بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

لأن داعوية القربة إلى الفعل تتوقف على أرجحيته من الترك بلحاظ عالم حق المولوية أو بلحاظ عالم غرض المولى بالمقدار الواصل منه إلى العبد ومن المعلوم انتفاء كلا الرجحانين إذ كل منهما يوصل إلى غرض احتمالي كما ان حق المولوية والطاعة في المقام يقتضي عدم المخالفة القطعية ونسبته إلى الطرفين على حد سواء ـ مع قطع النّظر عن وجود مزية لأحد الطرفين الّذي سوف يأتي الحديث عنه ـ وعليه فنقطع بسقوط الوجوب العبادي على تقدير ثبوته في نفسه لعدم القدرة على امتثاله فيصبح احتمال الحرمة مشكوكا بالشك البدوي وكذلك الحال لو كان كلاهما تعبديا.

وقد يحاول إثبات منجزية العلم الإجمالي في المقام لحرمة المخالفة بأحد تقريبين يرجعان إلى روح واحدة :

أحدهما ـ ان الإتيان بالفعل بداع غير إلهي مقطوع الحرمة على كل حال اما لكونه محرما بالحرمة النفسيّة إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال هو ذلك أو بالحرمة الغيرية إذا كان التكليف هو الوجوب العبادي بناء على ان الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضده الخاصّ لأن الفعل بداع آخر ضد للفعل بداع قربي غاية الأمر تكون هذه الحرمة المعلومة تفصيلا محتملة السقوط بالعجز عن إمكان تحصيل ملاكها فيدخل تحت كبرى العلم بأصل التكليف والشك في السقوط من باب الشك في القدرة وهو مورد الاحتياط.

وفيه : مضافا إلى فساد مبنى اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده ، ان الحرمة الغيرية لا تدخل في العهدة وانما الّذي يدخل فيها الغرض النفي المطلوب مولويا وهو مردد بين غرضين محتملين أحدهما مقطوع السقوط بالعجز والآخر يشك في أصل ثبوته.

الثاني ـ ان تحريك الداعي غير القربي للفعل نقطع بكونه مبعدا للمكلف عن المولى ، لأنه ان كان غرضه في الترك فمن الواضح مبعدية الداعي إلى الفعل وان كان غرضه في الفعل القربي فالداعي غير القربي مبعد عنه ولو لم نقل بتوقف أحد الضدين على عدم ضده ومعه يستقل العقل بقبح هذا التحرك.

وفيه : العقل لا يستقل الا بقبح مخالفة المطلوب النفسيّ للمولى الواصل إلى العبد ، وفي المقام كما ذكرنا يدور الأمر بين مطلوبين نفسيين محتملين أحدهما مقطوع السقوط على تقدير ثبوته بالعجز والآخر مشكوك يجري التأمين بلحاظه.

١٦١

وهكذا يظهر عدم إمكان التفصي عن هذا الإشكال أصوليا رغم ان النتيجة قد تكون غريبة ، نعم قد يحاول التفصي عن الإشكال فقيها بأنه يوجد في المقام داعيان إلهيان متصوران أحدهما احتمال الوجوب الداعي إلى الفعل والآخر احتمال الحرمة الداعي إلى الترك فإذا فرضنا ان كلا من الداعيين علة تامة في نفسه لتحريك المكلف لكنه مبتلى بالمزاحمة بمثله كان من اللازم على المكلف تحصيل داع نفساني لترجيح الفعل على الترك لكفاية هذا المقدار في قصد القربة المعتبر في العبادات لأن أصل الداعي القربي لما كان حاصلا غاية الأمر تزاحم بداع قربي آخر مثله فلا يضر بالقربية لأن جهة النقص فيها انما نشأت من المزاحمة بداع قربي لا بداع آخر دنيوي. بموارد المزاحمة مع داع آخر دنيوي يحرك نحو ضده وفرض ترجيح فعله بداع آخر دنيوي.

وان شئت قلت : ان صدور كل من الفعل والترك من المكلف بداعي ترك المخالفة القطعية كاف في القربية اللازمة لتحقق الغرض الشرعي من الفعل أو الترك إذا كان الأمر به قربيا لأن الدليل على اشتراط قصد القربة ليس لفظيا بل مثل الإجماع ونحوه وهو لا يقتضي أكثر من هذا المقدار.

هذا كله إذا فرض تساوي الطرفين ، واما مع فرض وجود مزية لأحد الطرفين احتمالا أو محتملا ـ وفرضت المزية في جانب التكليف التعبدي أو فرض إمكان التعبد بالحل الفقهي المتقدم ـ فهنا يمكن إيقاع الفعل على وجه عبادي قطعا فيكون الاضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه الّذي سوف يأتي انه من التوسط في التنجيز وبقاء تأثير العلم الإجمالي في تحريم المخالفة القطعية وهل يكون الترخيص تخييريا أو يتعين الترخيص باقتحام الطرف غير ذي المزية مع بقاء الطرف ذي المزية تحت منجزية العلم الإجمالي أو منجزية الاحتمال فلا تسوغ مخالفته حتى عنده موافقة الطرف الآخر؟ هذا بحث نقحناه في مباحث دليل الانسداد. وخلاصة الكلام فيه ان الترخيص في طرف غير ذي المزية على تقدير موافقة الطرف ذي المزية متيقن والزائد عليه غير معلوم فيرجع فيه إلى منجزية الاحتمال أو منجزية العلم الإجمالي ، خلافا لما تقدم في المقام السابق الّذي كان كلا الطرفين فيه توصليين حيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلحاظ أهمية أحد الطرفين من حيث مزية في المحتمل لأن العلم الإجمالي هناك لم يكن منجزا لاستحالة المخالفة القطعية بينما في المقام

١٦٢

المفروض منجزية العلم الإجمالي وسقوط الأصول المرخصة في الأطراف غاية الأمر ثبوت الترخيص بمقدار الاضطرار فصار احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على أي طرف من الطرفين منجزا لذلك الطرف لا يمكن رفع إليه عنه الا بمقدار الاضطرار الّذي قدره المتيقن الترخيص في الطرف غير الأهم.

