بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

وهذا البيان تام فنيا لتحقيق سلامة الأصل الطولي عن المعارضة ومنه يتضح انه لا موقع للاعتراض في المقام بما عن السيد الأستاذ من ان أدلة اعتبار الأصول انما هي ناظرة إلى الأعمال الخارجية ومتكلفة لبيان أحكامها ومن هنا سميت بالأصول العملية فهي غير ناظرة إلى أحكام الرتبة بوجه ففي الظرف الّذي يجري الأصل الطولي يجري الأصل العرضي في الطرف الآخر ويلزم منهما الترخيص في المخالفة القطعية في عرض لزومه من جريان الأصلين العرضيين في الطرفين ، ولا تقاس الأحكام الشرعية على الأحكام العقلية المترتبة على الرتب.

وجه الاندفاع ـ ان المدعى ليس كون الطولية سببا في نجاة الأصل الطولي من المعارضة بملاك افتراض انه انما يجري في مرتبة عقلية متأخرة عن المرتبة العقلية المعدة

__________________

بذلك كون حجية ظهور هذه الأدلة اللفظية من باب حجية الظهور أيضا اما للقطع بعدم الفرق وبينه وبين حجية أصل الظهور المستفاد من تلك الأدلة بالصراحة لا بالظهور أو لعدم المحذور في التمسك بالسيرة لإثبات حجية هذا الظهور.

الثانية ـ ان محذور الترخيص في المخالفة القطعية يكون بمثابة المقيدات المتصلة المانعة عن انعقاد أصل الظهور في أدلة الحجية.

وفي ضوء تمامية هاتين المقدمتين يقال : ان دليل حجية الظهورات اللفظي لا يشمل إطلاق دليل الأصل العرضي في الطرف الآخر ولا إطلاق دليل الأصل الحاكم ـ ولنفرضهما من سنخين ـ لأن حجيتهما معا ترخيص في المخالفة القطعية فلا يشمل شيء منهما وفي طول ذلك لا يبقى مانع من شموله لإطلاق دليل الأصل الطولي لأن انعقاد هذا الإطلاق يكون في طول سقوط حجية إطلاق دليل الأصل الحاكم وحيث ان سقوطه يكون من باب الإجمال الداخليّ فيكون الدليل اللفظي على حجية الظهور شاملا لدليل الأصل الطولي بلامحذور ، لأن شموله له يكون في طول عدم شموله للأصل العرضي في الطرف الآخر ذاتا لا حجية فحسب ليقال ان نسبة العلم الإجمالي إلى الأصول الثلاثة على حد واحد ولو عرفا ومسامحة.

والجواب : اننا إذا قبلنا عدم مساعدة الارتكازات العرفية على سلامة الأصل الطولي كانت الأدلة اللفظية على حجية الظهور محمولة عليها أيضا لأنها إرشادية وليست تأسيسية فلا ينعقد فيها إطلاق لشمول الأصل الطولي.

٣ ـ ان حجية الأصل الطولي لا يمكن ان تكون مصادمة مع حجية الأصل العرضي في الطرف الآخر بحيث يكون رفع اليد عن حجية الأخير باعتبار حجية الأول ، لأنا إذا لاحظنا شمول دليل الحجية لكل من هذين الأصلين وجدنا ان شموله للأصل الطولي في قبال شموله للأصل العرضي في الطرف الآخر معلوم السقوط على كل حال اما لعدم مقتضية ـ فيما إذا لم يكن الأصل العرضي تاما في نفسه ـ أو لوجود المانع ـ لو كان مقتضي الأصل العرضي تاما في نفسه ـ وهناك كبرى عقلية وعقلائية حاصلها : انه كلما دار الأمر في دليل الحجية بين شمولين وإطلاقين له أحدهما ساقط على كل حال بخلاف الآخر لم يكن بينهما تصادم وتمانع بل كان غير معلوم السقوط حجة دون الآخر وبهذا يثبت عدم إمكان المعارضة بين الأصل الطولي والأصل العرضي في الطرف الآخر بمعنى ان رفع اليد عن حجية الأصل العرضي لا يمكن ان يكون من جهة حجية الأصل الطولي فيمكن ان يرجع إليه بعد سقوط الأصل العرضي.

والجواب : ان هذه الكبرى انما تتم فيما إذا كان أحد الإطلاقين والشمولين للدليل معلوم السقوط عن الحجية لا دائرا بين عدم الموضوع ـ أي انتفاؤه ذاتا أو عدم الحجية للمعارضة مع شمول الدليل للآخر كما في المقام بل في مثل ذلك يكون شمول الدليل للأصل العرضي بنفسه محققا لموضوع الأصل الطولي ومعارضا معه في نفس الوقت.

٢٢١

لجريان الأصلين العرضيين ففي تلك المرتبة لا يوجد أصل سواه وفي المرتبة التي تحتوي على الأصلين العرضيين لا ثبوت للأصل الطولي فان سلامة الأصل الطولي لو كانت بهذا البيان لاتجه الجواب بان الأصل حكم الواقع لا حكم الرتبة ، ولكن الأمر ليس كذلك بل المدعى سلامة الأصل الطولي بملاك انه مترتب وجودا على تساقط الأصلين وما هو مترتب على عدم شيء يستحيل ان يعارضه بدون فرق بين الأحكام الشرعية أو العقلية أو الأمور التكوينية الخارجية فان الأمر الخارجي أيضا إذا كان مترتبا اقتضاء على عدم شيء فلا يمكن ان يقع التزاحم بين مقتضية ومقتضي ذلك الشيء ولا يعني ذلك كون الرتبة وعاء للأمر الخارجي فلا بد اذن في مقام الجواب من توضيح ان الأصل الطولي ليس مترتبا على تساقط الأصلين العرضيين ليمتنع تعارضه مع أحدهما كما شرحناه.

نعم يمكن رد هذا البيان الفني وغيره من الوجوه المتقدمة بدعوى ان الارتكازات العرفية التي هي المقياس في تشخيص المعارضة بين إطلاقات دليل الأصل لا تساعد على مثل هذه المداقة ، بل النّظر العرفي الّذي هو المحكم في حجية الظهور وفي تمييزه يرى المعارضة بين إطلاق دليل الأصل في شمول الأصل الطولي وبين إطلاقه في شمول الأصل العرضي في الطرف الآخر ولا يتعامل معهما كما في مجال التزاحم التكويني بين مقتضيين تكوينيين.

لا يقال : إذا لم يكن ذلك عرفيا أو شكك في عرفيته فكيف يمكن إعماله في الأصول اللفظية فانه لا شك في مرجعية العام الفوقاني بعد تعارض الخاصّين وليس ذلك الا ببرهان ان أصالة العموم في العام يستحيل ان تقع طرفا للمعارضة مع المخصص للعام فلا تصل النوبة إليها الا بعد تساقط الخاصّين فحال أصالة العموم حال الأصل الطولي في المقام.

فانه يقال : أصالة العموم في طول سقوط الخاصّ المخالف للعام وهذه الطولية مفهومة عرفا وموجبة لعدم إيقاع المعارضة بينهما ، فنسبة أصالة العموم إلى الخاصّ المخالف نسبة الأصل الطولي إلى الأصل الحاكم عليه ، فلا يقاس ذلك بالطولية المراد تصويرها بين الأصل الطولي والأصل العرضي في الطرف الآخر.

وهكذا يتضح ان الأصل الترخيصي الطولي حتى لو سلم وجوده صغرويا يسقط

٢٢٢

أيضا بالمعارضة مع الأصلين العرضيين المتعارضين إذا لم يكونا متسانخين.

