جواهر الكلام

الشيخ محمّد حسن النّجفي

لكن السيد إن دفع ألفا آخر مضى العقد ، وإلا فللبائع فسخ العقد ، وهو أحد الأقوال الشافعية ، والثاني : أنه ينفسخ العقد كما لو اشترى بألفين ، لأن المولى حصر إذنه في التصرف في ذلك الألف ، وقد فات محل الإذن ، فبطل البيع ، والثالث : أنه يجب على السيد ألف آخر ، لأن العقد وقع له ، والثمن غير متعين ، فعليه الوفاء بإتمامه ولا بأس به إن كان السيد قد أطلق له ذلك ، بل هو المتعين حينئذ ، وإلا فالوجه ما قلناه » ولعل مرادهما بقرينة مقابلة وجوه الشافعية الفضولي لا أن له الفسخ وعدمه مع فرض عدم إجازة السيد والله اعلم.

وكيف كان ف إذا أذن له في التجارة ، لم يكن ذلك إذنا لمملوك المأذون بناء على أنه يملك ، أو أن المراد من هو في خدمته من عبيد السيد مجازا باعتبار صدق الإضافة بأدنى ملابسة ، وعلى التقديرين فليس الأذن له في التجارة إذنا له لافتقار التصرف في مال الغير إلى صريح الإذن أو كالصريح ، وليس هذا منه لغة ولا شرعا ولا عرفا ، بل ليس للمأذون استنابته كما انه ليس له استنابة غيره ، لأن الإذن في التجارة إنما وقعت له ، وهي لا تقتضي إذنا في التوكيل الذي لا يدخل تحت اسم التجارة فما عن أبي حنيفة ـ من أن للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة ـ واضح الضعف.

نعم قد تقضى القرائن في بعض الأحوال أن المراد من الإذن في التجارة ما يشمل الحاصل منها بالوكالة ، خصوصا إذا كان الوكيل أحسن نظرا من المأذون ، وربما يؤدي نظر المأذون إلى الاعتماد على نظر بعض الأشخاص ، ومباشرة الشراء له كما هو واضح والله أعلم.

ولو أذن له في التجارة دون الاستدانة ناصا على ذلك أو مقتصرا في الأذن على ما يشملها فاستدان وتلف المال في يده كان لازما لذمة العبد يتبع به بعد العتق الذي هو حال التمكن من الأداء على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا بل عن الخلاف الإجماع على ذلك ، لوجود سبب الضمان بالنسبة إليه دون سيده ، فيبقى الباقي على أصالة براءة ذمته ، بل الظاهر الإجماع على عدم اشتغالها.

وإن كان قد قيل والقائل الشيخ في النهاية أنه يستسعى العبد‌

٨١

فيه معجلا للغرور بالإذن بالتجارة الذي من الواضح منعه بحيث يستلزم الرجوع ول صحيح أبى بصير (١) المتقدم آنفا المحمول ـ كما في الرياض ـ على علم المولى باستدانته مع عدم منعه عنه ، الظاهر في حصول الإذن منه له بالفحوى ولا كلام فيه ، أو على الاستسعاء برضا المولى كما أفصح عنه خبر روح بن عبد الرحيم (٢) عن الصادق عليه‌السلام « في رجل مملوك استتجره مولاه فاستهلك مالا كثيرا ، فقال : ليس على مولاه شي‌ء ، ولكنه على العبد ، وليس لهم أن يبيعوه ، ولكن يستسعى ، وإن حجر عليه مولاه فليس على مولاه شي‌ء ولا على العبد » ونحوه خبر أبي بصير (٣) لكن سؤاله « رجل استأجر مملوكا » وفي ذيله « وإن عجز عنه فليس على مولاه شي‌ء ولا على العبد شي‌ء » بدل قوله في هذا الخبر « وإن حجر عليه » إلى آخره ، بل في الوافي أنه يشبه أن يكون الخبران واحدا وقع في أحدهما تصحيف ، والأمر سهل ، أو على تقييد الاستسعاء بعد العتق وإن كان قد يخدش الأول : بأنه مناف لإطلاق الصحيح المزبور أولا ، وبأنه لا دليل غير الصحيح على أن حكم إذن الفحوى ذلك واستفادته منه بعد عدم الشاهد وعدم ظهوره فيه كما ترى ، وموثق وهب (٤) عن أبي جعفر عليه‌السلام « سألته عن مملوك يشتري ويبيع قد علم بذلك مولاه حتى صار عليه مثل ثمنه ، قال : يستسعي فيما عليه » إنما هو فيما كان في أصل التجارة ولعله لا يقول به الخصم ، فالمتجه حينئذ إلحاقها أى الفحوى بالإذن الفعلية ، أو العدم ، بل الظاهر الإلحاق فيما فرضه منها من علم المولى وعدم المنع ، ضرورة كونه رضا فعليا بعد تسليم أنه فحوى ، فلم يفقد إل التصريح المعلوم عدم دوران الحكم مداره ، والثالث : بأنه لا يجب الاستسعاء بعد العتق ، إذ هو حينئذ كغيره من أفراد المعسر الذي ينتظر إيساره ، والثاني : بإمكان كون المراد من قوله وإن حجر إلى آخره أنه لا شي‌ء لهم عليه ولا على مولاه إن كان قد أدانوه مع تحجير مولاه عليه ، اللهم إلا أن يدعى أن الظاهر الأول ، ولا ينافيه الاحتمال وفيه منع بل

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الدين ـ الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الدين ـ الحديث ـ ٤.

(٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٣ ـ.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الدين ـ الحديث ـ ٦.

٨٢

لعل الظاهر ما ذكرناه وإن جزم بالأول في الحدائق ، وقيد الصحيح المزبور به حينئذ.

لكن في المسالك حمل الصحيح المذكور على الاستدانة للتجارة ، قال : « ويشكل بأن ذلك يلزم المولى من سعي العبد وغيره ، والأقوى أن استدانته لضرورة التجارة إنما يلزم مما في يده ، فإن قصر استسعى في الثاني ، ولا يلزم المولى من غير ما في يده ، وعليه تحمل الرواية.

وفيه أولا : أن الرواية لا تقبل ذلك بعد تعليق السعي فيها على عدم الإذن ، وثانيا : أنه لا دليل على تقييد ضمان المولى بما في يد العبد مع فرض الإذن ، بل ظاهر الأدلة خلافه ، خصوصا موثق زرارة (١) منها ، فلا ريب في أن المتجه مع الإذن ضمان السيد مطلقا. ولعل الأولى من ذلك كله حمل خصوص الاستسعاء على المأذون إذنا لا يراد منها إلا رفع الحجر عنه والإثم عليه ، لا أن المراد منها الإذن التي تشبه الوكالة فتأمل جيدا.

