بحوث في علم الأصول - ج ٥

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٤

فالكاشف أخص من المنكشف لا مساو معه ، ومن هنا صح التعبير عنه بالاحتياط لأنه حكم ظاهري طريقي في واقعه ، وهذا الاحتمال عليه بعض الشواهد من سائر روايات الباب نترك بحثها إلى محله في الفقه ، الا انه بناء على هذا أيضا لا تدل الرواية على وجوب الاحتياط بل على احتياط وطريقية لكاشف خاص في مورد مخصوص يكون الشك فيه في الامتثال فلا يمكن التعدي منه واقتناص قاعدة كلية.

الثانية ـ صحيحة عبد الرحمن ( قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ فقال : لا بل عليهما ان يجزي كل واحد منهما الصيد ، قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا ) (١).

وتقريب الاستدلال بها مبني على إرجاع قوله عليه‌السلام ( إذا أصبتم بمثل هذا ) إلى مسألة الصيد وان يراد منه الإصابة بالشبهة الحكمية ، لأن الشك في مسألة الصيد كان في أصل الحكم ، وكونه دائرا بين الأقل والأكثر ليس خصوصية عرفية ليقتصر عليها ، كما ان التعبير بمثل هذا يلغي خصوصية صيد المحرم فتعم الرواية لكل شبهة حكمية.

وفيه ـ أولا ـ قوة احتمال رجوع الإشارة في قوله عليه‌السلام ( إذا أصبتم بمثل هذا ) إلى السؤال الأخير للسائل أي إذا صادف سؤالا لا يعرف جوابه فعليه الاحتياط وعدم الإفتاء حتى يسأل فيتعلم الحق ويجيب به ، ومعه تكون أجنبية عن محل الكلام ومن أدلة الحث على السؤال وتعلم الأحكام الشرعية عنهم عليهم‌السلام.

وثانيا ـ لو فرض رجوع الإشارة إلى أصل المسألة والشبهة الحكمية من حيث العمل فغاية ما تدل عليه الرواية وجوب الاحتياط قبل الفحص في مورد إمكان الفحص والوصول إلى الحكم الشرعي ، فان الغاية ( حتى تسألوا وتعلموا ) تدل على أخذ إمكان ذلك في مورد السؤال ، ووجوب الاحتياط في مثله لا خلاف فيه.

وهكذا يتضح عدم تمامية ما يدل على وجوب الاحتياط في الاخبار أيضا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٩ ، كتاب الحج ، باب ٦ من أبواب كفارات الصيد.

١٠١

النسبة بين أدلة البراءة والاحتياط

ثم لو فرضنا تمامية شيء من اخبار الاحتياط انفتح الحديث عن النسبة بينها وبين أدلة البراءة الشرعية من جهات أربع :

١ ـ النسبة بين اخبار الاحتياط واخبار البراءة ٢ ـ النسبة بين اخبار الاحتياط والدليل القرآني على البراءة.

٣ ـ النسبة بين اخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب المثبت للبراءة.

٤ ـ في ما تقتضيه القاعدة على تقدير التعارض والتساقط بين اخبار الاحتياط والبراءة.

الجهة الأولى ـ في النسبة بين اخبار الاحتياط واخبار البراءة الشرعية. وقد تصدى جملة ـ من المحققين لا ثبات أخصية اخبار البراءة الشرعية بالنسبة لاخبار الاحتياط. وبهذا الصدد أفاد السيد الأستاذ وجوها ثلاثة للأخصية كالتالي :

١ ـ ان اخبار البراءة لا تشمل موارد العلم الإجمالي بخلاف اخبار الاحتياط

٢ ـ ان اخبار البراءة لا تشمل الشبهات قبل الفحص بخلاف اخبار الاحتياط.

٣ ـ ان اخبار الاحتياط واردة في مطلق الشبهات واخبار البراءة فيها ما ورد في خصوص الشبهة التحريمية كرواية ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ).

والوجوه الثلاثة كلها قابلة للمناقشة.

اما الأخير فلما تقدم من عدم تمامية هذه الرواية على البراءة الشرعية ، كما انه لو فرض تماميتها ففي اخبار الاحتياط أيضا ما يكون واردا في الشبهة التحريمية كالنبوي ( حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ) فان هذا لا يمكن تخصيصه بالشبهة الوجوبية كما لا يخفى.

واما الوجهان الآخران فكأنهما مبنيان على دعوى عدم شمول اخبار البراءة لموارد العلم الإجمالي والشبهات قبل الفحص بالانصراف أو القرينة لبية عقلية أو عقلائية كالمتصل فتكون في نفسها أخص من اخبار الاحتياط أو القول بكبرى انقلاب النسبة فبعد تخصيص اخبار البراءة بالشبهات البدوية تصبح أخص من اخبار الاحتياط فتخصيص بها.

١٠٢

الا ان هذا الكلام غير تام حتى إذا قبلنا كبرى انقلاب النسبة ـ ولا نقبلها ـ أو قلنا بان المخصص كالمتصل ، لأن اخبار الاحتياط أيضا أخص من اخبار البراءة من ناحية عدم شمولها للشبهة الموضوعية الخارجة عنها قطعا تخصيصا أو تخصصا كما في مثل مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في مورد تعارض الخبرين وهو مخصوص بالشبهة الحكمية.

بل يمكن تقريب الجمع بين اخبار البراءة والاحتياط بنحو فني يكون بصالح القول بالاحتياط. وحاصله : ان اخبار الاحتياط على قسمين : قسم عام يدل على الاحتياط في مطلق الشبهة كقوله ( أخوك دينك فاحتط لدينك ). وقسم يختص بخصوص الشبهة الحكمية كالمقبولة.