وتلخص من مجموع ما تقدم في الصور الثلاث انه في الصورة الأولى يجري الأصل النافي لعدم جريان الأصل النافي في الطرف الآخر في نفسه ، وفي الصورة الثانية يجري الأصل النافي لجريان الأصل الإلزامي الحاكم على الأصل النافي في الطرف الآخر ، وفي الصورة الثالثة الصحيح هو التفصيل بين ما إذا كان في الطرفين أصل ترخيصي من سنخ واحد فيجري الأصل الترخيصي غير المسانخ بلا معارض وما إذا لم يكن في الطرفين أصل ترخيصي من سنخ واحد فتتساقط الأصول الترخيصية معا.

وهذه النتائج تامة بناء على مسلك الاقتضاء. واما بناء على مسلك العلية فان بنينا على ما هو الصحيح من ان انحلال العلم الإجمالي انما يكون بجريان الأصل النافي في بعض أطراف العلم خلافا لمبنى أصحاب هذا المسلك أنفسهم فلا يجري الأصل النافي في شيء من الصور الثلاث ، واما إذا بني على ان الانحلال انما يكون بجريان الأصل الإلزامي في بعض الأطراف فقد عرفت بان مدرسة المحقق النائيني ( قده ) أفادت في المقام عدم الفرق وجريان الأصل النافي على هذا المسلك أيضا فلا تبقى ثمرة بين المسلكين.

وقد اتضح بان هذا الكلام غير تام حتى لو سلم مبناه وذلك لظهور الثمرة والفرق في موردين :

المورد الأول ـ في الصورة الثالثة فيما إذا كان في الطرفين أصل ترخيصي من سنخ واحد ، فانه بناء على مسلك الاقتضاء يجري الأصل الترخيصي بلا معارض بينما لا يجري بناء على العلية لمانعية العلم الإجمالي عن جريانه منفردا أيضا والمفروض عدم وجود أصل إلزاميّ شرعي أو عقلي في الطرف الآخر غير منجزية العلم الإجمالي نفسه.

لا يقال ـ بناء على الاقتضاء أيضا يقع التعارض بين الأصل الترخيصي مع البراءة العقلية في الطرف الآخر بناء على تمامية مقتضيها في أطراف العلم الإجمالي وسقوطها بالمعارضة.

فانه يقال ـ أولا ـ لو سلمنا جريان القاعدة في نفسها في أطراف العلم الإجمالي فمقتضي حرفيتها على ما تقدم إثبات جواز المخالفة الاحتمالية والاكتفاء بالجامع لا جريانها في كل طرف وسقوطها بالمعارضة.

٢٢٣

وثانيا ـ لا يعقل فرض التعارض بين الأصل الشرعي مع الأصل العقلي لكونه تعليقيا ، فلو فرض ترخيص الشارع في أحد الطرفين حكم العقل لا محالة بلزوم الاجتناب عن الآخر تجنبا عن المخالفة القطعية لا إيقاع المعارضة والمصادمة مع الأصل الشرعي.

المورد الثاني ـ إذا فرض ان أحد طرفي العلم الإجمالي ليس فيه أصل إلزاميّ ولا ترخيصي ، وذلك فيما إذا فرض ان الشك كان في أصل التكليف وكانت الشبهة وجوبية لا تجري فيها أصالة الحل ولا يجري فيه الاستصحاب النافي أيضا اما للقول بعدم جريانه في الشبهات الحكمية أو لتوارد الحالتين وقيل بان مثل حديث الرفع والحجب لا يشمل في نفسه أطراف العلم الإجمالي فانه حينئذ يجري الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بناء على مسلك الاقتضاء دون العلية.

وهكذا يتضح ترتب الثمرة العملية بين المسلكين.

٢ ـ الطولية بين طرفي العلم الإجمالي :

قد يتفق طولية أحد طرفي العلم الإجمالي بالنسبة للطرف الثاني ، كما إذا افترض ان وجوب الحج على المستطيع متوقف على عدم وجوب وفاء الدين فعلم إجمالا بوجوب الحج أو الوفاء بالدين ، وكما إذا نذر الحج مثلا فيما إذا لم يجب عليه الوفاء بالدين فيعلم إجمالا بوجوب أحدهما.

وقد وقع البحث في منجزية مثل هذا العلم الإجمالي ، والمعروف عندهم جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الوفاء بالدين المنقح لموضوع وجوب الحج ، وقد أورد المحقق العراقي ( قده ) هذه المسألة نقضا على مسلك العلية وحاول التخلص منه (١).

تقريب النقض : انه بناء على العلية لا يمكن إجراء الأصل حتى في طرف واحد من أطراف العلم الا بعد انحلال العلم بأصل إلزاميّ في طرف آخر أو جعله بدلا عن الواقع وكلا الأمرين غير حاصل في المقام الا في رتبة متأخرة عن جريان الأصل الترخيصي وهو لا يصح على مسلك العلية.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، الجزء الثالث ، ص ٣١٥.

٢٢٤

ثم أجاب عليه بما حاصله : ان وجوب الحج ـ الطرف الطولي ـ إذا كان مترتبا على عدم وجوب الوفاء بالدين واقعا أو على عدمه ولو ظاهرا فالأصل الترخيصي النافي كما ينفي وجوب الوفاء بالدين وبهذا اللحاظ يكون ترخيصيا كذلك يثبت وجوب الحج وبهذا اللحاظ يكون إلزاميا موجبا لانحلال العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي ينحل بلحاظ المدلول الوجوديّ الإلزامي للأصل فيكون الأخذ بمدلوله الترخيصي ممكنا أيضا. نعم تمتاز الفرضية الثانية في وفاء الأصول غير التنزيلية كأصالة البراءة عن وجوب الوفاء بالدين بذلك أيضا بخلاف الفرضية الأولى حيث يتوقف إحراز موضوع وجوب الحج فيها على جريان أصل تنزيلي كاستصحاب عدم الوجوب.

واما إذا كان وجوب الحج مترتبا على مطلق التأمين والمعذورية عن وجوب الوفاء بالدين فهذا يوجب عدم صلاحية العلم الإجمالي للتنجيز ، لأن العلم الإجمالي لا بد وان يكون صالحا لتنجيز كلا طرفيه في عرض واحد ، وفي المقام يستحيل ذلك لأنه لو تنجز وجوب الوفاء بالدين ارتفع وجوب الحج يقينا فتكون منجزيته مستحيلة.

ولنا في المقام عدة تعليقات :

الأولى ـ ان التمسك أولا بدلالة دليل الأصل على الأثر الوجوديّ الإلزامي وهو وجوب الحج ثم الأخذ بدلالته على الأثر الترخيصي وهو عدم وجوب الوفاء بالدين انما يتم لو سلمنا ان دليل الأصل يتكفل بيان الأمرين بنفسه وهذا في مثل أصالة البراءة ممنوع بالاتفاق وفي الاستصحاب على قول ، فان دليل البراءة لا يتكلف الا نفي الحكم المشكوك ظاهرا واما الأثر الإلزامي المترتب على انتفاء الحكم المشكوك ولو ظاهرا فيترتب بدليله من باب تحقق موضوعه بجريان الأصل وهذا يعني ان الأثر الإلزامي انما يكون في طول ثبوت الأثر الترخيصي في أحد طرفي العلم الإجمالي أولا ، وهو غير ممكن بناء على مسلك العلية فيرد النقض (١).

