جواهر الكلام

الشيخ محمّد حسن النّجفي

والطيلسان والخف ، ودراعة يلبسها فوق القميص إن كان لبسها يليق بحاله ، لأن حطها عنه يزري بحاله ، وفي الطيلسان والخف نظر ، ( إلى أن قال ) : ويجوز أن يترك له نفقة يوم القسمة ، وكذا نفقة من عليه نفقته » إلى غير ذلك من كلماتهم ، وإن اقتصر بعضهم على ثياب التجمل ، إلا أن المدرك في الجميع واحد ، وهو ما ذكرنا سابقا.

مضافا الى ما تسمعه مما ورد في الكفن الذي هو كسوة الميت ، فإن الحي أعظم حرمة منه ، وإلى ما يشعر به في الجملة خبر على بن إسماعيل (١) « عن رجل من أهل الشام أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل عليه دين قد فدحه وهو يخالط الناس ، وهو يؤتمن يسعه شراء الفضول من الطعام والشراب ، فهل يحل له أم لا؟ وهل يحل أن يتطلع من الطعام ، أم لا يحل له الا قدر ما يمسك به نفسه ويبلغه؟ قال : لا بأس بما أكل » والنبوي (٢) « ابدء بنفسك ثم بمن تعول » والى ما دل على وجوب الإنفاق الذي يرجح على ما دل على وفاء الغريم بوجوه منها فتوى الأصحاب ، واختص نفقة ذلك اليوم لعدم انضباط غيره ، ولاحتمال تعلق وجوب نفقة اليوم الشامل لليل عليه بأول اليوم ، دون غيره من الأيام ، وان قلنا بارتجاع نفقة من يموت من عيلته في أثناء النهار ، بناء علي أنه يملكه المنفق عليه ، بشرط اجتماع الشرائط لا مطلقا ، وان احتمله في المسالك.

وعلى كل حال بذلك يفترق عن الكسوة التي لا معنى لاعتبارها يوما فيوما ، ومن هنا لاحظوا فيها المعتاد فيها كما وكيفا وزمانا ، ولو اتفقت القسمة في طريق سفره ، ففي القواعد ، وجامع المقاصد ، ومحكي الإيضاح أن الأقرب اجراء النفقة إلى يوم وصوله ، بل في الثاني ان احتمال العدم ضعيف جدا ، إذا لم يكن دون منزله بلد آخر للإضرار المؤدي إلى الهلاك أو المشقة العظيمة ، قال : ولو كان بلد دون منزله ففي الاجراء إلى وطنه المألوف إشكال ، هذا وفي التذكرة أن كلما يترك له

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٧ ـ من أبواب الدين الحديث ـ ١.

(٢) الجامع الصغير ج ١ ص ٥ طبع عبد الحميد احمد حنفي الوسائل الباب ٢٨ ـ من أبواب الصدقة الحديث ـ ٨ ـ وفيه ابدء بمن تعول الأدنى فالأدنى.

٣٤١

إذا لم يوجد في ماله اشترى له ، وهو جيد بالنسبة إلى النفقة دون الدار والخادم والفرس ونحو ذلك مما لم يكن متخذا لها ، وإن كان محتاجا إليها لعدم الدليل.

وفيها أيضا أنه لو كان للمفلس صنعة تكفيه لمؤنته وما يجب عليه لعياله ، أو كان يقدر على تكسب ذلك لم يترك له شي‌ء وكأنه مناف لإطلاق الأصحاب الذي قد عرفت أن منشؤه تقديم ما دل على وجوب الإنفاق ، والقدرة على التكسب لا تنافيه. ولا تقتضي تقديم حق الديان على حق من وجبت نفقته عليه فتأمل جيدا ، وفيها أيضا أن الاولى الاعتبار بما يليق بحاله في إفلاسه ، لا في حال ثروته ، ولو كان يلبس قبل الإفلاس أزيد مما يليق بحاله ، رد إلى اللائق. وان كان يلبس دون اللائق تقتيرا لم يزد عليه في الإفلاس ، ويترك لعياله من الثياب ما يترك له ، قلت : قد يقال : إن المدار على اللائق بحاله في حد ذاته ، مع قطع النظر عن حالي إفلاسه وثروته. نعم لو كان مقترا على نفسه لم يزدد على ذلك كما ذكره.