واما اخبار البراءة فأحسنها في مقام الاستدلال حديث الرفع (١) ، وهو اما ان نفرض اختصاصه بالشبهة البدوية بعد الفحص بمخصص كالمتصل ، أو يفترض عمومه لكل الشبهات غاية الأمر خرج مورد العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص بمخصص منفصل. فعلى الأول يكون حديث الرفع معارضا مع القسم الثاني من اخبار الاحتياط بالعموم من وجه وبعد التساقط يرجع في الشبهة الحكمية بعد الفحص إلى العام الفوقاني وهو القسم الأول من اخبار الاحتياط ، وعلى الثاني يكون حديث الرفع معارضا مع القسم الأول من اخبار الاحتياط وبعد التساقط يرجع إلى القسم الثاني لكونه أخص منه فيكون بمثابة المرجع بعد تساقط المتعارضين هذا على القول بإنكار كبرى انقلاب النسبة ، واما على القول بها فالمسألة أوضح إذ يكون القسم الثاني من اخبار الاحتياط أخص مطلقا من حديث الرفع حينئذ فيخصصه بالشبهة الموضوعية فيكون كسائر أدلة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية مخصصة للقسم الأول من اخبار الاحتياط بعد انقلاب النسبة ، كما ان اخبار الاحتياط بعد تخصيصها بإخراج الشبهة الموضوعية منها تكون أخص من وجه من حديث الرفع الّذي خرج منه الشبهة قبل الفحص أو

__________________

(١) أنقى الروايات سندا ودلالة على البراءة كان هو حديث الحجب ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ) وهذا ظاهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية أو على الأقل لا يمكن تخصيصه بالشبهات الموضوعية بالخصوص فيكون بمثابة القسم الثاني من اخبار الاحتياط فيتعارضان ، كما يتعارض القسم الأول مع مثل حديث الرفع فلا يتم الوجه النفي لمدعى الاخباري ، بل بناء على ان خروج الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي بالتخصيص المتصل يكون مثل حديث الحجب بحكم الأخص من كلا قسمي اخبار الاحتياط.

١٠٣

المقرونة بالعلم فيتعارضان بعد الانقلاب أيضا ، ولا يصح ملاحظة حديث الرفع أولا مع المخصص المنفصل الّذي يخرج عنه موارد العلم الإجمالي والشبهة قبل الفحص ثم ملاحظته مع القسم الثاني من اخبار الاحتياط لتكون النسبة عموما من وجه فان كلا من ذلك المخصص واخبار الاحتياط من القسم الثاني في عرض واحد يخصصان حديث الرفع وان كان أحدهما أخص من الآخر كما هو محقق في محله. ونفس النكتة ثابتة أيضا بناء على الأول أي القول باختصاص حديث الرفع في نفسه بالشبهة البدوية بعد الفحص ، فانه بناء على انقلاب النسبة لا يمكن ان يتوهم وقوع التعارض بين حديث الرفع والقسم الأول من اخبار الاحتياط بالعموم من وجه بعد تخصيصه بغير الشبهة الموضوعية فيصير حاله حال القسم الثاني منها ، لأن كلا من أدلة تخصيص الشبهة الموضوعية وحديث الرفع مخصصان في عرض واحد لقسم الأول من اخبار الاحتياط وان كان أحدهما أخص من الآخر فلا يصح إعمال أحدهما قبل الآخر في ملاحظة النسبة وهذا واضح.

هذا كله مع قطع النّظر عن تطبيق قواعد الترجيح عند التعارض والا فلا بد من ترجيح اخبار البراءة لموافقتها مع الكتاب وهو مقدم على الترجيح بمخالفة العامة حتى لو فرض تمامية صغراها في المقام. نعم هذا انما يجدي بناء على القول باختصاص اخبار البراءة بالشبهة البدوية بعد الفحص بمخصص كالمتصل والا فحتى على تقدير ترجيحها على القسم الأول من اخبار الاحتياط تخصص بالقسم الثاني فتختص بالشبهة الموضوعية.

الجهة الثانية ـ في ملاحظة النسبة بين اخبار الاحتياط والآيات القرآنية التي استدل بها على البراءة ، والعمدة منها اثنان على ما تقدم.

إحداهما ـ قوله تعالى ( ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) وقد مضى انها مختصة بالشبهة الحكمية بعد الفحص. كما ان لسانها آب عن إمكان التخصيص فتقدم على اخبار الاحتياط لا محالة.

الثانية ـ قوله تعالى ( لا يكلف نفسا الا ما أتاها ) وقد مضى ان نسبتها مع اخبار الاحتياط العموم من وجه لعدم شمولها الشبهة قبل الفحص ، وسوف يأتي في بحوث التعارض ان خبر الواحد إذا كان معارضا مع القرآن الكريم بنحو العموم من وجه

١٠٤

سقط عن الحجية في مورد التعارض في نفسه. فثبت ان اخبار الاحتياط لو تم شيء منها فاما يخصص بالقرآن أو يسقط عن الحجية.

الجهة الثالثة ـ في النسبة بين اخبار الاحتياط ودليل الاستصحاب المثبت للبراءة وقد ذكرت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) ان الاستصحاب يكون حاكما على اخبار الاحتياط لأن موضوعها الشك واستصحاب عدم التكليف قد يجعلنا عالمين بالعدم تعبدا.

وفيه : أولا ـ ابتناؤه على مبنى جعل الطريقية والعلمية للاستصحاب وهو مرفوض عندنا في الأمارات فضلا عن الأصول كما تقدم في محله.

وثانيا ـ لو قبلنا كبرى جعل الطريقية فلا بد وان يكون في باب الاستصحاب بغير معنى إلغاء الشك واعتباره علما ولأنه قد أخذ في موضوع الاستصحاب الشك أيضا فلا بد وان يكون تعبدا ببقاء اليقين ونحو ذلك من دون إلغاء الشك الّذي هو موضوع الاحتياط فلا حكومة ، نعم يعقل ذلك في الأمارات حيث لم يؤخذ لفظ الشك في لسان أدلة اعتبارها.

وثالثا ـ ما تقدم مرارا من انه كما يكون دليل الأمر بالعمل بالأمارة والاستصحاب ودليلا على الحجية وجعل الطريقية وإلغاء الشك كذلك يكون الدليل على الاحتياط والوقوف عند الشبهة دليلا على عدم جواز الاعتماد على طرفي الشبهة وعلى عدم إلغاء الشك ولزوم حفظ الواقع والاهتمام به (١).

الجهة الرابعة ـ لو فرض تعارض أدلة البراءة مع أدلة الاحتياط وتساقطهما فلو قلنا بالبراءة العقلية كانت المرجع بعد التساقط ، وعلى القول بإنكارها أيضا نثبت البراءة على مستوى البراءة العقلية بالدليل الشرعي ، فانه قد تقدم عند الحديث عن أدلة البراءة ان فيها ما يدل على البراءة حيث لم يصل دليل لا على الحكم الواقعي ولا على إيجاب الاحتياط فإذا فرض التعارض وعدم وصول حتى إيجاب الاحتياط كانت مثل

__________________

(١) هذا انما يمكن قبوله لو ورد الدليل النافي في نفس مورد الدليل المثبت كما في أدلة النهي عن اتباع الظن ودليل حجية الظن لا في المقام الّذي ورد فيه دليل الاحتياط في عنوان الشبهة من حيث هو شبهة لا من حيث انها مسبوقة باليقين فدليل الحجية يجعل الطريقية لليقين ودليل الاحتياط لا ينظر إليه لينفي طريقيته. بل يمكن في المقام تقريب تقديم دليل الاستصحاب على دليل الاحتياط بنفس البيان الّذي تقدم فيه دليل الاستصحاب على دليل البراءة الشرعية في موارد الاستصحابات الإلزامية.