__________________

(١) يمكن الإجابة عليه حتى لو سلم هذا المبنى بأحد وجهين :.

الأول ـ ما تقدم من ان التنجيز من أحكام عالم الزمان لا الرتب فحتى إذا فرض ان جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين متقدم رتبة على جريان الإلزام في الطرف الآخر الا انه حيث انهما في زمان واحد فلا يكون الأصل الترخيصي مؤمنا عن احتمال تكليف منجز بالعلم الإجمالي إذ في زمان جريانه لا يكون العلم الإجمالي منجزا.

لا يقال ـ يستحيل جعل الترخيص في المقام لأنه متوقف على عدم منجزية العلم الإجمالي بناء على العلية فلو كان سببا وموضوعا لعدم منجزية العلم الإجمالي لزم الدور.

٢٢٥

الثانية ـ إذا كان وجوب الحج مترتبا على عدم وجوب الوفاء بالدين ولو ظاهرا الفرضية الثانية ـ فحينئذ لا تعقل مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصل الترخيصي عن وجوب الوفاء بلا حاجة إلى مسألة الانحلال الحكمي بالأثر الإلزامي المترتب على الأصل ، وذلك لأن العلم الإجمالي سوف ينحل انحلالا حقيقيا بمعنى ان ثبوت الترخيص الظاهري عن وجوب الوفاء يقلب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الحج لتحقق موضوعه وجدانا وحقيقة ومانعية العلم الإجمالي متوقفة على وجوده فإذا كان الترخيص في بعض أطرافه رافعا لوجوده استحال ان يكون مانعا عن جريانه لان ما يتوقف على عدم شيء يستحيل ان يكون مانعا عنه.

وان شئت قلت : ان مانعية العلم الإجمالي عن الترخيص انما كانت لاستلزام الأصل لمحذور عقلي تنجيزي وهو الترخيص في المخالفة وهذا المحذور فرع الحفاظ على العلم الإجمالي فإذا كان الأصل رافعا له فليس هنا لك مخالفة لحكم العقل التنجزي فلا وجه لعدم جريانه.

الثالثة ـ فيما إذا كان وجوب الحج مترتبا على عدم تنجز الدين لا يعقل تحقق العلم الإجمالي بالتكليف لا انه يتحقق ولكنه لا يكون منجزا ، لأنه لو أريد العلم إجمالا بوجوب الوفاء بالدين عليه واقعا أو وجوب الحج فمن الواضح انه يمكن ان لا يكون الوجوبان معا وذلك بان يكون الدين منجزا عليه من دون وجوب واقعي فان التنجيز أعم من الحكم الواقعي كما لا يخفى فلا وجوب وفاء ولا وجوب حج. ولو أريد العلم إجمالا بتنجز أداء الدين عليه أو وجوب الحج ، كان الجواب انه لا معنى للشك في التنجز الا بدوا فبعد التأمل يستقر عنده التنجيز أو التأمين لا محالة كل حسب

__________________

فانه يقال ـ ليس جعل الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي متوقفا على عدم منجزية العلم الإجمالي في الرتبة السابقة على جريانه ، بل متوقف على عدم منجزيته ولو في طول جريانه بنحو القضية الشرطية الصادقة من أول الأمر ، فالموقوف عليه الترخيص القضية الشرطية اللولائية والموقوف على الترخيص القضية الفعلية فلا دور كيف وجريان الأصل الترخيصي في بعض الأطراف في موارد انحلال العلم الإجمالي بالأصل الإلزامي في الطرف الآخر المسلم عندهم أيضا ليس في طول جريان الأصل الإلزامي بل في عرضه.

الثاني ـ اننا نستكشف من إطلاق دليل الأصل الترخيصي في المقام بضمه إلى دليل الأثر الشرعي في الطرف الآخر جعل الشارع الطرف الآخر بدلا عن الواقع المعلوم بالإجمال تعبدا ، لأن هذا مدلول التزامي لدليل ترتيب ذلك الأثر الشرعي بعد تحقق موضوعه بالأصل فلا يكون من الأصل المثبت.

٢٢٦

مبانيه في منجزية العلم أو الاحتمال وعلى كل حال فلا يحصل علم إجمالي بالتكليف بل إذا استقر عنده تنجز وجوب الوفاء بالدين علم تفصيلا بعدم وجوب الحج وإذا استقر عنده عدم تنجز وجوب الوفاء علم تفصيلا بوجوب الحج وفي كلا التقديرين يكون وجوب الوفاء بالدين محتملا (١).

الرابعة ـ لو افترضنا إمكان حصول العلم الإجمالي ، فما ذكره من انه لا يكون منجزا لأنه لا بد وان يكون العلم الإجمالي صالحا لتنجيز كل من الطرفين في عرض واحد لا يناسب مسلك العلية وتعلق العلم بالواقع لا الجامع وان تنجيزه لكل من الطرفين انما هو من باب احتمال انطباق الواقع المنجز عليه فانه على هذا المسلك يكون المنجز ابتداء هو الواقع لا الموافقة القطعية ليقال ان نسبتها إلى كل من الطرفين على حد سواء فلو كان الواقع هو وجوب الحج لتنجز بالعلم الإجمالي ومعه يستحيل ان يكون تنجز أحد الطرفين لاحتمال انطباق الواقع عليه رافعا لهذا الحكم المنجز ، لأن هذا بمثابة أخذ عدم منجزية الحكم في موضوعه وهو محال في نفسه فلا بد وان يكون عدم منجزية وجوب الوفاء بالدين المأخوذ في وجوب الحج من سائر النواحي لا من هذه الناحية.

وقد اتضح من مجموع ما تقدم حكم الطولية بين طرفي العلم الإجمالي من جريان الأصل الترخيصي عن الطرف الّذي أخذ عدمه في موضوع الآخر ويثبت بذلك وجوب الآخر واقعا ان كان مترتبا على عدم وجوب الأول ولو ظاهرا أو على عدم تنجزه ، وان كان مترتبا على عدم وجوب الآخر واقعا فإذا كان الأصل الترخيصي تنزيليا كالاستصحاب جرى أيضا وكان حاكما على الأصل الترخيصي في الطرف

__________________

(١) يمكن تصوير العلم الإجمالي إذا توفر امران :.

الأول ـ ان يعلم بأنه على تقدير ثبوت التنجيز يكون الحكم الواقعي ثابتا أيضا أي ان المنجز مصيب للواقع ولو باخبار معصوم بهذه القضية الشرطية.

الثاني ـ ان تكون كبرى المنجزية وحق الطاعة واقعية على حد الأحكام الواقعية الأخرى بحيث تكون ثابتة حتى في حق من لا علم له بها كمن يرى قبح العقاب بلا بيان والا لزم أخذ العلم في موضوع المعلوم وهو محال ـ وهذا هو مختار سيدنا الشهيد ( قده ) على ما تقدم في بحث قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ فانه حينئذ يعقل حصول العلم الإجمالي بوجوب الوفاء بالدين أو وجوب الحج لمن يشك في حق الطاعة أو قبح العقاب بلا بيان ـ كبرويا إذ سوف يعلم بوجوب الوفاء عليه أو وجوب الحج ، إذ لو كانت كبرى حق الطاعة للمولى في موارد الجهل بالوجوب ثابتة في نفس الأمر والواقع فوجوب الوفاء ثابت ـ بحكم الأمر الأول ـ وإن لم يكن حق الطاعة ثابتا كبرويا ولم يكن منجز آخر كان وجوب الحج ثابتا عليه وحيث ان حق الطاعة امر يعقل ثبوته واقعا حتى عند القطع بعدمه فيعقل لا محالة تشكل مثل هذا العلم الإجمالي لمن يشك في كبرى حق الطاعة في الشبهات البدوية.

