بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

العرفي والارتكاز العقلائي ، فانه لا يساعد على جعل الترخيص الظاهري في تمام الأطراف ويرى فيه نحو مناقضة مع التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال رغم كونه ممكنا عقلا ، ويمكن توضيح حقيقة هذا المانع بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ ان الأغراض الإلزامية في التكاليف بحسب النّظر العقلائي لا يرفع اليد عن ما أحرز منها لمجرد غرض ترخيص آخر محتمل أو معلوم مشتبه معه ، إذ الأغراض الترخيصية في ارتكاز العقلاء لا يمكن ان تبلغ درجة تتقدم على غرض إلزاميّ معلوم ، ومن هنا يكون الترخيص في تمام الأطراف بحسب إنظارهم كأنه تفويت لذلك الغرض الإلزامي ومناقض معه ، وهذا هو نفس الارتكاز الّذي كان يشعر به بعض الاعلام بحسب إحساسه العقلائي والوجداني وقد جعله كاشفا عن حكم عقلي بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة ، وقد عرفت عدم صحة ذلك ، وانما الصحيح ان هذا الارتكاز يكون بمثابة قرينة لبية متصلة بالخطاب تمنع عن انعقاد إطلاق في أدلة الأصول أطراف العلم الإجمالي معا فيكون المانع إثباتيا ، نعم يمكن ان تشمل أدلة الأصول بعض الأطراف دون بعض ولكنه ترجيح بلا مرجح على ما سوف يأتي الحديث عنه في البحث القادم.

التقريب الثاني ـ دعوى القصور في شمول أدلة الترخيص لتمام أطراف العلم الإجمالي ، فان عنوان ما لا يعلم أو الشبهة وان كان شاملا لكل طرف من الأطراف في نفسه الا ان المنساق من الحكم المجعول في هذه الأدلة انما هو الترخيص الظاهري لصالح الأغراض الترخيصية في موارد التزاحم بينهما وبين الأغراض الإلزامية المشبهة التي لا يعلم بها لا الأغراض الإلزامية التي يعلم بها ، فكل طرف من حيث هو وان كان مشكوكا لا يعلم بالغرض الإلزامي فيه الا ان مجموع الأطراف يعلم بالغرض الإلزامي فيها ، والترخيص الظاهري فيها ترجيحا للغرض الترخيصي المعلوم إجمالا أو المحتمل في بعض الأطراف وان كان معقولا الا انه مرتبة أخرى من التزاحم اللفظي بين الأغراض الإلزامية المعلومة والأغراض الترخيصية ، والتعبير ( برفع ما لا يعلمون ) أو ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) المنساق منه عرفا انه بصدد الترخيص في قبال الأغراض الإلزامية غير المعلومة لا المتيقنة ، ولا ملازمة بين الترخيص في ذلك والترخيص في موارد الأغراض الإلزامية المعلومة المشتبهة مع الأغراض

١٨١

الترخيصية لإمكان الاكتفاء بالترخيص الأول فقط لنكات موضوعية أو ذاتية من قبيل مطابقة الارتكازات العقلائية.

وفي مورد العلم الإجمالي لو لاحظنا كل طرف في نفسه فهو مورد للترخيص الأول ولكن لو لاحظنا مجموع الأطراف فالترخيص فيها يكون من النوع الثاني الّذي يقصر عن إثباته الدليل ، ولا يجدي ثبوت الترخيص من الناحية الأولى في إثباته.

وهذا التقريب انما يتم في مثل حديث الرفع والحجب ونحوهما ولا يتم في مثل ( كل شيء حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ) الظاهر في العلم بوجود الحرام ـ أي الغرض الإلزامي ـ إجمالا ، نعم يتم فيه التقريب الأول فان ارتكاز المناقضة تمنع عن انعقاد إطلاق له لموارد العلم إجمالا بالحرمة بنحو الشبهة المحصورة فتختص بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي غير المحصورة (١).

وكذلك لا يتم هذا التقريب في الأصول الترخيصية التنزيلية أي التي يكون لقوة الاحتمال دخل في ملاكها كالاستصحابين النافيين للتكليف في مورد العلم الإجمالي به ، إذ لا موجب لدعوى اختصاص دليل الاستصحاب بموارد التزاحم من النوع الأول وقصوره عن النوع الثاني من التزاحم الحفظي لأن النّظر فيه إلى كاشفية الحالة السابقة مع قطع النّظر عن نوع الحكم الثابت به وكونه غرضا إلزاميا أو ترخيصيا وكون أصله معلوما أو لا ، وانما يتم فيه التقريب الأول.

__________________

(١) قد يقال : ان معتبرة ابن سنان هذه تكون واردة في خصوص موارد العلم الإجمالي بقرينة التعبير بقوله ( حتى تعرف الحرام منه بعينه ) فتصلح ان تكون رادعة عن ارتكاز المناقضة بين الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي بناء على كون المحذور إثباتيا لا ثبوتيا.

وفيه : أولا ـ ان المحذور الارتكازي خاص بالعلم الإجمالي في الشبهات المحصورة لا غير المحصورة ، والرواية ان لم يدع اختصاصها بحسب ظاهرها الأولي بالشبهات غير المحصورة فلا أقل من انها بإطلاقها تشمل المحصورة ، والإطلاق لا يمكن ان يردع عن مثل هذا الارتكاز بل الأمر بالعكس حيث يصبح الارتكاز المذكور مانعا عن انعقاد إطلاق فيها. وثانيا ـ بالإمكان دعوى ان كلمة ( تعرف الحرام بعينه ) لمزيد التأكيد وانه لا بد من تشخيص الحرمة ، وحينئذ غاية ما يظهر من الحديث شمول موارد العلم الإجمالي لا الاختصاص به ، والتعبير في الصدر بان فيه حلال وحرام يمكن ان يراد به الجنس ومعه يكون هذا الحديث من أدلة البراءة العامة مع فارق من حيث انه أوضح في شمول أطراف العلم الإجمالي في نفسها وبقطع النّظر عن لزوم محذور الترخيص في مخالفة الغرض الإلزامي المعلوم.

وثالثا ـ الروايات المتفرقة الواردة في وجوب الاجتناب عن الطرفين في موارد العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة كما في الأمر بإراقة الماءين وعدم جواز شرب شيء منها أو الوضوء به تختص هذا الحديث بموارد الشبهة غير المحصورة فلا يبقي ما يمكن توهم رادعيته عن هذا الارتكاز.

١٨٢

وهكذا يتضح ان الصحيح في المنع عن جريان الأصول في تمام الأطراف وجود محذور إثباتي فيه لا ثبوتي كما تخيله المشهور.

جريان الترخيص في بعض الأطراف :

المقام الثالث ـ في مانعية العلم الإجمالي عن جريان الأصل المؤمن في بعض أطرافه ، والكلام عن ذلك يقع في جهتين ثبوتية وإثباتية أيضا.

اما الجهة الثبوتية فالبحث فيها عن إمكان الترخيص في بعض الأطراف وعدمه ، ومرد البحث فيه عن علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لكون منجزيته للواقع المعلوم بالإجمال على كل حال أو ان اقتضاؤه لذلك معلق على عدم ورود الترخيص الشرعي. وواضح انه على مسلكنا من إمكان جريان الأصل في جميع الأطراف لا مجال لهذا البحث إذ لا معنى لافتراض محذور ثبوتي في جريانها في بعض الأطراف.