١٠٥

هذه الأدلة هي المرجع لا ثبات البراءة في هذه المرتبة من الشك.

لا يقال ـ كان ضمن اخبار الاحتياط أيضا ما هو بلسان قف عند الشبهة مما يدل على تأكيد منجزية الاحتمال والشبهة حيث لا يوجد مدرك للإباحة فيكون بمستوى دليل البراءة من النوع المذكور فيتعارضان.

فانه يقال ـ هذه الرواية وكذلك سائر أدلة الاحتياط ان تم شيء منها فهي تدل على إيجاب الاحتياط بلحاظ الواقع والشك فيه وتكون بنفسها بصدد إيصاله إلى المكلفين وليست ناظرة إلى مرحلة الشك في إيجاب الاحتياط لتكون معارضة مع تلك الطائفة من أدلة البراءة.

١٠٦

تنبيهات البراءة

وبعد أن فرغنا عن مقتضى الأصل العملي في الشبهات ، وانه البراءة لا الاحتياط ، يقع البحث في عدة جهات ترجع إلى جريان البراءة ، قد ذكرها الأصحاب ضمن تنبيهات هذه المسألة. فنقول :

١ ـ حكومة أصالة عدم التذكية على البراءة :

ذكر الشيخ الأعظم ( قده ) ان جريان أصالة البراءة مشروط بعدم وجود أصل موضوعي في مورده ينقح موضوع الإلزام والا قدم عليه بالحكومة ، وذلك من قبيل استصحاب عدم التذكية عند الشك في تذكية لحم فانه مقدم على أصالة الحل ، ثم شرع في البحث عن الصغرى أي جريان استصحاب عدم التذكية أو عدم جريانه في نفسه.

ومدرسة المحقق النائيني ( قده ) علقت على هذا الشرط بان الحكومة لا تختص بالاستصحاب الموضوعي بل حتى الحكمي كاستصحاب الحرمة الثابتة حال كون الزبيب عنبا مثلا يحكم على البراءة لأن دليل الاستصحاب يجعله علما وطريقا فيتقدم على البراءة ، ومن هنا جعلوا الشرط عدم جريان استصحاب في مورد البراءة.

وسوف يأتي الحديث في خاتمة الأصول العملية عن النسبة بين الأصول نفسها ،

١٠٧

وبينها وبين الأمارات ، ونبين هناك ملاكات متعددة للتقديم وحكومة دليل على دليل. ولكن نشير هنا إلى ثلاثة أمور :

أولا ـ ان الحكومة بملاك جعل الطريقية والعلمية وبالتالي قيام الأمارة أو الأصل مقام القطع الموضوعي غير تامة لما تقدم في بحث القطع من عدم صحة ذلك كبرى ، وما أشرنا آنفا إلى ان هذا لو تم في الأمارات فلا يتم في مثل الاستصحاب الّذي أخذ في موضوعه الشك.

وثانيا ـ ان الأصل السببي والموضوعي يتقدم على الأصل المسببي بالحكومة لا بنكتة جعل الطريقية بل نكتة أخرى سوف يأتي تحليلها وشرحها. ولهذا تثبت الحكومة والتقدم حتى إذا كان الأصل السببي من الأصول غير المحرزة كأصالة الطهارة في الماء المشكوك المغسول به الثوب النجس فانها تتقدم على استصحاب نجاسة الثوب بعد الغسل رغم انه بحسب تصورات مدرسة المحقق النائيني ( قده ) لم تجعل لها الطريقية والعلمية وانما جعل ذلك للاستصحاب ولهذا لا تستطيع المدرسة ان تفسر وجه هذا التقدم بالطريقية ، كيف وهي تقتضي العكس كما لا يخفى.

وثالثا ـ كما ان الأصل الموضوعي الإلزامي يتقدم على البراءة بالحكومة كذلك يتقدم الاستصحاب الإلزامي على البراءة لنكات في دليل الاستصحاب تقتضي تقدمه على دليل البراءة. وهذا يعني ان جريان البراءة متوقف على عدم جريان أصل موضوعي محرز للتكليف ولا أصل حكمي كذلك كالاستصحاب الحكمي.

هذا كله في كبرى هذا الشرط.

واما البحث عن أصالة عدم التذكية عند الشك فيها ، فالشك في حلية لحم حيوان قد زهقت روحه يتصور بأحد أربعة أقسام.

الأول ـ الشك في حلية أكل ذلك الحيوان في نفسه وبقطع النّظر عن التذكية ، إذ ليس كلما يقبل التذكية من الحيوانات يحل أكل لحمه ، فقد يشك في حيوان كذلك بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية (١).

الثاني ـ الشك في حليته من ناحية الشك في قبوله للتذكية ، فانها شرط في حلية

__________________

(١) هذا القسم أيضا يمكن تقسيمه إلى ما يكون الشك في أصل الحلية أو في طرو ما يمنع عنها كالجلل لا من ناحية التذكية.

١٠٨

أكل لحم الحيوان على كل حال فإذا شك في قبوله لها وعدمه بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية شك في الحلية لا محالة.

الثالث ـ الشك في طرو ما يمنع عن قبوله للتذكية ، كما إذا احتمل كون الجلل مانعا عن قبول التذكية بنحو الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

الرابع ـ ان يكون الشك في تحقق التذكية للشك في شروطها ، اما بنحو الشبهة الحكمية كما لو شك في شرطية أمر زائد ، أو بنحو الشبهة الموضوعية كما لو شك في تحققه خارجا بعد الفراغ عن شرطيتها.

