بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

انها في الواقع صحيحة وثابتة عقلا فخالف المكلف تكليفا مشكوكا لم يتم عليه بيان فهو يحتمل العقاب ولكن لا تنجز عليه في الواقع بحسب الفرض (١).

وثانيا ـ ان ما ذكره من ان احتمال عدم العقاب عند الشك يمكن ان يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع وذلك فيما إذا لم يكن تكليف واقعا غير صحيح بناء على ما هو الصحيح والمسلم بيننا وبينه من ان التكليف بوجوده الواقعي ليس موضوعا للعقاب ولذا لم يكن فرق بين العاصي والمتجري في العقاب.

وثالثا ـ لو سلمنا ان احتمال العقاب هو منشأ التنجز فان فرض ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان حاكمة على احتمال العقاب ـ كما هو مسلكه ومسلك المشهور ـ فلا بد من البحث في مورد العلم الإجمالي عن مقدار بيانية هذا العلم ومنجزيته للتكليف بحيث نخرج به عن البيان إلى البيان وحدوده هذه المنجزية والبيانية فلا معنى لجعل ذلك مفروغا عنه ، وان فرض مسلك حق الطاعة ومنجزية الاحتمال فعدم الحاجة حينئذ إلى البحث عن منجزية العلم الإجمالي بعد ان كان احتمال التكليف منجزا فضلا عن العلم وان كان صحيحا الا انه لا حاجة على هذا المسلك إلى إقحام مسألة احتمال العقاب في منهج البحث.

وقد تلخص من كل ما تقدم ان العلم الإجمالي يستدعي حرمة المخالفة القطعية وانه كلما تعارضت الأصول الشرعية المؤمنة في أطرافه وتساقطت حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية لتنجز الاحتمال في كل شبهة بعد بقائها بلا مؤمن شرعي وفقا لمسلك حق الطاعة وحيث ان تعارض الأصول يستند إلى العلم الإجمالي فيعتبر تنجزك جميع الأطراف من آثار نفس العلم الإجمالي.

ولا فرق في منجزية العلم الإجمالي بين ان يكون المعلوم تكليفا من نوع واحد أو نوعين كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة آخر لأن كلا من الوجوب والحرمة تدخل في عهدة المكلف وتجب طاعة المولى فيه باعتباره تكليفا مولويا ولا دخل لخصوصية متعلقه وانه الفعل أو الترك في ذلك.

__________________

(١) هذا مبني على ان لا يكون العلم بكبرى التأمين مأخوذا في موضوع التأمين ، وقد تقدم البحث عن ذلك مفصلا في بحوث القطع فراجع.

٢٠١

أركان منجزية العلم الإجمالي :

ونستخلص مما تقدم ان قاعدة منجزية العلم الإجمالي لها عدة أركان لا بد من توفرها جميعا لكي تجب موافقته القطعية وهي على ما يلي :

الركن الأول : العلم بجامع التكليف ، إذ لو لا العلم بالجامع لكانت الشبهة في كل طرف بدوية وتجري فيها البراءة.

ولا شك في وفاء العلم الإجمالي بالجامع بالتنجيز إذا كان علما وجدانيا واما إذا كان ما يعبر عنه بالعلم التعبدي أو العلم الإجمالي بالحكم الظاهري كما إذا قامت البينة مثلا على نجاسة أحد الإناءين فهل يطبق عليه قاعدة منجزية العلم الإجمالي أيضا؟ الصحيح ذلك على تفصيل وتوضيح سيأتي.

الركن الثاني : وقوف العلم على الجامع بحده وعدم سرايته إلى الفرد ، إذ لو كان الجامع معلوما في ضمن فرد معين لكان علما تفصيليا لا إجماليا ولما كان منجزا الا بالنسبة إلى ذلك الفرد بالخصوص ، وسريان العلم بالجامع إلى الفرد يسمى بانحلال العلم الإجمالي ، وسيأتي الحديث عن ضابط الانحلال واقسامه.

الركن الثالث : ان يكون كل طرف من أطراف العلم مشمولا في نفسه وبقطع النّظر عن التعارض الناشئ من العلم الإجمالي لدليل الأصل الترخيصي لأن منجزية العلم الإجمالي على ما تقدم انما تكون في طول تساقط الأصول في أطرافه فلو كان أحد الأطراف غير مشمول لدليل الأصل المؤمن لسبب أو آخر جرى الأصل في الطرف الآخر بدون محذور.

نعم هذه الصياغة لا تلائم مسلك العلية إذ بناء عليه يكون العلم الإجمالي بذاته منجزا لوجوب الموافقة فمجرد كون الأصل في أحد الطرفين لا معارض له لا يكفي لجريانه بل لا بد من افتراض نكتة في المرتبة السابقة تعطل العلم الإجمالي عن التنجيز ليتاح للأصل المؤمن ان يجري.

ومن هنا صاغ صاحب هذا المسلك وهو المحقق العراقي ( قده ) الركن الثالث صياغة أخرى حاصلها : ان تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على صلاحيته لتنجيز معلومه على جميع تقاديره فإذا لم يكن صالحا لذلك في أحد الطرفين فلا يكون منجزا لأنه

٢٠٢

لا يصلح للتنجيز حينئذ الا على بعض تقادير معلومه وهذا التقدير غير معلوم فيكون كالشبهة البدوية وفيما إذا كان في أحد الأطراف أمارة أو أصل إلزاميّ يكون التكليف منجزا في ذلك الطرف بالأصل ومعه لا يمكن ان ينجز بالعلم الإجمالي أيضا لأن المنجز لا يتنجز لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على أثر واحد وهذا يعني ان العلم الإجمالي غير صالح لتنجيز معلومه على كل حال فلا يكون منجزا للطرف الآخر أيضا ، وهكذا حاول المحقق العراقي ( قده ) ان يصل إلى نفس النتيجة في موارد جريان الأمارة أو الأصل المنجز في أحد الطرفين وسوف تأتي المناقشة في ذلك.

الركن الرابع : ان يكون جريان البراءة في أطراف العلم مؤديا إلى الترخيص في المخالفة القطعية وإمكان وقوعها خارجا على وجه مأذون فيه ، إذ لو كانت المخالفة القطعية ممتنعة على المكلف حتى مع الاذن والترخيص لقصور في قدرته فلا محذور في إجراء البراءة. وهذا الركن انما نحتاجه بناء على مسلك الاقتضاء لا العلية كما هو واضح. كما ان هناك صياغة أخرى لهذا الركن وهي ان لا يلزم من جريان البراءة في كل الأطراف الترخيص القطعي في المخالفة وان كانت المخالفة القطعية ممتنعة ، وسوف يأتي تحقيق الحال في الصحيح من الصياغتين في بحث الشبهة غير المحصورة.