المقام الثالث ـ فيما إذا كانت الواقعة متكررة ، كما إذا فرضنا العلم إجمالا بوجوب أو حرمة فعل ما يوم الخميس والجمعة معا ، وهنا العلم الإجمالي الدائر بين المحذورين في كل من اليومين وان كان يستحيل مخالفته القطعية ولا يقبل التنجيز الا انه يوجد هنا علمان إجماليان آخران يمكن مخالفتهما القطعية أحدهما العلم إجمالا بوجوب الفعل في يوم الخميس أو حرمته يوم الجمعة ومخالفته القطعية تكون بالترك يوم الخميس والفعل يوم الجمعة كما ان موافقته القطعية بالفعل يوم الخميس والترك يوم الجمعة ، والثاني العلم إجمالا بحرمة الفعل يوم الخميس أو وجوبه يوم الجمعة ومخالفته أو موافقته القطعية عكس الأول. والحاصل يعلم المكلف إجمالا بأنه لو فعل في أحد اليومين وترك في الآخر خالف مخالفة قطعية. والموافقة القطعية وان كانت غير ممكنة لأن موافقة كل من العلمين تزاحم وتعاكس موافقة الآخر الا ان الموافقة الاحتمالية بتركهما في اليومين أو فعلهما كذلك ممكنة. فهل تجب بعد الفراغ عن منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات أم لا؟.

ذهب المحقق الأصفهاني إلى عدم الوجوب ، لأن المعلوم بالإجمال ليس عدا تكليفين أحدهما التكليف في يوم الخميس وقد فرغنا عن عدم منجزيته لاستحالة مخالفته القطعية وموافقته كذلك ، والآخر التكليف في يوم الجمعة وهو أيضا كذلك ، واما العلمان الإجماليان التدريجيان فهما منتزعان من العلمين الإجماليين الدائرين بين المحذورين وليسا علما بتكليف جديد وراء التكليفين اللذين رخص فيهما.

ويرد عليه : أولا ـ يمكن فرض عرضية العلم الإجمالي التدريجي في المقام ، كما إذا علمنا ابتداء بأنه اما تعلق النذر بالفعل في كل من اليومين أو بالترك في كل منهما فالترك في كل واحد من اليومين مع الفعل في اليوم الآخر طرفان للعلم الإجمالي في عرض طرفية الترك والفعل في اليوم الواحد وهذا يعني ان التكليف قد تعلق به في

١٦٣

عرض واحد علمان إجماليان أحدهما لا يمكن ان ينجز والآخر يكون منجز الحرمة مخالفته القطعية.

وثانيا ـ أساسا لا محصل لهذا الكلام حتى على تقدير طولية العلمين الإجماليين ، لأن منجزية العلم الطولي لا تتوقف على تعلقه بتكليف جديد بل يكفي في التنجيز إمكان المخالفة القطعية بلحاظ أحد العلوم الإجمالية وان لم تكن ممكنة بلحاظ سائرها لأن المنجزية من آثار ومقتضيات العلم كما هو واضح. وحينئذ هل يحكم بحرمة المخالفة القطعية بلحاظ أي من العلمين الإجماليين التدريجيين فلا يسوغ له الا تركهما أو فعلهما معا في اليومين أو يقال بإمكان المخالفة لأحدهما لأن فيه الموافقة القطعية للآخر خصوصا إذا كان أحدهما أهم فهل تقدم الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال على المخالفة القطعية للمهم المعلوم بالإجمال ـ حيث ان الموافقة القطعية لأحد العلمين الإجماليين التدريجيين تساوق المخالفة القطعية للعلم التدريجي الآخر ـ أم لا؟ قد يقال بالثاني بأحد تقريبين :

التقريب الأول ـ مبنى على القول بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية فيكون تنجيزيا واقتضائه لوجوب الموافقة فيكون معلقا على عدم المانع فتكون حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي بالمهم مانعة عن اقتضاء العلم الإجمالي بالأهم لوجوب الموافقة القطعية ، لأنه كلما تزاحم مقتض تنجيزي مع مقتض تعليقي ارتفع التعليقي بالتنجيزي.

وفيه : أولا ـ على تقدير تسليم المبنى فالمعلق عليه اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية انما هو وصول الترخيص الشرعي لا العقلي وعدم وصول الترخيص الشرعي حاصل في كل من الطرفين فيصبح اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة تنجيزيا كاقتضاء الآخر لحرمة المخالفة فيكون من تزاحم مقتضيين تنجيزيين.

وثانيا ـ ان المدعى أهمية أحد المعلومين الإجماليين على الآخر بحيث لا يدخل المهم تحت دائرة حق المولوية في قبال الأهم حتى إذا كان معلوما تفصيلا فضلا إذا كان معلوما إجمالا ، ومنجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة لا تعني حتميته وتأثيره حتى لو فرض ان التكليف على تقدير وصوله لا يدخل تحت دائرة حق المولوية.

التقريب الثاني ـ ان الترجيح بالأهمية انما يكون في موارد التزاحم في مقام

١٦٤

الامتثال بين متعلقي التكليف الشرعي ، حيث يقال بتقييد كل تكليف بعدم الاشتغال بالأهم دون المهم وفي المقام لا تزاحم بين متعلقي التكليفين واقعا فالحكمان باقيان على إطلاقهما وانما التزاحم في حكم العقل بلزوم تحصيل الموافقة وإطاعة التكليف المعلوم بالإجمال وليس ملاك حكم العقل الأهمية في المصالح والمفاسد بل ملاكه حق الطاعة للمولى بلحاظ كل ما يكلف به سواء كان غرضه منه شديدا أم لا فيرجع إلى حكم العقل بالإطاعة في المقام وهو يحكم بتقديم حرمة المخالفة القطعية لكون اقتضاء العلم الإجمالي لها تنجيزيا مثلا.