اما القسم الأول ـ فان كانت الشبهة حكمية فالمرجع عمومات الحلية من قبيل ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه. ) (١). إن تمت والا فأصالة الحل أو استصحابه الثابت قبل التشريع ، ولا مجال لاستصحاب عدم التذكية لعدم الشك من ناحيتها ، وان كانت الشبهة موضوعية فلا يمكن التمسك بالعمومات الا إذا أمكن إحراز موضوعها بالاستصحاب ولو بنحو العدم الأزلي والا فيرجع إلى أصالة الحل أو استصحاب عدم الحرمة بنحو العدم الأزلي ولا مجال لاستصحاب عدم التذكية.

وربما يتصور إمكان الرجوع في الشبهتين إلى استصحاب حرمة أكل الحيوان الثابتة حال حياته بناء على حرمة أكل الحيوان حيا وهو مقدم على أصالة الحل.

وفيه : ان حرمة أكل الحيوان الحي إن كان بملاك حياته وحرمته فمثل هذه الحرمة يقطع بزوالها ولا شك في بقائها. وان كان من جهة دعوى كونه غير مذكى في حال الحياة ولو تمسكا بإطلاق المستثنى منه في آية ( الا ما ذكيتم ) (٢) للحيوان الحي أيضا.

فيرد عليه :

أولا ـ ان التذكية شرط للحلية بالنسبة للحيوان الميت لا مطلق الحيوان فان هذا هو المستفاد من الروايات وهو المستثنى منه في الآية أيضا.

وثانيا ـ هذه الحرمة أيضا يقطع بارتفاعها وانما يشك في حرمة أخرى ثابتة في

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٥.

(٢) سورة المائدة : ٣.

١٠٩

الحيوان بعنوانه. اللهم الا ان يدعى بان الثابت في حال الحياة حرمة واحدة لا حرمتين لعدم احتمال ذلك فقهيا فاما الحرمة بملاك عدم التذكية أو الحرمة النفسيّة فيكون من استصحاب الكلي القسم الثاني ولكنه لا موجب له.

واما القسم الثاني ـ فجريان أصالة عدم التذكية متوقف على تنقيح بحثين فقهيين :

أحدهما ـ في معنى التذكية وهل انها عبارة عن عنوان بسيط أو عنوان مركب وهو نفس الأعمال والشروط المقررة شرعا لذبح الحيوان ، وهذا نظير البحث في الطهارة من الحدث وانها عبارة عن أمر بسيط أو مركب وهو الغسلات والمسحات مثلا.

كما انه بناء على كونه بسيطا قد يفترض انه عنوان بسيط ينطبق على نفس الأفعال الخارجية أي نسبته إليها نسبة العنوان إلى المعنون كالتعظيم بالنسبة إلى القيام. وأخرى يفرض ان نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب ، وعلى كل من التقديرين قد يكون هذا العنوان البسيط أمرا تكوينيا أو اعتبارا شرعيا.

كما انه لو فرض ان التذكية عبارة عن نفس الأفعال والشروط المقررة شرعا ، فتارة يعتبر ذلك تذكية بلا أخذ قابلية وخصوصية في الحيوان المذبوح فتكون التذكية حاصلة بإجراء العملية على أي حيوان ، وأخرى تؤخذ خصوصية الحيوان فيها أيضا أي الأعمال المضافة إلى ذبح حيوان معين (١).

الثاني ـ ان موضوع الحرمة تارة يفترض الحيوان غير المذكى أعني عدم التذكية المضاف إلى الحيوان ، وأخرى يفرض عدم التذكية المضاف إلى الحيوان زاهق الروح بما هو زاهق الروح ، فعلى الأول يكون موضوع الحرمة مركبا من جزءين عرضيين هما زهاق روح الحيوان وكونه غير مذكى بنحو العدم النعتيّ أو المحمولي ، وعلى الثاني يكون موضوع الحرمة مركبا من جزءين طوليين أي الحيوان الزاهق روحه بغير تذكية.

فان اختير في البحث الأول ان التذكية عنوان بسيط فهو مسبوق بالعدم لا محالة وحينئذ لو فرض أخذه بما هو مضاف إلى ذات الحيوان في موضوع الحرمة جرى

__________________

(١) وهذا التشقيق جار أيضا بناء على كون التذكية امرا بسيطا ، الا انه لا أثر له في المقام لأن ذلك العنوان البسيط هو موضوع الحكم على كل حال وهو مسبوق بالعدم ، نعم لو فرض ان التذكية البسيطة مسبب شرعي عن الأفعال والتي أخذ معها خصوصية الحيوان وقابليته كان الأصل في تلك الخصوصية بلحاظ إثبات التذكية كالأصل فيها بلحاظ إثبات الحكم التكليفي إذ تكون التذكية حكما شرعيا مترتبا على الأفعال الخارجية المركبة بحسب الفرض.

١١٠

استصحاب عدم التذكية سواء كان مأخوذا بنحو العدم النعتيّ أو المحمولي ، وسواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، لأن هذا العنوان البسيط مسبوق على كل حال بالعدم في حال حياة الحيوان فيستصحب ، ولو فرض أخذه بما هو مضاف إلى زاهق الروح في موضوع الحرمة فان أضيف عدم التذكية إلى زاهق الروح بنحو التوصيف والنعتية لم يجر استصحاب عدم التذكية إذ لا حالة سابقة لعدم تذكية زاهق الروح بنحو العدم النعتيّ ، فان هذا الحيوان من حين إزهاق روحه لا يدري هل اتصف بعدم التذكية أم لا بل يجري حينئذ استصحاب عدم اتصاف هذا الحيوان الزاهق روحه بعدم التذكية فينفي موضوع الحرمة إذا كان بهذا النحو ، واما إن أضيف عدم التذكية إلى زاهق الروح بنحو العدم المحمولي أي ان لا يكون الحيوان الزاهق روحه مذكى فهذا يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية بناء على ما هو الصحيح من جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية لأن هذا الحيوان قبل زهاق روحه لم يكن مذكى من باب السالبة بانتفاء الموضوع فتستصحب القضية السابقة ـ العدم المحمولي ـ من دون فرق في كل ذلك بين الشبهة الحكمية أو الموضوعية.