واما على مسلك القائلين باستحالة جريان الأصول في جميع الأطراف فكذلك ينبغي ان نستثني من هذا البحث القائلين بان العلم الإجمالي لا يستدعي بنفسه وجوب الموافقة القطعية وانما تجب الموافقة في طول تعارض الأصول المرخصة في الأطراف وتساقطها ، فانه من الواضح على هذا المسلك إمكان جريان الترخيص بل التأمين العقلي في بعض الأطراف لو لا المعارضة وانما يتجه البحث عن ذلك بناء على المسلك القائل بان العلم الإجمالي بذاته يقتضي وجوب الموافقة القطعية وعدم التأمين العقلي في شيء من أطرافه حيث يصح حينئذ ان يبحث عن ان اقتضاءه لذلك هل يكون على نحو العلية بحيث لا يمكن الترخيص الشرعي ولو في بعض الأطراف أو انه بنحو الاقتضاء والتعليق على عدم ورود ترخيص شرعي بالخلاف. ذهب المحقق العراقي ( قده ) إلى الأول ونسب إلى المحقق النائيني في أحد تقريريه الثاني ، فوجد اتجاهان في هذا المقام.

اما اتجاه العلية الّذي ذهب إليه المحقق العراقي ( قده ) فقد حاول الاستدلال عليه :بأنا لا نحتاج إلى مزيد برهان علاوة على ما تقدم في إثبات منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لإثبات العلية لأنا متفقون على ان العلم الإجمالي ينجز ما تعلق به وانما الاختلاف في انه تعلق بالجامع فلا ينجز الا مخالفة الجامع أم بالواقع

١٨٣

فلا يجوز الترخيص في بعض الأطراف أيضا ، ولهذا كان يقبل من يرى تعلق العلم الإجمالي بالجامع عليته لحرمة المخالفة القطعية.

وبكلمة أخرى : ان المعلوم بالعلم الإجمالي ان كان هو الجامع فلا مقتضي لأصل وجوب الموافقة القطعية ، وان كان هو الواقع فلا بد من افتراض تنجزه على نحو العلية لأن هذا شأن كل معلوم مع العلم.

وهذا الاستدلال كما ترى ليس برهانا في واقعه ، إذ للخصم ان يميزبين تنجيز العلم الإجمالي للجامع فيقول بأنه على نحو العلية لأن الجامع معلوم تفصيلا وتنجيزه للواقع في كل من الطرفين فيقول بأنه على نحو الاقتضاء لكونه غير معلوم تفصيلا بل مرددا وإجمالا (١).

والصحيح : ما عرفت في منهج هذا البحث من ان تأثير العلم التفصيليّ فضلا عن الإجمالي في التنجيز ليس بنحو العلية بل معلق على عدم الترخيص الشرعي غاية الأمر لا تكون مرتبة الترخيص الشرعي محفوظة في مورد العلم التفصيليّ بخلاف العلم الإجمالي حتى بلحاظ الجامع والمخالفة القطعية.

واما اتجاه الاقتضاء الّذي نسب إلى المحقق النائيني ( قده ) فلم يذكر في الاستدلال عليه سوى عبائر تدل على تكرار دعوى ان الممتنع انما هو الترخيص في المخالفة القطعية ، وليس الترخيص في بعض الأطراف ترخيصا في المخالفة القطعية ، وهذا كما ترى لا يشكل برهانا على هذا الاتجاه بل عرفت ان تشخيص ما هو المعصية للمولى فرع تحديد منجزية العلم الإجمالي وانها معلقة على عدم الترخيص أم لا ، فلا بد من تحديد هذه النقطة والتي عرفت ما هو الصحيح فيها.

ثم انه قد نقض المحقق النائيني على الاستدلال المتقدم من المحقق العراقي بان العلم الإجمالي ليس بأشد من العلم التفصيليّ والعلم التفصيليّ يعقل الترخيص في المخالفة

__________________

(١) بالإمكان إرجاع استدلال المحقق العراقي إلى وجه فني صحيح على مبانيه حاصله : ان العلية لها أحد منشأين : أحدهما ـ ان يكون حكم العقل بالتنجيز فعليا لا معلقا على عدم الترخيص الشرعي. الثاني : ان لا تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة فلا يعقل الترخيص الشرعي فيه نفسه. والمنشأ الثاني قد أثبت المحقق العراقي انه على حد واحد في طرف واحد أو تمام الأطراف لانحفاظ ملاك جعل الحكم الظاهري فيهما معا ، والمنشأ الأول ملاكه حكم العقل بالمولوية وحق الطاعة وهو إن كان تعليقيا كان كذلك في تمام الموارد وان كان تنجيزيا فكذلك وحيث انه تنجيزي في مورد المخالفة القطعية باعتراف القائلين بالاقتضاء أنفسهم فلا بد وان يكون كذلك بلحاظ الموافقة القطعية أيضا ، وهناك عبائر في تقريرات هذا المحقق تشعر بان هذا هو واقع مرامه.

١٨٤

الاحتمالية لمعلومه كما في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز وهذا يعني عدم كونه علة لوجوب الموافقة القطعية فكذلك العلم الإجمالي ، نعم لا يجوز الترخيص في مخالفتها القطعية.

وأجاب المحقق العراقي عن النقض بان هذا خلط بين الأصل الجاري في مرحلة الامتثال والجاري في مرحلة التكليف ، فان قاعدة الفراغ وأمثالها ليست ترخيصا في ترك الموافقة القطعية لتكون منافية لافتراض علية العلم لوجوبها بل هي إحراز تعبدي للموافقة أي موافقة قطعية تعبدية وافتراض العلية يعني علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وجدانا أو تعبدا وأين هذا من جريان الأصل لنفي التكليف في بعض الأطراف نعم لو قامت أمارة نافية على أحد الطرفين فحيث ان لوازمها حجة فهي تثبت ان الموافقة القطعية التعبدية في الطرف الآخر.

وفي فوائد الأصول كأنه تعرض لهذا النقض محاولا الجواب عليه ، الا ان عبائر التقرير متذبذبة مشوشة ، فتارة يذكر ان العلم الإجمالي لا ينجز أكثر من الجامع وانما تجب الموافقة القطعية بعد تعارض الأصول وهذا يطابق المسلك المستفاد من أجود التقريرات من عدم اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية أصلا ، وأخرى يذكر وكأنه يقرر للاتجاه الآخر القائل بعلية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة فيقول : وان شئت قلت : ان العلم الإجمالي باعتباره ينجز التكليف المعلوم فلا بد من موافقته القطعية اما وجدانا أو تعبدا وجريان الأصل النافي في أحد الطرفين يدل بالالتزام على جعل الطرف الآخر بديلا عن الواقع المعلوم بالإجمال ، وهذا الكلام كما ترى انما هو جري على مسلك العلية.

وقد أجاب عليه المحقق العراقي ( قده ) بأنه إن أريد ان الأصل النافي في أحد الطرفين يجعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع المعلوم بالإجمال فمن الواضح ان هذا غير صحيح لأنه لا يدل عليه لا بالمطابقة كما هو واضح ولا بالالتزام لأن مثبتات الأصول ليست بحجة ، وان أريد ان دليل حجية الأصل أعني إطلاق حديث الرفع الّذي هو أمارة يدل بالالتزام على جعل البدل في المرتبة السابقة على جعل الأصل في بعض الأطراف ولو من باب استحالة جعل الأصل في بعض الأطراف الا بعد الفراغ عن امتثال التكليف المعلوم ولو تعبدا فيستكشف من الإطلاق ذلك تعبدا ، فيه : ان

١٨٥

الموافقة القطعية التعبدية انما تكون بالقطع بجعل البدل ووصوله لا مجرد جعل البدل واقعا ، والقطع بجعل البدل لا يمكن ان يدل عليه إطلاق دليل الأصل بالملازمة كما هو واضح.

