بحوث في علم الأصول - ج ٤

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته محمد وآله الطاهرين.

وبعد فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا ( بحوث في علم الاُصول ) الذي يتضمّن القسم الاوّل من مباحث الأدلة العقلية ، وهو يشتمل على مبحث القطع والظنّ ( الامارات ) والذي استفدناه من دروس سيّدنا وأستاذنا الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد الصدر ( قدّس سرّة ) التي ألقاها في دورته الاُصولية الثانية ، وقدامتازت على الدورة الاُولى في المنهجة والتهذيب ، تقدمها بين يدي الباحثين والمحققين من العلماء ، راجين من المولى القدير اَن يتغمّد سيدنا الشهيد رضوان الله عليه برحمته الواسعة حيث وفق الى تشييد أركان هذه المدرسة الاُصولية الرائعة في ميانيها ومناهجنا ومعالمها والتي تمثل بحقّ قمة الفكر الاصولي الثاقب في عصرنا الحاشر ، فللّه دره وعليه أجره وسلام عليه يوم ولد ويوم اشاد وأسّس ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً ، وما توفيق إلّا بالله عليه توكّت وإليه اُنيب.

قم المقدسة : محمود الهاشمي

ربيع الاوّل ١٤٠٦ هـ

٥
٦

مقدمة

في تقسيم مباحث الحجج والأصول العلمية

ذكر الشيخ ( قده ) في تقسيم مباحث الحجج والأصول العلمية : ان المكلف إذا التفت إلى الحكم الشرعي فاما أن يحصل له القطع أو الظن أو الشك ... إلخ ، ثم فرع باحكام كل من الأقسام.

وكلامنا حول هذا التقسيم لمباحث هذا القسم يقع ضمن جهات :

الجهة الأولى ـ في المقسم. وفيه بحثان.

البحث الأول : ان الشيخ جعل المقسم المكلف. بينهما عدل عن ذلك صاحب الكفاية ( قده ) فجعله ( البالغ الّذي وضع عليه القلم ) وكأنه لمناقشة لفظية حاصلها : ان المكلف ظاهر في فعلية التلبس بالمبدإ وهو التكليف مع ان الواقعة الملحوظة قد لا يكون فيها تكليف بل ترخيص وإباحة ومن هنا بدله بالبالغ الّذي وضع عليه القلم وأريد بالقلم قلم التشريع والجعل ولو على غير نحو الإلزام (١). وكأن هذا الإشكال ناشئ من حمل

__________________

(١) قد يكون الترخيص من باب عدم الجعل ، على ان عنوان وضع القلم عليه ظاهر في التشريع الإلزامي ، والظاهر أن تكون هذه العبارة منه كناية عن غير المجنون والصغير المرفوع عنهما القلم فكأن نظره إلى ذات المكلف لا المكلف بما هو مكلف كما قد يشعر به تعبير الشيخ ( قده ) أيضا مع انه في الأقسام ما لا يثبت فيه التكليف بعد ولو لكونه مشكوكا ، مضافا إلى ان قيد إذا التفت يكون مستدركا حينئذ بناء على المسالك المشهورة.

٧

عنوان المكلف على المكلف في شخص الواقعة لا المكلف في نفسه أي من كان ملزما من قبل الشريعة بما يلزم به الناس من دون نظر إلى خصوص الواقعة الملتفت إليها. وأيا ما كان فهذه وأمثالها مناقشة لفظية لا طائل تحتها. والّذي له مضمون علمي جدير بالبحث هو أن نتكلم في ان هذه الوظائف المقررة في الأقسام هل تختص بالمكلف البالغ حقيقة ـ سواء عبرنا عنه بتعبير الشيخ ( قده ) أو بتعبير صاحب الكفاية ـ أو أنها لا تختص بالبالغ المكلف بل تجري في حق من لم يكن بالغا فحينئذ ينبغي تغيير المقسم على التقدير الثاني وذلك بجعله الأعم من البالغ وغيره أي المكلف العقلي.

والصحيح هو عدم الاختصاص وإمكان تصوير جريان هذه الوظائف في حق غير البالغ وذلك في جملة من الموارد نذكر على سبيل المثال ثلاثة أنحاء منها.

١ ـ ان أصل اختصاص الأحكام بالبالغ وارتفاعها عن غيره وإن كان من ضروريات الدين بل عند العقلاء أيضا فيكون خارجا عن المقسم الملحوظ في الأقسام خصوصا مع كون مسألة حجية القطع ليست أصولية ، إلا ان إطلاق ذلك في بعض الأحكام ربما يقع مورد الشك والشبهة فيشك بنحو الشبهة الحكمية لا محالة في ثبوت ذلك الحكم على غير البالغ المميز ـ أي القابل للتكليف عقلا ـ كما لو فرض الشك في ثبوت الأحكام الثابتة بمقتضى الملازمة بين ما حكم به العقل وحكم به الشرع في حق غير البالغين فيتعين عليه حينئذ أن يسلك طريق الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط لتحديد وظيفته بالنسبة إلى ذلك الحكم حاله في ذلك حال غيره ، والوظيفة في هذه الشبهة بالرجوع إلى إطلاق أدلة رفع القلم عن الصبي الحاكم على إطلاقات أدلة الأحكام الواقعية لو فرض الإطلاق فيها ما لم يثبت مقيد لنفس هذا الإطلاق ولو كان نفس حكم العقل وقانون الملازمة لو فرض عدم قابليتها للتخصيص. نعم لو ثبت بأدلة الرفع رفع فعلية العقاب عن غير البالغ ولو كان مستحقا له فلا بأس بالتمسك به حينئذ.