ثم إن ظاهر إطلاق المشهور عدم الفرق بين علم المدين بحاله وعدمه ، خلافا لابن حمزة فيتبع به بعد العتق في الأول ، ويستسعى في الثاني ، قال في الوسيلة : المملوك إذا استدان لم يخل من ثلاثة أوجه : مأذون في الاستدانة ، أو في التجارة دون الاستدانة أو غير مأذون ، فالأول : حكم دينه حكم دين مولاه ، والثاني ضربان : فإن علم المدين أنه غير مأذون فيها بقي في ذمته إلى أن يعتق ، فإن لم يعلم استسعى فيه إذا تلف المال ، والثالث : يكون المال ضائعا إلا إذا بقي المال في يده ، أو كان قد دفع إلى سيده.

وهو ـ مع غرابته بالفرق بين الثالث والأول من الثاني ـ واضح الضعف ، إذ لا دليل له في الثاني الذي هو محل الخلاف بينه وبين المشهور إلا ما سمعته دليلا للنهاية الذي قد عرفت قصوره عن إفادة ذلك ، ولو أنه قال في الأول بالضياع كالثالث لكان له وجه ، باعتبار أن المالك هو الذي قد أقدم على إتلاف ماله ، وإن كان قد يدفعه منع ذلك بعد فرض أن العبد له ذمة يتبع بها بعد العتق ، فأدلة الضمان بحالها.

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ ـ من أبواب الدين الحديث ـ ٥.

٨٣

نعم لو مات العبد قبل العتق اتجه الضياع ، مع أن الظاهر بقاء حكم المديونية عليه ، فللتبرع بالوفاء عنه وللاحتساب من الزكاة أو غيرها من الحقوق وجه فتأمل جيدا. وأما ما يحكى عن أبى الصلاح من التفصيل بين المأذون في الاستدانة وعدمه ، فالأول على المولى والثاني يتبع به بعد العتق من غير تعرض للتجارة فمرجعه إلى المشهور ، كما هو واضح ، وكذا ما في المختلف ، والقواعد ، وجامع المقاصد من أنه إن استدان لضرورة التجارة كان على المولى ، وإلا يتبع به بعد العتق ، ضرورة كون المنشأ في ذلك حصول الإذن في الأول ولو لأن الإذن في الشي‌ء إذن في لوازمه وعدمه في الثاني ، ومراد المصنف ـ وغيره ممن أطلق التبعية به بعد العتق ـ الاستدانة فيما لا اذن للمولى فيه ، كغير الضروري للتجارة ، أو الأعم منهما ، بناء على أن وجوده ضروري للتجارة لا الاستدانة له.

وعلى كل حال فهو نزاع في موضوع خاص ، لا أصل المسألة ، فإن الجميع متفقون على أن استدانه المأذون في التجارة على المولى إن كان قد أذن له فيها ، وإلا فعلى العبد يتبع بها بعد العتق.

نعم ما سمعته من المسالك ظاهر في مخالفة إطلاق المتن وغيره ، بل لم أجد له موافقا عدا ما في الدروس في الجملة ، فإنه قال تارة : « ولو اجتمع إذن السيد ورضا المستحق فإن كان نكاحا فسيأتي إنشاء الله ، وإن كان غيره ، فإن كان بيده مال التجارة تعلق بها ، لأن موجب الإذن في الالتزام الرضا بالأداء. وأقرب ذلك ما في يده ، وهل يتعلق بكسبه من احتطاب واحتشاش والتقاط ، اشكال ، لعدم تناول الإذن في التجارة إياه ، وأنه بالإذن صار الجزء المؤدى من كسبه » وأخرى « ولو ركبه أي المأذون الديون ، لم يزل ملك السيد عما في يده فيصرف في الديون ، فإن فضل عنه شي‌ء استسعي على قول الشيخ في النهاية. لصحيحة أبي بصير (١) وفي المبسوط يتبع به إذا تحرر ، وفي رواية عجلان (٢) « إن باعه السيد فعليه ، وإن أعتقه فعلى المأذون ، »

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣١ من أبواب الدين الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ٤٥ من أبواب العتق الحديث ـ ١.

٨٤

وقال الفاضل. يلزم المولى ».

وهي كما ترى فيها اضطراب من وجوه ، والتحقيق ما أومأنا إليه ، من حمل نصوص الاستسعاء على ما سمعت ، وما دل على التزام المولى على ما عرفت ، وربما كان في خبري (١) طريف إيماء في الجملة إلى ما ذكرنا ، ضرورة أن وجه التزام المولى لو باعه أي المأذون إذنا يراد منها رفع الحجر الحيلولة بين أرباب الدين وبينه ، بخلاف ما لو أعتقه فتأمل جيدا. والله أعلم.

ومن ذلك ظهر لك الحال فيما لو لم يأذن له في التجارة ولا الاستدانة والحال أنه استدان فتلف المال في يده ، إذ لا إشكال في كونه إذا كان كذلك لازما لذمته يتبع به لعموم أدلة الضمان دون المولى للأصل وغيره بل ولا خلاف فيه ، وإن قال الشيخ : « انه يذهب ضياعا » لكن فسره في السرائر بما في المتن.

نعم ربما يظهر غير ذلك من الضياع في عبارة الوسيلة السابقة ، مع أنه يمكن حمله عليه ، فيرتفع الخلاف حينئذ ، وعلى تقديره فهو في غاية الضعف لمنافاته أدلة الضمان السالمة عن المعارض هذا.

ولكن في الرياض « أنه لو بادر إلى الاستدانة من دون إذن بالمرة ، لزم في ذمته ويتبع به إذا أعتق ، ولا يلزم المولى شي‌ء بلا خلاف. للأصل وصحيح أبى بصير وموثق وهب (٢) » ثم قال بعد نقلهما : « إن ظاهرهما أنه يتبع به حال الرق بالاستسعاء ، وبه أفتى ظاهرا بعض الأصحاب ، ويشكل برجوعه إلى ضمان المولى في الجملة ، فإن كسبه له بالضرورة ».