ولا يقال ـ ان الوصول يتحقق بنفس دليل الأصل.

فانه يقال ـ المفروض تقوم الدلالة الالتزامية في المرتبة السابقة بالوصول فمع عدم الوصول وجدانا في المرتبة السابقة يقطع بعدم صحة جعل الأصل النافي فلا مدلول التزامي من دون وصول لا ان المدلول ثابت ولا وصول لكي يوصل بدليل الأصل.

والتحقيق : اننا إذا مشينا حسب الإطار الفكري العام المتبنى من قبل العلمين في باب جعل الأحكام الظاهرية وأنواعها ، فالصحيح ما وقفه المحقق العراقي ( قده ) فان ما أجاب به عن النقض يكفي في مقابل مثل الميرزا ( قده ) الّذي كان يميز بين ألسنة جعل الحكم الظاهري ويرى ان جعل الطريقية والعلمية يكفي في رفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

واما إذا مشينا حسب المنهج الصحيح الّذي يرى ان هذه مجرد ألسنة وصياغات للحكم الظاهري واما واقعه وروحه فواحد في جميع الموارد وهو تقديم الأغراض الترخيصية على الإلزامية أو العكس عند الاختلاط والتزاحم في مقام الحفظ غير ان هذا التقديم تارة يكون بلسان الترخيص وأخرى بلسان الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية وافتراضها موافقة كاملة فالحق حينئذ مع المحقق النائيني ( قده ) إذ لا معنى للقول بان أحد اللسانين ممتنع دون الآخر ولهذا لا يشك فقيه في انه لو كانت قاعدة الفراغ بلسان آخر كلسان عدم وجوب الاحتياط أو التسهيل في مقام العمل كانت حجة معمولا بها أيضا.

فالصحيح عدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية لأن حكم العقل بالتنجيز معلق كما قلنا مرارا على عدم ورود ترخيص شرعي مهما كان لسانه والترخيص الشرعي في بعض الأطراف ـ بل وفي كل الأطراف على ما عرفت ـ له نفس الحيثيات المصححة لجعله في سائر الموارد.

هذا كله بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الإثبات ـ فقد يقال بان أدلة الأصول قاصرة عن إثبات جريان

١٨٦

الأصل المؤمن في بعض الأطراف ، لأن جريانه في البعض ضمن جريانه في كل الأطراف باطل لأننا فرغنا عن عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية ، وجريانه في البعض المعين دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجح لأن نسبة دليل الأصل إلى كل من الطرفين على نحو واحد ، وجريانه في البعض المردد غير معقول إذ لا معنى للمردد.

وان شئت قلت : انه بعدم العلم بعدم جريان الأصل في كل الأطراف في وقت واحد يحصل التعارض بين إطلاق دليل الأصل لكل طرف وإطلاقه لسائر الأطراف ، ومقتضي التعارض التساقط في جميع الأطراف.

وقد حاول المحقق العراقي ( قده ) النقض على من يدعي كون المحذور إثباتيا وبملاك التساقط لا ثبوتيا بأحد نقضين :

الأول ـ ما جاء في تقريرات بحثه من النقض بموارد العلم التفصيليّ بالتكليف والشك في الامتثال ، لأن حكم العقل بالمنجزية العلم لو كان معلقا على عدم ترخيص شرعي بحيث أمكن الترخيص في مورد المخالفة الاحتمالية لتكليف معلوم فلما ذا لا يتمسك بإطلاق دليل البراءة في موارد الشك في الامتثال الّذي يكون بحسب الحقيقة من الشك في بقاء التكليف ، وأي فرق في الشك في التكليف بين كونه شكا في حدوثه أو بقائه؟

ولا يكفي في دفع هذا النقض دعوى حكومة استصحاب عدم الإتيان أو استصحاب بقاء الحكم على البراءة في موارد الشك في الامتثال دائما ، لوضوح ان المنع عن البراءة فيها عند المحققين انما هو لعدم المقتضي لا لوجود المانع ، ولهذا لا يقبل جريانها حتى القائل بعدم حجية الاستصحاب.

والصحيح في دفع هذا النقض ان يقال : اما بناء على ما هو المختار من ان التكليف لا تسقط فعليته بالامتثال والعصيان وانما تسقط فاعليته فالامر واضح حيث لا شك في فعلية تكليف وثبوته بقاء بل يقطع بها وانما الشك في بقاء فاعليته ، واما بناء على المشهور من سقوط فعلية التكليف بالامتثال أو العصيان فلانصراف أدلة الترخيص عن موارد الشك في الامتثال واختصاصها بموارد الشك في أصل الحكم. ولعل النكتة فيه ان ثبوت الحكم في الآن الأول معلوم وهو يستدعي الفراغ اليقيني عنه ولو فرض الشك في الحكم بلحاظ الآن الثاني فتطبيق البراءة الشرعية على الحصة البقائية

١٨٧

للحكم لا يكون مؤمنا من ناحية اشتغال الذّمّة بلحاظ الحصة الحدوثية المعلومة ، نعم لو فرض ورود دليل خاص على البراءة والترخيص في مورد الشك في الامتثال أخذ به كما ثبت ذلك في بعض الموارد في الفقه من قبيل الشك في جهة القبلة على قول من يجوز الصلاة إلى جهة واحدة بدارا حتى مع العلم أو احتمال تعينها فيما بعد فانه بذلك يكون من الشك في الامتثال مع تنجز التكليف بالعلم التفصيليّ.

الثاني ـ ما ذكره بنفسه في مقالاته الأصولية من ان العلم بالتكليف لو لم يكن علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بل كان اقتضاؤه لذلك معلقا على عدم الترخيص من الشارع كان إطلاق دليل الترخيص وافيا بإثباته في بعض الأطراف تخييرا وجزئيا لأن المحذور انما ينشأ من إجراء الأصول في كل من الطرفين مطلقا أي سواء ارتكب المكلف الطرف الآخر أو اجتنبه فإذا ألغينا إطلاق الأصل في كل منهما لحالة ارتكاب الآخر انتج إثبات ترخيصين مشروطين كل منهما منوط بترك الآخر ، ومثل هذا لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية ، ويعني ذلك ان المحذور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأصل في كل طرف ولا يتوقف دفعه على إلغاء الأصل رأسا وحيث ان رفع اليد عن شيء من مفاد الدليل لا يجوز الا لضرورة والضرورة تقدر بقدرها فلا يجوز الا رفع اليد عن الإطلاق الأحوالي لدليل الأصل في كل طرف ، لما إذا ارتكب الطرف الآخر لأن هذا هو القدر المتيقن سقوطه على كل حال ، واما الإطلاق الأفرادي في كل طرف فلا موجب لرفع اليد عنه وهو يثبت التخيير وجواز ارتكاب أحد الطرفين بدلا.