٢ ـ أن يشك في تحقيق البلوغ بنحو الشبهة الحكمية وهل انه بدخول الخامس عشر أو بإكماله مثلا. ومنهج البحث هنا أن يقال : إن كان في دليل الحكم إطلاق في نفسه فهو حجة لإثبات فعلية ودليل الرفع لا يصلح للمقيدية بعد فرض إجماله وإلا لحكم بلا إشكال. ولو فرض عدم الإطلاق في دليل الحكم فالمرجع الأصول العملية من الاستصحاب أو البراءة

٨

النافيين للتكليف.

٣ ـ أن يكون الشك في البلوغ بنحو الشبهة المفهومية كما لو شك في صدق الشعر الخشن مثلا على مرتبة من الشعر النابت. وهنا أيضا لا بد من الرجوع إلى الوظائف المقررة وهذه الشبهة ترجع في أكثر الحالات إلى وجود عام فوقاني ومخصص مجمل مفهوما دائر بين الأقل والأكثر. فالعام يقول مثلا ( أقيموا الصلاة ) والمخصص دل على أن غير البالغ ـ وهو من لم ينبت عليه شعر خشن ـ لا تجب عليه الصلاة وهو مجمل مفهوما لا يعلم شموله لهذه المرتبة. وحينئذ بناء على ما هو الصحيح من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات المفهومية في نفسه كاستصحاب عدم نبات الشعر الخشن في المقام يرجع إلى عمومات التكليف.

البحث الثاني ـ في اختصاص المقسم بالمجتهد أو شموله لمطلق المكلفين ، ذهب بعض الاعلام ـ كالمحقق النائيني ـ إلى الأول مستندين في ذلك إلى ان هذا التقسيم انما هو من أجل تحديد الوظائف المقررة في كل قسم من أقسام الشك والظن واليقين. لاستنباط الحكم الشرعي وهي وظائف للمجتهد لأنه المخاطب بها فينبغي أن يكون المقسم المجتهد ، وذهب آخرون إلى التعميم.

وتحقيق الحال في هذا البحث يقع في مقامين :

المقام الأول ـ في منهجية هذا التقسيم وإن المقسم هل ينبغي أن يكون خصوص المجتهد أو الأعم منه ومن المقلد؟ ويكفي في هذا المقام لإثبات عموم المقسم أن نثبت موردية غير المجتهد للوظائف المقررة ولو في الجملة وهذا ثابت توضيحه : ان غير المجتهد يعلم بأنه مكلف باحكام الله سبحانه فإذا التفت إلى واقعة فاما أن يحصل له القطع بالحكم سلبا أو إيجابا ولو لكون المسألة ضرورية كحرمة الخمر أو يقينية بإجماع ونحوه كحرمة العصير العنبي المغلي قبل ذهاب الثلثين أو لا يحصل له ذلك ، فعلى الأول يكون قطعه حجة في حقه كقطع المجتهد ، وعلى الثاني فاما يحصل له الظن المناسب في شأنه وهو فتوى المجتهد ويحصل له القطع بحجيته من ضرورة أو إجماع فائضا يعلم بقطعه ويكون ظنه حجة ، وإن لم يحصل له لا قطع ولا قطعي اما لأنه لم يتمكن من الوصول إلى فتوى المجتهد أو لا مجتهد لكي يصل إلى فتواه أو لم يقطع بحجية الفتوى فينتهي لا محالة إلى الشك فلا بدّ وأن يستقل عقله بوظيفة اما البراءة أو الاشتغال أو التفصيل

٩

حسب الموارد. فنفس المراحل المتحققة في حق المجتهد تتحقق في غير المجتهد أيضا ولكن مع فرق بينهما في عدم توفر بعض مصاديق العلم أو العلمي في حق غير المجتهد وهو لا يجعله خارجا عن المقسم ولا يؤدي إلى تخصيص منهجة التقسيم بخصوص المجتهد.

المقام الثاني ـ في البحث عن اختصاص خطابات الوظائف المقررة بألسنتها المختلفة ـ من جعل الحجية والطريقية أو الوظيفة العملية ـ بالمجتهد وعدمه وما ينشأ من ذلك ويتفرع عليه من النتائج مع قطع النّظر عن التقسيم وصحته.

ولا إشكال في انه لم يؤخذ عنوان المجتهد في الخطابات فدعوى الاختصاص لا تنشأ من ذلك بل من جهة ان تلك الوظائف بحسب موضوعها تكون مقيدة بقيود وشروط لا تتحقق إلا في حق المجتهد عادة ، فحجية الظهور مثلا مقيدة بالفحص عن المخصص والمقيد ، والحاكم ، وحجية الخبر موقوفة على عدم وجود المعارض ، وحجية الاستصحاب متقومة باليقين السابق وهكذا. ومن هنا ينشأ الإشكال في عملية الإفتاء وكيفية تحليله بعد الفراغ عن أصل جواز رجوع المقلد إلى المجتهد. وهذا بحث جليل ينبغي التعرض له. فنقول :

المركوز في الأذهان ان عملية الإفتاء تكون من باب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة كالرجوع إلى الطبيب مثلا وهذا موقوف على وجود واقع محفوظ مشترك بين الخبير وغيره يدركه الخبير بنظره ولا يدركه غيره فيرجع إليه ، وهذا انما ينطبق في باب الرجوع إلى المجتهد فيما إذا كان الحكم الواقعي مقطوعا للمجتهد لأنه بذلك قد أدرك ما يكون مشتركا بينهما ثابتا في الواقع ويكون نظره مجرد خبرة وطريق إليه.