٢٢٧

الآخر لكونه سببيا وذاك مسببي فيثبت وجوب الآخر ظاهرا ، وان لم يكن الأصل تنزيليا كالبراءة عن وجوب الوفاء بالدين وقع التعارض بينه وبين الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لا محالة وكان العلم الإجمالي منجزا.

٣ ـ الشبهة غير المحصورة :

المشهور بين الأصوليين سقوط العلم الإجمالي عن تنجيز الموافقة القطعية إذا كثرت أطرافه بدرجة كبيرة وسميت بالشبهة غير المحصورة ، وهناك من ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعية فيها أيضا.

ويجب ان يعلم بان المنظور في المقام عامل الكثرة فقط وما قد ينجم عنها من تأثير في إسقاط العلم الإجمالي عن المنجزية دون ان نضيف في الحساب نكتة أخرى قد تقارن افتراض كثرة الأطراف كخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أو الاضطرار إلى بعض الأطراف أو العسر والحرج أو غير ذلك.

كما انه لا بد من ملاحظة ملاك السقوط عن المنجزية ليحدد على ضوئه المقدار اللازم من كثرة الأطراف لتكون الشبهة غير محصورة والا فليس هذا العنوان موردا لحكم شرعي ليبحث عن تحديد معناه.

وهناك منهجان لتقريب سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية في الشبهة غير المحصورة ، أحدهما دعوى سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بلحاظ أدلة الأصول الترخيصية والثاني دعوى سقوطه في نفسه وبقطع النّظر عن أدلة الأصول ، فهنا تقريبان :

التقريب الأول ـ دعوى سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بلحاظ أدلة الأصول الترخيصية ، وذلك باعتبار انه لا محذور في جريانها في الشبهة غير المحصورة لأن الركن الرابع من أركان تنجيز العلم الإجمالي المتقدمة مختل إذ لا يؤدي جريانها إلى الترخيص في المخالفة القطعية عمليا لأننا نفترض كثرة الأطراف بدرجة لا تتيح للمكلف اقتحامها جميعا فتجري الأصول المرخصة بدون محذور.

وقد ناقش في ذلك السيد الأستاذ حلا ونقضا ، اما الحل فلان المحذور عنده انما هو في الترخيص القطعي في المخالفة وهو حاصل في المقام ولو لم يلزم الترخيص في المخالفة

٢٢٨

القطعية لعدم القدرة عليها.

واما النقض ، فبما إذا تعذرت المخالفة القطعية في شبهة محصورة كما إذا لم يكن يمكن للمكلف ان يقتحم الطرفين معا كما إذا علم بحرمة المكث في أحد مكانين فانه لا يلزم من جريان الأصل فيهما الترخيص في المخالفة القطعية مع انه لا يقال بجواز الاقتحام في شيء منها.

والصحيح : ان عدم تيسر المخالفة القطعية إذا أريد جعله بنفسه ملاكا لجريان الأصول الترخيصية اتجه النقض المذكور لأن هذا الملاك موجود في مورد النقض ، ولكن التحقيق ان عدم تيسر المخالفة الناشئ من كثرة الأطراف بالخصوص هو ملاك جريان الأصول لأن محذور الترخيص في المخالفة كان محذورا عقلائيا عندنا كنا نقيد على أساسه إطلاق أدلة الأصول وهو محذور المناقضة مع الغرض اللزومي المعلم والمهتم به عقلائيا في موارد التردد الجزئي ومن الواضح ان هذا الغرض اللزومي إذا كان مرددا بين أطراف بالغة هذه الدرجة من الكثرة لا يرى العقلاء محذورا في تقديم الأغراض الترخيصية عليه لأن التحفظ على مثل ذلك الغرض يستدعي رفع اليد عن أغراض ترخيصية كثيرة ومعه لا يبقي مانع عن شمول دليل الأصول للأطراف ، وهذا هو البيان النفي للركن الرابع (١).

ومما يؤيد عدم وجود ارتكاز المناقضة إذا كانت الأطراف كثيرة ما عن أبي الجارود ( قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن فقلت أخبرني من رأي انه يجعل فيه الميتة؟ فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟ (٢). وليس المراد ما ذكره الشيخ الأعظم ( قده ) من الاستنكار عن تحريم سائر الأشياء لمجرد العلم بحرمة مورد واحد فان هذا مضافا إلى كونه خلاف ظاهر صدر الحديث في ان السائل

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ص ٩١.

(٢) الا أن عدم ارتكاز التناقض الظاهر أنه ليس لمجرد كثرة الأطراف فقط بل مع درجة من تعسر الاقتحام لكل الأطراف بحيث لا يرى ان الترخيص يؤدي إلى تفويت فعلي متوقع فلو فرض مثلا العلم إجمالا للمجتهد بأن أحد فتاواه غير مطابق للواقع لم يجز له الإفتاء بشيء من المسائل الواقعة طرفا لهذه الشبهة رغم كثرتها لأن الإفتاء بها جميعا أمر ميسور وقد يكون دفعيا في بعض الأحيان فمثل هذا العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة الإفتاء شبهة محصورة وان كان بالنسبة إلى العمل في المسائل شبهة غير محصورة فالحاصل : لا بد من تشخيص ملاك عدم ارتكاز المناقضة وهل انه في مجرد كثرة الأطراف أو لا بد ان تكون الكثرة بنحو تستبعد المخالفة القطعية والمسألة بحاجة إلى مزيد تأمل والله العالم.

٢٢٩

يرى محذور الميتة في الجبن المشبه خلاف ظاهر ذيله الّذي ورد بقوله : « والله اني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان ».

واما الإشكال الحلي فسوف يأتي البحث عنه في بحوث قادمة بناء على القول بقبح الترخيص في المخالفة القطعية.

التقريب الثاني ـ دعوى سقوط العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة عن المنجزية على أساس ان كل طرف يراد اقتحامه يوجد اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال فيه إذ كلما ازدادت أطراف العلم تضاءلت القيمة الاحتمالية للانطباق في كل طرف حتى تصل إلى درجة يطمئن بخلافها لأن رقم اليقين ينقسم لا محالة على عدد الأطراف ، والاطمئنان حجة ومؤمن عقلائي لم يردع عنه الشارع وبهذا يندفع ما ذكر في المقام من ان العقلاء انما يعملون بهذه الظنون في أغراضهم الدنيوية لا ما إذا كان المحتمل بدرجة كبيرة من الأهمية كالعقاب الأخروي إذ ليس المقصود ان القيمة الاحتمالية للعقاب في اقتحام كل طرف ضئيلة بل المقصود ان احتمال التكليف في كل طرف قيمته الاحتمالية ضعيفة بدرجة يكون على خلافها الاطمئنان وهذا الاطمئنان حجة فيقطع بعدم العقاب.

وقد نوقش في هذا التقريب تارة صغرويا بالمنع عن حصول الاطمئنان ، وأخرى كبرويا بالمنع عن حجيته.

واما من حيث ، الصغرى ، فقد حاول المحقق العراقي ( قده ) ان يبرهن على عدم وجود اطمئنان فعلي بهذا النحو بان الأطراف كلها متساوية في استحقاقها لهذا الاطمئنان الفعلي بعدم الانطباق فلو وجدت اطمئنانات فعلية في كل الأطراف كان ذلك مناقضا مع العلم الإجمالي بوجود النجس مثلا في بعضها لأن السالبة الكلية مناقضة للموجبة الجزئية ، ولو وجد الاطمئنان في بعض الأطراف دون بعض كان ترجيحا بلا مرجح.

