنجاسة فرد معين تردد عندنا. وأخرى يكون الإجمال في الحجة بمعنى ان البينة لم تشهد الا بالجامع أو على الأقل لا يعلم شهادتها بأكثر من ذلك.

اما القسم الأول ـ فلا ينبغي الإشكال في انه على حد العلم الإجمالي بالحكم الواقعي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة ـ وان اختلف عنه في درجة التجري والعصيان عند المخالفة على ما تقدمت الإشارة إليه ـ.

وقد يقال بفوارق بينه وبين العلم الإجمالي بالحكم الواقعي بحسب الدقة وان كان لا يترتب عليها جميعا ثمرة عملية ، وبهذا الصدد يمكن ان نذكر ثلاثة فروق :

الفرق الأول ـ ان الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الواقعي تكون متعارضة بعد تمامية موضوعها في نفسها بخلاف الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الظاهري لأنها بحسب الفرض مقيدة ـ بحكم تقدم دليل الأمارة والحكم الظاهري الإلزامي عليها ـ بغير مورد قيام الأمارة الإلزامية وحيث يعلم قيامها إجمالا فيكون الشك في تحقق موضوع أصالة الطهارة مثلا في كل طرف ويكون بابه باب اشتباه الحجة باللاحجة وهذا الفرق بحسب الحقيقة فرق نظري لا عملي لأنه يجري استصحاب عدم قيام الأمارة في هذا الطرف وعدم قيامها في ذاك الطرف المنقح لموضوع أصالة الطهارة أو البراءة عن الواقع المشكوك في كل طرف وحيث ان هذا التنقيح ظاهري بمعنى ان أثر الطهارة أو البراءة يترتب على نفس هذا الأصل الموضوعي يقع التعارض فيه لأن نسبته إلى الحكم الظاهري المعلوم بالإجمال نفس نسبة الأصول في أطراف العلم الإجمالي بالحكم الواقعي من ارتكازية التناقض أو محذور قبح الترخيص في العصيان (١).

__________________

(١) قد يتوهم انه يترتب على ذلك انه إذا لم يجر استصحاب عدم قيام الأمارة في أحد الطرفين ولو من جهة ان ذلك الطرف منذ وجوده يحتمل قيام الأمارة على نجاسته وقلنا بعدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية يمكنه التمسك بالاستصحاب الموضوعي في الطرف الآخر بلا معارض في هذا الطرف لعدم جريان الاستصحاب الموضوعي فيه وعدم إمكان التمسك بدليل أصالة الطهارة لأنه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وهذا فرق عملي يختلف فيه العلم الإجمالي بالحكم الظاهري عن العلم الإجمالي بالحكم الواقعي.

الا ان التحقيق : ان هذا التوهم غير صحيح لأن دليل الأصل الترخيصي الأول أعني أصالة الطهارة أو البراءة كما يجري عن الحكم الواقعي المشكوك يجري أيضا عن الحكم الظاهري المشكوك نفسه وإن شئت عبرت بأنه يجري عن الواقع الّذي يشك في

٢٥٩

وهذا لا يختلف فيه القول بالتنافي بين الأحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية كالاحكام الواقعية ـ كما هو الصحيح ـ أو القول المشهور بان التنافي بينهما انما هو في مرحلة الوصول فقط لا واقعا ، فانه بناء على الأخير وان كان يمكن في مورد الشك في قيام الأمارة إجراء الأصل الترخيصي حقيقة بلا حاجة إلى الاستعانة بأصالة عدم قيامها الا انه في خصوص المقام حيث ان قيام الأمارة وأصل ومنجز بالعلم الإجمالي فيقع التنافي لا محالة فلا بد وان يكون دليل الأصل المحكوم للأمارة مقيدا بعدمها في المقام.

الفرق الثاني ـ فيما إذا كان أحد الإناءين مجرى لاستصحاب النجاسة في نفسه ، فانه إذا كان علمنا الإجمالي بالنجاسة الواقعية جرى استصحاب الطهارة أو قاعدتها في الطرف الآخر لعدم المعارض ، واما إذا قامت البينة على نجاسة أحدهما فنحتاج إلى استصحاب عدم قيام البينة في ذلك الطرف لإجراء القاعدة أو استصحاب الطهارة وحينئذ إذا قلنا بان الأمارة لا تحكم على الأصل المسانخ لها في المؤدى جرى الاستصحاب المذكور من دون معارض لأن الطرف الآخر يجري فيه استصحاب النجاسة المنجز فلا يظهر فرق عملي واما إن قلنا بان الأمارة مقدمة على الأصل المسانخ لها في المؤدى أيضا ـ كما هو المشهور ـ فقد يتوهم وقوع التعارض بين استصحاب عدم قيام البينة في هذا الطرف مع استصحاب عدم قيامها في الطرف الآخر ولو على بعض المسالك في الاستصحاب.

الا ان الصحيح : ان استصحاب عدم قيام البينة في الطرف الّذي هو مورد لاستصحاب النجاسة لا يجري في نفسه حتى لو وافقنا الأصول الموضوعية لهذا الكلام ، إذ يعلم على كل حال بنجاسته ظاهرا اما لقيام البينة أو الاستصحاب على نجاسته فيجري استصحاب عدم البينة في الطرف الآخر لإثبات طهارته. نعم هذا أيضا فارق

اهتمام المولى به وعدمه وإطلاقه له في هذه المرتبة يكون فعليا ولا يكون مقيدا بعدم قيام الأمارة على الواقع بل بعدم قيام الأمارة على الحكم

__________________

الظاهري واهتمام المولى بالواقع وهو محرز وجدانا وهذا في دليل البراءة والاستصحاب واضح ، وفي مثل دليل القاعدة أيضا يمكن دعوى إطلاقه اما بلحاظ النجاسة الواقعية في مرتبة الشك في وجود حكم ظاهري منجز لها فان مناسبات الحكم والموضوع تحكم بان التعبد بالطهارة ونفي النجاسة انما هو بلحاظ أثرها التكليفي الّذي له مرتبتان فيكون له إطلاقان أو بلحاظ النجاسة الظاهرية لو استظهر اعتبارها من دليل حجية الأمارة الدالة على النجاسة. وبهذا يظهر عدم صحة هذا الفرق فنيا أيضا.

٢٦٠