واما لو فرض عدم القطع الوجداني بالحكم وانما انتهى إليه عن طريق وظيفة ظاهرية مقررة كرواية معتبرة سندا أو ظهور حجة أو أصل عملي أو نحو ذلك فكيف يفتي غيره الّذي لا يشترك معه في مقومات تلك الوظيفة ، فانه إن أراد أن يفتي بالحكم الواقعي فهو إفتاء بما لا يعلم وإن أراد أن يفتي بالحكم الظاهري فهو مخصوص بالمجتهد بحسب الفرض لأن موضوعه متقوم به لا بغيره. ويتزايد الإشكال فيما لو فرض ان الواقعة كانت خارجة عن ابتلاء المجتهد كأحكام النساء فانه حينئذ لا يوجد في الواقعة علم بحكم واقعي لكي يفتي به والحكم الظاهري غير ثابت في حقه أيضا لكونه ليس محل ابتلائه ، ولهذا سمينا هذه المسألة بتحليل

١٠

عملية الإفتاء ، فانه بعد الفراغ عن ثبوت حجية الفتوى فقهيا نبحث عن كيفية تعقلها وتخريجها صناعيا بنحو لا نحتاج إلى إثبات عناية زائدة علاوة على كبرى حجية الفتوى الراجعة إلى كبرى حجية رأي أهل الخبرة في حق غيره.

وتحقيق الحال في ذلك يكون بالبحث في ثلاث مراحل نتكلم في أولاها عن انه لو فرضنا الاختصاص في الوظائف الظاهرية فهل يحتاج تصحيح عملية الإفتاء إلى افتراض مئونة زائدة نثبتها ولو من نفس دليل جواز الإفتاء التزاما أم لا نحتاج إلى ذلك بل يمكن تخريج الحكم على القواعد؟ ونتحدث ثانيا عن تلك المئونة الزائدة المحتاج إليها وكيفية إمكان إثباتها. وثالثا عن أصل مسألة اختصاص الوظائف الظاهرية بالمجتهد وعدمه.

اما البحث في المرحلة الأولى ، فقد يقرب تخريج عملية الإفتاء في موارد الوظائف الظاهرية على القاعدة حتى على فرض اختصاصها بالمجتهد ، بأن الحكم الظاهري وإن كان مختصا بالمجتهد لتحقق موضوعه فيه دون المقلد ولكنه بذلك يصبح عالما بالحكم الواقعي المشترك بين المجتهد والمقلد تعبدا فيكون حاكما على دليل الإفتاء بالعلم والخبرة بمقتضى دليل التعبدية فيفتي المجتهد مقلديه بالحكم الواقعي المعلوم لديه بهذا العلم ، وهذا أمر على القاعدة لا يحتاج فيه إلى عناية زائدة بعد فرض دلالة دليل الحجية على الحجية والعلمية التعبدية. وفيه :

أولا ـ انما يتم هذا التخريج لو تمت أصوله الموضوعية في خصوص باب الأمارات المجعولة فيها الحجية والطريقية دون غيرها من موارد الأحكام الظاهرية.

وثانيا ـ انه في الأمارات أيضا لا يتم هذا البيان إلا على بعض المسالك أي بناء على أن تكون الحجية بمعنى جعل ما ليس بعلم علما.

وثالثا ـ حتى بناء على مسالك جعل الطريقية والعلمية أيضا لا يتم ذلك ، لأن القطع الموضوع للحكم بجواز التقليد انما هو القطع الحاصل عن خبرة وبصيرة وكونه من أهل الفن لا مطلق القطع ولو كان حاصلا من الرؤيا أو الجفر ، ومن الواضح ان دليل الحجية لا يعبد المفتي بكونه أهل خبرة وأهل الفن وان جعله عالما تعبدا نعم جواز الإفتاء والإسناد موضوعه مطلق العلم فيكفي قيام الحجة منزلة القطع الموضوعي في ترتيبه هذا لو قيل بأخذ العلم موضوعا فيه وإلا بان كان الموضوع نفس الواقع فالامر أوضح.

١١

ثم ان هنا اعتراضات على أصل مبنى جعل الطريقية وقيام الحجج مقام القطع الموضوعي من قبيل ان هذه الحكومة لا تتم في الأحكام الثابتة بدليل لبي كحجية الخبر أو الفتوى بناء على ان مدرك الحجية فيها السيرة العقلائية ، ومن قبيل ان بعض الحجج كالاستصحاب لا يكون حجة وقائما مقام القطع الموضوعي ـ لو قيل بقيامه مقامه ـ إلا في طول قيامه مقام القطع الطريقي بحيث يكون للمستصحب أثر عملي في حق المجتهد نفسه وهذا لا يكون في موارد أحكام النساء مثلا أو غيرها مما هو خارج عن محل ابتلاء المجتهد ولا يكون ذا أثر عملي في حقه ، وسوف يأتي التعرض لها في محلها.