ولو مات قدم كفنه على حقوق الغرماء ، ويقتصر على الواجب منه بلا خلاف أجده ، وقال زرارة (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل مات وعليه دين بقدر كفنه؟ قال : يكفن بما ترك ، إلا أن يتجر انسان فيكفنه ، ويقضى بما ترك دينه » وخبر إسماعيل بن أبى زياد (٢) « عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن أول ما يبدء به من المال الكفن ثم الدين ثم الوصية ، ثم الميراث » وهما الحجة مضافا إلى محكي الإجماع في جامع المقاصد ، وإلى ما دل على التكفين من أصل المال (٣) ، المرجح على ما دل على وفاء الدين (٤) بما عرفت ، بل ليس في الخبرين الاقتصار على الواجب ، فقد يقال : بتقديم الكفن المتعارف بالنسبة إلى ذلك الشخص ، على وفاء الدين.

خصوصا إذا قلنا : إن المنشأ في تقديمه كونه من النفقة التي قد عرفت الرجوع

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدين الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الدين الحديث ـ ٢.

(٣) الوسائل الباب ٢٧ ـ من أبواب أحكام الوصايا الحديث ـ ١ ـ ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ ٨٥ من أبواب الدين.

٣٤٢

فيها إلى عادة أمثاله ، كما يومي اليه إلحاق باقي مؤن تجهيزه من السدر والكافور وماء الغسل ونحو ذلك ، بالكفن في التقديم ، بل ومؤن تجهيز كل من وجب عليه تجهيزه ، ضرورة عدم المدرك لذلك إلا كونه من الإنفاق الذي قد عرفت تقديمه على وفاء الدين. فالوجه في ذلك كله الرجوع إلى المتعارف ، وإن زاد على الواجب ، ما لم يقم إجماع على خلافه ، اللهم إلا أن يقال : إنا نمنع كون المنشأ في وجوب الكفن الإنفاق ، ولذا لم يجب تكفين من وجبت نفقته عليه من أقاربه ، بل المنشأ الخبران ، وتقديم ما دل على التكفين من أصل المال على ما دل على وفاء الدين ، ومثله باقي مؤن التجهيز فينبغي حينئذ الاقتصار على الواجب منه ، دون المندوب الذي قد ورد فيه أنه ليس من الكفن. نعم لا بأس بالرجوع في جنس الواجب إلى الوسط ، مع أن المحكي عن البيان الاقتصار على الأدون ، واحتمله غيره أيضا ، وقد تقدم لنا بعض الكلام في ذلك في كتاب الطهارة فلاحظ وتأمل.

ثم إن الظاهر عن النص والفتوى عدم الفرق في هذه المستثنيات بين كون الدين لطاعة أو مباح أو معصية ، وبين كونه عوض غصب وسرقة وإتلاف محرم وغيرها ، وبين كونه لمعين وغيره ، كالزكاة والكفارة والخمس والنذور ونحوها.

أما تارك الحج عمدا حتى ذهب ماله ، فالمتجه وجوب بيعها في أدائه للمقدمة ، ولعدم شمول أدلة المقام له حتى نفي الحرج ، ضرورة كونه هو الذي أدخله على نفسه على أنه معارض بما دل على وجوب حجه على كل حال ، لكن عن فقه الرضا عليه‌السلام (١) « إن كان غريمك معسرا وكان أنفق ما أخذ منك في طاعة الله فانظره إلى ميسرة ، وهو أن يبلغ خبره الامام عليه‌السلام ، فيقضي عنه ، أو يجد الرجل طولا فيقضي دينه ، وإن كان أنفق ما أخذ منك في معصية الله فطالبه بحقك ، فليس من أهل هذه الآية ».

وفي خبر محمد بن سليمان (٢) عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا نجاد « قال سئل الرضا عليه‌السلام عن رجل وأنا اسمع فقال له : جعلت فداك إن الله عز وجل يقول :

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٩٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الدين الحديث ـ ٣.

٣٤٣

( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكر الله تعالى في كتابه ، لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من أن ينظر ، وقد أخذ مال هذا الرجل ، وأنفقه على عياله ، وليس له غلة فينظر إدراكها ، وليس له دين ينظر محله ولا مال غائب ينظر قدومه؟ قال : نعم ، فينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الامام ، فيقضي ما عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عز وجل ، وإن كان أنفقه في معصية الله فلا شي‌ء على الامام له ، قلت : فما لهذا الرجل الذي ائتمنه ، وهو لا يعلم فيما أنفقه ، في طاعة الله أم في معصيته ، قال : يسعى له في ماله فيرده عليه وهو صاغر ».