ويمكن دفعه بجواز التزامه في صورة علم المولى باستدانته مع عدم منعه عنها الراجع إلى الأذن بالفحوى ، كما هو ظاهر الموثقة والصحيحة ، وإن كانت الإضافة إلى إذن الفحوى مطلقة أو عامة إلا أنها محتمله للتقييد بالصورة المزبورة جمعا بين الأدلة ، ويفرق حينئذ بين الأذن الصريح والفحوى ، باستلزام الأول الضمان على السيد مطلقا مع عجز المملوك عن السعي أصلا وعدمه ، واختصاص الضمان عليه بصورة

__________________

(١) الوسائل الباب ٣١ من أبواب الدين الحديث ٢ ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ٣١ من أبواب الدين الحديث ٦.

٨٥

قدرة العبد على السعي وعدمه مطلقا مع العجز ، على الثاني ، هذا.

وفي الصحيح (١) « في الرجل يستأجر مملوكا فيستهلك مالا كثيرا؟ فقال : ليس على مولاه وليس لهم أن يبيعوه ، ولكن يستسعى وإن عجز عنه فليس على مولاه شي‌ء ولا على العبد شي‌ء » ونحوه الخبر (٢) ، لكن تبديل عجزه عنه ـ ، حجر عليه مولاه وعليه يمكن حمل الخبرين الآمرين بالسعي على صورة رضا السيد ، وإلا فيتبع به بعد العتق ، وهو غير بعيد لو لم يكن في السند قصور. وفي المتن تصحيف ، هذا وربما يحمل الاستسعاء على ما بعد العتق ، فيندفع الأشكال ، ولكن يلزم آخر ، وهو : عدم استسعاء الحر فيما عليه ، إلا أن يكون هذا مستثنى ، لكنه فرع ظهور الخبرين في الحمل ، وهو محل نظر ، بل لعلهما في الاحتمال الأول ظاهران كما لا يخفى.

قلت : إذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا تعرف أن كلامه محل للنظر من وجوه منها ـ ما قد عرفت من أنه لا إشكال نصا ولا فتوى في أن غير المأذون في التجارة والاستدانة دينه عليه ، يتبع به بعد العتق ، وموضوع خبر أبي بصير ، المأذون في التجارة دون الاستدانة الذي قد عرفت البحث فيه. نعم ما ذكره من الوجه في توجيه النصوص جيد إن كان يرجع إلى ما ذكرناه سابقا ، وإلا فهو محل للنظر أيضا ، وبالجملة كلامه في غاية التشويش ، وكان المسألة غير محررة عنده ، ولا غرو بعد ما سمعت من كلام غيره كالشهيد في الدروس وغيره. والله أعلم.

فرعان

قد تقدم حكم الأول منهما : وهو ما إذا اقترض العبد أو اشترى بغير إذن سيده أو إجازته كان باطلا وحينئذ ف تستعاد العين مع بقائها ان شاء المالك ، ضرورة أن له إباحتها له ، مضمونة عليه ، إذ ليس هو كالطفل لا تصح الإباحة له بعوض ، وأنه متى سلطه المالك لم يكن له ضمان عليه ، والسفه بالرضا

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من أبواب أحكام الإجارة الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ٣١ من أبواب الدين الحديث ـ ٤.

٨٦

بالضمان ـ الذي قد يذهب المال معه ضياعا ـ يمكن فرض ارتفاعه ، ودعوى ـ امتناع كل معاملة مع العبد وإن لم تفد تمليكا ـ لا دليل عليها ، إلا نفي القدرة في الآية (١) المستفاد منه الحجر مطلقا من غير فرق بين ذمته وغيرها ، وفيه بحث قد تقدم سابقا ، وقد صرح في ضمان التذكرة ، بصحة ضمان العبد من دون إذن سيده لكونه تصرفا في ذمته ولا ضرر فيه على السيد.

وعلى كل حال فإن تلفت العين في يد العبد يتبع بها إذا أعتق وأيسر ولا يلزم المولى شي‌ء بلا خلاف ، إلا إذا كان العبد مأذونا بالتجارة ، ففيه البحث السابق وكأن المصنف أعاد هذا الفرع مع ذكره سابقا للنص على بطلان الشراء والقرض ، خلافا لبعض الشافعية ، فصححه مع القول بأن العبد لا يملك ، لأنه تصرف في ذمته على وجه لا يضر السيد ، فالعين المشتراة حينئذ ملك للسيد ، وكذا المقترضة مع قبضها وإن كان العوض في ذمة العبد ، إلا أن المحكي عنه جواز رجوع البائع والمقرض بالعين ، لإعسار العبد.

وفيه : أنه لا يتم مع العلم بحاله ، وقبض السيد للعين المقترضة فأراد المصنف التنبيه على فساد قوله بالتصريح ببطلان الشراء والقرض ، للحجر عليه ، ولعدم أهلية العبد للملك ، وأنه لا معنى لملك المولى بغير عوض أصلا كما أنه لا معنى له بعوض في ذمته مع عدم رضاه ، بل ولا معنى له والعوض في ذمة العبد ، لامتناع حصول ملك المعاوضة لمن لم يكن العوض منه ، وإن كانت المقدمة الأخيرة لا تخلو من بحث ، كما أن دعوى الحجر عليه حتى بالنسبة إلى ذلك كذلك. والله أعلم.

الفرع الثاني : إذا اقترض مالا فأخذه المولى فتلف في يده ، كان المقرض بالخيار بين مطالبة المولى ، وبين اتباع المملوك إذا أعتق وأيسر لثبوت يد كل منهما على المال بغير حق ، فإن رجع على المولى قبل أن يعتق العبد ، لم يرجع المولى على العبد بشي‌ء وإن كان غار إله كما قيل ، بل ظاهرهم أنه مفروغ منه ، من عدم تعلق ضمان العبد لمولاه ، وثبوت المال له على ماله ، ولا دليل على تجدده بعد العتق.

__________________

(١) سورة النحل الآية ـ ٧٥ ـ.

٨٧

نعم لو كان الرجوع عليه بعد عتق العبد ، والفرض أنه كان مغرورا له ، اتجه رجوعه عليه للغرور ، كما أنه لو رجع على العبد بعد عتقه ، اتجه له الرجوع على سيده إذا لم يكن قد غره ، لاستقرار التلف في يده.

وإشكال الأخير بأن الرجوع وإن كان حال الحرية إلا أن ابتداء الثبوت في ذمة السيد بالتلف في حال الرقية التي لم يكن العبد يستحق معها كاشكال سابقه بأن رجوع السيد على العبد وإن كان في حال حريته ، إلا أن ابتداء الثبوت في حال الرقية التي لا يتصور ملك السيد لها على مملوكه.