والحاصل ـ يجري في كل طرف ترخيص ظاهري مشروط بترك الآخر وهذا من الجمع بين الترخيصين لا الترخيص في الجمع بين الطرفين بل يستحيل ان يؤدي إلى الترخيص في الجمع كما في باب الترتب ، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق دليل الترخيص في كل من الطرفين.

وقد شارع هذا النقض واستفحل في مقابل الاتجاه القائل بعدم علية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة ، حتى ان صاحب تقريرات فوائد الأصول أورد في مقام التخلص عنه كلاما طويلا لا يرجع إلى محصل. وأيا ما كان يمكن ان يجاب على هذا الاعتراض بوجوه عديدة :

١٨٨

الأول ـ ما ذكره السيد الأستاذ من ان لدليل الأصل في كل طرف إطلاقا افراديا وإطلاقا أحواليا لحالة ترك الفرد الآخر أو فعله ، والمحذور كما يندفع برفع اليد عن الإطلاقين الأحواليين معا كذلك يندفع برفع اليد عن الإطلاق الأفرادي والأحوالي في أحد الطرفين خاصة ، فأي مرجح لا حدهما على الآخر؟

وفيه : ان دفع المحذور لا بد وان يكون بحدود الضرورة وبملاك التعارض لا جزافا والمعارضة بحسب الحقيقة ليست بين الإطلاقين الأفراديين في الطرفين بل بين الإطلاقيين الأحواليين بعد فرض الإطلاق الأفرادي ، ولهذا يمكن الحفاظ على الإطلاق الأفرادي في كل من الطرفين. فالمتعين للسقوط بالمعارضة انما هو الإطلاق الا حوالي لدليل الأصل في كل من الطرفين. وان شئت قلت : ان الإطلاق الأحوالي في كل من الطرفين معلوم السقوط على كل حال اما تخصيصا أو تخصصا بخلاف الإطلاق الأفرادي فلا موجب لرفع اليد عنه.

الثاني ـ ما ذكره أيضا من انه إذا أريد إجراء الأصل مقيدا في كل طرف فهناك أوجه عديدة للتقييد ، فقد يجري الأصل في كل طرف مقيدا بترك الآخر ، أو بان يكون قبل الآخر ، أو بان يكون بعد الآخر ، فأي مرجح لتقييد على تقييد؟

وفيه : ان التقييد انما يراد لإلغاء الحالة التي لها حالة معارضة في دليل الأصل وإبقاء الحالة التي لا معارض لها من حالات الطرف الآخر ، والحالة التي لا معارض لها كذلك هي حالة ترك الطرف الآخر واما حالة كونه قبل الآخر مثلا فجريان الأصل فيها يعارض جريانه في الآخر حالة كونه بعد صاحبه ـ الوجود الثاني ـ.

لا يقال ـ ان إطلاق دليل الأصل للوجود الثاني ترخيص في المخالفة القطعية.

فانه يقال ـ المخالفة القطعية تنشأ من الجمع بين الترخيصين لا من الترخيص في الوجود الثاني وحده فانه مخالفة احتمالية وليس معنى الترخيص فيه الترخيص في ان يأتي بالوجود الأول. فالحاصل : ليس الحرام الّذي لا يمكن الترخيص فيه حصول عنوان المخالفة القطعية حتى لا يمكن الترخيص في الجزء الأخير من علته وهو الوجود الثاني من كل طرف وانما الّذي لا يمكن الترخيص فيه واقع المخالفة القطعية وهو غير صادق على الوجود الثاني.

الثالث ـ ما أفاده أيضا نقلا عن شيخه النائيني ( قده ) من ان التقابل بين الإطلاق

١٨٩

والتقييد تقابل العدم والملكة فإذا امتنع أحدهما امتنع الآخر ، وما نحن فيه يمتنع فيه إطلاق الترخيص في كل طرف فيمتنع التقييد أيضا.

وفيه : مضافا إلى بطلان المبنى :

أولا ـ ان الممتنع في المقام اجتماع الإطلاقين لا ذاتهما كي يلزم بناء على كون التقابل بنحو العدم والملكة امتناع التقييد.

وثانيا ـ ان القابلية والإمكان التي لا بد وان تؤخذ في موارد هذا اللون من التقابل انما قابلية المورد للملكة لا لعدمها فإذا استحال التقييد استحال الإطلاق ـ كما ذكر المحقق النائيني ( قده ) ذلك في بحث التعبدي والتوصلي ـ لا العكس كما في المقام.

الرابع ـ ما ذكره السيد الأستاذ أيضا من ان الجمع بين الترخيصين المشروطين وان كان لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية ولكنه يؤدي إلى الترخيص القطعي في المخالفة ، وذلك فيما إذا ترك الطرفين معا وهو محال أو قبيح فان القبيح ليس خصوص الترخيص في المخالفة القطعية بل الترخيص القطعي في المخالفة قبيح أيضا ، ولهذا لا يجري الأصول المؤمن في طرفي العلم الإجمالي وان كان المكلف عاجزا عن الجمع بينهما كما إذا علم بحرمة المكث في زمن واحد في أحد مكانين ولا يمكن للإنسان ان يكون في آن واحد في مكانين فانه لا إشكال في منجزية العلم الإجمالي في ذلك ووجوب الموافقة القطعية مع انه لا يلزم من جريان الأصل فيهما معا ترخيص في المخالفة القطعية ، فالمحذور انما هو الترخيص القطعي في المخالفة وهو حاصل في المقام.

وفيه : أولا ـ ان الحكم الظاهري في نفسه ليس مستحيلا ولا قبيحا ذاتا وانما يمتنع إذا كان منافيا للحكم الواقعي ومصادما مع مقتض من مقتضياته في مرتبة الجعل أو مبدئه أو اثره ، ونحن لا نجد مصادمة بين الحكم الظاهري في المقام مع شيء من مقتضيات الحكم الواقعي.

اما مصادمته مع الجعل ، فقد ذكر السيد الأستاذ نفسه في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ان الجعلين سهل المؤمنة لا تضاد بينهما.

واما مصادمته معه في المبادي ، فقد ذكر أيضا ان مبدأ الحكم الواقعي في متعلقه ومبدأ الظاهري في نفسه لا في متعلقه فلا تضاد.

واما مصادمته معه في أثر الجعل العقلي ، فان أريد منه حرمة المخالفة القطعية

١٩٠

فالمفروض عدم استلزام الترخيص القطعي في الطرفين للترخيص في المخالفة القطعية ، وان أريد وجوب الموافقة القطعية فالمفروض انه معلق على عدم الترخيص الشرعي.

فلا يبقى الا دعوى ان الترخيص القطعي في المخالفة قبيح في نفسه وان لم يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية فكان علم المكلف بوقوع هذا الترخيص من الشارع يجعله قبيحا بخلاف ما إذا لم يعلم به كما في موارد الشبهات البدوية وهذه دعوى عهدتها على مدعيها.

وثانيا ـ بالإمكان تصوير الترخيصات المشروطة على نحو لا تصبح كلها فعلية في وقت واحد ليلزم الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية ، وذلك بان نفترض أطراف العلم الإجمالي ثلاثة ويفترض ان الترخيص في كل طرف مقيد بترك أحد بديليه وفعل الآخر ـ ولو في عمود الزمان ومتأخرا ـ فإذا علم بأنه سوف يترك الثاني ويفعل الثالث يجوز له ارتكاب الأول فلا يلزم الترخيص الفعلي القطعي في المخالفة الواقعية (١) ، نعم يلزم الترخيص القطعي في المخالفة مشروطا بشرط غير معلوم الحصول لدي المكلف الا ان هذا لا ضير فيه والا لزم عدم جريان الترخيص في الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه فان الترخيص في الوجود الأول من كل طرف الّذي يقبل السيد الأستاذ جريانه يعني الترخيص في كل منهما مشروطا بكونه الوجود الأول فيكون من الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية مشروطا بشرط غير محرز تحققه.