وعن الصدوق الفتوى بمضمونها ، فجوز المطالبة للمعسر إذا كان قد أنفقه في معصية ، ولعل الدين إذا كان معصية في نفسه ، كالسرقة والغصب أولى من ذلك عنده ، وربما استحسن بعض متأخري المتأخرين الجمع بين خبر السكوني (١) الدال على تسليم المديون إلى غرمائه ليستعملوه ، وغيره مما دل على العدم بذلك أيضا ، إلا أن الجميع كما ترى بعد عدم ثبوت حجية الكتاب المزبور عندنا ، وضعف خبر أبي نجاد واضطراب متنه ، بدلالة أوله على الإنفاق على العيال ، وذيله على أنه لم يعلم ، بل ما فيه من عدم وفاء الامام عنه مع الجهل بحاله مخالف لأصالة صحة فعل المسلم.

كل ذلك مضافا إلى ما قيل : من أولوية الانظار بالمنفق في المعصية من المنفق بالطاعة ، باعتبار عدم حلية الزكاة للأول دون الثاني ، فلا ريب حينئذ في أن الإطلاق المزبور الذي قلنا أنه الظاهر من النص والفتوى أولى ، كما أن الظاهر منهما أيضا عدم التسامح في الزائد على المستثنيات ، ضرورة وجوب وفاء الدين الذي يمكن دعوى استقلال العقل فيه ، فضلا عما ورد فيه من الشرع.

وربما وسوس فيه بعض متأخرين المتأخرين مدعيا أن الظاهر من النصوص التوسعة في ذلك ، فإن عمر بن يزيد (٢) « قال : قد أتى رجل أبا عبد الله عليه‌السلام يقتضيه

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الحجر الحديث ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب الدين الحديث ـ ٤.

٣٤٤

وأنا حاضر ، فقال له : ليس عندنا شي‌ء. ولكن يأتينا خِطْر ووسمة فتباع ونعطيك إنشاء الله ، فقال له الرجل : عدني ، فقال له عليه‌السلام : كيف أعدك وانا لما لا أرجو أرجى منى لما أرجو » وهو دال على التوسعة ، وعدم ما ذكروه من التضييق ، فإنه يبعد كل البعد أن لا يكون له مال بالكلية سوى المستثنيات المذكورة ، إذ المستفاد من الاخبار أنه كان ذا ثروة وأملاك ، وإن تعذر عليه النقد في ذلك الوقت.

وهو من غرائب الكلام فإنه ليس في الخبر دلالة على مضايقة الديان له هذه المضايقة ، وإنما تقاضاه بتخيل وجود شي‌ء عنده ، فأرضاه بالكلام حتى أراد منه الوعد على ما ذكره ، فأجابه بما سمعت. نعم ربما يستفاد من خبر يزيد بن معاوية (١) نوع سعة « قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن على دينا يعوزني وأظنه قال ولأيتام ، وأخاف إن بعت ضيعتي بقيت وما لي شي‌ء؟ فقال : لا تبع ضيعتك ، ولكن أعط بعضا ، وأمسك بعضا » لكن يمكن أيضا أن لا يكون مقتض لتعجيل دينهم ، وأنهم محتاجون إلى الإنفاق الذي يحصل بالدفع تدريجا ، بل ربما أذن عليه‌السلام له في ذلك ، باعتبار ولايته عليه‌السلام عليهم ، وكل ذلك مع عدم دلالة في الخبر على إلزام الولي له بذلك؟ وأنه إنما سأل الإمام عن أصل وجود الدين عليه لهم ، وأنه يريد وفاءه وإن لم يكن ملتزما بذلك. بل هو الظاهر من الخبر والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب الدين ـ الحديث ـ ٢ ـ لكن عن بريد العجلي.