٢٠٣
٢٠٤

تطبيقات وتنبيهات

١ ـ الثمرة العملية بين مسلك العلية والاقتضاء :

ذكر المحققون ان الفرق بين مسلك علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ومسلك الاقتضاء يظهر فيما إذا لم يكن في أحد طرفي العلم الإجمالي أصل ترخيصي ولا إلزاميّ وكان في الطرف الآخر أصل ترخيصي فانه بناء على الاقتضاء يجري الأصل الترخيصي في ذلك الطرف بلا معارض فلا تجب الموافقة القطعية من ناحيته ، واما بناء على علية العلم الإجمالي ومنعه عن جريان الترخيص في أطرافه لا يجري الترخيص بل تجب الموافقة القطعية بالاجتناب عن الطرفين معا.

وقد اعترض عليه المحقق النائيني ( قده ) بان هذا مجرد فرض وفرق نظري لا يتفق وقوعه خارجا ، إذ لا ينفرد أحد الطرفين بالأصل الترخيصي الا وكان في الطرف الآخر أصل إلزاميّ شرعي أو عقلي وهو يوجب انحلال العلم الإجمالي وبطلانه عن التنجيز بناء على مبنى العلية.

وان شئت قلت :

ان الطرف الآخر اما ان يكون الشك فيه في أصل التكليف أو في الامتثال ، فان كان شكا في التكليف فهو مجرى للبراءة فلا يجري الترخيص في الطرف الآخر حتى

٢٠٥

على الاقتضاء وان كان شكا في الامتثال فهو مجرى لأصالة الاشتغال العقلية أو استصحابه وهو يبطل تنجيز العلم الإجمالي حتى على مسلك العلية.

وناقش في ذلك المحقق العراقي ( قده ) بافتراض مصداقية هذا الفرق فيما إذا كان في كل من الطرفين أصل ترخيصي في عرض واحد وامتاز أحد الطرفين على الآخر بوجود أصل ترخيصي طولي فيه فانه يتعارض الأصلان الترخيصيان العرضيان وبعد التساقط تنتهي النوبة إلى الأصل الترخيصي الطولي في ذلك الطرف بلا معارض فيجري بناء على مسلك الاقتضاء دون مسلك العلية ، وقد حاول ان يجعل ذلك نقضا على مسلك الاقتضاء (١).

ولتحقيق حال موارد الفرق بين المسلكين لا بد من الحديث في الفروض المتصورة لاختصاص الأصل الترخيصي ببعض أطراف العلم الإجمالي فنقول :

هناك صور ثلاث رئيسية لذلك :

الصورة الأولى ـ ان يكون أحد طرفي العلم الإجمالي في نفسه وبقطع النّظر عن مسألة الترجيح بلا مرجح مما لا يجري فيه الترخيص كما إذا علم إجمالا بوجوب الصلاة عند رؤية الهلال أو وجوب صلاة الفريضة التي دخل وقتها والّذي هو مجرى قاعدة الاشتغال.

وفي هذه الصورة ذكرت مدرسة المحقق النائيني بأنه لا تظهر الثمرة المفترضة لمسلك العلية لأن قاعدة الاشتغال أو استصحابه تلغي منجزية العلم الإجمالي وتوجب انحلاله فيجري الأصل الترخيصي في الطرف الآخر على كلا المسلكين.

وهذا الاعتراض متجه على ضوء مباني القوم في الانحلال الحكمي من ان الموجب للانحلال هو الأصل الإلزامي الجاري في بعض الأطراف واما بناء على ما هو الصحيح والّذي سوف يأتي الحديث عنه من ان الموجب للانحلال الحكمي ومنع العلم الإجمالي عن التنجيز انما هو الأصل النافي في أحد الطرفين فلا يتم الا ان القائلين بمسلك العلية على كل حال يقبلون ذلك على أساس ان المتنجز لا يتنجز بالعلم الإجمالي فهذا الاعتراض مبنائي (٢).

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٢٠.

(٢) ثم انه قد يتصور في المقام ان بعض الأصول الترخيصية كالبراءة والحل لا تجريان في المقام رغم عدم المعارض لأن دليل.

٢٠٦

الصورة الثانية ـ ان يكون الأصل الترخيصي في أحد الطرفين محكوما لأصل إلزاميّ كما إذا كانت أصالة الحل في أحد الطرفين محكومة لاستصحاب مثبت للحرمة.

وفي هذه الصورة أيضا يبني أصحاب المسلكين معا على جريان الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بلا محذور. الا ان هنا شبهة لا بد من حلها وحاصلها : ان دليل الأصل الترخيصي ـ كأصالة الحل ـ بناء على كون المحذور في شموله لتمام أطراف العلم الإجمالي إثباتيا ارتكازيا أو ثبوتيا ولكنه بمثابة القرينة اللبية المتصلة سوف يبتلي بالإجمال الداخليّ الهادم لأصل الإطلاق والظهور ، وبعد جريان الأصل الإلزامي في أحد الطرفين لا يمكن ان يرفع الإجمال عن دليل الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لانهدام مقتضية وهو الظهور.

وهذه الشبهة لا تجري في أربعة فروض :

الأول ـ بناء على ان يكون محذور الترخيص في المخالفة القطعية ثبوتيا عقليا ولكنه ليس بديهيا بحيث يشكل قرينة متصلة بالخطاب كما هو واضح.

الثاني ـ ان يكون الأصل الحاكم مدلولا لنفس دليل الأصل الترخيصي ، كما إذا كان الجاري في الطرف الآخر استصحاب الحل مثلا لأن جريان الاستصحاب المثبت للتكليف في الطرف الأول يمنع ابتداء وذاتا عن جريان الاستصحاب النافي في ذاك الطرف فلا يكون لدليل الأصل الترخيصي هذا مانع من شمول الطرف الآخر لا ثبوتا ولا إثباتا بحسب الفرض.

__________________

البراءة من حديث الرفع والحجب تقدم انه مخصوص بموارد احتمال وجود غرض إلزاميّ لا القطع به كما في موارد العلم الإجمالي ، ودليل أصالة الحل وان كان بقرينة الذيل شاملا لموارد العلم الإجمالي ولكنه ناظر بقرينة الصدر بما إذا كان الشك في جزء مركب يشتمل على الحرام والحلال فبعد تخصيصها بالشبهات غير المحصورة لا يمكن التعدي منها الا إلى الشبهة البدوية لا المقرونة بالعلم الإجمالي ولو كان طرفا واحدا ، على ان هذا الدليل لا يفيد في الشبهات الوجوبية.

وفيه : أولا ـ عمومية أدلة البراءة لموارد العلم الإجمالي إذا لم يلزم منه المخالفة القطعية لأن المنساق منها وان كان هو تقديم الغرض الإلزامي المحتمل لا المعلوم على الترخيصي الا ان جريانه في بعض أطراف العلم الإجمالي تعيينا لا يلزم منه ذلك لأن انطباق الغرض الإلزامي المعلوم بالإجمال فيه محتمل لا معلوم فيكون ملاكه نفس ملاك التقديم في الشبهات البدوية.