وان اختير في البحث الفقهي الأول ان التذكية مركب من نفس الأفعال الخارجية فان فرض عدم أخذ خصوصية وقابلية معينة للحيوان المذبوح في التذكية كان معناه إحراز التذكية فيه وانما الشك في حليته من ناحية أخرى فيدخل في القسم السابق ، وان فرض أخذ خصوصية مع تلك الأفعال في التذكية بنحو الجزئية أو القيدية فإذا كانت الشبهة حكمية فلا يجري استصحاب عدم التذكية ـ كما لو شك في ان المأخوذ خصوصية الغنيمة مثلا أو الأهلية الصادقة على الخيل مثلا فنشك في تذكية الخيل المذبوح من هذه الناحية ـ لأن واقع تلك الخصوصية المشكوكة بين ما يقطع بعدمه وما يقطع بثبوته فلا معنى لاستصحاب عدمها وعنوان الخصوصية المنتزع من حكم الشارع ليس هو الجزء أو القيد في الحكم لكي نجري استصحاب عدمه ، ولهذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهات الحكمية حتى إذا كانت الشبهة الحكمية مفهومية ـ كما لو شك في مفهوم الأهلية في المثال.

وإذا كانت الشبهة موضوعية ـ كما إذا تردد الحيوان المذبوح خارجا بين كونه غنما أو وحشا لظلمة الهواء أو لغير ذلك من موجبات الشبهة الموضوعية ـ فان أخذت تلك

١١١

الخصوصية المشكوكة كالأهلية مثلا في التذكية جرى استصحاب عدمها الأزلي إذا لم تكن من الحيثيات الذاتيّة للحيوان فتثبت الحرمة أيضا ، وان أخذت قيدا في التذكية فالذي يجري حينئذ استصحاب عدم المقيد فان ذات المقيد وان كان محرزا ولكن تقيده بتلك الخصوصية غير محرز فيجري استصحاب عدم التذكية بمعنى عدم المقيد بما هو مقيد وهذا الاستصحاب لا يبتني على القول بالاستصحاب في الاعدام الأزلية الا إذا أخذت التذكية التي هي ذلك الأمر المقيد بما هو مضاف إلى زاهق الروح وصفة له لا بما هو مضاف إلى الحيوان في موضوع الحلية.

هذا كله مع قطع النّظر عن دعوى فقهية ذهب إليها بعض الفقهاء من وجود عموم فوقاني يدل على قبول كل حيوان للتذكية الا ما خرج بالدليل والا كان المرجع في الشبهة الحكمية ذلك العام وفي الشبهة الموضوعية استصحاب عدم العنوان الخارج بنحو العدم الأزلي إذا لم يكن من الذاتيات أو قلنا بجريان الأصل فيها أيضا وبذلك ينقح موضوع العام.

وقد ظهر بما ذكرناه وجه النّظر في ما أفاده الأعلام في المقام. فقد ذكر المحقق العراقي ( قده ) (١) ان التذكية إذا كانت امرا بسيطا جرى استصحاب عدم التذكية وان كانت مركبا من فري الأوداج مع القابلية للتذكية لم يجر الاستصحاب سواء كانت القابلية جزءا أو قيدا إذ ليس لها حالة سابقة لتستصحب سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، ودعوى جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية دفعها بان هذه القابلية ذاتية للحيوان ولا يجري الاستصحاب في الذاتيات.

وفيه : أولا ـ ان جريان الاستصحاب إذا كانت التذكية امرا بسيطا أيضا مبني على القول باستصحاب العدم الأزلي إذا كان مضافا إلى زاهق الروح بما هو زاهق الروح.

وثانيا ـ ما ذكره في الشق الثاني بعد إرجاعه إلى المعنى الصحيح وهو أخذ خصوصية الحيوان في موضوع الحكم الشرعي بالطهارة أو الحل لا أخذ قابلية التذكية في التذكية غير تام فيما إذا كانت الشبهة حكمية حتى إذا قلنا بالاستصحاب في الاعدام الأزلية

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار ، القسم الثاني من الجزء الثالث ، ص ٢٥٦.

١١٢

ولم تكن الخصوصية ذاتية لدوران الأمر بين ما هو مقطوع الوجود أو مقطوع العدم كما تقدم شرحه وفيما إذا كانت الشبهة موضوعية انما يتوقف على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية إذا كان الموضوع مركبا كما هو المستظهر إثباتا من الأدلة غالبا واما إذا كان مقيدا ومضافا إلى ذات الحيوان كان عدم المقيد ثابتا في الحيوان حال حياته فيكون استصحاب عدمه له حالة سابقة.

وثالثا ـ لا موجب لافتراض ان الخصوصية القابلة للتذكية ذاتية في الحيوان فقد تكون مثل أهلية الحيوان مثلا أو غير ذلك وذكر المحقق الأصفهاني ( قده ) في المقام (١) ان التقابل بين الموضوع الحلية وموضوع الحرمة ان كان تقابل التضاد بان كان موضوع الحرمة الموت حتف أنفه وموضوع الحلية التذكية فاستصحاب عدم التذكية معارض باستصحاب عدم الموت حتف الأنف ، وان كان التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب جرى استصحاب عدم التذكية بلا إشكال ، وان كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة أي عدم التذكية في المحل القابل لها فلا يجري استصحاب عدم التذكية لعدم الحالة السابقة إذ في حال الحياة لا تكون القابلية للتذكية ثابتة وبعد إزهاق الروح يشك في حصول التذكية من أول الأمر.

وفيه : أولا ـ ان فرض التقابل بين موضوع الحرمة والحلية بنحو التضاد أو العدم والملك في نفسه غير معقول ، لأنه يكفي في الحلية عدم تحقق ملاكات الحرمة وانتفاء موضوعها فإذا كان موضوع الحرمة أو الحلية وجوديا كالموت حتف الأنف فلا محالة يكون موضوع الآخر نقيضه فلا يجري استصحاب عدم الموت حتف الأنف أو استصحاب عدم التذكية.

وثانيا ـ لو سلمنا معقولية ذلك ثبوتا بان جعلت الحلية على المذكى والحرمة على الموت حتف الأنف فاستصحاب عدم التذكية لا يجري ليعارض استصحاب عدم الموت حتف الأنف ، إذ لا يثبت الموت حتف الأنف الا على القول بالأصل المثبت ومع عدم إثباته لموضوع الحرمة لا يبقى أثر له إذ التنجيز مرتب على إحراز الحرمة لا رفع

__________________

(١) نهاية الدراية ، المجلد الثاني ، ص ٢٠٦ الطبعة القديمة.

١١٣

موضوع الحلية ولهذا لو فرض عدم تشريع الحرمة والحلية معا لم يكن تنجيز وتبعة على المكلف أيضا.