وفيه ـ منع عدم تأثير أهمية التكليف المعلوم بالإجمال في حكم العقل بالإطاعة ، لأن حكم العقل هذا انما يكون بملاك تحقيق ما يهم المولى من أغراضه ولهذا يعبر عنه بان المكلف لا بد وان يتحرك وكأنه آلة بيد المولى يحركها حيث يريد وعند ما يكون أحد الغرضين أهم فلا محالة يكون التحريك نحو الغرض الأهم إذا كانت أهمية بدرجة كبيرة ولو أدى إلى المخالفة القطعية للغرض الآخر ، واما في فرض عدم الأهمية بهذه الدرجة فلا بد وان يرى ان الّذي يحكم به العقل ما هو؟ تقديم الموافقة القطعية المساوق مع المخالفة القطعية للآخر على الموافقة الاحتمالية لهما أو بالعكس أو يحكم بالتخيير في مقام العمل وهذا ما نؤجل تفصيله إلى بحوث العلم الإجمالي واشتباه الواجب بالحرام.

١٦٥
١٦٦

مباحث الحجج

أصالة الاحتياط

ـ منجزية العلم الجمالي

ـ الترخيص في تمام الأطراف

ـ الترخيص في بعض الأطراف

ـ أركان العلم الإجمالي

ـ تطبيقات وتنبيهات

١ ـ الثمرة العلمية بين العقلية والاقتضاء

٢ ـ الطولية بين طرفي العلم الإجمالي

٣ ـ الشبهة غير المحصورة

٤ ـ انحلال العلم الإجمالي بالعلم الوجداني

٥ ـ الانحلال الحكمي بالأمارات والأصول

٦ ـ اشتراك علمين في طرف

٧ ـ الأثر الزائد في أحد الطرفين

٨ ـ العلم الإجمالي بالحكم الظاهري

٩ ـ العلم الإجمالي بالتدريجيات

١٠ ـ الاضطرار إلى بعض الأطراف

١١ ـ خروج طرف عن محل الابتلاء

١٢ ـ ملاقي طرف العلم الإجمالي

١٦٧
١٦٨

« أصالة الاحتياط »

ويقصد بها موارد الشك في المكلف به عند العلم الإجمالي بأصل التكليف ، لا موارد الشك في الامتثال الّذي هو من الشبهة الموضوعية لا الحكمية.

ومنهج البحث على مبنانا في منجزية الاحتمال يختلف عنه على مبنى قبح العقاب بلا بيان ، فعلى الأول لا حاجة إلى البحث عن ان العلم الإجمالي هل يقتضي التنجيز أم لا ، لأن التكليف منجز بالاحتمال على كل حال وانما البحث حينئذ فقط عن جريان الأصول في الأطراف وعدمه ، وعلى الثاني لا بد وان يبحث عن منجزية العلم الإجمالي وانه هل يقتضي تنجيز حرمة المخالفة القطعية بنحو الاقتضاء أو العلية أو لا ، ثم على تقدير اقتضائه لحرمة المخالفة فهل يقتضي أيضا وجوب الموافقة بنحو العلية أو الاقتضاء أم لا ، وعلى هذا الأساس لا بد من عقد البحث في ثلاث مقامات :

الأول ـ في اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز ، وهذا انما يحتاج إليه على مبنى القوم فقط.

الثاني ـ في مانعيته ثبوتا أو إثباتا عن جريان الأصول الترخيصية الشرعية في تمام الأطراف ، وهو معنى ان اقتضاءه لحرمة المخالفة القطعية بنحو العلية أو الاقتضاء بحيث يرتفع مع الترخيص الشرعي في الأطراف.

الثالث ـ في مانعيته ثبوتا أو إثباتا عن جريان الأصول الترخيصية في بعض

١٦٩

الأطراف ، وهو معنى ان اقتضاءه لوجوب الموافقة بنحو العلية أو الاقتضاء.

منجزية العلم الإجمالي :

اما البحث في المقام الأول فهو يناسب مع بحوث حجية القطع وقد تقدم الحديث عنه هناك. ونقول هنا على نحو الإيجاز ان منجزية العلم الإجمالي بلحاظ حرمة المخالفة أعني الإلزام بالجامع لا ينبغي الإشكال فيه لأن البيان بمقدار الجامع ثابت على أي حال ولم يستشكل فيه أحد من المحققين المتأخرين وان كان قد نسب القول بعدم اقتضائه لذلك إلى من لا نعرفه من المتقدمين ولعله كان في عصر لم يميز فيه بعد بين البراءة العقلية وقبح العقاب بلا بيان والبراءة الشرعية والترخيص فلعل مقصوده دعوى إمكان جريان الترخيص الشرعي في أطرافه.

واما منجزيته بلحاظ وجوب الموافقة القطعية أي عدم جريان التأمين والبراءة العقلية ـ بناء على القول بها ـ بلحاظ ارتكاب بعض الأطراف بعد تحقق امتثال الجامع المعلوم فقد ذهب المشهور إلى اقتضائه لوجوب الموافقة مباشرة ، وظاهر أحد تقريري المحقق النائيني ( قده ) عدم اقتضائه للتنجيز بذاته وانما يثبت التنجيز نتيجة تساقط الأصول العقلية والشرعية في الأطراف ، وقد تربط المسألة بحقيقة العلم الإجمالي وانه هل يتعلق بالجامع أو بالواقع.

اما شرح حقيقة العلم الإجمالي فقد تقدم مفصلا في بحوث القطع وذكرناه هناك مسالك ثلاثة فيه من تعلقه بالجامع أو بالفرد المردد أو بالواقع ثم حاولنا ان نجمع بين المسالك الثلاثة بوجه فني هو تعلقه بعنوان جامع يخترعه الذهن ويرمز به إلى تمام الفرد لا الجامع الحقيقي.