والجواب : ان الاطمئنانات المذكورة تتشكل بنحو لا تؤدي إلى الاطمئنان بالسالبة الكلية لتكون مناقضة مع الموجبة الجزئية المعلومة بالإجمال.

وقد تقول : كيف لا تؤدي إلى ذلك مع ان الاطمئنان بوجود ( الف ) والاطمئنان

٢٣٠

بوجود ( باء ) يؤديان إلى الاطمئنان بمجموع ( الألف والباء ) ، لأن كل مجموعة من الإحرازات تؤدي لا محالة إلى إحراز مجموعة المتعلقات ووجودها جميعا بنفس تلك الدرجة من الإحراز.

والجواب : أولا ـ بالنقض بالشك في الأطراف أيضا ، إذ من الواضح وجود احتمالات لعدم انطباق المعلوم بالإجمال بعدد أطراف العلم الإجمالي وهذه الاحتمالات والشكوك فعلية بالوجدان ولكنها مع هذا لا تؤدي بمجموعها إلى احتمال مجموع محتملاتها بنفس الدرجة فإذا صح ان يكون كل من ( الف ) و ( باء ) محتملا بالفعل ومع هذا لا يحتمل بنفس الدرجة مجموع ( الألف والباء ) فيصح ان يكون كل منهما مطمئنا به ولا يكون المجموع مطمئنا به.

وثانيا ـ بالحل وهو ان القاعدة المذكورة انما تصدق فيما إذا كان كل من الإحرازات يستبطن إضافة إلى إحراز متعلقه فعلا إحراز وجوده على تقدير وجود متعلق الإحراز الآخر على نهج القضية الشرطية أي إحرازا لمطلق وجوده فمن يطمئن بان ( الف ) موجود حتى على تقدير وجود ( باء ) أيضا وان ( باء ) موجود حتى على تقدير وجود ( الف ) فهو يطمئن بوجود المجموع ، وفي المقام الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على أي طرف وان كان موجودا فعلا ولكنه لا يستبطن الاطمئنان بعدم الانطباق عليه حتى على تقدير عدم الانطباق على الطرف الآخر ، والسبب في ذلك ان هذا الاطمئنان انما نشأ من حساب الاحتمالات وإجماع احتمالات الانطباق في الأطراف الأخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف فتلك الاحتمالات هي الأساس في تكون الاطمئنان ومعه لا مبرر للاطمئنان بعدم الانطباق على طرف عند افتراض عدم الانطباق على الطرف الآخر ، لأن هذا الافتراض يعني بطلان بعض الاحتمالات التي هي الأساس في تكون الاطمئنان بعدم الانطباق فلا يكون مجموع الإحرازات الاطمئنانية مساوقا مع إحراز مجموع متعلقاتها حتى تتشكل السابقة الكلية.

واما المناقشة من حيث الكبرى فتتجه ـ بعد التسليم بوجود الاطمئنان المذكور ـ إلى ان هذا الاطمئنان بعدم الانطباق لما كان موجودا في كل طرف فالاطمئنانات تكون متعارضة في الحجية والمعذرية للعلم بان بعضها كاذب ، والتعارض يؤدي إلى

٢٣١

سقوطها عن الحجية لأن حجيتها جميعا غير معقول ، وحجية بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح.

والجواب : حجية بعضها بدلا فان مقتضي البناء العقلائي في المقام ذلك هذا بنحو الإجمال (١) وتفصيل ذلك :

ان العلم الإجمالي بكذب بعض الأدلة انما يؤدي إلى تعارضها وسقوطها عن الحجية لأحد سببين :

الأول ـ ان يحصل بسبب ذلك التكاذب بين الأدلة فتدل كل واحدة منها بالالتزام على كذب الباقي ولا يمكن التعبد بحجية المتكاذبين.

الثاني ـ ان تؤدي حجيتها ـ ولو لم تكن متكاذبة ـ إلى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.

وكلا الأمرين غير متوفر في المقام.

اما الأول فلان كل اطمئنان لا يوجد ما يكذبه بالدلالة الالتزامية ، لأننا إذا أخذنا أي اطمئنان آخر معه لم نجد من المستحيل صدقهما معا فلما ذا يتكاذبان وإذا أخذنا مجموع الاطمئنانات الأخرى لم نجد تكاذبا أيضا لأن هذه المجموعة لا تؤدي إلى الاطمئنان بمجموع متعلقاتها أي الاطمئنان بعدم الانطباق على سائر الأطراف المساوق للاطمئنان بالانطباق على غيرها لما برهنا عليه من ان كل اطمئنانين لا يتضمنان الاطمئنان بالقضية الشرطية لا يؤدي اجتماعهما إلى الاطمئنان بالمجموع والاطمئنانات الناشئة من حساب الاحتمال هنا من هذا القبيل كما عرفت فلا يثبت بمجموعها طهارة مجموع الباقي المستلزمة لنجاسة هذا الفرد.

واما الثاني ـ فلأنه : أولا : قد عرفت عدم ارتكاز المناقضة عقلائيا بين الترخيص في المخالفة القطعية والتكليف المعلوم بالإجمال إذا كانت الأطراف كثيرة فحال كل واحد من هذه الاطمئنانات حال الأصل الترخيصي.

وثانيا ـ لا يلزم محذور الترخيص في المخالفة القطعية لا بناء العقلاء على حجية

__________________

(١) قد تقدم في بحث حجية الخبر المتواتر من الجزء السابق الإشكال في حجية الاطمئنان الحاصل من مجرد المضعف الكمي فراجع.

٢٣٢

الاطمئنان ليس معناه الا ان ما يقابله من الكسر الضئيل ليس منجزا ففيما نحن فيه يكون احتمال النجاسة مثلا الّذي يقابله الاطمئنان ليس بمنجز فالمكلف يجوز اقتحام المخالفة بهذا المقدار وهذا انما يكون فيما إذا أراد اقتحام طرف واحد لا ما إذا أراد اقتحام أطراف عديدة فانه بذلك يواجه احتمالا للنجاسة أكبر قيمة أي لا يقابله اطمئنان بحكم حساب الاحتمالات وكيفية نشوء هذا الاطمئنان كما عرفت.

وهكذا يتضح ان دليل حجية هذه الاطمئنانات لا يقتضي في نفسه أكثر من الحجية البدلية لها لا الحجية التعيينية الشمولية ليلزم الترخيص في المخالفة القطعية.

لا يقال ـ لو فرض ان علمنا الإجمالي كان مقرونا بالشك البدوي بنحو لم يحصل الاطمئنان بالطهارة في كل فرد كما لو كنا نحتمل نجاسة الجميع أيضا احتمالا منافيا للاطمئنان وفرض عدم تعين واقعي للمعلوم بالإجمال كما إذا كان العلم الإجمالي وليد الاحتمالات الثابتة في الأطراف فلا يجدي هذا التقريب لإثبات جواز الاقتحام إذ لا اطمئنان في كل طرف بالطهارة ليتخذ منه مؤمنا عن المعلوم الإجمالي.

فانه يقال ـ العلم الإجمالي انما ينجز التكليف المعلوم بالإجمال فقط لا أكثر فالنجاسات الأخرى المحتملة في كل طرف في نفسها مؤمن عنها من أول الأمر والنجاسة أو الحرمة الواحدة المعلومة بالإجمال بهذا العنوان الإجمالي انطباقه في كل طرف على خلافها اطمئنان مؤمن.