وثالثا ـ القابلية التي افترض عدمها في حال الحياة غير قابلية الحيوان للتذكية بناء على ان التذكية بنحو الملكة إذ المراد منها لا بد وان يكون القابلية الإمكانية للتذكية وهي خصوصية ثابتة في الحيوان المذكى حتى في حال حياته سواء فرضت التذكية امرا شرعيا اعتباريا أو تكوينيا.

واما القسم الثالث ـ وهو الشك في الحلية من ناحية طرو ما يحتمل مانعيته عن التذكية كالجلل. ففي الشبهة الحكمية كما إذا شك في مانعية الجلل عن التذكية ، ان فرضت التذكية عبارة عن نفس الأفعال والشروط لم يجر استصحاب عدم التذكية لعدم الشك في وجود الموضوع بل في موضوعية الموجود (١) فتصل النوبة إلى أصالة الحل أو البراءة ، بل يجري استصحاب الحلية التعليقي بناء على القول به في أمثال المقام ، لأن هذا الحيوان لو كان يذبح قبل الجلل كان حلال اللحم يقينا فيستصحب ، وان فرضت التذكية عنوانا بسيطا جرى استصحاب عدمها بنحو العدم الأزلي أو النعتيّ حسب التفصيل المتقدم في القسم السابق. هذا كله إذا لم يكن عام فوقاني يثبت التذكية بإطلاقه الأحوالي والا كان هو المرجع.

نعم هنا قد يتوهم جريان استصحاب تعليقي حاصله : ان هذا الحيوان لو كان يذبح قبل الجلل كان مذكى يقينا فالآن كذلك ، الا ان هذا مبتن على ان تكون التذكية حكما شرعيا لا امرا تكوينيا وان يقال بجريان الاستصحاب التعليقي في أمثال المقام وحكومته على الاستصحاب التنجيزي.

وفي الشبهة الموضوعية كما إذا علم مانعية الجلل عن التذكية وشك في تحققها بنحو الشبهة الموضوعية ، ان فرضت التذكية عبارة عن نفس الأفعال والشروط جرى استصحاب عدم الجلل ، وان فرض انها امر بسيط مجعول شرعا على تلك الأفعال مع عدم الجلل جرى استصحاب عدم الجلل فلإحرازه أيضا وان فرض امرا تكوينيا مسببا عن ذلك جرى استصحاب عدم التذكية ولم يجر استصحاب عدم الجلل لأنه لا يثبت

__________________

(١) وبهذا ظهر وجه الضعف فيما جاء في مصباح الأصول ، ص ٣١٣ من التمسك بأصالة عدم المانع.

١١٤

التذكية الا بالتعويل على الأصل المثبت كما لا يخفى.

واما القسم الرابع ـ وهو الشك في تحقق تمام شروط التذكية خارجا ، فإذا كان ذلك بنحو الشبهة الحكمية بان شك في شرطية شيء أو مانعيته عن التذكية فالكلام فيه نظير الكلام في الشبهة الحكمية من القسم السابق الا من حيث الاستصحاب التعليقي فانه لا يجري الا فيما إذا طرأ ما يحتمل مانعيته (١). وإذا كان بنحو الشبهة الموضوعية جرى استصحاب عدم التذكية بنحو العدم النعتيّ أو الأزلي على التفصيل المتقدم ، أو استصحاب عدم الشرط أو الجزء المشكوك في تحققه إذا كانت التذكية امرا مركبا وكان لذلك الجزء أو الشرط حالة سابقة عدمية.

وهكذا يتضح ابتناء الحكم في الأقسام الثلاثة على البحثين الفقهيين المشار إليهما. ولا بأس بالإشارة إلى ان الصحيح في البحث الفقهي الثاني ان التذكية أخذت في موضوع الحلية وصحة الصلاة بما هي مضافة إلى زاهق الروح لا إلى الحيوان ، لأن ظاهر الآية الشريفة ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع الا ما ذكيتم ) (٢) ان المقسم في المستثنى والمستثنى منه هو الحيوان زاهق الروح بقرينة ذكر أنواع منه ولعله المستفاد من اخبار الباب أيضا ، وتفصيل ذلك موكول إلى الفقه.

واما فيما يتعلق بالبحث الفقهي الأول فقد ذهب المحقق النائيني ( قده ) إلى ان التذكية امر مركب أي عبارة عن نفس عملية الذبح الشرعي بشروطها مستدلا على ذلك بتفسير اللغويين للتذكية بالذبح ، وبنسبته إلى الذابح في اللغة وفي ألسنة الروايات. وذهب آخرون إلى انه امر بسيط منكرين في ذلك صحة كلام اللغوي أو حجيته في مقام رد كلام المحقق النائيني ( قده ) وان نسبة التذكية إلى الذابح صحيح

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

(٢) والغريب ما جاء في مصباح الأصول ص ٣١٣ من عدم جواز الرجوع إلى الإطلاق الفوقاني لنفي الشرطية أو المانعية المشكوكة بدعوى ان التذكية ليست امرا عرفيا كالبيع ليحمل الدليل الشرعي عليه ، فان التمسك بالإطلاق لنفي القيد ليس متوقفا على عرفية المدلول وتنزيله منزلة ما هو ثابت عندهم بل يتوقف على عرفية الدلالة وهي ثابتة فان السكوت عن ذكر القيد في مقام البيان يدل على انتفاء القيد ثبوتا كما هو منتف إثباتا وهذا واضح كيف والا انسد باب التمسك بالإطلاق في أكثر الفقه حيث ان التشريعات فيها تأسيسية من الشارع ولم تكن ثابتة لدى العرف.

١١٥

على كل حال فان المسبب التوليدي أيضا ينسب إلى فاعله حقيقة.

والتحقيق : ان عنوان التذكية بحسب تتبع استعمالاتها في ألسنة الروايات يظهر انه عنوان بسيط ترادف الطيب وملائمة الطبع والنقاء ، فقد أطلق في بعض الروايات على الطاهر فقيل كل يابس ذكي وفي باب الجلود قيل الجلد الذكي يجوز الصلاة فيه ، وهذا يناسب مع كونه بسيطا لا مركبا ، وحمله على انه جلد للحيوان الذكي خلاف الظاهر ، وكذلك ورد ان كل ما لا تحل فيه الحياة من الميتة كالصوف والظفر فهو ذكي وان الجنين ذكاته ذكاة أمه (١). نعم الظاهر ان هذا العنوان البسيط قد اعتبره الشارع منطبقا على نفس عملية الذبح الشرعي أيضا كالوضوء المنطبق على نفس الأفعال حيث ورد ان التسمية ذكاة ، وان إخراج السمك من الماء ذكاته ، وحمل ذلك على انه سبب للذكاة خلاف الظاهر ، فظهر ان التذكية عنوان اعتباري بسيط منتزع عن نفس الأعمال ومنطبق عليها نظير الوضوء والطهور لا انها نفسها ولا انها مسبب توليدي عنها.