وهناك تقريب ثان لعلاج مشكلة الإفتاء بناء على اختصاص موضوع الحكم الظاهري بالمجتهد من دون افتراض عناية زائدة حاصله :

ان المقلد بالرجوع إلى المجتهد في موضوع الحكم الظاهري والوظيفة العملية يصبح حقيقة موضوعا للرجوع إليه في نفس الوظيفة فيشترك معه فيها ، فشمول دليل التقليد له بلحاظ المسألة الأولى ينقح له موضوعا حقيقة ووجدانا لشموله ثانيا بلحاظ الحكم الظاهري والوظيفة العملية ، وهذا من هذه الناحية نظير شمول دليل حجية الخبر للخبر مع الواسطة حيث يتنقح موضوع اخبار الواسطة بشمول دليل الحجية للخبر المباشر ، فمثلا في مورد الاستصحاب يرجع المقلد إلى المجتهد أولا في إثبات الحالة السابقة ـ ولنفرضها معلوما بالعلم الوجداني للمجتهد ـ فيصبح بذلك عالما تعبدا بنجاسة الماء المتغير حدوثا مثلا وبما انه شاك في نجاسته بعد زوال التغير فيتنقح بذلك في حقه موضوع الحكم بالنجاسة الاستصحابي كالمجتهد نفسه ، غاية الأمر أن يقين المجتهد السابق وجداني ويقينه تعبدي وقد ثبت في محله قيام اليقين التعبدي مقام اليقين الوجداني في الحكم بجريان الاستصحاب ، وكذلك الحال في موارد احتياط المجتهد لحصول علم إجمالي له فان حجية علمه هذا للمقلد يجعله عالما إجمالا بالحجة على الحكم وهو كالعلم بالواقع في المنجزية ، وكذلك في موارد الأمارات والأدلة الاجتهادية والأصول العملية الأخرى. غاية الأمر تبقى مسألة الاختصاص من ناحية عدم الفحص وفي هذه النقطة يقال بان دليل الفحص يدل على لزوم فحص كل مكلف بحسبه وفحص المقلد ليس بالرجوع إلى كتب الفقه بل بالرجوع إلى المجتهد فبرجوعه إليه وعدم وجدان ما يدل منه على الخلاف يكون قد أكمل الفحص حقيقة فصار صغرى لكبرى الوظيفة الظاهرية المقررة

١٢

بسبب قيام الأمارة أو الأصل الشرعي أو العقلي. والحاصل من غير ناحية الفحص يكون الاشتراك بين المجتهد والمقلد في الوظيفة الظاهرية المقررة ثابتا لكون المجتهد عالما بموضوعه وجدانا وبذلك يكون المقلد أيضا بالرجوع إليه في ذلك عالما بالموضوع تعبدا على القاعدة ، ومن ناحية الفحص يقال بالاشتراك باعتبار ان فحص كل إنسان بحسبه فبالنسبة إلى المجتهدين يكون فحصهم بالرجوع إلى وسائل الشيعة مثلا واما بالنسبة إلى المقلد ففحصه بالرجوع إلى المجتهد وملاحظة انه لم يجد معارضا أو حاكما ، فالمقلد لا يجوز له الرجوع إلى استصحاب بقاء النجاسة في مسألة حكم الماء الّذي زال عنه تغيره بمجرد مراجعة مسألة نجاسة الماء المتغير ما دام متغيرا بل لا بد له أيضا أن يرجع إلى المسألة الأولى في رسالة المجتهد ليرى هل هناك ما يكون حاكما على هذا الاستصحاب في رأي المجتهد أم لا. وهذا الوجه أيضا غير تام فانه :

أولا ـ ان مجرد مراجعة رسالة المجتهد في المسألة الثانية لا يكون فحصا عن الحاكم على الحكم الظاهري ليتنقح بذلك موضوعه في حق المقلد.

وثانيا ـ يلزم منه عدم جواز الإفتاء من قبل المجتهد الّذي لا يكون رأيه حجة في حق العامي لأن هذه الوظيفة الظاهرية انما تثبت في حق العامي إذا جاز له الرجوع إلى المجتهد في المسألة الأولى لكي يتنقح بذلك موضوع الحكم الظاهري فإذا كان المجتهد من لا يكون رأيه حجة في حق العامي فلا يكون الحكم الظاهري الثابت في حق ذلك المجتهد ثابتا في حق العامي فكيف يجوز للمجتهد الإفتاء به له مع انه بحسب الارتكاز لا إشكال في عدم حرمة ذلك وإن كان لا يجوز للعامي تقليده.

المرحلة الثانية ـ انه لو فرض عدم إمكان تخريج رجوع العامي إلى المجتهد على أساس قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة بلا ضم مئونة زائدة ، فما هي تلك المئونة التي بضمها يتم المطلب ثبوتا ويندفع الإشكال وكيف يمكن استفادتها من دليل التقليد إثباتا؟.

الصحيح : ان تلك المئونة يمكن أن تكون افتراض التنزيل أي تنزيل حال المجتهد منزلة حال العامي ، ففحصه منزلة فحص العامي وكذلك يقينه بالحالة السابقة أو بالمعلوم الإجمالي ينزل منزلة يقين العامي فتشمله حينئذ الوظائف المقررة التي انتهى إليها المجتهد لا محالة. نعم بالنسبة إلى الوظائف العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو منجزية العلم الإجمالي لا بد وأن يفترض جعل حكم مماثل لحكم العقل بحيث ينتج البراءة والاحتياط الشرعيين في حق

١٣

العامي لأن التنزيل بلحاظ الحكم العقلي غير معقول كما هو واضح.

واما كيفية استفادة ذلك إثباتا فببيان : ان المركوز في أذهان المتشرعة والمتفاهم من أدلة التقليد رجوع العامي إلى المجتهد ليطبق على نفسه نفس ما يطبقه المجتهد على نفسه بحيث يثبت في حقه نفس ما يثبت في حق المجتهد من درجات إثبات الواقع أو التنجيز والتعذير عنه لا أكثر ، وهذا لا يكون إلا مع فرض التنزيل المذكور فيستكشف من دليل التقليد لا محالة ثبوت هذا التنزيل والتوسعة في موضوع تلك الوظائف الظاهرية بالدلالة الالتزامية.