واما منجزيته للموافقة القطعية فمقتضي التدقيق عدم المنجزية بناء على حرفية قاعدة قبح العقاب بلا بيان على جميع المسالك في حقيقة العلم الإجمالي الا في قسم من الشبهات الموضوعية ، فالكلام في امرين :

أحدهما ـ ان العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة كلما تعلق بالحكم ففي الشبهات الحكمية مثلا لا يقتضي ذلك.

والآخر ـ في بيان ضابط التفصيل في منجزيته لوجوب الموافقة بين موارد تعلق

١٧٠

العلم الإجمالي بالتكليف.

اما الأمر الأول ـ فلأن العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا لا يقتضي أكثر من وجوب الإتيان بأحدهما لا كليهما ، وذلك ببرهان ان المقدار الّذي تم عليه البيان انما هو الجامع بينهما واما خصوصية الظهر أو الجمعة فلا بيان عليها ومن الواضح ان امتثال ما تم عليه البيان وتنجز وهو الجامع يتحقق عقلا بإتيان أحدهما.

وهذا البرهان تام على جميع المسالك في شرح حقيقة العلم الإجمالي ، اما على المسلك القائل بتعلقه بالجامع الحقيقي أو الاختراعي فواضح. واما على المسلك القائل بتعلقه بالفرد المردد فلأن هذا الترديد بحسب الحقيقة ترديد في الإشارة الذهنية لا في المشار إليه لاستحالة وجود الفرد المردد ومعه لا تكون خصوصية كل من الجمعة أو الظهر قد تم عليه البيان والإشارة لوجود التردد فيها بحسب الفرض.

واما على المسلك القائل بتعلقه بالواقع ، فلأن صاحب هذا المسلك أيضا لا يريد تعلقه بالواقع الموضوعي المعلوم بالعرض ، لوضوح ان العلم التفصيليّ ليس كذلك فكيف بالإجمالي وانما يريد ان المعلوم بالذات في العلم التفصيليّ صورة صافية غير مشوشة وفي العلم الإجمالي صورة مبهمة يمكن تجزئتها عقلا بالتحليل إلى جزءين أحدهما منكشف ومضيء وهو الجامع والآخر مبهم ومظلم وهو الفرد ومن الواضح انه بناء على حرفية قاعدة قبح البيان لا يكون البيان والانكشاف تاما الا بلحاظ الجزء الأول لا الثاني فكل من الفردين بخصوصيته مما لم يتم عليه البيان.

وهكذا يثبت عدم منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بناء على قبول قاعدة قبح العقاب بلا بيان على جميع المسالك في حقيقة العلم ، وهذا من النتائج الغريبة المترتبة على هذا المبنى المشهور لدى الأصوليين والتي لا يقبلها الوجدان السليم.

وعلى ضوء ما تقدم يتضح وجوه المناقشة فيما جاء في كلمات الأصحاب من التعبيرات لإثبات منجزية العلم الإجمالي بوجوب الموافقة ، نشير إلى أهمها فيما يلي :

الوجه الأول ـ ما يقتنص من كلمات المحقق النائيني ( قده ) في أحد تقريري بحثه من ان العلم الإجمالي وان كان بنفسه لا يقتضي تنجيز الموافقة القطعية لكنه لما كان العلم الإجمالي مقتضيا بنحو العلية لحرمة المخالفة القطعية أوجب ذلك تعارض الأصول المؤمنة الشرعية والعقلية وتساقطها في الأطراف فيبقي الاحتمال في كل من الطرفين

١٧١

بلا مؤمن شرعي ولا عقلي فيتنجز التكليف المعلوم بالإجمال (١).

وفيه : أولا ـ ما سوف يأتي من اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة في بعض الشبهات.

وثانيا ـ لا معنى لافتراض التعارض والتساقط في البراءة العقلية وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، إذ لا منافاة أصلا بين تنجز الجامع وعدم تنجز كل من الخصوصيّتين المقتضي لحكم العقل بان حق طاعة المولى في موارد العلم الإجمالي انما هو بمقدار الجامع لا أكثر فمن أول الأمر نجري البراءة فيما زاد على الجامع لا في كل من الطرفين وإيقاع المعارضة بينهما بل يستحيل ذلك إذ لا معنى لوقوع التعارض في حكم العقل فان كان ملاك حكم العقل هو عدم البيان تاما في كل من الطرفين استحال التصادم بين البراءتين والا لم تجر البراءة لعدم المقتضي لا للتعارض.

وان شئت قلت : انه لا مانع ولا محذور في ان يكون ترك كل طرف من حيث انه ترك لتكليف مشكوك مؤمنا عنه وموردا للبراءة العقلية ولكن إذا جمع بين التركين كان معاقبا بلحاظ تركه للجامع المعلوم فيتنجز الوجوب بمقدار إضافته إلى الجامع لأن هذا هو المقدار الّذي تم عليه البيان وهذا التبعيض غير صحيح في البراءة الشرعية لأنها مفاد دليل لفظي تابع لمقدار ظهوره العرفي وهو لا يساعد على ذلك على ما سوف يأتي الحديث عنه مفصلا.

الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق العراقي من ان العلم الإجمالي فرقه عن العلم التفصيليّ في انه عارض على الصورة الذهنية بحدها الإجمالي المبهم لا التفصيليّ الا ان هذين الحدين الإجمالي والتفصيليّ انما هو بلحاظ ما في الذهن من الصور لا بلحاظ الخارج فانه ليس فيه الا حد واحد هو الحد الشخصي ، وعليه فبلحاظ عالم الذهن لا يمكن ان يسري العلم الإجمالي العارض على الحد الإجمالي إلى الحد التفصيليّ ، لأن الحدين متباينان وكل منهما معروض لأحد العلمين ويستحيل ان يسري أي عارض إلى غير معروضه. الا انه بلحاظ التنجيز فحيث ان التنجيز حكم عارض على الواقع لا على الصورة الذهنية كالعلم فلا يقال فيه انه يستحيل ان يسري من الحد الإجمالي إلى

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ص ٢٤٢.