ثم انه قد يستدل على جريان استصحاب عدم التذكية لا ثبات حرمة الأكل والصلاة ببعض الروايات من قبيل ما ورد من النهي عن أكل الصيد الّذي وجده الصائد مفترسا مع الشك في انه هل افترسه كلب الصيد أو حيوان مفترس آخر وكذلك لو رمى طائرا فقتل وشك انه قتل بالرمية أو بغيرها (٢) وكذلك الروايات الدالة على ان الصلاة في وبر وشعر ما يؤكل لحمه جائز إذا علمت انه ذكي (٣) الدال بمفهومه على انه لا يجوز ذلك إذا لم يعلم تذكيته ، بل نفس أدلة أمارية أرض الإسلام وسوق المسلمين في إثبات الجواز يدل على ان المرجع لو لا الحجة سنخ أصل منجز.

الا ان الصحيح ان هذه الأدلة لا تثبت استصحاب عدم التذكية وانما تثبت أصالة عدم التذكية في مورد الشك من ناحية الأكل والصلاة فلعلها حكم بالاحتياط بمستوى الحكم بالحلية في سائر الموارد.

وقد يستدل بروايات أخرى في إبطال استصحاب عدم التذكية في خصوص

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٢٦٩.

(٢) نفس المصدر ، ص ٢٣٠.

(٣) نفس المصدر ، ج ٢ ، ص ٢٥٠.

١١٦

الشبهات الموضوعية.

منها ـ الاستدلال بما ورد من تجويز أكل الطائر الّذي شك الصائد في انه هل سمي حين رماه أم لا؟ (١).

وفيه : أولا ـ من المحتمل ان يكون ذلك من جهة قاعدة الفراغ وهي حاكمة على الاستصحاب.

وثانيا ـ قوة احتمال ظهور الرواية في ان التسمية شرط ذكري فتكون التذكية حاصلة واقعا كما ورد ذلك في روايات أخرى (٢).

ومنها ـ ما حاوله صاحب مدارك الأحكام ( قده ) (٣) من الاستناد إلى روايات دلت على ان ما علمت انه ميتة فلا تصل فيه أو لا بأس ما لم تعلم انه ميتة (٤) حيث رتب فيها الجواز على فرض عدم العلم بالميتة الّذي يعني إلغاء استصحاب عدم التذكية في مورد الشك.

وقد أجيب عليه بمحاولات ذكرناها مفصلا في بحوثنا في شرح العروة الوثقى فراجع (٥).

٢ ـ حسن الاحتياط في الشبهة البدوية :

بعد فرض عدم تمامية شيء من أدلة الاخباري على وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية ، يقع البحث عن حسنه واستحبابه ، والكلام تارة في حكم الاحتياط في الشبهة البدوية عموما ، وأخرى في العبادات بالخصوص فالحديث في مقامين :

اما المقام الأول ـ فالمشهور حسن الاحتياط عقلا واستحبابه شرعا تمسكا بالأخبار التي استدل بها الاخباري فانها بلا إشكال في دلالتها على أصل الرجحان والاستصحاب في نفسها أو بعد الجمع بينها وبين أدلة البراءة.

وذهبت مدرسة المحقق النائيني ( قده ) إلى ان الاخبار الآمرة بالاحتياط لا بد وان تحمل على الإرشاد إلى حكم العقل ولا يعقل الأمر المولوي بالاحتياط وقد بين وجه عدم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ( ٢٣٧ ، ٢٦٧ ).

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ( ٢٣٧ ، ٢٦٧ ).

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ( ٢٣٧ ، ٢٦٧ ).

(٤) ص ١٥٧ الطبعة الحجرية.

(٥) الجزء الثالث ، ص ١٣٣.

١١٧

معقوليته بأحد بيانين :

الأول ـ ان حسن الاحتياط حكم عقلي في سلسلة معلومات الأحكام الشرعية ومثل هذا يستحيل ان يكون منشأ لحكم شرعي بالملازمة.

وكبرى هذه القاعدة أوضحنا بطلانها في مباحث القطع فلا نعيد ، واما الصغرى أي تطبيق تلك الكبرى على الأوامر الشرعية بالاحتياط فغير تامة أيضا لوجهين :

أولا ـ ان الّذي هو في سلسلة المعلولات حكم العقل بإطاعة المولى وامتثاله المتوقف على قصد الإطاعة والامتثال وما ورد الأمر به في هذه الأوامر مجرد الاحتياط وعدم اقتحام الشبهة ولو لم يكن بقصد الإطاعة والامتثال فليس المأمور به شرعا نفس ما حكم به العقل في مرتبة معلولات الأحكام ليستحيل تعلق حكم شرعي به.

وثانيا ـ ان الأمر بالاحتياط يكشف عن درجة من اهتمام المولى بملاكات أحكامه الواقعية اللزومية في التزاحم الحفظي ـ على ما تقدم في شرح حقيقة الحكم الواقعي ـ وهذا يجعل حكم العقل بحسن الاحتياط أشد وبملاك أقوى إذ يكشف عن رجحان الملاكات اللزومية على الملاكات الترخيصية في مقام التزاحم عند الشارع فليس الحكم الشرعي بالاحتياط بنفس ملاك الحكم العقلي بالحسن ليتوهم استحالته إذا كان في سلسلة معلولات الأحكام.

الثاني ـ ان جعل استحباب الاحتياط لغو إذا يكفي في تحريك العبد نحو الاحتياط احتمال الحكم الواقعي بعد حكم العقل بحسب الاحتياط.

وفيه : ان فرض الأمر بالاحتياط بملاك نفسي فلا لغوية كما هو واضح ، وان فرض بملاك طريقي وهو حفظ الملاكات اللزومية الواقعية المتزاحمة كما هو ظاهر التعبير بالاحتياط أو عدم الاقتحام فائضا لا لغوية لما ذكرناه من ان هذا الأمر يكشف عن درجة رجحان في ملاكات الأحكام اللزومية عند المولى بالنسبة إلى أحكامه الترخيصية ، وفائدة ذلك تأكد حسن الاحتياط عند العقل ومزيد تحريك للمكلف بالمقدار الثابت في الأوامر الاستحبابية الأمر الّذي لم يكن لو وصله العكس وثبت رجحان أغراض المولى الترخيصية أو احتمل ذلك على الأقل.