ـ يدفعهما معا منع الثبوت قبل الرجوع ، وإن كان لتمام تحقيق ذلك ـ وتحقيق الضمان في الأيدي المتعاقبة على معنى مشغول الذمة بحيث يكون دينا عليه هل هو من كان القرار عليه ، وغيره انما يستحق الرجوع عليه ، لا أنه مشغول الذمة ، أو أن الجميع قد اشتغلت ذممهم وان برأت بدفع البعض ، أو أن الخيار بيد صاحب المال ، أو غير ذلك ـ محل آخر والله أعلم.

خاتمة

لا خلاف في وجوب أجرة الكيال ووزان المتاع والعداد والذراع مع توقف التسليم عليها على البائع سواء كان المبيع كليا في الذمة أو جزئيا معلوما من صبرة مشتملة عليه ، أو غير ذلك ، وفي وجوب أجرة ناقد الثمن ووزانه وكياله وعداده على المبتاع للمقدمة ، لكن قد يستشكل في النقد ، بعدم وجوبه اعتمادا على أصالة الصحة ، ويدفع بأنه يجوز القبض لها لا أنه يجب ذلك ، للأصل ، ولأن الواجب تسليم الصحيح ، ولانه قد يمتنع على القابض إثباته أن المعيب من المقبوض.

وكذا لا خلاف في وجوب أجرة بائع الأمتعة الناصب نفسه لذلك على البائع مع أمره له ، بل إذنه فيه ، وعدم قصد التبرع من العامل ، لاحترام عمل المسلم الموجب لذلك شرعا ، وان لم يكن قد استحضر الآمر العوض بل ولا‌

٨٨

المأمور ، بل مقتضى ذلك وان لم يكن ناصبا نفسه لذلك مع كون العمل مما له أجرة في العادة ، وكذا الحال في أجرة مشتريها أي الأمتعة فإنها على المشتري مع أمره أو إذنه على نحو ما تقدم في البائع وإطلاق المقنعة والوسيلة كون أجرة الدلال على المبتاع والمنادي على البائع منزل على ما ذكرنا قطعا.

ولو تبرع الدلال أو غيره بأن فعل لا بقصد الأجرة لم يستحق اجرة قطعا للأصل ولو أجاز المالك بيعه ، نعم قد يتجه استحقاق الأجرة إذا كان قد فعل بقصدها فضولا عن المالك وقد أجازه ، إذ هو كغيره من أفراد الفضولي الذي تؤثر فيه الإجازة اللاحقة ، بل قد يحتمل تأثير الإجازة في الفعل الذي لم يقصد به التبرع ، بناء على جريانها في العقود والأفعال. لكن على كل حال لا تلازم مع هذا القصد اجازة نفس البيع واجازة الجعل ، فله الاقتصار على الأول دون الثاني.

وقد ظهر من ذلك كله أنه إذا باع الدلال أمتعة شخص على حسب ما قدمنا واشترى أمتعة أخرى لآخر فأجرة ما بيع على الآمر بالبيع وأجرة الشراء على الآمر بالشراء إذ لا مانع من تعدد الدلالتين بالجعل في السلعتين وإن كان الدلال وأحدا. نعم لا يتولاهما الواحد في السلعة الواحدة ، بأن يكون سمسيرا (١) لبائعها ، وسمسيرا لمشتريها ، لاقتضاء سمسرة كل منهما مراعاة مصلحته المنافية لمصلحة الآخر ، ضرورة ابتناء البيع على المغالبة والمماكسة ، فمصلحة كل منهما بغير الأخرى ، فلا يكون اجتماعهما حتى يصح أخذ الجعل للواحد عليهما.

وربما أشكل ذلك بإمكان كون السعر منضبطا في العادة على وجه لا يزيد ولا ينقص ، فيكون المراد من الدلالة للبائع مثلا وجود المشتري ، ومن الشراء وجود البائع ، أو أنهما اتفقا على سعر مخصوص ، فيكون المراد إيقاع العقد.

وقد يدفع ـ مع أن ذلك خلاف الغالب ، بل يمكن منع السمسرة فيه ، بل

__________________

(١) السمسار : المتوسط بين البائع والشاري والساعي للواحد منهما في استجلاب الأخر ، وهو غير الدلال ، معرب ـ سيب سار ـ بالفارسية ( أقرب الموارد ).

٨٩

يمكن القطع بعدمها في الثاني ـ أنه ينبغي أن يعلم أنه لا تأمل في جواز أخذ الأجرتين على الإيجاب والقبول ، بناء على صحة الاستيجار على مثله ، خلافا للمحكي عن عميد الدين ، فمنع الإجارة عليه لعدم كونه مما يستأجر عليه عادة ، وضعفه واضح.

فليس المراد حينئذ بعدم توليتهما الواحد أنه لا يجوز أخذ الجعلين لواحد على الإيجاب من البائع وعلى القبول من المشتري.

ودعوى ـ أن ذلك عمل واحد فهي إجارة واحدة موزعة عليها ـ يدفعها أن ذلك تغيير لفظي ، لا يليق حمل عبارات أعيان الأصحاب عليه ، مع أنه يمكن منع كونه إجارة واحدة ، بل هما عملان مستقلان قد يختلفان في الجعل ، وقد يتفقان ، وقد يجعل لأحدهما دون الآخر ، بل المراد أنه لا يتولى الجعل على البيع وعلى الشراء ، الواحد ، ضرورة اقتضاء الجعل على البيع كونه جعلا على الأثر الحاصل من تمام الإيجاب والقبول ، وهو متحد بالنسبة إلى البائع والمشتري ، فتحصيل قبول المشتري مستحق على الدلال بالجعل على البيع ، فليس له أن يأخذ جعلا منه عليه ، وكذلك العكس ، بل هو كما لو جعل له جعلا على بيعه من زيد الذي من الواضح عدم جواز أخذ جعل من زيد على شرائه له ، والفرق بينه وبين ما يمكن فيه بالخصوصية وعدمها غير مجد ، بعد اشتراك علة المنع.

فمن هنا قال الأصحاب : لا يتولاهما الواحد ، أي لا يتولى الواحد الجعل على تمام البيع من البائع والمشتري ، ولكن لا بأس بتولي الاثنين ذلك ، على أن يأخذ كل منهما الجعل من كل منهما على تمام البيع ، فيكون فعل كل منهما مقدمة لتحصيل الأثر للآخر الذي يستحق به الجعل على من جعل له فتأمل جيدا. فإنه دقيق نافع في عموم المنع لأفراد المسألة مضافا إلى ما يشعر به مرسل ابن أبي عمير (١) عن بعض أصحابنا « قال : اشتريت لأبي عبد الله عليه‌السلام جارية فناولني أربعة دنانير فأبيت قال : اما لتأخذنها فأخذتها ، فقال : لا تأخذ من البائع ».