١٧٢

الحد التفصيليّ لأن الواقع كما قلنا ليس له حدان بل حد واحد شخصي فيتنجز الواقع بهذا العلم بحده الواقعي في كل من الطرفين ، فيما يقال من انه كما لا يسري العلم الإجمالي إلى الواقع وحده التفصيليّ كذلك لا يسري التنجيز إليه خلط بين الحدود الذهنية العارض عليها العلم وبين الحد الخارجي المعروض للحكم بالتنجز (١).

وفيه : أولا ـ ان معروض التنجز أيضا هو الموجود الذهني لا الخارجي بناء على ما هو الصحيح والمختار لديه أيضا من كون المتجري معاقبا بنفس عقاب العاصي. لأن لزوم إطاعة المولى انما يكون بملاك تعظيمه وأداء حقه وهو متقوم بوصول التكليف لا بوجوده الواقعي إيجابا أو سلبا.

وثانيا ـ لو سلمنا ان معروض التنجز هو الواقع مع ذلك لا ينبغي الإشكال في ان الوصول والعلم جزء العلة في تنجزه والا كان داخلا تحت التأمين العقلي بالقاعدة ، والبيان انما تم بمقدار الجامع لا أكثر. ودعوى : ان الواقع ليس له حدان إجمالي وتفصيلي خلط بين الإجمال والتفصيل وبين الجامع والخصوصية فان الواقع وان لم يكن له حدان إجمالي وتفصيلي لأن الجمالية والتفصيلية من خصائص الصور الذهنية الا ان له حدين بمعنى آخر الحد الجامعي والحد الشخصي والّذي تم عليه البيان من حدود الواقع انما هو الحد الأول الّذي يتحقق بالإتيان بأحد الطرفين لا الثاني الّذي لا يتحقق الا بإتيان كلا الطرفين.

الوجه الثالث ـ ان العلم الإجمالي وان تعلق بالجامع لكن الجامع تارة ينظر إليه قبل تحصصه وانطباقه في الواجب التخييري وأخرى ينظر إليه مفروغا عن تحصصه وانطباقه على الخارج كما في المقام حيث يعلم بوجوب إحدى الخصوصيّتين أيضا زائدا على الجامع فتتنجز الخصوصية في الفرض الثاني لا محالة (٢).

وفيه : ان ما هو داخل تحت العلم عنوان الخصوصية الانتزاعي لا واقعه فيبقي العقاب على واقع تلك الخصوصية بلا بيان (٣).

__________________

(١) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٠٩.

(٢) نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٠٠.

(٣) تقدم في بحوث حجية القطع ان لازم هذا عدم الفرق في درجة التجري وقبح المخالفة بين موارد الشك البدوي كموارد الدوران بين التخيير والتعيين وموارد العلم الإجمالي من حيث ان كليهما من المخالفة الاحتمالية مع وجدانية الفرق بينهما فلا بد من.

١٧٣

الوجه الرابع ـ ما قد يظهر من بعض كلمات المحقق الأصفهاني ( قده ) وهو مركب من مقدمتين :

الأولى ـ ان ترك الموافقة القطعية بمخالفة أحد الطرفين يعتبر مخالفة احتمالية للجامع لأن الجامع ان كان موجودا ضمن ذلك الطرف فقد خولف والا فلا

الثانية ـ ان المخالفة الاحتمالية للتكليف المنجز غير جائزة عقلا ، لأنها مساوقة لاحتمال المعصية وحيث ان الجامع منجز بالعلم الإجمالي فلا تجوز مخالفته الاحتمالية.

وفيه : مانع المقدمة الأولى ، فان الجامع إذا لوحظ فيه مقدار الجامع بحده فقط لم تكن مخالفة أحد الطرفين مع موافقة الطرف الآخر مخالفة احتمالية له ، لأن الجامع بحده لا يقتضي أكثر من التطبيق على أحد الفردين والمفروض ان العلم واقف على الجامع بحده وان التنجز تابع لمقدار العلم فلا مخالفة احتمالية للمقدار المنجز أصلا.

واما الأمر الثاني ـ فالتحقيق التفصيل بين مثل العلم الإجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر الّذي هو الشبهة ـ حكمية ومثل العلم الإجمالي بوجوب إكرام زيد أو عمرو بنحو الشبهة الموضوعية للعلم بان أحدهما عالم يجب إكرامه لأنه في الأول لا يعلم الا بوجوب إحدى الصلاتين واما الخصوصية فلم تدخل في العهدة ، واما في الثاني لا بد من إكرام كليهما لأننا علمنا بوجوب إكرام العالم فخصوصية إكرام العالم داخلة في العهدة فيجب تحصيلها وموافقتها القطعية التي لا تكون الا بإكرامهما معا.

وقد يناقش في ذلك بعدم الفرق بين الشبهتين لأن الحكم لا يتنجز الا بوصوله كبرى وصغرى ، فكما انه في الشبهة الحكمية تكون الكبرى مرددة ويكون المقدار المعلوم منها هو الجامع فلا يتنجز الا الجامع كذلك في الشبهة الموضوعية تكون الصغرى مرددة ويكون المقدار المعلوم منها هو الجامع وان كانت الكبرى معلومة تفصيلا لأن وصول الحكم لا يكون الا بوصول كبراه وصغراه والمفروض ان الصغرى لم تصل الا بمقدار الجامع الأكثر إذ لا يعلم الا ثبوت العلم لأحدهما لا هذا بالخصوص أو ذلك

__________________

تفسير لهذا الفرق الوجداني وليس الفرق الا في العلم بعنوان انتزاعي ينطبق على الواقع بحده. وإن شئت قلت : إمكان الإشارة إلى الخارج زائدا على المقدار الجامع وهذا كاف في نظر العقل لتنجزه ولزوم الفراغ عنه يقينا وان كان كل طرف بعنوانه التفصيليّ مشكوكا وهذا بخلاف موارد الشبهات البدوية ولعل هذا هو مقصود المحقق العراقي من تعلق التنجز وترتبه على الواقع وإن كانت عبارة التقرير خلافه.