٣٤٥

مسائل ثلاث

الأولى : إذا قسم الحاكم مال المفلس على غرمائه ثم ظهر غريم لم يكن يعلم به وليس له عين مال قد اختار الفسخ فيها نقضها بل هي انتقضت في نفسها وشاركهم الغريم كما في الإرشاد ، والتحرير ، والمسالك ، ومحكي المبسوط ، والتذكرة ، لعدم صدق القسمة التي كان يأمر بها أمير المؤمنين عليه‌السلام ضرورة أنها إخراج الحصص المشاعة إلى التعيين ، ومع فرض ظهور الغريم المشارك لهم بسبب سبق دينه على الحجر مثلا لم تخرج حصته من الإشاعة إلى التعيين ، لحصولها في كل حصة دفعت إلى كل غريم فتبطل القسمة التي من مقوماتها وصول نصيب كل إلى صاحبه ، فلا يتحقق صدقها إلا بدفع الحصة الأخيرة إلى صاحبها لو فرض وقوعها على التدريج.

ومن هنا ظهر لك أنه لا فرق بعد الأمر بالقسمة التي عرفت توقف صدقها على ما سمعت ، بين اشتراك عين المال وعدمه ، كما في المقام ، فإن المال وإن كان ملكا للمفلس بل لا يتوقف تعيين نصيب كل منهم على التراضي ، إلا أنه علق الشارع فيه ديون الغرماء على الإشاعة ، على معنى استحقاق كل منهم الوفاء منه بحصة مشاعة على نسبته إلى باقي الديون وأمر بقسمته على ذلك ، وقد عرفت توقف صدقها على ما سمعت ، بل لعلها كذلك في شركة الأموال فإن المال المشترك بين ثلاث لو فرض كونه نصفين مثلا ، وتراضى اثنان منهما على ان يكون نصيب كل منهما في أحد النصفين عوضا عن الأخر ، فيبقى للثالث مع كل منهما حصته المشاعة ، لم تصح القسمة ، وإن لم يكن فيها تصرفا في مال الثالث ، ولا إخراجا له عن الإشاعة ، إلا أن القسمة لا يتحقق صدقها مع بقاء الحصة المشاعة للثالث ، بل قد يشكل الصحة مع التراضي من‌

٣٤٦

الجميع ، ما لم يكن بعقد صلح مثلا فاتضح من ذلك أن المانع في الجميع متحد ، وهو عدم صدق القسمة بدون ذلك.

فما في ظاهر القواعد ـ أو محتملها في المقام ـ من عدم انتقاضها وأنه يرجع إلى كل أحد بحصة يقتضيها الحساب ـ واضح الضعف ، وإن اختاره في جامع المقاصد محتجا بأن كل واحد قد ملك ما هو قدر نصيبه بالإقباض الصادر من أهله في محله فلا يجوز النقض ، لأنه يقتضي إبطال الملك السابق ، أما الحصة الزائدة على قدر نصيبه باعتبار الغريم الظاهر ، فإنها غير مملوكة فتستعاد ، وحاصله أنه قبض نصيبه وغيره ، فهو صحيح في نصيبه ، باطل في غيره ، لوجود المقتضي في الأول ، إذ هو الدفع من المالك على جهة القضاء ، وقبض الديان له على هذا الوجه بخلاف الزائد فإنه ليس له دفعه وفاء ، فيختص المانع به ، وبقاءه مشاعا غير قادح ، لانه مال الدافع ، إذ هو كما لو دفع المديون خمسة عشر إلى الديان اشتباها ، فإنه يصح الدفع والقبض في خمسة فقط ، وان بقيت مشاعة في العشرة المشتركة بينهما ، وبذلك افترق المقام عن الأموال المشتركة بين ملاك متعددة.

لكنك خبير بما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا ، مضافا إلى أن مقتضاه الصحة حتى في صورة الاشتباه في التوزيع بين الغرماء الحاضرين ، وفي صورة نسيان بعضهم ، وفي صورة العمد إلى اختصاص أحدهم بالزائد ، أقصاه أن الغريم يضرب بالحصة ، وأما القابض فإنه يملك مقدار نصيبه ، لا أظن أحدا يلتزمه ، فإنه لا يتصور القسمة المأمور بها في بعض افراده كما لو خص أحدهم بجميع المال ، أو خرج حصة أحدهم مستحقة للغير ، ولم يكن للمفلس إلا غريمان ، ودعوى أن المراد بالقسمة في المقام أمر لا ينافيه شي‌ء من ذلك ، لا شاهد له ، بل الشاهد بخلافه متحقق ، ضرورة ظهور النصوص والفتاوى بصحة الدفع والقبض ـ إذا كان جامعا لوصف القسمة ، فلا يترتب عليه ملك بدونه كما هو واضح ؛ هذا.