__________________

(١) الوسائل الباب ١٨ ـ من أبواب أحكام العقود الحديث ـ ١ ـ باختلاف يسير.

٩٠

ولو فرض أن كلا من البائع والمشتري قد جعلا له جعلا فإن كان المراد الإيجاب والقبول لم يكن إشكال في جواز أخذ الجعلين منهما تقارن أمرهما أو تلاحق ، وإن كان المراد الجعل على تمام البيع فليس له الرجوع إلا على من قصد العمل له ، والرجوع عليه ، كما يومي إليه ما في التحرير وليس له أن يأخذ عن سلعة واحدة أجرتين من البائع والمشتري ، بل يأخذ ممن يكون عاقدا له ووكيلا فتأمل.

ومع فرض قصدهما معا احتمل سقوط الأجرة من رأس ، وتوزيعها عليهما وتقديم السابق. وقد يحتمل استحقاقهما معا إذا كان المقصود الجعل من كل منهما على تمام العمل ، على معنى أنه لم يرض بإيقاع العمل إلا بالجعلين ، فهو كالجعالة الواحدة من شخصين على عمل واحد ، ولا ينافي ذلك ما قلناه سابقا المبني على فرض رضاه بكل من الجعالتين على تمام العمل من دون علم الآخر ، لا أنها جعالة واحدة منهما معا على العمل ، فتأمل جيدا.

وقد ظهر من ذلك النظر في جملة من عبارات الأصحاب ، ففي التنقيح « في بعض نسخ الكتاب : أي النافع « ولا يجمع بينهما الواحد : أي لا يجمع بين الشراء والبيع الشخص الواحد ، فيكون موجبا قابلا ، والمشهور ـ لواحد ـ بغير ألف ، وله حينئذ تفسيران ، أحدهما : أنه لا يجمع بين الأجرتين الشخص الواحد ، بمعنى أنه لا يأخذ أجرة البيع من الإذن فيه كلها ، ولا أجرة الشراء من الإذن فيه كلها ، بل يأخذ من كل واحد أجرة ما فعل له ، فيأخذ أجرة الإيجاب من الإذن في البيع ، وأجرة القبول من الإذن في الشراء ، وثانيهما : إذا أمراه بالبيع والابتياع ، فالأجرة على السابق ، وإن اقترنا وكان الغرض تولية طرفي العقد ، فالأجرة عليهما ، وكذا إن تلاحقا وكان الغرض مجرد العقد ، وإن لم يكن الغرض مجرد العقد بل السمسرة لكل منهما ، فللواسطة أجرتان على قدر العملين ».

وفيه نظر من وجوه ، وإن كان قد أخذ كثيرا من ذلك من الدروس ، فإنه قال : « وأجرة الدلال على آمره ، ولو امراه فالسابق ، فإن اقترنا وكان الغرض تولية طرفي العقد فعليهما ، وكذا لو تلاحقا وكان مرادهما مجرد العقد ، ولو منعنا من تولية‌

٩١

الطرفين امتنع أخذ أجرتين ، وعليه يحمل كلام الأصحاب أنه لا يجمع بينهما لواحد ».

لكنه كما ترى خصوصا وقد عبر بذلك من يرى جواز تولي الطرفين. على أن الكلام في الدلال الذي هو السمسير لا مجرد متولي العقد ، والأصل في تعرض متأخري الأصحاب لذلك ما في المقنعة والنهاية ، « ومن نصب نفسه لبيع الأمتعة كان له أجرة البيع على البائع ، دون المبتاع ، ومن نصب نفسه للشراء كان أجر ذلك على المبتاع فإن كان وسيطا يبتاع للناس ويبيع لهم ، كان له أجرة على ما يبيع من جهة البائع ، وأجرة على ما يشتري من جهة المبتاع ».

وفي السرائر « ليس قصد شيخنا في ذلك أن يكون في عقد واحد بائعا مشتريا ، بل يكون تارة يبيع ، وتارة يشتري في عقدين ، لأن العقد لا يكون إلا بين اثنين ». وفي المختلف بعد أن حكى ذلك عنه قال : « ليس بجيد ، لأنا نجوز كون الشخص الواحد وكيلا للمتعاقدين ، كالأب يبيع على ولده من ولده الأخر وحينئذ يستحق أجرة البيع على ما أمره وأجرة الشراء على ما أمره ، وقوله : العقد لا يكون إلا بين اثنين ، قلنا : مسلم : وهو هنا كذلك لتعدد المسبب كالأب العاقد عن ولديه ».

قلت : لا ريب في أن مراد الشيخ ما ذكره ابن إدريس ، كقوله في الوسيلة : ومن نصب نفسه للأمرين ، فأجرته على من عمل له ، وإن لم يكن لما ذكره من العلة السابقة ، بناء على أن مراده منها ما فهمه منها في المختلف ، كما أنه لا ريب في ضعف ما في المختلف ، بناء على إرادته استحقاق الأجرتين في الفرض الذي قد أوضحنا منعه سابقا ، ويمكن إرادته الأجرة على الإيجاب ، والأجرة على القبول ولا بحث فيها.

لكن في الرياض قد حكى عنه صريحا والمحكي عن المحقق الثاني ، وظاهر النهاية القول باستحقاق الأجرتين على تمام البيع ، نظرا إلى أن الأمر بالعمل اقدام منه على التزام تمام الأجر بحصول المأمور به ، ورضائه بذلك ، ولا مدخل لاتحاد العمل ، وكأنه مال إليه فقال : ولعله غير بعيد سيما مع كون متعلق الأمرين طرفي الإيجاب والقبول ، وجهل أحدهما بأمر الآخر.

وفيه ما عرفته سابقا ، بل ليس في جامع المقاصد ما أرسله عنه ، بل ظاهره‌

٩٢

أو صريحه ما قلناه ، كما أنك قد عرفت كون مراد النهاية ذلك أيضا ، بل هو محتمل المختلف إلى غير ذلك من كلماتهم التي يعرف ما فيها من الإحاطة بما ذكرنا والله أعلم.