وثانيا ـ عموم دليل أصالة الحل لمنع ما مضى من دعوى الإجمال فان الظاهر منه الظاهر منه النّظر إلى الشيء المشكوك بما هو مشكوك لا بما هو جزء من كل فان هذه عناية زائدة والتعبير بان فيه حلال وحرام أيضا يناسب مع إرادة الجنس أو الكلي والافراد فالإشكال في عمومه في غير محله.

٢٠٧

الثالث ـ ان يكون الأصل الترخيصي في الطرف الآخر من غير سنخ الأصل الترخيصي المحكوم أي ثابتا بدليل غير دليله ، كما إذا كان الأصل الترخيصي المحكوم أصالة الحل والأصل الترخيصي في الطرف الآخر استصحابه ، فانه في هذه الفرضية يكون التعارض بين دليلي الترخيصين خارجيا لا داخليا أي لا يلزم إجمالها ذاتا بل حجية فحسب ، والمفروض عدم حجية إطلاق دليل الأصل الترخيصي المحكوم.

الرابع ـ ان يكون الأصل الحاكم رافعا لموضوع الأصل الترخيصي المحكوم حقيقة أي واردا عليه حقيقة أو بالحكومة الميرزائية ـ بناء على تعقلها ـ التي لا ترجع بحسب الروح إلى التخصيص والقرينية بل إلى رفع الموضوع ، فانه حينئذ أيضا لا يكون هناك محذور في الأخذ بدليل الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بعد سقوط الأصل الترخيصي في الطرف الأول ذاتا وحقيقة.

والجواب الفني على الشبهة في غير هذه الفروض الأربعة ما تقدمت الإشارة إليه من ان إطلاق دليل الترخيص شامل لكل طرف من أطراف العلم الإجمالي إذا لم يكن فيه محذور الترخيص في المخالفة القطعية لأن المقيد له انما يثبت التقييد بمقدار ما لم يعلم تفصيلا حرمته ولا طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر ، وبالأصل الإلزامي الحاكم تتحقق صغرى هذا القيد.

الصورة الثالثة ـ ان يكون في أحد الطرفين أصلان ترخيصيان طوليان لا أصل واحد وفي الطرف الآخر أصل ترخيصي واحد. كما إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد إناءين لأحدهما حالة سابقة من الطهارة فيكون استصحاب الطهارة في ذلك الطرف معارضا مع أصالة الطهارة في الطرف الآخر وبعد التعارض والتساقط يقال بالرجوع إلى أصالة الطهارة في مورد الاستصحاب لكونها أصلا طوليا لم يدخل المعارضة مع الأصل الترخيصي في الطرف الآخر ، لأن فرض جريانه هو فرض سقوط الأصل الترخيصي الحاكم عليه بالمعارضة وفرض سقوط الأصل الحاكم عليه هو فرض سقوط معارضه في الطرف الآخر فيستحيل ان يكون الأصل الترخيصي في الطرف الآخر معارضا معه ، وهذه هي الصورة التي جعلها المحقق العراقي فارقا عمليا بين المسلكين واعتبره نقضا على مسلك الاقتضاء ، حيث استبعد القول بعدم وجوب الموافقة القطعية في ذلك مع ان مقتضى صناعة مسلك الاقتضاء وان منجزية العلم الإجمالي في طول

٢٠٨

تعارض الأصول وتساقطها في الأطراف عدم المنجزية في المقام بخلافه على مسلك العلية.

وقد اختلفت كلمات المحققين في مقام الجواب على هذا النقض بين من خالف مطلقا ومنع عن جريان الأصل الطولي وسلامته عن المعارضة وبين من فصل بين بعض الموارد دون بعض ، وفيما يلي نورد أهم وجوه المخالفة :

الوجه الأول ـ ما عن المحقق النائيني ( قده ) من ان التعارض انما يكون بين المجعولين والمؤديين ، والمجعول في كل من الطرفين شيء واحد وان اختلفت الطرق والأدلة عليه فلا يبقى ترخيص في أي واحد من الطرفين.

واعترض على هذا الكلام المحقق العراقي ( قده ) باعتراضين :

الأول ـ ان المجعول في استصحاب الطهارة وقاعدتها ليس واحدا بل متعدد واحدهما في طول الآخر ولا محذور فيه.

وفيه : ان أريد بالمجعول المنشأ فالصحيح تعدده بتعدد الجعل ، واما إذا أراد المحقق النائيني ( قده ) من وحدة المجعول روح الحكم ومبادئه فهذا الإشكال غير وارد عليه لأن الحكم الظاهري روحا ولبا واحد في المقام وان تعددت مناشئه وملاكاته.

الثاني ـ ان التنافي وان كان بين المجعولين المدلولين للدليلين الا ان ذلك بلحاظ كونهما مدلولين وبما هما مدلولان وهذه حيثية تقييدية فإذا كان في أحد الطرفين حيثيتان للدلالة وسقطت إحداهما في الرتبة السابقة قبل تحقق موضوع الدلالة الثانية وصلت النوبة إلى الدلالة الثانية بلا محذور. وهذا الجواب صحيح لا غبار عليه.

الوجه الثاني ـ ما عن المحقق النائيني ( قده ) أيضا من انه يلزم من جريان الأصل الترخيصي الطولي المحال لأنه يلزم من وجوده عدمه وكلما يلزم من وجوده عدمه محال.

والوجه في ذلك ان جريان هذا الأصل الطولي يكون في طول سقوط الأصل الترخيصي الحاكم عليه ، وسقوط ذلك الأصل في طول منجزية العلم الإجمالي واقتضاؤه لتساقط الأصول في أطرافه فإذا جرى هذا الأصل الطولي أوجب انحلال العلم الإجمالي وارتفاع منجزيته التي كانت هي السبب في سقوط ذلك الأصل الحاكم ، وهذا يعني انه يلزم من جريان الأصل الطولي عدم جريانه وارتفاع موضوعه وهو محال.

٢٠٩

وفيه : ان الأصل الطولي انما يرفع منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وما كان موجبا لسقوط الأصل الحاكم عليه هو منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية واحدهما غير الآخر ، وبعبارة أخرى سقوط الأصل الحاكم لم يكن وليدا لوجوب الموافقة القطعية الّذي يرفعه الأصل الطولي المحكوم بل كان وليد حرمة المخالفة القطعية مع استحالة الترجيح بلا مرجح ، وجريان الأصل الطولي لا يرفع شيئا منهما إذ لا يلزم منه لا الترخيص في المخالفة القطعية ولا الترجيح بلا مرجح كما هو واضح.