وعن فخر المحققين أن مبنى المقام على أن الدين هل يتعلق بالتركة تعلق الدين‌

٣٤٧

بالرهن ، أو الجناية برقبة العبد؟ فعلى الأول يكون قضاء ، ويرجع بحصة يقتضيها الحساب لأنه يكون بمنزلة صاحب الدين إذا أخذ أكثر مما يستحقه ، وعلى الثاني تبطل ، لأنها تكون قسمة الكل المشترك حقيقة بين بعض المستحقين ، وهو كما ترى خصوصا الشق الثاني ، إذ لا يلزم من كون تعلقه بها تعلقا كتعلق أرش الجناية ثبوت القسمة حقيقة التي هي فرع الشركة الحقيقية ، لأن المجني عليه ، لا يملك الجاني ولا شيئا منه بمجرد الجناية ، وإن استحق ذلك مطلقا ، أو في صورة العمد ، وأما الشق الأول ففيه مالا يخفى أيضا بناء على ما ذكرنا.

ثم إنه لا يخفى ثمرة القولين بأدنى تدبر في كون النماء للمفلس على النقض ، فيحسب حينئذ له من ديونه ، لظهور بطلان القسمة من الأصل لا حين ظهور الغريم ، وللغرماء ، على تقدير عدم النقض عدا نماء الحصة الباقية للغريم ، فإنه يكون حينئذ للمفلس ، فيقسم بين غرمائه ، ولا يختص به صاحب الحصة ، لعدم ملكه إياها قبل القبض ، كما هو واضح. لكن في القواعد بعد أن ذكر عدم النقض أولا ثم احتمل النقض قال : « ففي الشركة في النماء المتجدد إشكال » ولعله للإشكال في أصل المسألة وما عن الإيضاح من أنه تفريع على النقض وعدمه ، فإن قلنا بالنقض شارك ، وإلا فلا ومنشأ الاشكال هل هو رفع القسمة من أصلها أم فسخ متجدد وهو كما ترى ، وكذا احتمال أنه تفريع على النقض ، وإن قيل : إنه المبادر من العبارة ، إلا أنه واضح الفساد ومنها تحقق الزكاة على القابض ، إذا بلغ نصيبه النصاب على عدم النقض ، ولا زكاة على النقض ، ومنها مضي التصرف فيه على عدم النقض ، وعدمه على الآخر ، إلى غير ذلك مما هو واضح بأدنى تأمل.

ولو كان قد تلف المال في يد الغرماء ، فالظاهر احتسابه عليهم على كل حال أما على عدم النقض فواضح ، وأما على النقض فلانه قبضوه استيفاء ، والقبض يضمن بفاسده ، كما يضمن بصحيحه ، ولعموم (١) « على اليد » هذا كله في ظهور الغريم المطالب بدين.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٩٠ كنز العمال ج ٥ ص ٢٥٧.

٣٤٨

أما إذا كان غريم له عين قائمة في أموال المفلس ، ففي المسالك « أما إن يجدها مع بعض الغرماء أو مع غيرهم بأن يكون الحاكم قد باعها وجعل ثمنها في ماله ، أو يجدها بأيدي الغرماء بالسوية ، وفيما عدا الصورة الأخيرة لا يتوجه إلا نقض القسمة لأن العين إذا انتزعت من أحدهم بقي بغير حق ، وفي الأخيرة الخلاف السابق.

قلت : مبنى هذا الكلام على عدم بطلان الخيار بالبيع ، أو بالدفع إلى أحد الغرماء وهو أحد الاحتمالين أو الثلاثة أو الأربعة في المسألة كما أوضحناه في محله ، وعلى تقديره فظاهره انحصار الخلاف في الصورة المتأخرة ، مع أنه يمكن جريانه في الصورة الأولى ، بناء على ما سمعته من جامع المقاصد مما لا فرق فيه بين ظهور الغريم وحضوره ، وكذا الثانية إذا فرض اختصاص أحد الغرماء بالثمن ، أو لو فرض توزيعه فالمتجه عدم نقض القسمة ، لعدم رجوع أحد الغرماء على الآخر بحصة مشاعة ، وإنما يرجع عليهم صاحب الثمن على حسب حصصهم ، وهو لا يقتضي بطلان القسمة ، وكذا الصورة الثالثة التي هي فرض تسوية الغرماء في العين ، فإنه مع انتزاعها منهم أجمع له يرجع أحدهم على الأخر بشي‌ء.