وكيف كان ف إذا هلك المتاع في يد الدلال من غير تفريط لم يضمنه بلا خلاف ولا إشكال لأنه أمين نعم لو فرط ضمن ولكن لو اختلفا في التفريط وعدمه كان القول قول الدلال مع يمينه كما في كل أمين ما لم يكن بالتفريط بينة فتقدم حينئذ على قوله كما هو واضح وكذا لو ثبت التفريط واختلفا في القيمة كان القول قوله أيضا لأصالة براءة ذمته من الزائد ما لم يكن بينة ، فتقدم على قوله.

وبالجملة حكمه حكم غيره من الأمناء وغيرهم ، لكن في المقنعة والنهاية أنه إن قال له المالك : بعه نسيئة بدراهم مسماة فباعه نقدا بدون ذلك كان مخيرا بين أن يفسخ البيع ، وبين أن يمضيه ، ويطالب الواسطة بتمام المال ؛ وفيه : أنه ليس له سبيل على الواسطة بالتمام بعد الإجازة ، اللهم إلا أن يريدا به تمام ما باعه به وكان الواسطة قابضا وقد أجاز البيع والقبض ؛ وفيهما أيضا أنه إن قال : بع هذا المتاع ولم يسم له ثمنا ، فباعه بفضل من قيمته ، كان البيع ماضيا ، وإن باعه بأقل من قيمته كان ضامنا لتمام العقد حتى يسلمها إلى صاحب المتاع على الكمال ، وهو كما ترى.

ولذا نسبه في التحرير إلى الرداءة ويمكن تأويلها إلى الضوابط ، وفيهما أيضا « أنه إن اختلف الواسطة وصاحب المتاع في القول بالبيع بكذا ، كان القول قول صاحب المتاع بيمينه ، وله أن يأخذ المتاع إن وجده بعينه ، فإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه أو يستهلكه ضمن الواسطة من الثمن ما حلف عليه صاحب المتاع » وفيه : أنه لا وجه لضمان الواسطة ذلك ، لما عرفت إلى غير ذلك مما في المقنعة والنهاية مما لا يوافق الضوابط ، وكذا الوسيلة فلاحظ وتأمل. والله أعلم بحقيقة الحال.

٩٣

كتاب الرهن

الذي هو مصدر رهن أو اسم للشي‌ء المرهون الذي يجمع على رهان. كسهم وسهام ، وربما قيل : ورهن لكن عن الأخفش أنه قبيح ، لعدم جمع فعل على فعل إلا قليلا :كسقف وسقف ، بل هو جمع الجمع.

وعلى كل حال فتمام النظر فيه يستدعي فصولا

الأول : في الرهن وهو لغة الثبات والدوام وفي المسالك « وعن المصباح المنير : أو الحبس بأي سبب كان ، قال الله تعالى (١) ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) وأخذ الرهن الشرعي من هذا المعنى أنسب إن افتقر إلى المناسبة » قلت : ليس له معنى شرعي جديد يحمل عليه لفظه في الكتاب والسنة كما حرر في محله ، وإن طفحت عباراتهم بأنه شرعا وثيقة لدين المرتهن لكن لا يريدون بذلك أنه حقيقة شرعية بل المراد حقيقة عند المتشرعة.

ولذا نسبه في المحكي عن مجمع البحرين إلى عرف الفقهاء ، وتسامحوا في تعريفه ، المقصود منه مجرد التصوير والتمييز ولو بذكر الشرائط فيه ، فلا يناسب الإيراد عليه بلزوم الدور فيه ، بذكر المرتهن فيه الذي يمكن تغييره بصاحب الدين أو من له الوثيقة ، وبأنه غير شامل للرهن على الدرك والأعيان المضمونة مما ليس دينا الذي تسمع البحث في صحة الرهن عليهما وعدمه ، وبنحو ذلك.

بل نوقش في لفظه بعدم المطابقة فيه بين المبتدإ الذي هو لفظ مذكر ، والخبر الذي هو لفظ الوثيقة المؤنث ، مع أنه قد يدفع بأن لفظ الوثيقة يستوي فيه التذكير والتأنيث في الاستعمال ، كما صرح به بعضهم ، فخرجت التاء عن التأنيث ، بل قيل :إن التاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية.

وعلى كل حال فلا ينبغي الالتفات إلى هذه المناقشات بعد أن كان الرهن باقيا

__________________

(١) سورة المدثر الآية ـ ٣٨ ـ.

٩٤

على معناه اللغوي ، وإنما اعتبر الشارع فيه شرائط للصحيح منه ، فهو حينئذ هنا حبس العين باللفظ المخصوص ، أو الانحباس ، أو اللفظ الدال على ذلك على حسب ما سمعته في البيع ، لا نفس الوثيقة التي هي معنى اسمي له ، خارج عما نحن فيه من البحث عن العقود ، فلا بد من حمل عبارة المصنف على إرادة جنس الوثيقة ، أو نحو ذلك مما ينطبق على العقود.

والمراد كما ستعرف فيما يأتي من الوثيقة للدين ما يستوفى منها ، لا أن المراد يستوفى بسبب حبسها ، وإن لم يصلح الاستيفاء منها ، كأم الولد ، والعين الموقوفة ونحوهما ، ولا إشكال في ثبوته : أي الرهن في الجملة ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعله من ضروريات المذهب أو الدين.

كما لا ريب في أنه يفتقر عقده إلى الإيجاب والقبول بل قد يظهر من المتن ومن عبر كعبارته توقف صدقه أو صحته على ذلك ، بل صرح بعضهم بذلك ، ومقتضاه عدم جريان المعاطاة فيه لكن صرح في التذكرة بأن الخلاف فيها فيه كالخلاف في البيع.

وأشكله في جامع المقاصد بأن البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع ، بخلاف ما هنا.

وفيه أنه يمكن دعوى السيرة عليه هنا أيضا كالبيع ، بل لا بأس بالتزام الفرق بينها وبين العقد ، بجواز الرهن الحاصل بها بخلافه ، وإن كان لا يخلو من تأمل ، ضرورة صدق الرهن على الحاصل بها ، فيشمله أدلة اللزوم الذي هو مقتضى السيرة أيضا ولعلهم تركوا التعرض لها هنا لعدم الفرق بينها وبين العقد في الحكم.

لكن قد عرفت سابقا أن التحقيق عدم كون المعاطاة في البيع وغيره فردا من مسمياتها ، وعلى تسليمه فهي ليست من الصحيح منه ، ضرورة اعتبار العقدية في تحقق مفهومه ، كما هو المنساق من نحو المتن ، في صحته ، فلا يجري حينئذ شي‌ء من أحكامه عليها ، وإلا لزم تعدد مفهوم البيع ولو من جهة الأحكام ، وهو مقطوع بعدمه ، بملاحظة الأدلة ، الظاهرة في أنه وحداني كما هو واضح.