وهكذا يتضح ان هناك منهجين لإثبات سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية إذا كانت أطرافه غير محصورة أحدهما سقوطه بلحاظ أدلة الأصول الترخيصية والآخر سقوطه بلحاظ حصول الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال في كل طرف ويمتاز المنهج الثاني على الأول بأنه يتم حتى في الشبهة التي لا يوجد في موردها أصل ترخيصي كما إذا كان من الشك في المكلف به أو كان دليل الأصل قاصرا عنه لأن التأمين مستند فيه إلى الاطمئنان لا الأصل (١).

ثم انه قد استدل في كلمات المحققين على عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير

__________________

(١) كما يمتاز المنهج الأول بأنه يتم في أكثر من طرف واحد من أطراف الشبهة غير المحصورة بينما لا يتم فيه المنهج الثاني إذ لا اطمئنان على خلاف احتمال انطباق المعلوم الإجمالي فيه ، وكذلك فيما إذا كان احتمال انطباق المعلوم الإجمالي في بعض الأطراف في نفسه كبيرا.

٢٣٣

المحصورة بوجوه أخرى لا مأخذ لها.

منها ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) من عدم القدرة على المخالفة القطعية في موارد الشبهة غير المحصورة لعدم إمكان اقتحام تمام الأطراف.

وفيه ـ ما تقدم من ان مجرد عدم القدرة على المخالفة القطعية اتفاقا لا يكفي لجريان الأصل بنحو ينتج الترخيص في المخالفة القطعية القبيحة بحسب مبنى المحقق النائيني ( قده ) فان الفعل القبيح لا يخرج عن كونه قبيحا لمجرد عدم القدرة على تحقيقه.

ومنها ـ الإجماع والتسالم على عدم وجوب الاجتناب عن تمام أطراف الشبهة غير المحصورة.

وفيه ـ ان أصل هذا التسالم وان كان مما يطمئن به الا أنه من المحتمل قويا ان يكون المستند في ذلك أحد الوجهين المذكورين خصوصا وان بعضهم كالشيخ الأنصاري وصاحب الحدائق تعرضوا للشبهة غير المحصورة واستندوا فيها إلى أدلة الأصول الترخيصية. نعم هذا التسالم يكون نعم الدليل على نفي محذور التناقض الارتكازي العقلائي في موارد الشبهة غير المحصورة والّذي كان هو المانع عندنا عن التمسك بإطلاق أدلة الأصول الترخيصية لأن هؤلاء المجمعين هم من أهل العرف والعقلاء.

ومنها ـ التمسك بقاعدة نفي العسر أو الحرج بناء على ما هو الصحيح من إمكان نفي الحكم الّذي ينشأ منه الحرج أو العسر لا مباشرة بل من جهة الاشتباه والاحتياط بها أيضا.

وفيه ـ ان هذا المحذور ليس ملازما مع كثرة الأطراف فقد لا يلزم من الاحتياط عن جميع أطراف علم إجمالي في شبهة غير محصورة أي حرج كما لو علم بنجاسة أحد أواني بلدة لا حرج عليه في عدم السفر إليها وعدم مساورة شيء من أوانيها.

وهذا الجواب يأتي على استدلال الميرزا ( قده ) أيضا فانه ربما لا تكون كثرة الأطراف بدرجة بحيث لا يتمكن المكلف من المخالفة القطعية ـ وان كان الأمر كذلك غالبا ـ كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد أوان يمكنه ان يساورها جميعا ولو بالتدريج وخلال مدة زمنية وهذا بخلاف الوجهين اللذين استندنا إليهما في إثبات عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة.

وفي ختام البحث عن الشبهة غير المحصورة تجدر الإشارة إلى عدة أمور :

٢٣٤

الأول ـ في جواز المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة وعدمه.

والصحيح : ان هذا يختلف باختلاف مبنى عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة فان كان المبنى مثل الإجماع فهو دليل لبي لا بد من الاقتصار فيه على المتيقن وهو المخالفة الاحتمالية لا القطعية ، وان كان المدرك قاعدة نفي الحرج فالحرج ينتفي بما دون المخالفة القطعية وعلى كلا هذين الفرضين يكون المقام من الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف لا بعينه فيبنى جواز المخالفة القطعية فيه على جوازها في موارد الترخيص شرعا في اقتحام بعض الأطراف لا بعينه. وان كان المأخذ ما ذهب إليه الميرزا ( قده ) من عدم القدرة على المخالفة القطعية فلا موضوع لهذا الفرع ، وان كان المأخذ المنهج الأول الّذي ذهبنا إليه من عدم ارتكاز المناقضة بين المعلوم الإجمالي والترخيص في الأطراف جازت المخالفة القطعية لعدم المحذور في ذلك ، وان كان المدرك المنهج الثاني وهو الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي في كل طرف لو لوحظ وحده فهذا انما يجوز الارتكاب بمقدار يطمئن معه بعدم المخالفة لا أكثر (١).

الثاني ـ في العلم الإجمالي بالوجوب بنحو الشبهة غير المحصورة ، وانه هل يكون كالشبهة التحريمية أم لا؟

ولا ينبغي الإشكال في انه بناء على المدرك الّذي استند إليه الميرزا ( قده ) في عدم منجزية العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة من عدم القدرة على المخالفة القطعية من الواضح ان هذا المأخذ لا يرد في الشبهة الوجوبية غير المحصورة لأنه يمكن فيها عادة المخالفة القطعية بترك كل الأطراف الميسور للمكلف ، نعم كثرة الأطراف هنا قد تستلزم عدم القدرة على الموافقة القطعية فيكون من موارد الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف لا بعينه كما انه إذا كان المدرك الإجماع أو أدلة نفي الحرج صادر من موارد الترخيص في ترك بعض الأطراف لا بعينه.

__________________

(١) ولكن بعد ارتكاب بعض الأطراف استنادا إلى حجية الاطمئنان قد يزول العلم الإجمالي في باقي الأطراف فيجوز ارتكابها لكونها شبهة بدوية ولا يقال بموارد خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أو تلفه التي يبقي فيها العلم الإجمالي منجزا بلحاظ الباقي لأن العلم الإجمالي في المقيس عليه باق على حاله ولو بلحاظ الفرد الطويل في الطرف الباقي والفرد القصير في الطرف الخارج عن محل الابتلاء قبل خروجه وهذا علم إجمالي منجز وموجود من أول الأمر بخلاف المقام فان هذا العلم الإجمالي أحد طرفيه وهو ما ارتكبه لم يكن منجزا عليه من أول الأمر لوجود الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم الإجمالي على الفرد التقصير بحسب الفرض.

٢٣٥

واما على المدرك الّذي استندنا نحن إليه من عدم ارتكاز المناقضة أو الاطمئنان بعدم الانطباق فيجوز ترك كل الأطراف إذ لا فرق في ذلك بين كون الشبهة وجوبية أو تحريمية (١).