الخامس ـ ان الحكم الظاهري يحب ان يكون محتمل المطابقة مع الواقع ، والترخيص المشروط ليس كذلك إذ لا يحتمل الإباحة المشروطة واقعا في شيء من الطرفين بل ما هو ثابت في الواقع اما الحرمة المطلقة أو الترخيص المطلق.

وفيه : انه لا برهان على اشتراط ذلك في الحكم الظاهري وانما يشترط فيه امران أحدهما ان يكون الحكم الواقعي مشكوكا والآخر ان يكون الحكم الظاهري صالحا

__________________

(١) بل يمكن مثل هذا التقييد فيما إذا كان للعلم الإجمالي طرفان أيضا بان يكون الترخيص المشروط في كل طرف مشروطا أيضا بإرادة ارتكاب أحد الطرفين ـ أي الجامع على الأقل ـ ولعل الأولى ان يقال : بان الترخيصين المشروطين حيث يستحيل ذاتا اقتضاؤهما للمخالفة القطعية لأنه بمجرد ارتكاب أحدهما يرتفع شرط الآخر فلا يكون روحا ولبا الا بمعنى الترخيص في ارتكاب أحدهما لا كليهما ومثل هذا ليس الا ترخيصا في المخالفة الاحتمالية فلا يقاس بمورد عدم إمكان ارتكاب الطرفين الّذي يلزم من الترخيص الفعلي فيهما الترخيص في مخالفة الواقع المعلوم بالإجمال في نفسه ولو فرض صدفة عجز المكلف عن ارتكاب الحرام الواقعي للاشتباه والتردد.

١٩١

لتنجيزه أو التعذير عنه ولو بمرتبة من المراتب (١)

السادس ـ ان الترخيص في كل طرف يتصور على أحد وجوه ثلاثة كلها غير معقولة :

١ ـ الترخيص المطلق.

٢ ـ الترخيص مع تقييد الموضوع المرخص فيه بترك الآخر أي الترخيص في الحصة المقترنة مع ترك الآخر.

٣ ـ الترخيص مع تقييد الحكم بحالة ترك الآخر.

والأول يلزم منه محذور الترخيص في المخالفة القطعية ، والثاني معناه ان محتمل الحرمة هو الشرب المقيد بترك الآخر مثلا مع ان هذا المقيد بما هو مقيد لا يحتمل حرمته وانما المحتمل حرمة شرب هذا المائع أو ذلك المائع ، والثالث يرجع إلى الثاني في النتيجة لما تقدم في بحث الواجب المشروط من رجوع قيود الحكم إلى المتعلق فيعود الإشكال.

وفيه : ان سريان قيود الحكم إلى المتعلق لا يعني لحاظ المتعلق مقيدا بها بل المتعلق ذات الطبيعة ، فان الإطلاق ليس امرا لحاظيا بل ذاتي كما تقدم في بحوث المطلق والمقيد وعليه يمكن الحكم على طبيعي الشرب بترخيص مقيد بترك الآخر.

السابع ـ ما نوضحه ضمن نكتتين :

الأولى ـ ان الحكم التخييري سواء كان إلزاما أو ترخيصا إذا كان واقعيا يمكن ان يكون مفاده ومدلوله التصديقي الحكائي أي ملاكه ومبدأه في الجامع ويمكن ان يكون في كل طرف مشروطا بترك الآخر ، واما الحكم الظاهري فبلحاظ المدلول التصديقي الإنشائي أي الحكم وان كان يعقل تارة جعله على الجامع وأخرى جعله على كل واحد من الطرفين مشروطا لكن بحسب مفاده الحكائي لا يعقل سوى التخيير بمعنى إرادة الجامع ، وذلك لما عرفت من ان ملاك الحكم الظاهري ليس في نفس جعله حتى يقال قد تكون المصلحة في جعل الحكم الظاهري المشروط بل ملاكه ترجيح الأهم

__________________

(١) بل بحسب الحقيقة الحكم الظاهري هنا محتمل المطابقة مع الواقع غاية الأمر انه حكم ظاهري في حالة خاصة وليس في تمام الحالات فلا يقاس بمثل جعل الإباحة في موارد الدوران بين المحذورين الّذي قيل فيه بهذه الشرطية.

١٩٢

من الملاكات الواقعية المختلطة في مقام الحفظ على البعض الآخر ، فان قدم الملاك الإلزامي على الترخيصي حتى في مرتبة الموافقة القطعية حكم بالاحتياط التام ، وان قدم الملاك الترخيصي على الإلزامي حتى في مرتبة المخالفة القطعية رخص حتى في المخالفة القطعية ، وان قدم الإلزامي على الترخيصي في مرتبة المخالفة القطعية والترخيصي على الإلزامي في مرتبة الموافقة القطعية رخص في أحدهما المخير ان لم يكن في البين مزية لا حد الطرفين والا فالمعين ، وعلى كل حال بحسب المدلول التصديقي الحكائي أي ما هو المنساق من دليل هذا الجعل تكون إرادة الإلزام أو الترخيص متعلقا بالجامع لا بكل طرف مشروطا لأن إتيان المكلف بالطرف الآخر وعدمه ليس له دخل في ملاك هذا اللون من الحكم الّذي هو درجة الاهتمام بالغرض الواقعي في مجال التزاحم الحفظي وهذا فرق أساسي يختلف فيه الحكم الظاهري عن الواقعي.

الثانية ـ لو ورد دليل الترخيص التخييري في مورد العلم الإجمالي كما إذا قال رخصتك في أحدهما أو في كل منهما مشروطا بترك الآخر استفيد منه لا محالة الترخيص التخييري ، واما إذا لم يكن في البين الا مطلقات الترخيص الظاهرة في جعله على كل طرف تعيينا فتقييد كل من الترخيصيين بترك الآخر وان كان لا بأس به على مستوى المدلول الإنشائي للخطاب إذ ليس فيه سوى مئونة التقييد اللازم على كل حال ولكنه بلحاظ المدلول التصديقي الحكائي أي الملاك والمبادي يستلزم تحويل الترخيص في كل طرف بعينه إلى ترخيص للجامع وهذه مئونة زائدة لا يمكن استفادتها من مجرد إطلاق أدلة الترخيص العامة (١).

الثامن ـ ان أدلة الأصول الترخيصية قاصرة عن شمول كل طرف مشروطا بترك الآخر وذلك لأن أدلة الترخيص على أقسام ثلاثة.

__________________

(١) هذه النكتة ان تمت في دليل أصل ترخيصي واحد في الطرفين كالبراءة فلا يتم قطعا فيما إذا كان في كل من الطرفين أصل ترخيصي من غير سنخ الآخر كما إذا كان في أحد الطرفين استصحاب الطهارة وفي الآخر أصالة الطهارة لأن التعارض عندئذ يكون بين دليلين منفصلين قد انعقد ظهورهما في الإطلاق وتم وانما المقدار الحجة من كل منهما يقتضي الترخيصي المشروط في كل طرف المستلزم للترخيص التخييري من دون لزوم تحميل عناية زائدة على مفاد دليل الأصل المطابقي.