٩٥

وكيف كان ف الإيجاب : كل لفظ دل على الارتهان ، كقوله : رهنتك أو هذه وثيقة عندك ، أو ما أدى هذا المعنى كوثقتك ، وهذا رهن عندك ، بل وأرهنت ، بناء على ما في المسالك والتنقيح من أنها لغة قليلة ، وزاد في المسالك : « أنه لا يبلغ شذوذها حد المنع ، وأنها أوضح دلالة من كثير مما عدوه ».

وعن الصحاح والمصباح والقاموس : رهن وأرهن بمعنى ، فما عن المهذب البارع من أنه لا يقال : أرهن ـ اجتهاد في مقابلة النص ، ونفي لا يعارض الإثبات ، مضافا إلى ما تعرفه من التسامح في عقد الرهن في الجملة ، حتى استقرب في التذكرة ، عدم اشتراط اللفظ العربي فيه ، ووافقه في الدروس : فلا شك حينئذ في تناول العقود. للعقد بها.

بل في الدروس « لو قال : خذه على مالك ، أو بمالك ، فهو رهن ، ولو قال :أمسكه حتى أعطيك مالك فأراد الرهن جاز ، ولو أراد الوديعة أو اشتبه فليس برهن » ولعل ذلك كله ـ كما في المسالك ـ لأن الرهن ليس على حد العقود اللازمة ، لأنه وإن كان لازما من طرف الراهن ، لكنه جائز من طرف المرتهن ، فترجيح جانب اللزوم ، ولزوم ما يعتبر في اللازم ترجيح من غير مرجح ، خصوصا مع البحث في اعتبار ما ذكروه في اللازم ، فيبقى حينئذ على مقتضى عموم الوفاء بالعقود ، الشامل لكل ما قصد به عقد الرهن من الألفاظ من غير اعتبار لفظ مخصوص ، ولا صيغة خاصة.

لكن فيه أن ترجيح جانب الجواز أيضا ترجيح من غير مرجح ، والأصول تقتضي عدم لحقوق أحكام الرهن ، والمراد من العقود المأمور به بالوفاء بها المتعارفة نوعا وصنفا ، فالمعلوم منها ولو بمعونة كلام الأصحاب يجب الوفاء به ، وما لم يعلم فضلا عن المعلوم عدمه لا يجب الوفاء به ، اللهم إلا أن يمنع ذلك ، ويقال : إنه إن سلم إرادة المتعارف منها ، فالمراد المتعارف نوعها : أي البيع والإجارة والصلح ونحوها ، وأما بالنسبة إلى ما ينعقد به كل واحد منها فاللفظ شامل لكل ما قصد به العقد من الألفاظ إلا ما علم خروجه ، أو حصل الشك في تناول العام له من شهرة عظيمة ونحوها ، كما ادعوه فيما عدا الصيغ الخاصة للعقود اللازمة.

٩٦

وبالجملة مدار المسألة على ذلك ، ولا ريب في أن الاحتياط يقتضي الأول ، والظن يقوي في الثاني ، إلا أن الظاهر اعتبار العربية فيه على القولين لانصراف الإطلاق إليه ، بل في جامع المقاصد « تمنع صدق العقد على ما كان باللفظ العجمي مع القدرة على العربي » أما الماضوية فقد اعتبرها في التذكرة ، بل ربما استظهر ذلك والمقارنة وتقديم الإيجاب على القبول ، والعربية ، من المبسوط ، وفقه الراوندي ، والوسيلة والغنية ، والسرائر ، وجامع الشرائع ، والنافع ، والإرشاد ، والتبصرة ، وغيرها ، مما اقتصر فيه على اعتبار الإيجاب والقبول ، بدعوى انصرافهما إلى ذلك كله ، وإن كان فيه ما فيه.

بل ما في التذكرة لا ينطبق على ما صرح بجوازه فيها ، من هذا رهن ، أو وثيقة عندك ، ولو قيل : إنهما بمعناه أو أدل منه ـ من حيث دلالة الاسمية على الثبوت ـ رد بأنه قد شرط لفظ الماضي لا معناه ، وبأن ذلك يستلزم جواز البيع بها ، بأن يقول هذا مبيع لك بكذا ، وهو لا يقول به نعم ، يمكن أن يقال : إنه احترز بالماضي عن المستقبل خاصة ، كما يشعر به قوله بعده بلا فصل ، فلو قال : أرهنك كذا أو أنا أقبل لم يعتد به أو هو مع الأمر ، وإن كان قد سمعت من الشهيد جوازه ، كما أنك سمعت مدار الأمر في المسألة.

وكيف كان ف لو عجز عن النطق بالإيجاب ، ولو لخرس عارضي كفت الإشارة المفهمة للمقصود بأي عضو كان بلا خلاف أجده فيه ، لقيامها حينئذ مقام اللفظ كما يفهم ذلك مما ورد في تلبية الأخرس وتشهده.

ولو كتب بيده والحال هذه وعرف ذلك من قصده جاز أيضا ، لأنه من الإشارة أو أولى منها أو مساو لها ، ولا يجزى شي‌ء منهما مع عدم العجز قطعا ، لحصر الشارع ، المحلل والمحرم ، في الكلام (١) ودليل البدلية خاص بحال العجز ، فمن الغريب دعوى بعض متأخري المتأخرين الجواز فيه أيضا مدعيا عدم الدليل بالخصوص

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ من أبواب أحكام العقود الحديث ـ ٤.

٩٧

على حال العجز ، فليس إلا الاكتفاء بكل ما يدل على الرضا ، وهو عام للحالين وفيه ما لا يخفى.

وأما القبول ف هو كل لفظ دل على الرضا بذلك الإيجاب والكلام فيه كما في الإيجاب ، بل قد يظهر من المتن وغيره توسعة الأمر فيه أزيد من الإيجاب ، حيث جعله هو الرضا من دون اعتبار لفظ دال عليه ، فضلا عن أن يكون مخصوصا ، ولعل الفارق بينه وبين الإيجاب أن الرهن لازم من قبل الراهن ، لأنه يتعلق بحق غيره ، فيجوز أن يعتبر في حقه مالا يعتبر في حق المرتهن ، حيث أنه من قبله جائز ، لأنه يتعلق بحقه ، فيكفي فيه ما يكفي في العقود الجائزة المحضة لكن ظاهر الأصحاب اعتبار القبول القولي.