الوجه الثالث ـ ما ذكره السيد الأستاذ من ان المعارضة تكون بين الأصلين الطوليين في طرف مع الأصل الواحد في الطرف الآخر فالتعارض يقع ابتداء بين الأصول الثلاثة لا بين الأصلين العرضيين أولا لكي تصل النوبة إلى الأصل الترخيصي الطولي بلا معارض لأن الحجية ليست من أحكام الرتب لكي يشترط وحدة الرتبة بل من أحكام الزمان فيسقط الجميع معا. وبعبارة أخرى كما يلزم من الجمع بين الأصلين الترخيصيين العرضيين ـ كاستصحاب الطهارة في محتمل النجاسة العرضية وأصالة الطهارة في محتمل النجاسة العينية مع العلم الإجمالي بأحدهما الترخيص في المخالفة القطعية ولا مرجح لا حدهما على الآخر كذلك يلزم ذلك من ملاحظة الأصل الترخيصي الطولي في أحد الطرفين ـ وهو أصالة الطهارة في محتمل النجاسة العرضية ـ مع الأصل الترخيصي في الطرف الآخر ـ وهو أصالة الطهارة في محتمل النجاسة العينية ـ ولا مرجح لأحدهما سواء كان الترخيص بلسان الحكم بالطهارة أو استصحابها لأن محذور الترخيص في المخالفة القطعية نسبته إلى الأصل الطولي والعرضي على حد واحد مهما كان لسان الترخيص فيسقط الجميع في عرض واحد. نعم يستثنى من ذلك صورتان :

الأولى ـ ما إذا كان الأصلان العرضيان من سنخ واحد ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة الثوب أو الماء فان قاعدة الطهارة في كل منهما تسقط بالمعارضة وتصل النوبة بعد ذلك إلى أصالة الحل في الماء لتجويز شربه ، لأن دليل الأصل الترخيصي من سنخ واحد في الطرفين لا يشمل كلا الطرفين لكونه ترخيصا في المخالفة القطعية ، ولأحدهما بالخصوص لكونه ترجيحا بلا مرجح ، فلا يشمل شيئا منهما فلا مانع من شمول دليل الأصل الطولي للطرف المختص.

٢١٠

الثانية ـ إذا كان الأصل الطولي مخالفا في مؤداه للأصل العرضي أي كان إلزاميا فانه حينئذ حتى إذا كان الأصلان العرضيان غير متسانخين فانهما يتعارضان ويتساقطان وتصل النوبة إلى الأصلين الطوليين في الطرفين سواء كانا إلزاميين أو أحدهما إلزاميا والآخر ترخيصيا كما إذا علم إجمالا بزيادة ركوع في الصلاة السابقة أو نقيصة في ركوع الصلاة التي بيده بعد تجاوز المحل فان قاعدة الفراغ في الأولى مع قاعدة التجاوز في الثانية تتساقطان وتصل النوبة إلى استصحاب عدم الزيادة في الصلاة السابقة المثبت لصحتها واستصحاب عدم الإتيان بركوع الصلاة التي بيده المثبت للبطلان.

وهكذا فصل السيد الأستاذ بين الصور الثلاث فحكم بجريان الأصل الطولي الترخيصي في صورتين ومنع عنه فيما عدا ذلك.

ولنا حول هذا التفصيل كلمات ثلاث :

الكلمة الأولى ـ حول الاستثناء الأخير ، فان ما ذكر فيه من تساقط الأصلين العرضيين الأوليين كقاعدتي الفراغ والتجاوز في المثال ثم الرجوع إلى الأصلين الطوليين غير صحيح لا على مسلك العلية ولا الاقتضاء.

اما على مسلك الاقتضاء ، فلان ما ذكره من وقوع التعارض بين الأصل الترخيصي الطولي في أحد الطرفين مع الأصل الترخيصي الطولي العرضي الأولي في الطرف الآخر بنفسه جار هنا أيضا ، ومجرد جريان الأصل الطولي الإلزامي في أحد الطرفين لا يشفع لتخليص الأصل الترخيصي الطولي عن المعارضة ، فكما ان محذور الترخيص في المخالفة واستحالة الترجيح بلا مرجح يسقط الأصلين الترخيصيين العرضيين ـ وهما قاعدتي الفراغ والتجاوز في الطرفين ـ كذلك يسقط استصحاب عدم الزيادة في الصلاة التي فرغ عنها.

واما على مسلك العلية ، فلا بد من القول بجريان قاعدة الفراغ ـ الأصل الترخيصي العرضي ـ في الطرف الأول فضلا عن الأصل الطولي لعدم منجزية العلم الإجمالي بعد فرض جريان الأصل الإلزامي في أحد الطرفين وان كان طوليا ، لأن المحذور عن جريان الأصل في أحد الطرفين بناء على هذا المسلك يكون أحد أمرين اما العلية والمفروض انتفائها بمجرد جريان الأصل الإلزامي في أحد الطرفين ، واما المعارضة

٢١١

والترجيح بلا مرجح وهو أيضا غير تام بناء على مسلك العلية لأن الأصل المتوهم معارضته في الطرف الآخر وهو قاعدة التجاوز في المثال لا يجري في نفسه لا قبل انحلال العلم الإجمالي ، للعلية واستحالة الترخيص ، ولا بعده لأن فرض الانحلال هو فرض تنجز ذلك الطرف بالأصل الإلزامي فيقطع بعدم جريان ذلك الأصل على كل تقدير ومعه تكون قاعدة الفراغ في الصلاة التي فرغ عنها فضلا عن استصحاب عدم الزيادة فيها بلا معارض.

لا يقال ـ نحن نعكس الأمر فنقول بان جريان الأصل الإلزامي في طول منجزية العلم الإجمالي المانعة عن جريان الأصل الترخيصي الحاكم عليه فيستحيل ان يكون علة لانحلال العلم وعدم منجزيته.

فانه يقال ـ حل هذا التوقف من الجانبين انما يكون بما ذكرناه مرارا في أمثال المقام من ان جريان الأصل الإلزامي متوقف على منجزية العلم الإجمالي لولاه أي بنحو القضية الشرطية إذ لا موجب لتقييد دليله بأكثر من ذلك والوجود اللولائي لمنجزية العلم الإجمالي حاصل حتى بعد جريان الأصل إلزاميّ وانحلال العلم لأن الشرطية صادقة ولو لم تصدق أطرافها ، ومع صدقها يجري الأصل الإلزامي الموجب لفعلية الانحلال ـ بناء على مبنى القوم من ان الانحلال بالأصل الإلزامي لا الترخيصي ـ ومعه يجري الأصل الترخيصي العرضي في الطرف الآخر بلا محذور.