١٧٤

بالخصوص ، ولعله لهذا لم يفصل بينهما مثل المحقق النائيني ( قده ) القائل بان العلم الإجمالي لا يقتضي الموافقة القطعية.

الا ان هذا الكلام غير تام ، لأن عدم معلومية الصغرى بأزيد من مقدار الجامع لا يقدح بدخول الخصوصية في العهدة لأن المقدار الواصل من التكليف ينحل بحسب التحليل العقلي إلى امرين وجوب إكرام شخص وان يكون المكرم عالما فإذا أكرمنا أحدهما لم يكن ذلك موافقة قطعية للمقدار الواصل لأن الجزء الثاني الواصل أيضا لا يعلم موافقته الا بإكرام كليهما تماما كما في موارد العلم التفصيليّ بوجوب إكرام العالم والشك في الامتثال (١).

والضابط الفني للتفصيل ليس بكون الشبهة حكمية أو موضوعية وانما الضابط كون متعلق الحكم مقيدا بقيد معلوم لا يعلم حصوله في هذا الفرد أو ذاك فنضطر إلى الجمع بينهما تحصيلا للقطع بحصوله فمهما كان التكليف المعلوم بالإجمال كذلك أصبح العلم الإجمالي منجزا وهذا يكون في قسم من الشبهات الموضوعية وهو الشبهة الموضوعية التي ينشأ الشك في الحكم فيما من ناحية تردد قيود المتعلق خارجا كما في المثال واما إذا لم يكن كذلك كما إذا شك في قيود الحكم خارجا مثل الشك بقطع المسافة الشرعية فيعلم إجمالا بوجوب القصر أو التمام عليه فحاله حال الشبهة الحكمية (٢).

جريان الترخيص في تمام الأطراف :

المقام الثاني ـ في مانعية العلم الإجمالي ثبوتا أو إثباتا عن جريان الأصول المرخصة في تمام الأطراف ، والبحث عن ذلك تارة في المانع ثبوتا ، وأخرى في المنافع إثباتا ،

__________________

(١) لا يقال : ليس القيد الثاني للتكليف ان يكون المكرم عالما بل إكرام هذا إذا كان عالما أو ذاك إذا كان عالما ولهذا لو أكرم عالما آخر غيرهما لم يكن امتثالا للتكليف المعلوم بالإجمال وهذا الجزء غير معلوم الا بجامعه حيث يعلم بأن أحدهما متعلق الوجوب وهو يمتثل بإتيان الجامع بحسب الفرض.

فانه يقال ـ حيث يعلم فعلية التكليف بإكرام أحدهما لكونه عالما فيعلم بتعلق التكليف بالخصوصية ولو ضمنا أعني كون المكرم عالما فتدخل في العهدة لا محالة نعم هنا خصوصية الثالثة وهي كون العالم المكرم هذا أو ذاك وهي لا تدخل في العهدة الا بمقدار الجامع الا انه يكفي دخول الخصوصية الثانية في العهدة لوجوب إكرامهما تحصيلا للفراغ اليقيني من ناحيتها وان لم تمكن الخصوصية الثالثة داخلة في العهدة.

(٢) يمكن افتراض الشك في قيد المتعلق في الشبهة الحكمية أيضا إذا كانت القضية المجعولة خارجية لا حقيقية كما إذا امر بإكرام كل من في العسكر وكان عنوان العسكر مجرد مشير إلى من فيه وعلم إجمالا بان زيدا أو عمرا كان في العسكر.

١٧٥

فيقع الكلام في جهتين :

الجهة الأولى ـ في المانع الثبوتي ، والتحقيق : عدم وجود مانع ثبوتا عن جريان الأصل المرخص في تمام أطراف العلم الإجمالي كما شرحنا ذلك مفصلا في بحوث القطع ، ويتبرهن ذلك بالالتفات إلى أمرين :

الأول ـ ان حكم العقل بوجوب الإطاعة وقبح المعصية حكم تعليقي مشروط بعدم الترخيص الشرعي والاذن من قبل المولى في المخالفة ، لأن هذا الحكم من أجل المولى وليس عليه.

الثاني ـ ان مرتبة الحكم الظاهري في تمام أطراف العلم الإجمالي محفوظة بناء على تفسيرنا في حقيقة الحكم الظاهري وكيفية الجمع بينه وبين الحكم الواقعي ، حيث تقدم في محله انه عبارة عن إعمال المولى لقوانين التزاحم الحفظي بين أغراضه وتقديمه الأهم منها على غيره في موارد الاشتباه والتردد وهذا في موارد العلم الإجمالي محفوظ لوجود التردد والاشتباه فيه بخلاف العلم التفصيليّ ، وعليه فإذا كان الغرض الإلزامي المعلوم بالإجمال المشتبه بين الطرفين أهم في مقام الحفظ من الغرض الترخيصي المحتمل والمعلوم بالإجمال أيضا في أحد الطرفين جعل إيجاب الاحتياط والا جعل الترخيص والتسهيل الظاهري في تمام الأطراف تماما كما هو الحال في موارد الشبهات البدوية.

وقد ذكر المحققون كل حسب مسلكه ومشربه بيانا لا ثبات المانع الثبوتي عن جريان الأصول المرخصة في تمام الأطراف وقد عبر عنه في كلماتهم بعلية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وعدم إمكان الترخيص في تمام أطرافه.

وفيما يلي نلخص كلماتهم ضمن وجوه ثلاثة تبنت كل واحد منها إحدى المدارس الثلاث مدرسة المحقق الخراسانيّ ومدرسة المحقق النائيني ومدرسة المحقق العراقي ( قدس الله أسرارهم ).