نعم لو جعل مبنى النقض في ذلك أن صاحب العين من جملة الغرماء ، وقد وقعت القسمة قبل حضوره ، فهو يستحق حصة مشاعة يخير بينها ، وبين انتزاع العين ، فالنقض حينئذ لذلك بناء على أن النقض بمثله ، ولو على جهة التخيير كان أولى ، لكن عليه ينبغي أن لا يتفاوت الحال في الصور الثلاثة بل يتجه النقض حينئذ لو وجد العين على ملك المفلس وقد قسم ما عداها فانتزعها. هذا. وربما توهم من عبارة المصنف والقواعد وغيرهما احتياج نقض القسمة إلى حكم الحاكم بذلك ، وهو واضح الفساد ، كما نص عليه في جامع المقاصد ، وإنما أسند النقض اليه باعتبار فرض كونه القاسم ، وإلا فهي منتقضة بنفسها ، بناء على النقض كما هو ظاهر.

ولو خرج المبيع مثلا من مال المفلس ظاهرا مستحقا للغير ، فإن كان الثمن موجودا لم يدفع بعد إلى الغرماء رجع به صاحبه ، وإن كان قد تلف في يد المفلس‌

٣٤٩

أو وليه كان ضامنا له ، فيضرب صاحبه مع الغرماء إن كان قد أتلفه المفلس ، بناء على ضرب مثله وإن كان بعد الحجر ، كما تقدم سابقا ، اللهم إلا أن يفرق بينهما بأن ما نحن فيه قد وقع باختيار من المالك ورضى منه ، وإن كان على جهة الضمان فلا يضرب به ، بخلاف السابق المفروض إتلاف المفلس قهرا على مالكه بسرقة أو غصب أو خطاء ونحوها.

لكن خيرة الفاضل والمحكي عن الشيخ وفخر المحققين أنه يقدم على الغرماء ولو كان التلف بآفة سماوية ، بعد أن احتمل الضرب معهم ، واستجوده في جامع المقاصد معللين له بأنه من مصالح الحجر ، لئلا يرغب عن شراء مال المفلس ، وهو كما ترى لا يصلح مثله أن يكون مدركا لذلك ، وانما وقع من بعض العامة بناء منهم على حجية الاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وكذا لو تلف في يد الغرماء واختار هو الرجوع على المفلس ، فيقدم عليهم عند الفاضل ، واحتمل الضرب ، وعلى ما ذكرنا يتجه البقاء في ذمة المفلس ، أما لو رجع عليهم اتجه تغريم كل منهم مقدار ما قبض من ماله ، ولا يرجع به على المفلس ، لانه قبض مضمون عليهم ، وإنما لهم الرجوع بدينهم ، لأنه باق ، وان رجع على المفلس رجع هو على الغرماء ، لأن قرار الضمان على من تلف في يده المال ـ والله أعلم.

المسئلة الثانية إذا كان عليه ديون حالة وديون مؤجلة وقد فلس لقصور ما عنده عن الحالة قسمت أمواله على الحالة خاصة ولا يدخر منها شي‌ء للمؤجلة بلا خلاف ولا إشكال ، لعدم استحقاقها قبل الأجل ، كما تقدم سابقا في أول كتاب الفلس. نعم لو حلت قبل قسمة الكل ففي التذكرة والمسالك والروضة شاركت بل فيها جميعها أنه لو حل بعد قسمة البعض شارك في الباقي وضرب بجميع المال ، وضرب باقي الغرماء ببقية ديونهم ، ولعل الوجه في ذلك بعد كونه أولى من المتجدد ، كأرش الجناية وعوض الإتلاف أن المقتضى للمشاركة موجود ، وهو كونه دينا سابقا على الحجر ، وكان الأجل مانعا ، فإذا ارتفع عمل المقتضى عمله ، فهو كما لو أسلم الوارث قبل القسمة ، وتعلق حقوق الغرماء غير مانع من تعلق حق غيرهم ممن شاركهم في سبب‌

٣٥٠

الاستحقاق ، وبذلك ترتفع المناقشة من بعض متأخري المتأخرين في أصل المشاركة ، بسبق تعلق حق الغير فنمنع تعلق غيره به ، إذ هو حينئذ كالمرهون ، وإن كانت هي لا تخلو من وجه ، خصوصا بناء على ما تقدم سابقا من عدم الرجوع لصاحب العين لو كان دينه مؤجلا وقد حل قبل القسمة ، ونحوه مما هو مبنى على سبق تعلق الحق المانع من تعلق حق الغير.