وهذه النتيجة الغريبة عكس ما ذكر في الفرق بين المسلكين تنتج الانحلال وعدم وجوب الموافقة القطعية وجريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين في صورة وجود أصل إلزاميّ في الطرف الآخر ولو طوليا بناء على مسلك العلية بخلافه على الاقتضاء فانه يوجب سقوط الأصول الترخيصية الطولية أو العرضية في الطرفين لمحذور الترخيص في المخالفة القطعية واستحالة الترجيح بلا مرجح ، ولا يأتي هنا ما ذكرناه بناء على العلية من ان قاعدة التجاوز لا تجري في نفسها لا قبل الانحلال ولا بعده لأن قاعدة التجاوز بناء على مسلك الاقتضاء تجري في نفسها وانما المحذور في استحالة الترجيح بلا مرجح التي نسبتها إلى الأصول الترخيصية والعرضية على حد واحد. والواقع ان هذه النتيجة الغريبة بحيث صار القول بالاقتضاء أشد من القول بالعلية نجمت من المبنى الّذي تصوره القوم من ان انحلال العلم الإجمالي انما يكون بالأصل الإلزامي لا الترخيصي.

٢١٢

الكلمة الثانية ـ حول الاستثناء الأول وان الأصلين الترخيصيين في الطرفين إذا كانا من سنخ واحد جرى الأصل الترخيصي الطولي في أحد الطرفين بلا معارض ، فان هذا الاستثناء لم يبين بدقة فذلكته الفنية وهي ما أشرنا إليه في بعض ما تقدم من ان الأصلين الترخيصيين إذا كانا من سنخ واحد حصل الإجمال الداخليّ في دليله بخلاف دليل الأصل الترخيصي غير المسانخ في أحد الطرفين فيكون حجة بلا معارض. وهذه النكتة الفنية لا يفرق فيها بين طولية الأصلين الترخيصيين في الطرف الواحد أو عرضيتهما وانما ترتبط فقط بالسنخية وكون الترخيص في الطرفين بدليل واحد غير دليل الأصل الترخيصي الثالث سواء كان في طولهما أم لا.

وعلى هذا الأساس نحكم بجريان استصحاب الطهارة مثلا فيما إذا وقع أحد طرفي العلم الإجمالي طرفا لعلم إجمالي آخر كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين لا يعلم حالتهما السابقة وعلم أيضا بنجاسة أحدهما المعين أو الثوب المستصحب طهارته فانه يجري فيه استصحاب الطهارة بلا محذور بعد إجمال دليل الطهارة في الطرف المشترك رغم ان الأصول الترخيصية الثلاثة كلها في عرض واحد.

بل وكذلك يجري استصحاب الطهارة في أمثال الّذي ذكره لتساقط الأصول الترخيصية معا فيما إذا علم بنجاسة شيء عرضا أو الآخر عينا لأن قاعدة الطهارة في محتمل النجاسة عينا له مسانخ في محتمل النجاسة عرضا فيكون دليلها مبتلى بالإجمال فيجري استصحاب طهارة محتمل النجاسة عرضا بلا معارض رغم انه حاكم عند المشهور على الأصل الترخيصي الطولي الساقط بالإجمال.

وهذا واضح بناء على عدم الطولية بين استصحاب الطهارة وقاعدتها وجريانهما معا لكون تقدم الأصول بعضها على بعض انما يكون على أساس القرينة وهي مخصوصة بالأصول المتخالفة في المؤدى لا المتوافقة. واما بناء على الطولية ـ أي ورود الاستصحاب على قاعدة الطهارة ـ فقد يعترض عليه : بان القاعدة لا تجري في محتمل النجاسة العرضية مع جريان استصحاب الطهارة فيه فلا يكون لقاعدة الطهارة في الطرف الآخر معارض من سنخها في هذا الطرف ليبتلى دليلها بالإجمال بل تتعارض قاعدة الطهارة في أحد الطرفين مع استصحاب الطهارة في الطرف الآخر ويسقط الجميع.

٢١٣

الا ان الصحيح ان قاعدة الطهارة في أحد الطرفين لا تعارض استصحاب الطهارة في الطرف الآخر لأن جريانها في طول جريانه إذ حجية القاعدة لذلك الطرف فرع عدم شمول القاعدة لهذا الطرف وهو فرع عدم جريان الاستصحاب فلا يمكن ان يكون معارضا معه.

وبعبارة أخرى ـ التعارض فرع تمامية مقتضى الحجية وهو الظهور لكل منهما بقطع النّظر عن الآخر ليكون جريان كل منهما دون الآخر ترجيحا بلا مرجح فيتعارضان في الحجية ، وفي المقام يكون مقتضي الاستصحاب تاما بقطع النّظر عن القاعدة في الطرف الآخر بينما مقتضي القاعدة في ذلك الطرف غير تام مع قطع النّظر عن الاستصحاب لعدم الظهور بقطع النّظر عنه من جهة الابتلاء بالإجمال الداخليّ حينئذ (١).

__________________

(١) يمكن ان يقال : ان دليل الأصل ـ كدليل القاعدة ـ مقيد بحسب الفرض بقيدين أحدهما ان لا يكون في مورده الاستصحاب والآخر ان لا يلزم منه الترخيص في المخالفة أو بتعبير آخر ان لا يكون طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر واحد القيدين يعلم بانثلامه في الطرف الّذي فيه الاستصحاب فلا موضوع لدليل القاعدة فيه جزما ، واما الطرف الآخر فموضوع القاعدة ومقتضيها يتم فيه حينئذ إذ لا استصحاب فيه بحسب الفرض وليس طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر لأن نفس اليقين المتقدم منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر فيكون القيد محرزا تماما كما كنا نقول فيما إذا كان في أحد الطرفين أصل إلزاميّ حاكم على القاعدة.

فان كان الإشكال من ناحية انه لا مقتضي لدليل القاعدة في الطرف الآخر فقد عرفت ان مقتضية تام وان كان من ناحية ان القاعدة في الطرف الآخر معارض بمثلها في هذا الطرف لو لا الاستصحاب فهي لا تجري حتى بقطع النّظر عن الاستصحاب.

فالجواب : ان هذا غايته دخول القاعدة في الطرف الآخر في معارضتين إحداهما مع القاعدة في هذا الطرف والأخرى مع الاستصحاب ، وهذا نظير تعارض أصل مع أصلين في طرف واحد أو في طرفين بعلمين إجماليين عرضيين فيسقط الجميع ، بل الأمر هنا أوضح لأن المعارضة مع الأصل الآخر تقديرية لا فعلية لأن جريان القاعدة في هذا الطرف فرع عدم جريان الاستصحاب فيه ففي ظرف فعلية الاستصحاب ليس في البين الا معارضة واحدة.