وهذا التخريج له لازمان يصعب الالتزام بهما.

أحدهما ـ ما أشرنا إليه سابقا من ان لازم مثل هذا التخريج عدم جواز إفتاء المجتهد الّذي لا يجوز تقليده ، لأن جواز إفتائه برأيه فرع انطباق الوظائف الثابتة في حق العامي وهو فرع تنزيل فحصه أو يقينه السابق أو علمه الإجمالي منزلة فحص العامي أو يقينه أو علمه الإجمالي وهذا انما نستفيده من دليل جواز التقليد بحسب الفرض فإذا لم يكن شاملا له لعدم عدالته أو لكون غيره أعلم منه فلا تثبت تلك الوظيفة في حق العامي لكي يمكن أن يفتي به. نعم لو كان مقتضى الوظيفة الثابتة في حق المجتهد اعتباره عالما بالواقع جاز له الإفتاء به.

الثاني ـ انه بناء على هذا نخسر أهم الأدلة على التقليد وهو السير العقلائية لأنها لا تقتضي أكثر من رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الخبرة لتشخيص الحكم المشترك ولا تدل على التنزيل. اللهم إلا أن يضم إلى ذلك شيء يشبه الإطلاق المقامي فيقال : بان هذه السيرة بحسب طبعها توجب الرجوع إلى المجتهدين على حد الرجوع إلى غيرهم من أهل الخبرة ولو من باب الغفلة عن الفرق ، وسكوت الشارع عن ذلك مع كون الغفلة نوعية بنفسه دليل على الإمضاء والقبول.

واما المرحلة الثالثة ـ ففي أصل منشأ الشبهة والإشكال وهو دعوى اختصاص الوظائف المقررة بالمجتهد فنقول : ان هذه الدعوى تكون بلحاظ مواضع عديدة لا بد من علاج كل واحد منها مستقلا.

١ ـ دعوى الاختصاص من جهة أخذ لزوم الفحص في موضوع دليل الحكم الظاهري سواء كان ذلك الحكم الظاهري أمارة أو أصلا.

ويمكن دفعها بان الفحص بعنوانه غير مأخوذ في دليل الحكم الظاهري وانما الثابت عدم

١٤

شمول أدلة الأحكام الظاهرية لموارد يكون فيها حجة على الخلاف في معرض الوصول ، والمقصود من الوصول هو الوصول إلى أهله أي إلى الخبير البصير لا إلى كل أحد وهذا أمر موضوعي يمكن إحرازه في حق الجميع فإذا فحص المجتهد ولم يجد حجة على الخلاف فيتحقق شرط الحجية في حق الجميع بأحد تقريبين :

أ ـ ان الشرط هو فحص الخبير البصير وعدم وجدانه والمفروض ان المجتهد قد فحص بالفعل ولم يجد حجة على الخلاف فموضوع الوظيفة الظاهرية محقق بالنسبة إلى الجميع لا محالة.

وهذا التقريب فيه إشكال فني ، فانه إن أريد بالخبير البصير المجتهد الأعلم الّذي يجوز تقليده خاصة لزم من ذلك عدم جواز إفتاء المجتهد الّذي لا يجوز تقليده للعامي حتى لو فحص ولم يجد لأن شرط الحجية فحص الخبير البصير وهو غيره ، بل لا يجوز له أيضا العمل بتلك الوظيفة لأن الشرط بحسب الفرض فحص المجتهد الأعلم وعدم وجدانه لا فحص من ليس بأعلم ، وإن أريد بالخبير مطلق المجتهد ولو كان ممن لا يجوز تقليده فيلزم انه لو فحص مجتهد واحد ولم يجد مخصصا ثبتت تلك الوظيفة لظاهرية الثابتة بأصل أو أمارة للجميع حتى في حق المجتهدين الآخرين الذين لم يفحصوا بعد بلا حاجة إلى فحص فضلا عن العوام وهذا أيضا واضح البطلان.

ب ـ ان الشرط أمر واقعي نفس الأمري وهو أن لا يتواجد في معرض الوصول ما يكون حجة على الخلاف ـ سواء فحص أحد أم لا ـ ويكون فحص كل مجتهد طريقا إلى إحراز هذه المرتبة من عدم الوجدان لا موضوعا للحجية والوظيفية ، وعلى هذا تكون الوظيفة الظاهرية حكما وموضوعا امرا واقعيا مشتركا بين المجتهد والعامي ويكون نظر المجتهد مجرد طريق إلى إحرازه موضوعا وحكما ويكون تقليد العامي له من باب رجوعه إلى أهل الخبرة والعلم بهذا الحكم المشترك لا الحكم الواقعي بالخصوص.

٢ ـ دعوى الاختصاص من جهة ان الحجية والحكم الظاهري منوط بالوصول والعلم فيختص بالعالم ولا يعم كل أحد كما في الأحكام الواقعية ، والوجه في هذا الاختصاص يمكن أن يقرب بتقريبين :

أ ـ استظهار ذلك من دليل الحجية الدال على انه إذا جاءك خبر من الثقة مثلا فهو حجة وعنوان جاءك انما يصدق على من وصله الخبر لا الخبر بوجوده الواقعي.

١٥

والجواب : ان هذه العناوين محمولة كلا على الطريقية لا الموضوعية في ألسنة الأدلة بحسب مناسبات الحكم والموضوع العرفية. على ان هناك في أدلة الأحكام الظاهرية ما لم يؤخذ فيه عناوين من هذا القبيل.