وعلى كل حال فالظاهر عدم الفرق في حلول المؤجل بين انتهاء المدة ، وبين إسقاطه بالصلح على الأنقص منه مثلا ، مع المفلس الذي لا يمنع من مثل هذا الصلح ، لعدم كونه تصرفا في المال الذي تعلق به حق الغرماء وان كان بعد الصلح يشاركهم صاحبه ، لصدق حلول المؤجل قبل القسمة ، ودعوى المنع من مثل هذا الصلح على وجه يلحق الغريم به ، لأنه يؤل إلى الضرر على الغرماء ، ولأنه كالدين الحاصل بعد الحجر ـ يمكن منعها لما عرفت ، ولأنه ليس دينا جديدا بل هو صلح عن ذلك الدين ببعضه ، فيكون الصلح بالنسبة إلى الزائد كالإبراء وإن كان هو في مقابلة إسقاط الأجل ، فتأمل ، جيدا. والله أعلم.

المسئلة الثالثة : إذا جنى عبد المفلس ، كان المجني عليه أولى به من الغرماء الذين لا يزيد تعلق حقهم بالمال على الرهانة التي قد عرفت تقدم الجناية عليها للوجوه السابقة الآتية هنا منضمة إلى عدم الخلاف في ذلك في المقامين ، ومنه يعلم أن تعلق حق الغرماء هنا ليس كتعلق أرش الجناية ، وإلا أمكن القول بالاشتراك بينهما ، كما لو جنى العبد الجاني قبل انتهاء حال الجناية الأولى ، وبالجملة يتجه فيه ذلك الحكم فعدم الخلاف في التقديم هنا مما يومي إلى عدم كون التعلق كأرش الجناية ، وان احتمله الفخر سابقا فيستوفي منه حق الجناية حينئذ ، فإن زاد فهو الغرماء.

وعلى كل حال ف لو أراد مولاه فكه بما تعلق به الحق من الأموال كان للغرماء منعه لأنه تصرف مالي وقد حجر عليه في ذلك ؛ لكن‌

٣٥١

في المسالك « إنما يمنع المولى من فكه مع عدم المصلحة في فكه ، فلو فرضت بأن كان كسوبا يثمر مالا إلى حين القسمة وقيمته باقية فله فكه لمصلحة » قلت : قد يمنع أيضا معها ، لتعلق الحق في المال على وجه لا يتصرف به إلا في بيعه للوفاء ، وان اتفق حصول مصالح للمفلس ، وكذا لو كان له رهن على دين مؤجل وكانت المصلحة في فكه ، لم يلتزم الغرماء بذلك ، فلعل إطلاق المصنف وغيره المنع لا يخلو من قوة.

ولو كان الجاني المفلس بما يوجب مالا ، كان المجني عليه أسوة الغرماء ، كما قدمناه سابقا ، إذ الفرق بينه وبين عبده بالتعلق بالذمة والعين واضح ، ولو كانت جنايته عمدا فصالح على الدية لم يشارك ، بناء على أن الواجب أولا القصاص ، وأن الدية تثبت بالصلح. نعم لو قلنا الواجب أحد الأمرين من أول الأمر والخيار بيد المجني عليه ، أمكن القول حينئذ بالمشاركة للغرماء ، بل لو قلنا في الصلح أنه ليس من قبيل المعاوضات ، وإنما هو إسقاط لحق القصاص ، ورجوع إلى الدية الثابتة شرعا أمكن القول بالشركة ، فيكون الفرق بين القولين أن الخيار في الأول بيد المجني عليه ، والثاني بأيديهما معا ، ولعل قوله تعالى (١) ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) إلى آخره لا يخلو من اشعار بذلك ، وكأنه لذا لم يجزم الفاضل في التذكرة بعدم المشاركة في الصلح أيضا ، فإنه بعد أن حكى عن أحمد المشاركة مطلقا قال : ويحتمل عندي أن لا يشارك ، لأن الجناية موجبها القصاص. وإنما يثبت المال صلحا وهو متأخر عن الحجر ، فلا يشارك كما لو استدان فتأمل جيدا والله أعلم هذا تمام الكلام في حكم المفلس.