وان كان الإشكال من ناحية ان جريان القاعدة في الطرف الآخر فرع جريان الاستصحاب فتكون حجيتها في طول حجيته ومعه لا يعقل المعارضة بينهما لأن ملاك التعارض والتساقط استحالة الترجيح بلا مرجح وهو لا يتم إذا كان أحدهما مشروطا بالآخر إذ تتعين القاعدة للسقوط على كل حال لاستحالة جعلها لا مع الاستصحاب لمحذور الترخيص في المخالفة ولا بدونه لعدم الموضوع لها حينئذ ، وهذا هو الفرق بين المقام وبين ما إذا كان في أحد الطرفين أصل إلزاميّ حاكم إذ يمكن جعل القاعدة في الطرف الآخر مع الأصل الإلزامي في هذا الطرف.

فالجواب : ان هذا انما يتم إذا كانت حجية القاعدة مشروطة بحجية الاستصحاب وليس كذلك في المقام ، لأن حجية ظهور دليل القاعدة في الطرف الآخر ليست مشروطة بحجية الاستصحاب وجريانه في هذا الطرف ليستحيل جعلها على كل تقدير ، واما وجود مقتضيها وهو الظهور فهو حاصل وجدانا بحصول قيده وجدانا على أساس العلم التفصيليّ بانثلام أحد قيدي دليل القاعدة في الطرف الآخر والعلم التفصيليّ ليس متوقفا على حجية الاستصحاب واقعا ولا موجب للتقييد بأكثر من هذا

٢١٤

الكلمة الثالثة ـ حول أصل المطلب وانه إذا افترضنا طولية أحد الأصلين الترخيصيين في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ وان كنا لا نقبل ذلك صغرويا كما أشرنا ـ فهل تسري المعارضة إلى الأصل الترخيصي الطولي أيضا فيسقط الجميع أو تختص المعارضة بالأصلين العرضيين في الطرفين فيجري الأصل الترخيصي الطولي في ذلك الطرف بلا معارض كما حاول صاحب مسلك العلية النقض به على مسلك الاقتضاء؟.

وما يمكن أن تذكر من الوجوه لتخرج هذه المحاولة أحد أمور :

الوجه الأول ـ ان الأصل الطولي في طول تساقط الأصلين العرضيين إذ لو لا تساقطهما لما وصلت النوبة إلى هذا الأصل المحكوم وإذا كان الأصل الطولي في مرتبة متأخرة عن تساقط العرضيين فلا يقبل ان يكون معارضا بأحدهما لأن الساقط يستحيل ان يمانع بعد فرض سقوطه عما لا يتم مقتضية الا بعد فرض ذلك السقوط.

ويرد عليه : ان الأصل الطولي في طول سقوط الأصل الحاكم الموافق له وسقوط الأصل الحاكم ليس في طول سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر بل كلا السقوطين في عرض واحد وينشأ سقوط الأصل الحاكم من مانعية مقتضي جريان الأصل العرضي في الطرف الآخر فلا طولية اذن بين الأصل الطولي وسقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر ليستحيل التمانع بينهما بل الطولية المباشرة بين الأصل الطولي وسقوط الأصل الحاكم الموافق وحيث ان هذا السقوط في طول مانعية مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر كان الأصل الطولي أيضا في طول مانعية

__________________

المقدار. والحاصل يوجد في المقام ظهوران فعليان أحدهما إطلاق دليل الاستصحاب في هذا الطرف والآخر إطلاق دليل القاعدة في الطرف الآخر فانه لا موجب لرفع اليد عنه في نفسه بعد تحقق صغراه فيقع التعارض بينهما في الحجية ويتساقطان.

ثم انه يظهر فارق عملي بين القول بالطولية بين الأصول المتوافقة والقول بعدمها فيما إذا افترضا سنخية الأصول الثلاثة معا أي الأصلين العرضيين مع الأصل الطولي كما إذا علمنا بنجاسة الماء أو الثوب المغسول بماء آخر سابقا محتمل النجاسة من جهة العلم الإجمالي بنجاسة أحد الماءين فان أصالة الطهارة في الماء يقابلها أصالة الطهارة في ذلك الماء المغسول به الثوب الحاكم على أصالة الطهارة في الثوب ـ فيما إذا كانت حالته السابقة مشكوكة أو من موارد توارد الحالتين التي لا يجري فيها الاستصحاب ـ فانه بناء على إنكار الطولية بين أصالة الطهارة في الماء وأصالة الطهارة في الثوب المغسول به تسقط الأصول الترخيصية معا للإجمال ، واما بناء على الطولية فالإجمال يختص بالأصلين العرضيين ويبقى الأصل الطولي في الثوب سليما عن المعارض لأن إطلاق دليل ذلك الأصل لا مانع من شموله له بعد عدم شموله للطرف الآخر في نفسه.

٢١٥

مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر فلا يلزم من مانعية الأصل العرضي في الطرف الاخر للأصل الطولي كون الساقط المفروض السقوط في مرتبة متقدمة ممانعا عن شيء لا يتم مقتضية الا بعد فرض السقوط.

الوجه الثاني ـ انا سلمنا عدم كون الأصل الطولي في طول سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر ولكنه في طول سقوط الأصل الحاكم وسقوط الأصل الحاكم مع سقوط الأصل العرضي الآخر مستندان إلى علة واحدة وهي المعارضة بين الأصلين أي المزاحمة بين مقتضي الإثبات لهذا الأصل ومقتضي الإثبات لذلك الأصل في لسان الدليل ، وهذا يعني ان الأصل الطولي في طول المعارضة بين الأصلين العرضيين والأصل المعارض ـ بالفتح ـ بما هو معارض لا يعقل جريانه ليقع طرفا للمعارضة مع الأصل الطولي.

ويرد عليه : ان المعارضة تنحل في الحقيقة إلى مانعيتين.

إحداهما : مانعية مقتضي الجريان للأصل الحاكم في لسان الدليل عن تأثير مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر وفي مقابلها ممنوعية الأصل العرضي في الطرف الآخر.

والأخرى ـ مانعية مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر عن تأثير مقتضي الجريان للأصل الحاكم في لسان الدليل وفي مقابلها ممنوعية الأصل الحاكم.

وعلى هذا الأساس لو أريد ان الأصل الطولي في طول المانعية الثانية وهي مانعية مقتضي الجريان للأصل العرض في الطرف الآخر عن تأثير مقتضي الجريان للأصل الحاكم فهذا صحيح ، إذ ببركة هذه المانعية يسقط الأصل الحاكم ويتم موضوع الأصل الطولي ، ولكن لا محذور في ان يكون الأصل العرضي في الطرف الآخر بما هو مانع عن الأصل الحاكم معارضا للأصل الطولي بحيث يزاحم أولا مقتضي الجريان في الأصل الحاكم ويزاحم في رتبة متأخرة مقتضي الجريان في الأصل الطولي لأن ، ما هو مفروغ عن مانعيته يعقل ان يكون مانعا.