ب ـ ان إطلاق الحكم الظاهري لغير العالم به لغو فيكون مستحيلا ، ولا يقاس بالحكم الواقعي فان إطلاقه له انما هو من أجل الاحتياط بالنسبة إليه واما الحكم الظاهري فطريقي محض.

والجواب : لو سلمت اللغوية وسلم استلزامها عدم الإطلاق مع كل ذلك قلنا في المقام ان الوصول لا يراد منه الوصول بالعلم الوجداني بالخصوص بل مطلق الوصول ولو التعبدي وهو حاصل في المقام بفتوى المجتهد فلا يكون جعله في العامي لغوا.

٣ ـ الاختصاص من جهة أخذ اليقين بالحالة السابقة موضوعا في بعض الوظائف الظاهرية كالاستصحاب وهو لا يكون إلا في حق المجتهد فيكون يقينه في ذلك محققا لموضوع الوظيفة لا طريقا إلى إحرازه.

والجواب ـ ان الصحيح عندنا كفاية ثبوت نفس الحالة السابقة واقعا لاستصحابها على ما سوف يأتي تحقيقه في محله. فيكون يقين المجتهد بثبوت الحالة السابقة ـ وهو الحكم المشترك ـ طريقا إلى إحراز موضوع الوظيفة الظاهرية الاستصحابية في حق المقلدين ، على انه لو فرض أخذ نفس اليقين موضوعا للاستصحاب فلا إشكال أيضا بناء على قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي واليقين السابق فان يقين المجتهد بثبوت الحكم في الحالة السابقة بنفسه يكون دليلا وعلما تعبديا للعامي في إثبات الحالة السابقة فيكون الرجوع إليه في هذه المسألة محققا لموضوع الاستصحاب في المسألة اللاحقة.

والصحيح : انه لا يمكن الاستغناء عن هذا الجواب أعني التقليدين الطوليين ، إذا أردنا أن لا نخرج على مقتضى القاعدة في باب التقليد وكونه من باب الرجوع إلى العالم. وذلك في كل مسألة يكون فتوى المجتهد فيها بوظيفة هي من شئون منجزية علم ثابت في المرتبة السابقة لا من شئون الواقع المعلوم كما في موارد العلم الإجمالي بالتكليف فنحتاج فيها إلى افتراض تقليدين طوليين بالنحو الّذي تقدم شرحه (١).

__________________

(١) لا يقال : على هذا فيمكن للمجتهد في مثل هذه الموارد أن لا يفتيه بعلمه الإجمالي أولا لكي لا يتحقق في حق العامي موضوع

١٦

ثم انه يمكن أن يستشكل في حجية رأي المجتهد المفضول في حق نفسه فضلا عن حجيته في حق الآخرين بأنه كيف يحصل له اليقين بالوظيفة والحكم الأعم من الواقعي والظاهري ـ حيث انه الحجة دائما ـ مع اعترافه بالمفضولية للأعلم وافترض انه خالف في الرّأي ، فهو بمقتضى ذلك يحتمل انه لو تباحث مع الأعلم وعالج المسألة على ضوء نظره لتغيرت النتيجة التي انتهى إليها ، وهذا الاحتمال يعني عدم جزمه بالنتيجة النهائيّة والوظيفة العملية فلا يمكنه العمل بنظره فضلا عن تقليده.

ودعوى : ان المفضول إذا تباحث مع الأعلم فسوف ينقلب حكمه الظاهري من باب انقلاب موضوعه لا التخطئة لأنه سوف يرتفع عدم وجدانه للحجة على الخلاف مثلا بوجدانه لها فمن

__________________

المنجزية حقيقة فتجري في حقه البراءة عن الطرفين واقعا. وهذا بنفسه خلاف المرتكز في باب التقليد إذ معناه اختلاف حكم المقلد عن حكم المجتهد فلا بد من الالتزام بالتنزيل.

فانه يقال ـ ان ما هو حجة واقع علم المجتهد ونظره لا الاخبار والإفتاء ، وعليه فعلم المجتهد الإجمالي حجة ومنجز على العامي قبل فحصه وسؤاله عنه فيمنع عن إجراء البراءة في الطرفين.

ثم ان هنا إشكالا آخر في التقليد نواجهه في خصوص موارد فتاوى المجتهد القائمة على أساس الوظائف العقلية كأصالة الاشتغال والبراءة العقليتين أو حجية الظن الانسدادي على الحكومة ، وحاصله انه إن كان التقليد في ذلك من باب كون فتوى المجتهد حجة على المقلد في نفي الحكم الواقعي فمن الواضح ان المجتهد ليس عالما بعدم الحكم الواقعي وانما هو عالم بالوظيفة العقلية ، وإن كان من باب ان فتواه حجة في إثبات تلك الوظيفة في حق المقلد صغرى وكبرى فمن الواضح ان الحجية الشرعية في مثل ذلك يجعل وظيفة العامي مباينا مع وظيفة المجتهد حيث يكون في حقه ترخيص ظاهري شرعي لا عقلي لأن الشارع لا يمكنه جعل البراءة العقلية أو الاحتياط العقلي وتحديدهما في حق العامي فلا بدّ وان تكون هذه الوظيفة في حق العامي حكما ظاهريا شرعيا على طبق نظر المجتهد بنحو يكون نظره موضوعا لهذا الحكم الظاهري الشرعي وهذا خلاف كون الرجوع إليه من باب الخبرة بالحكم المشترك بينهما ، نعم يمكن أن يكون فتوى المجتهد مجرد منبه للمقلد إلى إدراك عقله العملي لتلك الوظيفة المقررة فيما إذا تحقق موضوعها عنده ولو بتقليد في المرتبة المتقدمة كما في موارد العلم الإجمالي إلا ان هذا ليس تقليدا حقيقة.