الوجه الأول ـ ما ذكره المحقق الخراسانيّ ( قده ) من التضاد والتناقض بين جعل الترخيص الظاهري في تمام الأطراف وبين الواقع المعلوم بالإجمال إذا فرض بلوغه مرتبة الحكم الفعلي ولو بنفس تعلق العلم الإجمالي به ، إذ لا يعقل الحكم والإرادة الفعلية المطلقة في أحد الطرفين مع الترخيص الفعلي في كلا الطرفين وانما يعقل ذلك

١٧٦

فيما إذا لم يكن التكليف الواقعي فعليا مطلقا بان تتوقف فعليته على شيء آخر كتعلق العلم التفصيليّ به.

وهذا الوجه للمانعية لا فرق فيه بين العلم الإجمالي والشك البدوي ، إذ كما يستحيل اجتماع الضدين في مورد العلم الإجمالي كذلك يستحيل في مورد الشك البدوي وكما لا يمكن العلم باجتماعهما كذلك لا يحتمل اجتماعهما فلا بد وان يكون التكليف في موارد الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي معا غير بالغ مرتبة الفعلية المطلقة وانما الفرق بينهما انه في الشك البدوي فرض عدم فعلية التكليف ولو بقرينة أدلة الأصول ، واما في موارد العلم الإجمالي حيث فرض تعلقه بالتكليف الفعلي ولو في طول تعلق العلم بمرتبة من التكليف ـ فيستحيل الترخيص في أطرافه. بل يمكن ان يستفاد من كلام هذا المحقق أنه لا فرق بين الشك البدوي والعلم الإجمالي والعلم التفصيليّ من هذه الناحية فانه في جميع ذلك ان فرض التكليف بالغا مرتبة الفعلية المطلقة فلا يمكن الترخيص في خلافه وان كانت فعليته موقوفة على امر غير حاصل ولو كان هو الوصول والعلم ـ أمكن الترخيص فيه. غاية الفرق ان العلم والوصول بنفسه من موجبات بلوغ التكليف مرحلة الفعلية.

وفيه : ان كان المراد من الفعلية المطلقة للتكليف المعلوم بالإجمال فعلية تحفظ المولى عليه بلحاظ حالة التزاحم الحفظي والاشتباه فهذه الفعلية تناقض الترخيص في الخلاف فلا يمكن جريانه في تمام الأطراف الا ان هذا المعنى للفعلية يعني إيجاب الاحتياط والإلزام بحفظ التكليف حتى في مورد الشبهة والشك الّذي هو ضد الترخيص والإباحة الظاهرية وليس الكلام فيه وانما الكلام في إمكان رفع اليد عن التكليف المعلوم واقعا في مرحلة الحفظ والمحركية بجعل الإباحة والترخيص في تمام الأطراف كرفع اليد عن التكليف المشكوك بالشك البدوي كذلك.

وان كان المراد فعلية التكليف ذاتا وبقطع النّظر عن مسألة المزاحمة أي فعليته في نفسه بلحاظ مبادئه أو جعله واعتباره أو موضوعه فالفعلية بهذا المعنى لا تنافي الترخيص الظاهري في تمام الأطراف لما تقدم من ان مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ومعقولة حتى في موارد العلم الإجمالي.

الوجه الثاني ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان الترخيص في تمام الأطراف

١٧٧

ترخيص في معصية التكليف الواصل والترخيص في المعصية قبيح لا يصدر من الحكيم ، وان شئت قلت : يقع التضاد بين الترخيص الظاهري في الطرفين وحكم العقل بقبح المعصية لا بينه وبين الحكم الواقعي كما توهمه المحقق الخراسانيّ ( قده ).

وفيه : ان المعصية وان كانت قبيحة كلما تحققت بحكم العقل ، وحكم العقل لا يقبل التخصيص الا ان الكلام في تحقق موضوعها فان هذا فرع ان تكون منجزية العلم تنجيزية لا معلقة على عدم الترخيص الشرعي ، وقد تقدم في أصل البرهان ان حكمه تعليقي وليس تنجيزيا فيمكن للشارع ان يرفعه بترخيصه لأن هذا الحكم من أجل المولى وليس عليه فكلما أمكن للمولى ان يرخص مولويا ارتفع موضوع المعصية والقبح ، وقد تقدم مفصلا ان مرتبة الترخيص المولوي بملاك التزاحم الحفظي معقول في مورد العلم الإجمالي وان لم يكن معقولا في مورد العلم التفصيليّ.

وهكذا يتضح ان ترخيص المولى في تمام الأطراف لا يعني الترخيص في المعصية ، إذ ليس ذلك بمعنى رفع مولوية المولى أو الترخيص في هتك حرمته ومعصيته ليقال باستحالته لأن مولويته ذاتية وقبح هتكه ومعصيته لا يقبل التخصيص ، بل بمعنى إعمال المولى لولايته وتحركه باتجاه حفظ ما هو المهم من غرضه في مقام التزاحم الحفظي والمحركية تمام كما هو الحال في موارد الشبهات البدوية ، بل المنع عن ذلك بدعوى انه ليس للمولى تقديم أغراضه الترخيصية على الغرض الإلزامي في موارد التزاحم هو بحسب الحقيقة تحديد لمولوية المولى وتحكم عليه.

فالحاصل : كما لا تضاد بين التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال مع الترخيص الظاهري في تمام الأطراف لانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في مورده كذلك لا تضاد بين الترخيص الظاهري وحكم العقل بقبح المعصية.

الوجه الثالث ـ ما جاء في كلمات المحقق العراقي ( قده ) (١) ، وهو يمكن تحليله إلى أحد بيانين :

الأول ـ انا لا نتعقل فرقا بين العلم الإجمالي والتفصيليّ في المنجزية ، لأن الإجمال انما هو في خصوصيات لا دخل لها فيما يدخل في العهدة وتشتغل به الذّمّة بحكم العقل ،

__________________

(١) نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٣٠٥ ـ ٣٠٧.