هذا مضافا إلى عدم تمامية أصل النكتة لأن الترخيص في الجامع انما تكون فيه مئونة زائدة لو أريد استفادتها من أدلة الترخيص بالمطابقة وبلحاظ المدلول الإنشائي للخطاب لا ما إذا كان ذلك مدلولا التزاميا تصديقيا للترخيص المشروط في كل طرف بعينه.

١٩٣

١ ـ ما يكون من قبيل حديث الرفع الّذي ظاهره علاج التزاحم بين غرضين ترخيصي وإلزاميّ محتمل.

٢ ـ دليل أصالة الحل.

٣ ـ دليل الاستصحاب.

اما القسم الأول فقد تقدم انها لا تشمل في نفسها فرض العلم الإجمالي بالإلزام مع قطع النّظر عن مسألة الابتلاء بالمعارض (١).

واما القسم الثاني فالصحيح منه سندا ودلالة خبر ابن سنان وهو وان كان ناظرا إلى فرض العلم الإجمالي بالإلزام بقرينة قوله ( حتى تعرف الحرام منه بعينه ) الا انه من المحتمل قويا ان يكون المنظور إليه بقرينة الصدر ـ ( كل شيء فيه حلال وحرام ) وجود الحرام ضمن المجموع من شيء يعتبر بمثابة الكل الّذي قد اختلط الحرام والحلال في إجزاءه لا الكلي الّذي في مصاديقه حرام وحلال وبناء على هذا الاحتمال يكون تقيد الترخيص في كل جزء من ذلك الكل الّذي يعلم بوجود الحرام فيه بما إذا اجتنب الاجزاء الأخرى خلاف الظاهر فلا يمكن استفادته من مجرد الإطلاق إذ لازم ذلك نظر الدليل إلى كل جزء جزء وهذه مئونة زائدة خلاف ظاهر هذا الدليل الّذي لوحظ فيه الكل الّذي يشتمل على الحلال والحرام لا كل جزء جزء (٢).

واما القسم الثالث : وهو دليل الاستصحاب فحيث ان المنساق منه ملاحظة كاشفية اليقين السابق فاستفادة حجية اليقين السابق في كل طرف مشروطا بترك الطرف الآخر غير مناسب مع نكتة الكاشفية لأن هذا الشرط غير دخيل في ذلك

__________________

(١) لم يتقدم ذلك وانما الّذي تقدم ان شموله لكل طرف لا يؤمن الا عن الإلزام المحتمل لا الإلزام المقطوع به في مجموع الطرفين فهو لا يرخص في المخالفة القطعية واما الإطلاق المشروط الّذي يؤمن عن احتمال الإلزام في كل طرف ـ ولو كان هو الإلزام المعلوم بالإجمال ـ فلا محذور فيه لأن ملاك الترخيص فيه نفس ملاك الترخيص في الشبهات البدوية بخلاف الترخيص في تمام الأطراف.

(٢) لعل ظاهر الحديث النّظر إلى الجزاء ذلك الكل وأبعاضه بقرينة قوله ( حتى تعرف الحرام منه بعينه ) فان ظاهر هذا الذيل ان النّظر إلى أبعاض ذلك الشيء الكل أو الكلي الّذي فيه حلال وحرام وان ما عدا ما يعلم حرمته تفصيلا من اجزاء ذلك الكلي يبقى حلالا لا ان النّظر إلى الكل المشتمل على الحرام وانه بما هو كل يكون حلالا.

وإن شئت قلت : ان التعبير بقوله ( فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ) مشعر بالتعليل وانه كلما لم يعرف الحرام تفصيلا في مورد فهو حلال فيكون شاملا لأطراف العلم الإجمالي ما لم يلزم منه محذور عقلي أو عقلائي نعم قد يدعى ان ظاهره إثبات الحلية التعيينية لكل جزء لا التخييرية المشروطة ولعل هذا هو مقصود الأستاذ ( قدس‌سره الشريف ).

١٩٤

بحسب المتفاهم العرفي وليس من قبيل تقييد دليل الاستصحاب بعدم أمارة أو كاشف أقوى على خلافه. نعم لو دل دليل بالخصوص على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي أخذ به الا ان استفادة ذلك من مجرد إطلاق دليل الاستصحاب على خلاف الذوق والفهم العرفي المنساق من دليل الاستصحاب.

والحاصل عدم تعقل العرف للتبعيض في الكاشفية يستوجب عدم انعقاد إطلاق في دليل الاستصحاب لكل من الطرفين مشروطا بترك الآخر (١).

التاسع ـ التمسك ببعض الاخبار المتفرقة الواردة في موارد مختلفة من العلم الإجمالي بالتكليف وتأمر بالاجتناب والموافقة القطعية من قبيل ما ورد من لزوم الاجتناب عن الأغنام التي نعلم بكون بعضها موطوءة ، وما ورد من الأمر بإراقة الماءين اللذين يعلم بنجاسة أحدهما (٢). فان هذه الروايات بعد ظهور انها ليست في مقام تخصيص في الحكم الواقعي تدل على عدم جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين ولو مشروطا بترك الآخر والا لم يجز إراقتهما والتيمم وجاز شرب أحدهما أو أكل أحد الأغنام وبعد إلغاء خصوصية مورد التكليف المعلوم بالإجمال يستفاد منها كبرى كلية هي عدم جريان الأصول المرخصة في شيء من أطراف العلم الإجمالي عند تساويها بالنسبة إلى أدلة الترخيص فتكون مخصصة لا طلاق أدلة الأصول العامة لإثبات الترخيص المشروط في أطراف العلم الإجمالي لو تم مثل هذا الإطلاق ، نعم لو فرض عدم جريان الأصل المرخص في نفسه في أحد الطرفين أو قيام أصل إلزاميّ حاكم عليه أمكن إجراء الأصل الترخيصي في الطرف الآخر وكان ذلك خارجا عن منصرف تلك الروايات كما ان فرض قيام الأمارة على طهارة أحدهما بالخصوص أيضا خارج عن منصرفها.

وهكذا يتضح عدم تمامية شبهة التخيير في جريان الأصل الترخيصي في أطراف العلم الإجمالي (٣) ، وان المحذور الإثباتي عن جريان الأصل في بعض أطراف العلم الإجمالي

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٣٥٨.

(٢) هذه النكتة أيضا تختص بما إذا كان الأصل المرخص في الطرفين معا الاستصحاب ليكون التعارض داخليا لا ما إذا كان في أحد الطرفين أصل مرخص آخر كما لا يخفى. مضافا إلى ما عرفت من الإشكال في أصل هذه النكتة فانه لا مانع من ان يكون الحكم الظاهري مشروطا بحسب المدلول الإنشائي لكونه مقتضي صناعة مرحلة الإثبات مع كونه بحسب المدلول الثبوتي الحكائي من أجل الترخيص في أحد الطرفين.

(٣) يمكن ان يذكر وجه آخر لإبطال شبهة التخيير وهو مبتن على قبول عدم عرفية الترخيص التخييري المشروط في الطرفين لدى.

١٩٥

تخييرا بحيث لا تجب موافقته القطعية تام أيضا.

ثم ان هنا تقريبات أخرى يمكن ان تذكر لشبهة التخيير وجريان الأصل الترخيصي في بعض أطراف العلم الإجمالي نشير إلى بعضها.