والصحيح في الجواب : ان دليل التقليد يجعل نظر المجتهد خبرة للعامي في تشخيص موارد التأمين الشرعي واما التنجيز والاشتغال فهو ثابت في حق المقلد أول الأمر في كل شبهة لكونها قبل الفحص فحينئذ ان أنكرنا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فلا موضوع لهذا الإشكال فان المؤمن دائما يكون شرعيا ودور المجتهد ونظره طريقيا إليه وان قلنا بالبراءة العقلية أيضا كان نظر المجتهد طريقا إلى إحراز شرطها للمقلد وهو الفحص وعدم وجود منجز شرعي في معرض الوصول فيكون تقليد العامي له في الصغرى بحسب الحقيقة واما الكبرى فلا بد وأن يحتاج إلى تقليدين طوليين بل يقلده في عدم حصوله على ما يكون مؤمنا شرعيا عن الحكم الواقعي المنجز في نفسه على المقلد واما الرجوع إلى المجتهد في التأمينات الظاهرية فأيضا يكون من باب الخبرة اما بالنسبة إلى كبرى الترخيص الظاهري فواضح واما بلحاظ صغراه فلأن موضوع الحكم الظاهري الشك وهو حاصل للمكلف وان لا يكون على خلافه حاكم أو معارض ونظر المجتهد طريق إليه أيضا. فالحاصل نظر المجتهد ووصوله إلى الحكم الواقعي والظاهري من حيث الكبرى والصغرى في الشبهات الحكمية نظر طريقي ورجوع العامي إليه من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، كما ان اليقين السابق في الاستصحاب في الشبهات الحكمية يكون ثابتا في حق المجتهد بالحجة عادة أيضا لا بالوجدان ، فلا إشكال إلا من ناحية الفحص والّذي قد عرفت انه بمعنى لا ينافي مع كون رجوع المقلد إلى المجتهد فيه من باب الخبرة.

١٧

دون ذلك يكون موضوعا للوظيفة العقلية على كل حال.

مدفوعة : أولا ـ بان ما ينكشف بالرجوع إلى الأعلم قد لا يكون من باب رفع الموضوع بل رفع المحمول مع انحفاظ الموضوع ، كما إذا كان هناك خطأ في تشخيص الحكم الواقعي أو الظاهري بان كان قطعه به خاطئا وهذا له أمثلة ، منها ـ أن تكون المسألة عقلية كما إذا قال باستحالة الترتب والأعلم يرى إمكانه. ومنها ـ أن يكون جازما بظهور عرفي وهو غير صحيح وهكذا.

وثانيا ـ ان اللازم في الوظائف المقررة الفحص عن وجود الحجة على الخلاف وما دام احتمال وجودها لدى الأعلم قائما في نفس المفضول فلا تجري تلك الوظيفة المقررة في حقه.

وبهذا يثبت ان المجتهد المفضول لا يقين ولا علم له بوظيفته فيجب عليه التقليد والرجوع إلى الأعلم من باب رجوع الجاهل إلى العالم. وبهذا تبطل أيضا العبارة المشهورة في إجازات الاجتهاد من انه يحرم عليه التقليد.

هذا كله إذا كان المجتهد المفضول يعترف بكونه المفضول ، واما إذا كان لا يرى نفسه مفضولا فبالنسبة إليه لا إشكال ولكن الإشكال حينئذ في تقليد العامي ورجوعه إليه فانه ليس من أهل الخبرة لكونه جاهلا بالنسبة إلى الأعلم فما يتيقن به من الحكم الأعم من الواقعي والظاهري قد يكون نتيجة جهله المركب ومثل هذا العلم المستند إلى الجهل المركب لا يكون مشمولا لدليل رجوع الجاهل إلى العالم.

والواقع ان هذه الشبهة ليس لها جواب حاسم بل جوابه بنحو الموجبة الجزئية وتوضيحه : ان الشبهة تفترض ان ما يمتاز به الأعلم من الانتباهات والالتفاتات التي هي معنى أعلميته كلها واقعة في موارد الاختلاف بين الأعلم وغيره في الفتوى واما موارد الاتفاق فيكون بنفسه دليلا على التفاتهما معا إلى جميع النكات. مع ان هذا الافتراض بلا موجب فانه ربما يتفقان في النتيجة مع خطأ غير الأعلم في منهج الاستدلال وطريقته ، وحينئذ من المعقول أن يحصل للمجتهد غير الأعلم يقين بالحكم الأعم من الواقعي والظاهري في مسألة بنحو يخالف رأي الأعلم رغم اعترافه بالمفضولية وذلك لعدم احتمال أن يكون شيء من تلك الالتفاتات والانتباهات في تلك المسألة التي خالف فيها الأعلم بالخصوص وذلك لعدة جهات :