نعم قد احتمل الفاضل في التذكرة ، والقواعد ، الاكتفاء بالاشتراط في عقد البيع عنه ، فلو قال : بعتك هذا الكتاب واشترطت عليك أن ترهنني دارك ، فقال المشتري : قبلت وأرهنتك صح حينئذ ، مع أن التحقيق خلافه أيضا بعد الإغضاء عن جواز تقديمه على الإيجاب ، ضرورة عدم حصول إنشاء الرضا بالإيجاب بذلك ، وإنما دل الشرط على أنه يرضى بالارتهان حاله ، كما هو واضح بأدنى تأمل في نظائره وربما يأتي لذلك تتمة إن شاء الله.

وعلى كل حال فلا ريب في أنه يصح الارتهان سفرا وحضرا بلا خلاف فيه بيننا بل الإجماع بقسميه عليه ، كما أن السنة شاملة بإطلاقها للحالين ، والشرط في الآية (١) مبنى على الغالب فإن عدم الكاتب عادة لا يكون إلا في السفر ، فهو نحو قوله (٢) « ( وَإِنْ كُنْتُمْ ). ( عَلى سَفَرٍ ) إلى قوله ، ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) » فإن عدم الماء يكون في السفر غالبا فما عن بعض العامة من عدم جوازه في الحضر للآية في غاية الضعف ، خصوصا بعد اشتمالها على اشتراط عدم الكاتب ، وهو غير شرط بموافقة الخصم ، وبعد

__________________

(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٨٣ ـ.

(٢) سورة النساء الآية ـ ٤٣ ـ وسورة المائدة الآية ـ ٦ ـ ولكن الآية ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ) الى آخرها.

٩٨

ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « انه رهن درعه عند يهودي وهو حاضر بالمدينة » والله أعلم.

وكيف كان ف هل القبض من المرتهن شرط في صحة الرهن وترتب آثاره عليه قيل : والقائل الشيخ في أحد قوليه ، وابن إدريس ، والفاضل وولده ، والمحقق الثاني والشهيد الثاني ، وغيرهم لا يشترط بل حكي أيضا عن البشرى ، والجواهر ، وتخليص التلخيص ، والمقتصر ، وغاية المرام ، وإيضاح النافع ، وغيرها. بل في السرائر نسبته إلى الأكثر من المحصلين ، وفي كنز العرفان إلى المحققين ، فيكفي في الصحة حينئذ الإيجاب والقبول مع اجتماع باقي الشرائط ويتبعها اللزوم ، بل في الغنية والسرائر لا خلاف في حصول الصحة بدونه ، وإن الخلاف إنما هو في لزومه بدونه.

بل وكذا التذكرة والتحرير ، والتنقيح ، والمسالك ، والروضة ، وغيرها ، حيث أنهم قد جعلوا الخلاف في ذلك دون الصحة ، واحتمال إرادتها من اللزوم الذي هو محل الخلاف في كلامهم يأباه ظاهر كلماتهم ، وصريح الغنية والسرائر والمسالك وغيرها ، بل لعل احتمال العكس في كلام من جعل الصحة موردا للنزاع كما هو ظاهر كثير بل الأكثر أولى. خصوصا بعد عدم الثمرة المعتد بها لها قبل اللزوم ، بل عن إيضاح النافع الجزم به ، لكن الإنصاف عدم خلوه من البعد كما ستعرف فلاحظ وتأمل.

وقيل والقائل المفيد والشيخ في القول الآخر وبنو الجنيد ، وحمزة ، والبراج ، والطبرسي ، وغيرهم ، على ما حكي عن بعضهم نعم يشترط ذلك في صحة الرهن ، بل عن الطبرسي الإجماع عليه ، بل ربما ظهر من بعضهم ما هو المحكي عن بعض أهل اللغة من عدم تحقق مسمى الرهن بدونه ، وإن كان هو واضح الضعف ضرورة كون لفظ الرهن كباقي ألفاظ العقود المعلوم عدم توقف صدقها على غير العقد من قبض ونحوه ، وان اعتبر في ترتب الأثر ، كالتقابض والقبض قبل التفرق في الصرف

__________________

(١) المستدرك ج ـ ٢ ص ٤٩٤.

٩٩

والسلم ، والقبض في الهبة ونحو ذلك ، بل لعل وصف الرهان بالمقبوضة في الآية (١) مما يشهد لذلك ، وحمله على الوصف الكاشف ، خلاف الأصل في الوصف بلا مقتض ، بل المقتضى على خلافه متحقق.

نعم لا بأس بجعل الصحة موقوفة عليه وإن تحقق الاسم بدونه ، وهو الأصح عند المصنف ، والشهيد ، وغيرهما تبعا لمن عرفت ممن ظاهر كلامه اعتباره في الصحة دون اللزوم :

ففي المقنعة « ولا يصح الارتهان الا بالقبض » وفي النهاية « لا يدخل الشي‌ء في أن يكون رهنا إلا بعد قبض المرتهن له وتمكنه منه » وفي الوسيلة « الرهن إنما يصح بثلاثة شروط : الإيجاب ، والقبول ، والقبض برضا الراهن إلا إذا اشترط في العقد » لكن قد عرفت أن محل النزاع في الغنية اللزوم ، فيمكن أن يكون قد حمل عبارة الشيخين عليه ، قال فيها : شروط صحته ستة ، إلى أن قال بعد ذكرها : « وإذا تكامل هذه الشروط صح الرهن بلا خلاف ، وليس على صحته مع اختلال بعضها دليل ، وأما القبض فهو شرط في لزومه من جهة الراهن دون المرتهن ، ومن أصحابنا من قال يلزم بالإيجاب والقبول ، لقوله تعالى (٢) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) والقول الأول هو الظاهر من المذهب الذي عليه الإجماع ، وإذا تعين المخالف باسمه ونسبه لم يؤثر خلافه ».

وأصرح منها ما في السرائر ، فإنه أيضا ذكر أن شروط صحته ستة ثم قال : « وإذا تكامل هذه الشروط صح الرهن بلا خلاف ، وليس على صحته مع اختلال بعضها دليل ، فأما القبض فقد اختلف قول أصحابنا فيه ، هل هو شرط في لزومه أم لا؟ فقال بعضهم : إنه شرط في لزومه من جهة الراهن دون المرتهن ، وقال الأكثرون المحصلون منهم : يلزم بالإيجاب والقبول ، وهذا هو الصحيح إلى أن قال :

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٨٣.

(٢) سورة المائدة الآية ـ ١.

١٠٠