منها ـ دعوى إجراء الأصل في كل طرف للتأمين عن ارتكابه بالخصوص من دون ان يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعية ولا التقييد في الإطلاق دليل الأصل لأن الترخيص في كل طرف بالخصوص باعتباره مشكوكا لا ينافي لزوم الإتيان بالجامع لكونه معلوما وهذا نظير التخيير الشرعي بين الخصال الثلاث حيث ان الجامع واجب بالرغم من الترخيص في ترك كل منها بخصوصه وعدم الإلزام به.

وفيه : ان تنجز الجامع ووجوب الإتيان به من باب حكم العقل لا ان التكليف المعلوم بالإجمال متعلق به وحينئذ بناء على المنافاة عقلا أو ارتكازا وعقلائيا بين التكليف الواقعي الإجمالي المحفوظ في المقام مع الترخيصين التفصيلين في الطرفين تقع بينهما المنافاة لا محالة فلا يقاس بباب الواجب التخييري الّذي يكون التكليف فيه متعلقا بالجامع.

ومنها ـ تطبيق مبنى نقحناه في بحوث العام والخاصّ من صحة التمسك بعموم العام أو إطلاق المطلق في موارد العلم بخروج أحد الفردين منه إجمالا لا ثبات الحكم في الفرد الآخر إجماله ولو فرض عدم تعيين الفرد الآخر واقعا والّذي أرجعناه بحسب الحقيقة إلى حجية في كل طرف مشروطة بعدم خروج الآخر وحيث يعلم بخروج أحدهما إجمالا فيعلم بفعلية إحدى الحجتين. ففي المقام يقال بشمول دليل الأصل الترخيصي لكل طرف تعيينا مشروطا بعدم الترخيص في الطرف الآخر وحيث يعلم بعدم الترخيص في أحدهما ـ لعدم إمكان الترخيص فيهما معا ـ فيعلم بفعلية الترخيص في أحد الطرفين لا محالة.

وفيه : أولا ـ لا فائدة في مثل هذا الترخيص الظاهري الإجمالي وليس هذا من قبيل حكم العام بوجوب إكرام أحدهما مثلا كيف وقد يعلم بالترخيص الواقعي في أحد

__________________

الارتكاز العقلائي بحيث لو لا عناية خاصة وتنصيص عليه يأباه الطبع العقلائي في باب الحجية وجعل الحكم الظاهري فانه حينئذ يقال : بان هذا الأمر بنفسه يمنع عن انعقاد أصل الإطلاق في دليل الترخيص بنحو مشروط في الطرفين إذا كان دليلا واحدا ويمنع عن حجيته إذا كانا من سنخين لأن حجية الإطلاق بنفسه حكم الظاهري في الطرفين فيحكم فيه الارتكاز المذكور.

١٩٦

الطرفين ولكن لا فائدة فيه مع العلم الإجمالي بالإلزام وعدم تعيين الترخيص في أحد الطرفين بخصوصه.

وثانيا ـ نسبة العلم الإجمالي وحرمة المخالفة القطعية إلى إطلاق الترخيص في كل من الطرفين على حد واحد فلا يكون مخصصا لا حدهما تعيينا مع الإجمال والتردد فيه وانما المحذور في ثبوتهما معا ، ومثل هذا لو فرض عدم مانعيته عن الإطلاقين في باب الأحكام الواقعية فلا إشكال في انه يوجب الإجمال وسقوطهما في أدلة الترخيص والحكم الظاهري لأنه في قوة الترخيص في أحد الطرفين تعيينا دون الطرف الآخر وهو ترجيح بلا مرجح ، نعم لو فرض ان أحد الطرفين لم يكن موردا للأصل الترخيصي أو كان فيه أصل إلزاميّ حاكم عليه جرى الأصل الترخيصي في الطرف الآخر لعدم وجود نكتة الترجيح بلا مرجح حينئذ.

وان شئت قلت : ان الأصل له إطلاق لكل ما لم يعلم تفصيلا حرمته ولم يكن طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ ولو من الخارج لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر.

ومنها ـ ما إذا فرض العلم إجمالا بأحد تكليفين أحدهما أهم من الآخر ، حيث يقال ان مقتضى القاعدة جريان الأصل الترخيصي في الطرف غير الأهم إذ لا يحتمل جريانه في الطرف الآخر دونه فالترخيص في الطرف الأهم يعلم بسقوطه على كل حال فلا يبقي محذور للتمسك بإطلاق الترخيص في الطرف غير الأهم طبقا للنكتة التي أشرنا إليها الآن.

وفيه : أولا ـ أهمية أحد التكليفين الواقعين لا تعني الأهمية في مقام الحفظ الظاهري بحيث يقطع بعدم جريان الترخيص الظاهري عن احتماله في قبال جريانه عن احتمال التكليف غير الأهم فان ملاكات جعل الحكم الظاهري تختلف عن الحكم الواقعي كما لا يخفى.

وثانيا ـ يرد على هذا الوجه والوجهين السابقين بعض الوجوه المتقدمة في الإجابة على شبهة التخيير ولا أقل من الوجه الأخير منها.

وقد اتضح من مجموع ما تقدم في المقامات الثلاثة ان العلم الإجمالي بالتكليف ـ أي موارد الشك في المكلف به ـ يجري فيها الاحتياط فتجب الموافقة القطعية فضلا عن حرمة المخالفة القطعية الا ان ذلك ليس لمحذور ثبوتي عن جريان الترخيص في تمام أو

١٩٧

بعض أطراف العلم الإجمالي بل لمحذور إثباتي خلافا لمبنى المشهور بالنسبة إلى حرمة المخالفة ولمبنى المحقق العراقي ( قده ) حتى بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

وقد يترتب على هذا الفرق بين المسلكين آثار وثمرات نورد فيما يلي جملة منها :

منها ـ ما إذا دل دليل تام السند والدلالة على الترخيص في المخالفة القطعية في مورد كما ادعي ذلك في جوائز السلطان أو آكل الرّبا إذا تاب ، فانه بناء على كون المحذور ثبوتيا لا بد من طرح الدليل الخاصّ أو تأويله بينما يؤخذ به ويلتزم بالترخيص في المخالفة بناء على كون المحذور إثباتيا ارتكازيا فان الارتكاز ليس حجة بنفسه بل ينفع في إبطال إطلاقات الأدلة فمع ورود نصّ خاص على خلافه يعمل بذلك النص لا محالة ، وهذه الثمرة صحيحة.

ومنها ـ ان محذور الترخيص في المخالفة القطعية إذا كان ثبوتيا فهو يمنع عن إطلاق أدلة الأصول الترخيصية لتمام أطراف العلم الإجمالي سواء كانت من سنخ واحد أو من سنخين كما إذا كان أحدهما البراءة والآخر استصحاب عدم التكليف. واما إذا كان المحذور إثباتيا وعلى أساس الارتكاز العقلائي فهذا الارتكاز غايته المنع عن انعقاد إطلاق دليل الأصل الترخيصي الواحد لتمام الأطراف لكونه على خلاف الارتكاز ، واما إذا كان في كل طرف أصل ترخيصي غير الآخر فإطلاق دليل كل منهما منعقد في نفسه وفي طول انعقاده يكون حجة لا محالة ولا يكون للارتكاز المذكور أثر عليه فان أثر هذا الارتكاز انما هو المنع عن انعقاد الإطلاق والمفروض انعقاده في الدليلين المنفصلين.