وهكذا يظهر عدم محذور في استفادة استحباب الاحتياط في الشبهات البدوية كحكم مولوي طريقي من أوامر الاحتياط. نعم لا يبعد ظهور بعضها في ان الاحتياط

١١٨

لنكتة أخرى غير الواقع المشتبه مثل النبوي الدال على ان من ترك الشبهات كان لما استبان له اترك بناء على ما ذكرناه من ظهوره في إرادة النهي عن ارتكاب المشتبه لكي لا يتجرأ المكلف بالتدريج على مخالفة المولى حتى في المتيقن والبين غيه وإثمه وهذه نكتة أخرى تجعل الأمر بالاحتياط في مورد الشبهة نفسيا لا طريقيا ولا بأس بالالتزام بثبوته أيضا ان صح سنده فيثبت استحبابان للاحتياط أحدهما طريقي والآخر نفسي.

المقام الثاني ـ في الاحتياط في العبادات ، والبحث هنا في كيفية تصويره صغرويا بعد ان فرغنا عن حسنه واستحبابه كبرويا في المقام السابق ، ووجه الإشكال ينشأ من لزوم قصد الأمر في العبادة وهو لا يتأتى مع الشك وعدم العلم بالأمر الا بنحو التشريع المحرم والمبطل للعبادة.

وهذا الإشكال لا مأخذ له بناء على ما هو الصحيح فقهيا من ان اللازم في صحة العبادة مطلق الداعي القربي فان الانبعاث عن احتمال الأمر داع قربي إلهي لأنه مظهر من مظاهر الإخلاص ذاتا للمولى وكل ما هو مظهر للإخلاص للمولى يوجب التقرب ذاتا إليه أيضا بلا حاجة إلى جعل ، ولم يناقش فيه أحد وانما ناقش بعضهم في كفاية مع إمكان العلم بالأمر والتقرب الجزمي به فمع فرض عدم إمكان ذلك لا مجال لتوهم الإشكال أصلا من دون فرق بين ان يكون وجوب القربة عقليا لاستحالة أخذه تحت الأمر أو بحكم الشارع نفسه.

وانما الإشكال ينشأ على فرض اشتراط قصد الأمر الجزمي شرعا في صحة العبادة مع الإمكان. وهنا تارة يفترض فقهيا اشتراط قصد الأمر الجزمي المتعلق بالعبادة ، وأخرى يفترض كفاية قصد الأمر الجزمي ولو كان متعلقا بعنوان ثانوي منطبق على العبادة اما على الأول فلا إشكال في سقوط التكليف حينئذ وارتفاع موضوعه لأن كل تكليف مشروط بالقدرة عل متعلقه ومع عدم وصول الأمر لا يتمكن المكلف من العبادة فيقطع بعدمه لا محالة من دون فرق أيضا بين المسلكين في شرطية قصد القربة.

واما على فرض كفاية قصد مطلق الأمر المنطبق على العبادة فقد يقال بإمكان الاحتياط نظرا إلى وجود الأمر الجزمي الاستحبابي المتعلق بالاحتياط. وقد يقال بعدم إمكانه لأن الأمر الجزمي قد تعلق بعنوان الاحتياط فلا يمكن قصده الا بإتيان متعلقه

١١٩

وهو الاحتياط في العبادة الواقعية المحتملة ولا يمكن الاحتياط فيها الا بقصد امر جزمي ، فلو أريد تصحيح ذلك بهذا الأمر لزم منه ما يشبه الدور.

والتحقيق ان يقال : تارة يفرض الأمر بالاحتياط نفسيا وأخرى يفرض طريقيا ، فإذا فرض الأمر بالاحتياط نفسيا فان كان المبنى في بحث التعبدي والتوصلي إمكان أخذ قصد الأمر تحت الأمر والخطاب فلا إشكال في المقام لأن هذا الإشكال المثار هنا نفس ما أثير في بحث التعبدي والتوصلي وجوابه نفس الجواب من ان الاحتياط بوجوده الخارجي متأخر عن جعل الأمر الّذي صقع وجوده وعالمه عالم الوجود الذهني والّذي يتوقف عليه الأمر بالاحتياط وجوده في ذهن الآمر في مقام الجعل وهو ليس كالوجود الخارجي للاحتياط متأخرا عن الأمر فلا دور لا في عالم الجعل ولا في عالم الخارج ، واما دعوى تأخر إمكان الاحتياط والقدرة عليه رتبة عن الأمر به مع انه مأخوذ في موضوعه ، وبتعبير آخر لزوم الدور في مرحلة فعلية الأمر من ناحية شرط فعليته وهو القدرة على متعلقه لأنها مشروطة بفعلية الأمر مع توقف فعلية الأمر عليه فجوابه ما ذكر في بحث التعبدي أيضا من انه تكفي في القدرة التي يشترطها العقل القدرة من ساير الوجوه والجهات غير ما ينشأ ويحصل في طول الجعل بنفس الجعل فالأجوبة المذكورة هناك بنفسها تجري في المقام.

وان فرض ان المبنى في بحث التعبدي والتوصلي عدم إمكان أخذ قصد القربة تحت الأمر فقد يقال بعدم معقولية الأمر بالاحتياط في العبادات إذ هذا الأمر اما ان يفرض تعلقه بذات العمل أو يفرض تعلقه بالعمل بقصد الأمر بالاحتياط الجزمي ، والأول خلف إذ ذات العمل ليس عبادة ولا يترتب عليه الغرض ليكون احتياطا ، والثاني يلزم منه أخذ قصد الأمر في متعلقه وهو محال بحسب الفرض.

الا ان الصحيح إمكان اختيار الشق الأول ، والإجابة عن الإشكال بان المفروض على مبنى استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ان ما هو المأمور به الواقعي ذات العمل فكما صورنا لزوم قصد الأمر في الأمر الواقعي بالعبادة بحكم العقل لا الشرع كذلك الحال في الأمر بالاحتياط في ذلك الأمر العبادي (١) ، وبهذا يظهر

__________________

(١) هذا إذا كان الأمر بالاحتياط في العبادات وواردا فيها بالخصوص حيث يستفاد منه حينئذ ولو بدلالة الاقتضاء ذلك. واما.

١٢٠