وان أريد : ان الأصل الطولي في طول ممنوعية الأصل العرضي في الطرف الآخر ومانعية الأصل الحاكم له ـ وهي المانعية ـ الأولى ـ فهذه الطولية غير صحيحة لأن تمامية موضوع الأصل الطولي وفعلية اقتضائه للجريان انما تتوقف على مانعية الأصل

٢١٦

العرضي في الطرف الآخر للأصل الحاكم لا ممنوعيته من قبله فلا يلزم من معارضة الأصل العرضي في الطرف الآخر للأصل الطولي كون الأصل الممنوع بما هو ممنوع معارضا.

الوجه الثالث ـ انا سلمنا عدم كون الأصل الطولي في طول سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر ابتداء ولا في طول ممنوعية مقتضية عن التأثير من قبل الأصل الحاكم ولكن المطلوب مع هذا يتم بلحاظ مجموع أمرين :

أحدهما ـ ان الأصل الطولي في طول سقوط الأصل الحاكم.

والآخر ـ ان سقوط الأصل الحاكم في مرتبة سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر ، فإذا تم هذان الأمران ثبت تأخر الأصل الطولي مرتبة عن سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر من أجل تأخره عما هو في رتبته ومع كونه في طول سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر يستحيل معارضته له.

والجواب : ان هذا مبني على ان ما مع المتقدم رتبة متقدم بالرتبة أيضا وهذه الكبرى غير صحيحة ، فان مجرد كون شيء غير متقدم ولا متأخر رتبة عن شيء آخر لا يستدعي تقدمه بالرتبة على كل ما يكون ذاك مقدما عليه بالرتبة ما لم يتحقق فيه ملاك التقدم الرتبي بالخصوص.

الوجه الرابع ـ اننا سلمنا ان المتأخر عن أحد العرضيين لا يوجب التأخر عن العرضي الآخر لكنا نثبت بالبرهان عدم صلاحية الأصل الطولي للمصادمة مع الأصل العرضي في الطرف الآخر وان كان هذا الأصل العرضي صالحا للمصادمة مع الأصل الطولي ، والبرهان هو : انه يلزم من منع الأصل الطولي عن الأصل العرضي في الطرف الآخر رجوع الأصل الحاكم بارتفاع معارضه ورجوعه يعني انعدام الأصل الطولي وبالتالي انعدام مانعيته فيلزم اذن من مانعيته عدم مانعيته فتكون مانعيته مستحيلة ، وهذا يبرهن على عدم إمكان وقوعه طرفا للمعارضة مع الأصل العرضي في الطرف الآخر لأن المعارضة معناها صلاحيته في نفسه للمنع عن جريان الأصل العرضي في الطرف الآخر مع انه غير صالح لذلك في نفسه لأن المنع المذكور مستحيل لاستلزام عدمه من وجوده.

ويرد عليه : ان سقوط الأصل العرضي في الطرف الآخر الناشئ من تمامية

٢١٧

مقتضي الأصل الطولي يستحيل ان يكون منشأ لرجوع الأصل الحاكم ، لأن هذا السقوط متفرع على سقوط الأصل الحاكم فلا يعقل ان يكون سببا في نفي السقوط عن الأصل الحاكم وإجرائه وانما يعقل جريان الأصل الحاكم عند سقوط الأصل العرضي المعارض له إذا لم يستند سقوط هذا الأصل إلى سقوط الأصل الحاكم نفسه.

الوجه الخامس ـ ان سقوط الأصل انما هو للمعارضة أي للعلم الإجمالي بان أحد الأصلين ساقط على كل حال فرارا عن محذور المخالفة القطعية ولما لم يكن هناك مرجح لتطبيق السقوط على أحدهما دون الآخر تعذر إجراء كل من الأصلين فالأساس لعدم جريان الأصلين في الطرفين هو العلم الإجمالي بعدم جريان أحدهما بسبب عدم إمكان الترخيص في المخالفة القطعية. وعلى ضوء هذا يقال : لدينا علمان إجماليان أحدهما العلم الإجمالي بسقوط الأصل الحاكم أو الأصل العرضي في الطرف الآخر لأن جريانهما معا مساوق مع الترخيص في المخالفة القطعية وهذا العلم الإجمالي ينجز طرفيه بمعنى انه يمنع عن التمسك بإطلاق دليل الأصل الحاكم ويمنع عن التمسك به لإجراء الأصل العرضي في الطرف الآخر. والآخر العلم الإجمالي بسقوط الأصل العرضي الطولي أو الأصل العرضي في الطرف الآخر لأن جريانهما معا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية أيضا ، غير ان هذا العلم في طول العلم الإجمالي الأول لأنه فرع تمامية المقتضي للأصل الطولي المتوقف على سقوط الأصل الحاكم بسبب تنجيز العلم الإجمالي الأول فهما علمان طوليان وبينهما طرف مشترك وهو سقوط مقتضي الجريان للأصل العرضي في الطرف الآخر. وحينئذ يقال : ان العلم الإجمالي الثاني لا ينجز طرفيه أي السقوطين لأن أحد هذين السقوطين منجز في المرتبة السابقة بالعلم الإجمالي الأول فيكون منحلا.

ويرد عليه : أولا ـ ان العلم الإجمالي الثاني ليس في طول تنجيز العلم الإجمالي الأول للطرف المشترك وانما هو في طول تنجيزه للطرف المختص بالعلم الأول ـ أي سقوط الأصل الحاكم ـ فلا موجب لفرض كون التنجز الّذي يكسبه الطرف المشترك من العلم الإجمالي الأول أسبق مرتبة من التنجز الّذي يكسبه من العلم الإجمالي الثاني ليكون موجبا للانحلال.

ثانيا ـ عدم صحة مبنى الانحلال في أمثال المقام على ما سوف يتضح في بحث

٢١٨

انحلال العلم الإجمالي بعلم إجمالي آخر.

الوجه السادس : ان تعارض الأصلين انما يكون إذا كانا متساويين اقتضاء ومحذورا اما اقتضاء فبان يكون انطباق موضوع دليل الأصل وهو عدم العلم ثابتا بالنسبة إلى كل واحد منهما واما محذورا فبان يلزم من مجموعهما الترخيص في المخالفة القطعية ومن إجراء أحدهما دون الآخر الترجيح بلا مرجح واما إذا وجد في أحدهما محذور مستقل يمنع عن جريانه وراء محذور الترجيح بلا مرجح فليس الأصلان متساويين محذورا لأن مورد المحذور المستقل لا يمكن الأخذ به بحسب الفرض ولو أريد الترجيح بلا مرجح فلا معنى للمعارضة بينهما بل يتعين مورد المحذور المستقل للسقوط.