١٨

١ ـ أن يفرض مجموع المسائل وعمليات الاستدلال المستنبطة في كل منها كثيرة بحيث لا تشكل موارد الاختلاف بينهما إلا جزء ضئيلا بحيث يكون احتمال وقوع خطئه فيها نتيجة عدم انتباهه ضعيفا بدرجة يكون الاطمئنان على خلافه فمثلا لو فرضنا مجموع المسائل الشرعية (٩) وفرضنا ان كل مسألة تحتوي على خمسة أدلة وعمليات استدلال فكان مجموع عمليات الاستدلال الفقهية (٤٥) عملية وافترضنا اختلافهما في ثلاث مسائل من التسع وكانت نسبة الأعلمية ١ ـ ٣ أي في كل ثلاث عمليات استدلال يتنبه الأعلم إلى نكتة لا يتنبه إليها غيره. فسوف يكون نسبة امتيازات الأفضل في مجموع الاستدلالات الفقهية المفترضة ١٥ ـ ٤٥ أي انه قد فاتته (١٥) انتباهة في مجموع الفقه ، ولكن بما ان كل مسألة تحتوي على خمس عمليات استدلال فاحتمال وجود غفلة وعدم انتباه من قبل المفضول في كل واحدة منها ١ ـ ٣ في نفسه ولكن بلحاظ جميع العمليات الخمس في كل مسألة تكون قيمة احتمال ( ١ ـ ٣ ) ٥ أي ١ ـ ٢٤٣ وهو احتمال ضعيف جدا يقابله الاطمئنان (١).

٢ ـ ومما يضعف هذا الاحتمال أكثر ما إذا فرضنا ان المجتهد المفضول في موارد الاختلاف مع الأعلم كان منتبها إلى نظر الأعلم ومع ذلك خالفه لأنه بذل مزيد جهد كثير حتى استقر رأيه على الخلاف ، خصوصا إذا كان قد التفت إلى ما هو المبرز والمبين من الدليل الّذي أقامه الأعلم وهو يراه مدخولا فيه ، أو كان نظره هو الموافق مع المشهور.

٣ ـ ان جملة من الخلافات ترجع إلى نكات ذاتية غير قابلة للحل بالبحث ، كما إذا كان من باب القطع الوجداني الحاصل من مزاج في فهم الأدلة والتعدي من مدلولها أو الجمود عليها ، أو كان من باب الخلاف في استظهارات عرفية قد لا يمكن تخريج نكات موضوعية لها كما نصنع ذلك في أكثر الاستظهارات ، أو يرجع الخلاف إلى الخلاف في فهم الذوق العقلائي وارتكازاتهم في باب العقود والمعاملات.

ففي ضمن مجموع هذه الأمور يمكن أن يفرض حصول الجزم واليقين للمفضول بما هو وظيفته المقررة شرعا أو عقلا في مسألة معينة رغم اعترافه بأعلمية المجتهد الّذي خالفه في

__________________

(١) ولكن الاطمئنانات الحاصلة من كثرة أطراف المعلوم بالإجمال ليست بحجة ولهذا يجب الاجتناب عن قطيع شياة يبلغ عددها ألف ويعلم بغصب واحد منها مع ان كل واحد منها لو يلحظ يكون احتمال كونه هو المغصوب ١ ـ ٩٩٩.

١٩

الرّأي ، ولكن ذلك شريطة ان لا تكثر مسائل الخلاف بينه وبين الأعلم وأن لا يكون الفارق بينهما كبيرا وإلا فكلما كثر هذا أو ذاك كبر احتمال الخطأ في رأيه بنحو لا يمكن أن يحصل له الجزم وتتمة الكلام في ذلك موكول إلى محله.

الجهة الثانية ـ في الأقسام :

وقد جعلها الشيخ ثلاثة كما هو معروف.

وقد يستشكل فيه : بان المراد من القسم الثاني منها ـ وهو الظن ـ إن كان خصوص المعتبر منه فهو خلاف إطلاق كلمة الظن وإن أريد الأعم منه ومن غير المعتبر تداخل هذا القسم مع القسم الثالث ـ وهو الشك ـ فان الظن غير المعتبر كالشك من حيث الحكم.

وقد يجاب باختيار الشق الثاني ، ويدفع الإشكال بان الحكم الملحوظ للاقسام الثلاثة إمكان الحجية وامتناعها أو ضرورتها فالقطع يكون حجة بالضرورة والظن يمكن جعله حجة والشك يمتنع فيه ذلك فلا تداخل في الأحكام.

وفيه : إن أريد من الشك مجموع الاحتمالين فلا معنى لجعل الحجية فيه إلا انه بلا ملزم ولهذا لم يرد من الظن أيضا إلا أحد الاحتمالين وهو الراجح منهما ، وإن أريد منه أحدهما فيعقل جعل الحجية له بنكتة طريقية نوعية أو بنكتة نفسية كما هو واضح.

ولعل الأولى من ذلك أن يقال : بان الشيخ يقصد من التقسيم المذكور فهرسة مواضيع كتابه وبحوثه فلا بدّ من جعل موضوع القسم الثاني الظن لكي يبحث فيه عن اعتباره وعدمه لا الظن المعتبر بالخصوص. وإن كان هذا يخالف ظاهر عبارته في التقسيم في الأصول العلمية ، وعلى كل حال فالمناقشة لفظية.

وقد يستشكل ثانيا ـ بان تثليث الأقسام مبني على أن يكون المراد بالحكم في المقسم خصوص الواقعي مع انه لا موجب له لأن المهم جامع الحكم الأعم من الواقعي والظاهري فيكون التقسيم ثنائيا كما صنع في الكفاية.

وفيه ـ ان المهم ليس هو تحصيل جامع لتقليل الأقسام وإلا لأمكن الاستغناء عن ذلك إلى عنوان واحد وهو تشخيص الوظيفة الفعلية سواء كانت حكما شرعيا واقعيا أو ظاهريا أو حكما عقليا. وانما المقصود بيان ملاكات ومناطات كل وظيفة بإبراز موضوعاتها وملاكاتها. نعم يبقى هنا بحث في نفسه عن ان الحكم الّذي أخذ في المقسم بعد الفراغ عن

٢٠