١٧٨

إذ ما هو موضوع لذلك انما هو العلم بالأمر أو النهي الصادرين عن المولى ، واما خصوصية كونه متعلقا بالجملة أو الظهر لا دخل لها في المنجزية والا كان وجوب صلاة الجمعة مثلا منجزا على المكلف لكونه وجوبا لصلاة الجمعة بالخصوص وهو واضح البطلان. فالحاصل المنجز هو أصل الإلزام وهو معلوم تفصيلا ولا إجمال فيه فلا قصور في منجزية العلم الإجمالي لما تعلق به من التكليف وانه بنظر العقل بالإضافة إلى ما تعلق به كالعلم التفصيليّ.

وفيه : ان عدم الفرق بين العلمين في المنجزية بمقدار أصل الإلزام الّذي تعلق به وكون المنجز انما هو الإلزام المولوي صحيح ، الا ان حكم العقل بالمنجزية هذا معلق في نفسه على عدم ورود ترخيص من الشارع سواء في موارد العلم التفصيلي أو الإجمالي غاية الأمر المعلق عليه وهو عدم الترخيص الشرعي في موارد العلم التفصيليّ ضروري الثبوت لاستحالة الترخيص فيه إذ لو كان نفسيا لزم التضاد ، وان كان طريقيا وبملاك التزاحم الحفظي فهو غير معقول لعدم التزاحم وعدم الالتباس بحسب نظر العالم تفصيلا ـ وقد تقدم شرحه مفصلا في بحوث القطع ـ وهذا بخلاف العلم الإجمالي الّذي يكون الالتباس والتزاحم الحفظي بين ملاكات الأحكام الواقعية الترخيصية والإلزامية حاصلا فيه.

الثاني ـ ان الترخيص الظاهري وان كان غير مناقض مع فعلية الحكم الواقعي لتعدد رتبتهما ـ بناء على مسلكه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ـ حتى في موارد العلم ولكنه يناقض حكم العقل بوجوب الامتثال والموافقة إذا فرض تنجيزيا لا تعليقيا ، وكذلك يناقض اقتضاء التكليف الواقعي للتحريك وحفظ غرض المولى مع قيام طريق منجزا إليه عقلا. ونحن نستكشف تنجزية حكم العقل في المقام من ارتكازية التضاد بين الترخيص الشرعي في تمام الأطراف مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال عند العقلاء ، إذ لو لا ذلك لما كان هناك تضاد بين الترخيص الظاهري والتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال لا بلحاظ أغراضه ومبادئه ولا بلحاظ الغرض المقدمي وهو التحريك بالخطاب لأنه فرع وجود طريق منجز.

وفيه : أولا ـ لو سلمنا المناقضة بين الترخيص وبين حكم العقل لكونه تنجيزيا فهذا لا يوجب سراية المناقصة إلى التكليف الواقعي لا بلحاظ مبادئ الحكم الواقعي

١٧٩

الأصلية ولا بلحاظ الغرض المقدمي ـ حسب تصورات هذا المحقق ـ لأن الغرض المقدمي لا بد وان لا يكون أوسع من قابلية المقدمة واستعدادها لا انه يجب ان لا يكون أضيق من قابلية المقدمة ، فلعل غرض التحريك والباعثية وحفظ الأغراض الواقعية بالخطابات مخصوص عند المولى بموارد العلم التفصيليّ وغير ثابت في موارد العلم الإجمالي فلا يكون الترخيص منه في مورد العلم الإجمالي مناقضا مع التكليف الواقعي.

وثانيا ـ إن أريد من ارتكازية التضاد عند العقلاء بين الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي والتكليف الواقعي المعلوم ارتكاز العقلاء بحسب تعايشهم وأوضاعهم وأغراضهم العقلائية فذلك صحيح الا انه ناشئ من غلبة أهمية أغراضهم الإلزامية وأرجحيتها من أغراضهم الترخيصية في التزاحم الحفظي فلا يمكن إسراء ذلك إلى مولى ربما تكون أغراضه الترخيصية أهم أو مساوية مع الإلزامية كما لعله كذلك في حق الشارع الأقدس.

وان أريد ارتكاز العقلاء بلحاظ حكم العقل بالمنجزية محضا وكونه بنحو العلية لا الاقتضاء ـ أي تنجيزيا لا تعليقيا ـ فالمفروض ان هذا التضاد بين الترخيص الظاهري والحكم الواقعي انما نشأ ببركة حكم العقل بالتنجيز فكيف يعقل ان يكون حكم العقل بالتضاد أجلى وأوضح من حكمه بالتنجيز بحيث يستدل به عليه. والظاهر وقوع الخلط بين الارتكاز العقلي والعقلائي.

وثالثا ـ ما تقدم من ان حكم العقل بالتنجيز وحق الطاعة تعليقي دائما.

وهكذا يتضح انه لا مانع ثبوتي عن الترخيص الشرعي في تمام أطراف العلم الإجمالي وانه ليس علة لحرمة المخالفة القطعية بل اقتضاؤه لذلك تعليقي يمكن للشارع رفعه بالترخيص الظاهري في تمام الأطراف ، فلا بد من ملاحظة مقام الإثبات لنرى هل يمكن استفادة ذلك من أدلة الأصول الترخيصية أم لا؟.

الجهة الثانية ـ في المانع الإثباتي عن جريان الأصل في تمام أطراف العلم الإجمالي ، والمستفاد من كلمات المحققين ( قدس الله أسرارهم ) عدم المانع عن ذلك لتصريحهم بان كل طرف من الأطراف مشمول لإطلاق أدلة الأصول في نفسه ، وانما المانع عن التمسك به المحذور الثبوتي المتقدم.

والصحيح ان المانع بحسب الحقيقة إثباتي لا ثبوتي كما يظهر ذلك بمراجعة الفهم

١٨٠