وعلى ضوء هذا يقال : ان الالتزام بجريان الأصل العرضي في الطرف الآخر تقديما له على الأصل الطولي ينحصر محذوره بالترجيح بلا مرجح ، واما الأصل الطولي فبقطع النّظر عن محذور الترجيح بلا مرجح يستحيل جريانه وذلك لأنه إذا بني على إسقاط الأصل العرضي في الطرف الآخر في مقابل معارضة لفرض عدم المحذور في الترجيح بلا مرجح يدور الأمر حينئذ بين تقديم الأصل الطولي عليه أو تقديم الأصل الحاكم العرضي عليه ، وفي هذه الحالة يكون إيثار الأصل الطولي بالتقديم بدلا عن الأصل الحاكم عليه واجدا لمحذور آخر غير محذور الترجيح بلا مرجح وهو محذور تقديم المحكوم على حاكمه في مقام الأجراء.

وان شئت قلت : ان فرض معارضة الأصل الطولي للأصل العرضي في الطرف الآخر مرجعه إلى فرض معارضة واحدة طرفها من جانب الأصل العرضي الواحد ومن جانب آخر الجامع بين الأصل الحاكم والأصل الطولي المحكوم ومن الواضح ان افتراض جريان الأصل الطولي يستبطن افتراضين ، أحدهما تقديم الجامع على الأصل العرضي في الطرف الآخر وهذا هو الترجيح بلا مرجح ، والآخر تقديم تطبيق هذا الجامع على الأصل الطولي بدلا عن تطبيقه على الأصل الحاكم العرضي وهذا هو محذور تقديم المحكوم على حاكمه ، وهذا يعني ان إجراء الأصل الطولي واجد المحذور مستقل زائد على محذور الترجيح بلا مرجح وبذلك يكون الأصل العرضي في الطرف الآخر مقدما عليه ، ونتيجة ذلك عدم إمكان إيقاع المعارضة بين الأصل الطولي

٢١٩

والأصل العرضي في الطرف الآخر بل تنتهي النوبة إلى الأصل الطولي بعد تساقط العرضيين (١)

__________________

(١) مجرد وجود محذور زائد مستقل في أحد الطرفين المتعارضين لا يكفي لإنجاء الأصل الطولي عن المعارضة إذا لم تفرض الطولية بين المحذورين ، ولهذا نجد وقوع المعارضة بين الأصل الجاري في طرف مشترك مع طرفين آخرين بعلمين إجماليين عرضيين وبين الأصلين الجاريين في كل من الطرفين في عرض واحد.

وان شئت قلت : ان غاية ما يلزم من هذا البيان ان يكون للأصل الطولي في المقام مانعان أحدهما الأصل الحاكم عليه بملاك الحكومة والآخر الأصل العرضي في الطرف الآخر بملاك الترخيص في المخالفة القطعية وحيث لا طولية بين المانعيتين فلا وجه لملاحظة إحداهما قبل الأخرى بالنسبة إلى دليل الأصل ونفي التعارض بينهما ، والا لانتقض بموارد عرضية الأصلين المتعارضين في طرف مع أصل معارض لأحدهما في طرف آخر كما إذا كان في أحد طرفي العلم الإجمالي استصحاب الطهارة واستصحاب النجاسة معا لتوارد الحالتين فيه سابقا ـ وقلنا بتعارض الاستصحابين في موارد التوارد ـ فانه لا إشكال في وقوع التعارض بين استصحاب الطهارة في ذلك مع كل من استصحاب النجاسة في مورده والأصل المؤمن في الطرف الآخر وتساقطها جميعا مع ان البيان المذكور لو تم لاقتضى إنجاء الأصل المؤمن في الطرف الآخر عن المعارضة لأن استصحاب الطهارة في الطرف الآخر مبتلى بمحذور زائد مستقل به فلا يمكن ان يكون معارضا معه وكون المحذور الآخر المستقل من سنخ محذور الترجيح بلا مرجح أو غيره لا أثر له في إنجاء أحد الأصلين عن المعارضة إذا لم تكن طولية بين المحذورين. ويمكن ان نذكر هنا وجوها أخرى لسلامة الأصل الطولي عن المعارضة :

١ ـ ويتوقف على قبول مقدمتين :

الأولى ـ ان التعارض معناه انتفاء فعلية الحجية في الدليلين مع تمامية مقتضيها لكل منهما أي ان مقتضي الحجية في كل منهما يمنع عن فعليتها في الآخر.

الثانية ـ ان مقتضي الحجية لأحد الدليلين إذا كان متوقفا على تمامية مقتضي الآخر استحال ان يكون ذلك الدليل معارضا معه ، لأن المعارضة بحكم المقدمة الأولى تعني مانعية مقتضي كل من المتعارضين عن فعلية مقتضى الآخر ـ بالفتح ـ فإذا كان أحد المقتضيين في طول الآخر استحال ان يكون مانعا عن تأثيره لأن المانع في عرض المقتضي ويستحيل ان يكون معلولا له والا كان كل من المانع والممنوع معلولا لشيء واحد وهو محال.

ويترتب على المقدمتين في المقام استحالة معارضة الأصل الطولي مع الأصل العرضي في الطرف الآخر ، لأن جريانه في طول عدم فعلية الحجية للأصل الحاكم عليه وعدم فعلية الحجية للأصل الحاكم متوقف على تمامية المقتضي للأصل العرضي في الطرف الاخر فيكون تمامية مقتضي الأصل الطولي متوقفا على تمامية مقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر فيستحيل ان يكون مانعا عن تأثيره بحكم المقدمة الثانية ومع عدم التمانع بين المقتضيين يستحيل التعارض بين الأصلين بحكم المقدمة الأولى.

ويمكن تقرير هذا الوجه ببيان آخر ، وهو ان الأصل العرضي في الطرف الآخر يستحيل ان يعارض الأصل الطولي لأن معنى معارضته له مانعية مقتضية عن مقتضي الأصل الطولي مع ان المفروض ان مقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر علة وجود المقتضي للأصل الطولي فيكون مقتضيا لمقتضاه أيضا لأن علة في النهاية والعلة يستحيل ان تكون مانعة عن اقتضاء معلولها.

والجواب : منع المقدمة الثانية لأن توقف مقتضي الأصل الطولي على تمامية مقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر ليس من باب التوقف على المقتضي بل من باب التوقف على عدم المانع ، لأن مقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر يرفع المانع عن الأصل الطولي فلا يلزم من التمانع بين مقتضي الأصل الطولي ومقتضي الأصل العرضي في الطرف الآخر ان يكون شيء واحد علة للمانع والممنوع معا.

٢ ـ وهو مبنى على افتراض مقدمتين أيضا ، الأولى ـ وجود أدلة لفظية على حجية الظهور زائدا على الارتكاز والسيرة ـ ولا يضر

٢٢٠