وهذه الثمرة غير تامة إذ يمكن ان يقال : ان هذا الارتكاز بدرجة من الرسوخ بحيث يتولد منه ارتكاز آخر هو استلزم الترخيص في أحد الطرفين للإلزام في الطرف الآخر عرفا فيقع التعارض بين إطلاق دليل الترخيص لأحدهما مع إطلاق الدليل الآخر للآخر بالالتزام (١).

__________________

(١) يمكن ان يناقش في هذا الجواب من وجهين :.

الأول ـ ان الارتكاز المذكور انما كان بملاك التناقض بين الترخيص في الطرفين مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال لا الحكم الظاهري بإيجاب الاحتياط في أحد الطرفين فلا وجه لهذه الملازمة ، ولهذا لا يكون التعارض بين الأصول الترخيصية في أطراف العلم الإجمالي من باب التكاذب بين إطلاقي دليل الترخيص في الطرفين بالملازمة بل من باب عدم شمول أدلة الترخيص

١٩٨

ومنها ـ ما سوف يأتي في بعض البحوث المقبلة من انه بناء على كون المحذور ثبوتيا وعقليا فلو فرض ان هذا الحكم العقلي لم يكن بديهيا وبمثابة القرائن المتصلة المحفوفة بالخطابات يقع التعارض بين الأصول المرخصة في أطراف العلم الإجمالي مطلقا واما بناء على كون المحذور إثباتيا فلو فرض جريان أصل ترخيصي من سنخ واحد في الطرفين وكان في أحد الطرفين أصل ترخيصي من سنخ آخر أيضا كما إذا فرضنا جريان البراءة في الطرفين مع اختصاص أحد الطرفين باستصحاب عدم التكليف فإنه يجري حينئذ الأصل الترخيصي المنفرد ـ وهو الاستصحاب في المثال ـ بلا معارض لسقوط معارضة وهو البراءة في الطرف الآخر بالتعارض الداخليّ بين إطلاقي دليله في الطرفين وهو يوجب الإجمال وعدم انعقاد أصل الظهور فيبقى إطلاق دليل الاستصحاب حجة بلا معارض.

وهذه الثمرة تامة.

ومنها ـ ما قد يتوهم من انه بناء على كون المحذور إثباتيا لا يجري الأصل الترخيصي في بعض أطراف العلم الإجمالي إذا كان في الطرف الآخر أصل إلزاميّ حاكم كما إذا فرض جريان استصحاب التكليف في أحد الطرفين الحاكم على البراءة فانه لا يمكن الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر أيضا لأن إطلاق دليل البراءة في كل منهما قد ابتلي بالإجمال والتعارض الداخليّ ولا يجدي قيام أصل إلزاميّ في أحد الطرفين لإرجاع الأصل الترخيصي في الطرف الأول لأنه ساقط ذاتا لا حجية.

وفيه : أولا ـ هذا لا يختص بكون المحذور إثباتيا بل يجري أيضا لو تم على المسلك

__________________

للطرفين معا وشمولها لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح فيتساقطان ، والملاك المذكور يجعل التعارض بملاك التكاذب بينهما دائما.

الثاني ـ ان لهذه الدعوى لوازم لا يمكن الالتزام بها من قبيل لزوم تطبيق قواعد الترجيح والجمع العرفي بين دليلي الترخيصين في الطرفين فإذا كان أحدهما أقوى من الآخر قدم عليه ولا يجوز أن يحكم بتساقطهما. ومن قبيل ثبوت الإلزام الظاهري الشرعي فيما إذا كان في أحد الطرفين أصل ترخيصي ولم يكن في الطرف الآخر أصل شرعي منجز ولا مؤمن فان دليل الأصل الترخيصي في الطرف الأول بنفسه يدل على الإلزام الشرعي في الطرف الآخر حينئذ وهذا ما لا يقول به أحد وعلى القول به تنتفي أيضا الثمرة المبنية في البحوث المتقدمة بين مسلكي اقتضاء العلم الإجمالي وعليته لوجوب الموافقة القطعية كما لا يخفى.

والتحقيق في إبطال الثمرة المذكورة ان يقال : بأن إطلاق الخطاب الترخيصي وان كان منعقدا وتاما في موارد عدم التسانخ بين الترخيصين الا أن حجية هذا الإطلاق بنفسه حكم الظاهري ترخيصي مفاد بدليل واحد ـ سواء افترض لفظيا أو لبيا ـ فيحكم عليه الارتكاز المذكور المانع عن شمول كلا طرفي العلم الإجمالي.

١٩٩

الآخر الثبوتي إذا قيل بان محذور قبح الترخيص في المخالفة القطعية حكم عقلي بديهي بمثابة القرينة اللبية المتصلة بالخطاب.

وثانيا ـ ما تقدم من ان دليل الأصل الترخيصي مقيد بما لم يعلم تفصيلا حرمته ولا طرفا لعلم إجمالي لا يوجد منشأ لاختصاص الترخيص به دون الطرف الآخر والأصل الإلزامي الحاكم ينقح صغرى هذا الإطلاق كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في المنهج الصحيح لبحث موارد الشك في المكلف به والعلم الإجمالي.

الا ان السيد الأستاذ قد سلك منهجا آخر في المقام حاصله : ان احتمال التكليف في نفسه يقتضي التنجيز لأنه يقتضي احتمال العقاب في المخالفة واحتمال العقاب منجز بحكم العقل ويجب دفعه ما لم يوجد مؤمن ـ كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ بل حتى في موارد القطع بالتكليف يكون المنجز احتمال العقاب لا القطع به إذ لا قطع به لاحتمال العفو ، نعم في موارد الشك يحتمل عدم العقاب أيضا من باب عدم التكليف أي السالبة بانتفاء الموضوع. وعليه فلا حاجة إلى البحث في ان العلم الإجمالي أي أثر له في مقام التنجيز فان المقتضي للتنجيز وهو احتمال العقوبة موجود قطعا وانما يجب البحث عن المانع عنه وهو القواعد المؤمنة.

وهذا المنهج غير فني إذ يرد عليه :

أولا ـ ان هذا خلط بين التنجيز العقلي العملي والتنجز الجبلي الطبعي ، فان احتمال العقاب ليس هو المنشأ للتنجز العقلي بل متأخر عنه ومترتب عليه إذ لو لا حكم العقل بحق الطاعة والتنجز لما احتمل العقاب ، نعم التنجز الطبعي ليس ضرورة عقلية بل جبلية ناشئة من احتمال العقاب ولو من قبل الجائر كما إذا أو عدنا ظالم بالعقاب على مخالفته فيتجنب الإنسان بطبعه مخالفته فرارا عن العقاب وليس الكلام في هذا التنجز بل في التنجز العقلي والنسبة بينه وبين التنجز العقلي العموم من وجه بمعنى انه يمكن افتراض التنجز العقلي من دون احتمال العقوبة كما إذا قطع العبد بأنه لو عصى وتعقبت معصيته التوبة أو الشفاعة لعفي عنه المولى فانه مع ذلك لا تجوز المعصية عقلا ، كما يمكن افتراض العقاب بدون تنجز كما في وعيد الظالم بل وفي المولى العادل الحكيم وذلك فيما إذا فرض الشك في صحة قاعدة قبح العقاب بلا بيان وفرض

٢٠٠