الثالث ـ ان المعلوم بالإجمال إذا كان كثيرا في كثير أي علم بتكاليف كثيرة ضمن شبهات وأطراف غير محصورة بنحو كانت نسبة المعلوم بالإجمال إلى الأطراف نسبة التكليف الواحد المعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة ، كما إذا علم بنجاسة خمسين إناء من مائة إناء ، فهل يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز في ذلك أيضا أم لا؟

الصحيح ان يقال : بان المنهجين اللذين أثبتنا بهما عدم المنجزية لا يجريان هنا إذ ارتكاز المناقضة مربوط بنسبة الأغراض الإلزامية المعلومة إلى الشبهات فمع تكثرها يرى العرف والعقلاء المناقضة لا محالة ، كما انه لا اطمئنان بعدم التكليف في كل طرف بل قيمة احتمال التكليف في كل طرف هو النصف في المثال المذكور كما هو واضح.

واما بناء على ان المدرك عدم القدرة على المخالفة فإذا فرض في المثال القدرة على المخالفة القطعية ولو بلحاظ بعض تلك التكاليف الكثيرة المعلومة بالإجمال ـ كما إذا أمكنه ارتكاب واحد وخمسين في المثال ـ وجب الاحتياط والا فلا ، كما ان الإجماع لا يعلم ثبوته في المقام إن لم يعلم العدم ، ومسألة العسر والحرج في الاحتياط التام لو فرض وجوده فهو لا يجوز أكثر من الاقتحام بمقدار ينتفي به الحرج لا أكثر.

الرابع ـ إذا شك في ان كثرة الأطراف هل بلغت حدا تجعل الشبهة غير محصورة أم لا ، فبناء على ان المدرك لجواز الاقتحام حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف لا يجوز الاقتحام ، لأنه لا اطمئنان مع هذا الشك بحسب الفرض ، وان كان المدرك عدم ارتكاز المناقضة فان كان الشك في ان العرف هل يرى المناقضة بهذا المقدار من الكثرة أم لا كان من إجمال المقيد المتصل لدليل الأصل المؤمن وتردده بين

__________________

(١) ولكن يبقى فرق بين المنهجين ، فانه بناء على منهج عدم المناقضة وجريان أدلة الأصول الترخيصية يجوز ترك الأطراف جميعا أي المخالفة القطعية ، بينما على منهج الاطمئنان لا يجوز ذلك لأن حجية الاطمئنانات في كل طرف بدلية لا شمولية ، فكل طرف بعينه وان كان يطمئن بعدم وجوبه بالخصوص فيجوز تركه من هذه الناحية ولكن ترك الجميع فيه قطع بترك الواجب فيكون معاقبا عليه بهذا الاعتبار فيجب الاحتياط إلى حد يطمئن معه بان الباقي ليس بواجب وبهذا تختلف عن الشبهة التحريمية غير المحصورة فتأمل.

٢٣٦

الأقل والأكثر فلا يجوز التمسك به فيجب الاحتياط ، وان كان العرف شاكا في ذلك كان معناه عدم ارتكاز المناقضة عندهم في هذه المرتبة من الكثرة فالإطلاق منعقد لأن المانع عنه ارتكاز المناقضة والقطع بها عند العرف فمع افتراض شكهم لا ارتكاز جزما (١).

وان كان المدرك ما إفادة الميرزا ( قده ) من عدم القدرة على المخالفة القطعية فقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) انه على هذا المبنى يدخل المقام في موارد الشك في القدرة ويجب فيه الاحتياط.

وفيه : انه خلط بين الشك في القدرة على امتثال التكليف واقعا والشك في القدرة على المخالفة والعصيان القطعي المانع عن جريان الأصول الترخيصية ، وما هو موضوع لحكم العقل بالاحتياط انما هو الأول وهو غير موجود في المقام وانما المشكوك القدرة على المخالفة القطعية (٢).

والتحقيق ان يقال : بان الشك في ذلك يستلزم الشك في المعارضة بين الأصول الترخيصية في الأطراف من جهة أدائها إلى الترخيص في المخالفة القطعية وعدمه ، ومع الشك في المعارضة قد يقال بان إطلاق دليل الأصل الترخيصي في كل طرف حجة ما لم يقطع بالمعارضة سواء افترضنا محذور قبح الترخيص في المخالفة بمثابة المقيد المتصل بالخطاب الموجب للإجمال أم المنفصل لأن احتمال المعارض ليس كاحتمال المقيد مانعا عن انعقاد الإطلاق إذ الإطلاق يتوقف على عدم وجود ما يصلح للقرينية والبيانية لا الأعم منه ومن المعارض.

ولكن الصحيح : ان المقام من موارد الشبهة المصداقية للمقيد لأن دليل الأصل الترخيصي مقيد لبا ـ بالمتصل أو المنفصل ـ بعدم استلزم المخالفة القطعية لقبحها عقلا أو عقلائيا وهذا هو المراد بالمعارضة بين الأصول في الأطراف لا التكاذب والتعارض ليقال بان الدليل حجة حتى يعلم بمعارضة والشك في المقام في تحقق مصداق المقيد

__________________

(١) يمكن افتراض شك العرف في الارتكاز إذا كان من الأمور التشكيكية على ما سوف يأتي في بحث الشك في الخروج عن محل الابتلاء فيكون احتماله موجبا للإجمال لا محالة لأنه مقيد متصل كما أنه لا بد من فرض إمكان الشبهة الموضوعية لهذا المقيد الارتكازي المتصل ، نعم لو فرض أخذ القطع بالمناقضة في موضوع الارتكاز صغرى وكبرى تم ما ذكر ولا يبعد ذلك على ما سوف يأتي في بحث الخروج عن محل الابتلاء.

(٢) مضافا إلى أن جريان البراءة في كل طرف ليس من أجل التأمين عن التكليف فيه من ناحية احتمال عدم القدرة ليقال بعدم جريان الأصل فيه بل من ناحية الشك في أصل التكليف فيه.

٢٣٧

بحسب الحقيقة فلا يجوز التمسك بعموم الدليل فيه الا بناء على جوازه في المخصص اللبي مطلقا أو إذا كان منفصلا.

نعم يمكن للمحقق النائيني ( قده ) ان يقول بان المقيد اللبي لا يخرج من دليل الأصل الا فرض القطع بلزوم المخالفة القطعية ، وذلك بأحد تقريبين :

الأول ـ ما قد يستفاد من ظاهر قوله بان المخالفة القطعية غير مقدورة فهي غير قبيحة انه مع الشك في القدرة ليست المخالفة القطعية حتى إذا صدرت واقعا قبيحة لأن الحسن والقبح العقليين مختصان بفرض الوصول والعلم فمع الشك لا قبح جزما.

الثاني ـ ان المحذور انما هو لزوم الترخيص في المخالفة القطعية ، وهذا المحذور لا يتحقق مع الشك في القدرة على المخالفة لأن المكلف لا يرتكبها دفعة بل بارتكاب الأطراف تدريجا وهو بذلك سوف يقطع اما بعدم قدرته على المخالفة فلا محذور أو بقدرته عليها فتسقط الأصول حينذاك في تمام الأطراف ، والحاصل لا يلزم من جريان الأصول الترخيصية في الأطراف مقيدا بفرض الشك وعدم العلم بإمكان المخالفة القطعية الترخيص في المخالفة القطعية إذ لا تتحقق المخالفة القطعية الا بعد زوال الشك في إمكانها ولا يعارض إجراء الأصل في كل طرف بقيد الشك في المخالفة مع الأصل في الطرف الآخر عند عدم الشك والقطع بإمكانها لأن الأصول في فرض القطع بإمكان المخالفة في نفسها متعارضة وساقطة (١).

__________________

(١) لا يقال ـ ان الأصل في كل طرف في فرض القطع بإمكان المخالفة معارض مع الأصل في الطرف الآخر في فرض القطع والشك معا فحال هذا حال دليل يعارض دليلين فيسقط الجميع.

فانه يقال : ان في كل طرف يوجد أصلان أي إطلاقان لدليل الأصل بحسب الحقيقة إطلاقه له بلحاظ حال القطع بإمكان المخالفة وإطلاقه له بلحاظ حال الشك ، والأصول في الأطراف بقيد الشك يمكن اجتماعها معا من دون محذور بخلاف الأصول فيها بقيد القطع بإمكان المخالفة وهذا يعني ان الأصل في كل طرف في فرض القطع وإن كان يعارض أصلين في الطرف الآخر أحدهما الأصل في فرض القطع والآخر الأصل في فرض الشك الا انه لا يمكن ترجيحه عليهما لمحذور يخص مجموعة الأصول في الأطراف في فرض القطع بإمكان المخالفة إذ ترجيح أي منها على معارضيه في الطرف الآخر ليس بأولى من ترجيحه في الطرف الآخر على معارضيه في هذا الطرف حيث لا يمكن الحفاظ عليهما في الطرفين بخلاف الأصل في فرض الشك فانه يمكن الحفاظ عليه في الطرفين ، وهذا يعني وجود محذور يخص الأصول في فرض القطع فلا يمكن ان تعارض مع الأصل في فرض الشك ثم انه يمكن المناقشة في هذا الوجه بأن حصول العلم بإمكان المخالفة القطعية انما يكون بعد ارتكاب بعض أطراف الشبهة وارتفاع موضوع التكليف المعلوم بالإجماع على تقدير ثبوتها ، فيها ، فأن أريد بسقوط الأصول المؤمنة في الباقي على تقدير حصول العلم بإمكان المخالفة القطعية سقوطها بالعلم الإجمالي بثبوت التكليف في الباقي فلا علم كذلك وان أريد سقوطها بالعلم الإجمالي الأول. فالمفروض خروج بعض أطرافه ولا يقاس المقام بموارد خروج بعض الأطراف بعد حصول العلم والتي يبقى فيها تنجيز

٢٣٨

٤ ـ انحلال العلم الإجمالي بالعلم الوجداني :

إذا فرض العلم التفصيليّ بالتكليف في بعض أطراف العلم الإجمالي ، أو فرض حصول علم إجمالي بمقدار المعلوم بالإجمال في دائرة أصغر من الأطراف فهل ينحل العلم الإجمالي حقيقة أو حكما على الأقل أو لا؟

والبحث أولا ـ في انحلاله الحقيقي بمعنى زواله وجدانا ، وثانيا في انحلاله الحكمي بمعنى جريان الأصل المؤمن في أطرافه الأخرى ، فالبحث في مقامين :

المقام الأول ـ في كبرى الانحلال الحقيقي ، ولا إشكال في ان العلم إجمالي متقوم بركنين أساسيين ـ على ما تقدم شرحهما ـ وهما العلم بوجود الجامع وعدم سرايته إلى الفرد أي بقائه عي الجامع بحده الجامعي ، وعلى هذا الأساس لا بد وان يقال بان هناك صورتين خارجتين عن هذا البحث بلا كلام :

إحداهما ـ ما إذا كان العلم بالفرد معينا لنفس المعلوم الإجمالي أي علم بانطباق المعلوم بالإجمال على بعض الأطراف ، كما إذا علم بوجود قطرة دم في أحد الإناءين ثم علمنا بها في أحدهما المعين حينئذ لا إشكال عند أحد في الانحلال وزوال العلم الإجمالي لتشخص متعلقه.

الثانية ـ ان لا يكون العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي ويكون للمعلوم الإجمالي علامة وخصوصية مأخوذة فيه غير محرزة التواجد في الفرد ، كما إذا علم بسقوط قطرة دم في أحد الإناءين ثم علم بسقوط قطرة من الدم في أحدهما المعين على كل حال ـ سواء علم بأنها قطرة أخرى أو احتمل ذلك ـ فانه في هذه الصورة لا إشكال في عدم انحلال العلم الإجمالي لأن معلومه المتميز لا يزال غير معلوم الانطباق على أحد الطرفين بخصوصه بل نسبته إليهما على حد واحد فيستحيل ان يكون منحلا.

لا يقال ـ ان العلم الإجمالي بسبب التكليف ـ النجاسة ـ وان لم يكن منحلا لا خذ خصوصية فيه لا يحرز انطباقها على الفرد ، الا انه بلحاظ ما هو التكليف وموضوع

__________________

العلم الإجمالي للفرد الباقي في تمام عمود الزمام ، لأن العلم الإجمالي في المقام لم يكن منجزا من أول الأمر لعدم بإمكان المخالفة القطعية من أول الأمر بحسب الفرض.

٢٣٩

التنجيز وهو العلم بالنجاسة يكون العلم الإجمالي منحلا ، إذ لا يعلم بوجود تكليفين بل تكليف واحد وهو منطبق في الفرد جزما فالتردد والإجمال في خصوصية لا دخل لها في التنجيز.

فانه يقال ـ ان عدم الانحلال بلحاظ السبب يستوجب عدم الانحلال بلحاظ التكليف أيضا ، لأنه يحصل في التكليف المعلوم بالإجمال خصوصية وعلامة ولو عنوان نشوئها عن ذلك السبب الخاصّ وهذا حد وخصوصية في المعلوم الإجمالي ، وتكون نسبتها إلى الطرفين على حد واحد فيستحيل الانحلال بلحاظ ما هو موضوع الأثر والتنجيز أيضا.

وان شئت قلت : ان تلك الحصة المتولدة من ذلك السبب ـ بنحو الحصة التوأم المعقولة في باب الوجودات التصديقية وان لم تكن معقولة في باب المفاهيم ـ معلومة إجمالا ونسبتها إلى الطرفين على حد واحد وهي موضوع للأثر والتنجيز.

فالبحث والكلام في صورة ثالثة وهي ما إذا لم يكن العلم بالفرد ناظرا إلى تعيين المعلوم الإجمالي ولم يكن للمعلوم الإجمالي علامة فارقة وخصوصية مأخوذة فيه غير محرزة الانطباق على الفرد ، كما إذا علم بموت زيد أو عمرو بلا خصوصية ثم علم بموت زيد بالخصوص ، أو علم بنجاسة أحد الإناءين ثم علم بنجاسة الإناء الأحمر تفصيلا ، وهذا انما يعقل عادة فيما إذا كان سبب العلم الإجمالي ـ سواء كان برهانا عقليا أو دليلا استقرائيا ـ نسبته إلى الطرفين على حد واحد ، ومثاله ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين اللذين يملكهما الكافر لاستبعاد انه لا يساور شيئا منهما زمنا طويلا ثم علم بمساورته لأحدهما بالخصوص ونجاسته فهل ينحل هذا العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ حقيقة أم لا؟ ذهبت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) إلى الانحلال ، وأنكر ذلك المحقق العراقي ( قده ).

وحاصل ما يقال في تقريب الانحلال أحد وجوه :

الوجه الأول ـ قياس المقام بباب الأقل والأكثر الاستقلاليين وجعله من موارده كما إذا علم بوجوب قضاء صوم يوم واحد من رمضان وشك في وجوب قضاء يوم آخر منه ، ولا ريب في انحلال العلم وزواله فيه إذ يدور الأمر بين نجاسة إناء واحد ـ وهو المعلوم تفصيلا ـ أو نجاسة إناءين ولا إشكال في ان الإناء الواحد المعين معلوم النجاسة

٢٤٠