ولكن يلحق بذلك النظر في حبسه بل حبس كل مديون فنقول :لا يجوز حبس المعسر مع ظهور إعساره سواء كان مفلسا أي منعه الحاكم من التصرف فيما يتجدد من الأموال ، أولا ، للأنظار المأمور به في الكتاب والسنة ، بل

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٧٨.

٣٥٢

والفتوى ، فإني لا أجد خلافا في ذلك ، إلا ما تقدم سابقا من الصدوق في المعسر بصرف ما استدانه في معصية ، وقد عرفت ضعفه.

وكيف كان ف يثبت ذلك أي إعساره بموافقة الغريم جميعهم وإلا ففي حق الموافق ، ولو فرض تعدده وجمعه لشرائط الشهادة ثبت حينئذ ، واندرج تحت قول المصنف كغيره من الأصحاب أو قيام البينة لكن على التفصيل الاتى خلافا لبعض العامة ، حيث جعل قيام البينة به غير مانع من حبسه مدة يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لظهر ، وهو كما ترى.

فإن تناكرا أي الغريم والمديون في الإعسار وعدمه وكان له أى للمديون مال ظاهر غير المستثنيات لم يقبل دعواه ، وأمر ه‍ الحاكم بالتسليم إن كان المال من جنس الحق أو تراضيا به ، وإلا صرف اليه ببيع ونحوه فان امتنع فالحاكم بالخيار ، بين حبسه حتى يوفي بنفسه لوجوبه عليه ، بل مماطلته فيه تحل عقوبته بالحبس وغيره وعرضه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لي الواجد يحل عقوبته وعرضه » المعمول بإطلاقه بين الأصحاب ، من غير ملاحظة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد سمعت النصوص (١) المتضمنة لفعل أمير المؤمنين عليه‌السلام « فيمن كان يلتوي على غرمائه » بل لعل إطلاق الخبر المزبور يقضي بحلية ذلك للغريم وغيره ، اللهم إلا أن يدعى أن الحبس ونحوه من وظائف الحاكم ، لانه كالتعزير الملحق بالحدود.

نعم لا إشكال في حلية العرض للغريم ، بأن يقول له يا ظالم ونحوه لذلك ، وقوله تعالى (٢) ( لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) ولا يلزم التفكيك في الخبر ، إذ المراد من الحبس حينئذ أن يحبسه عند الحاكم ، فيكون التحليل له فيهما ، بل الظاهر جواز ذلك للحاكم ، لإطلاق الخبر المزبور ، بل وغيره في وجه.

وعلى كل حال فهو بالخيار بين ما عرفت وبين بيع أمواله وقسمتها

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٦ ـ من أبواب الحجر.

(٢) سورة النساء الآية ـ ١٤٨.

٣٥٣

بين غرمائه لأنه ولي الممتنع ، وإن كان لا يتعين عليه ذلك ، بل يخير بينه وبين الفرد الأول ، وقد تقدم نظير ذلك في الرهن ، كما أنه تقدم التأمل فيه ، والمحكي في النصوص (١) هنا من فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام « أنه كان يحبسه بالالتواء ثم يأمر بقسمة ماله بين الغرماء ، فإن أبى باعه وقسمه بينهم » بل وفي خبر السكوني (٢) منها « أنه كان يحبس في الدين ، ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء » وعلى كل حال هو غير التخيير المزبور ، اللهم إلا ان يقال : إنه لا دلالة في فعله عليه‌السلام على عدم جواز غير هذا الفرد ، وفيه أن نقل الأئمة عليهم‌السلام لهم بهذا اللفظ ظاهر في أن الحكم ذلك ، فتأمل جيدا. والأمر سهل.

وكيف كان ف لو لم يكن له مال ظاهر وادعى الإعسار ، فإن وجد البينة قضى الحاكم بها بالشرط الآتي وإن عدمها ، وكان له أصل مال معهود أو كان أصل الدعوى مالا كالقرض ونحوه وقد أثبتها الغريم حبس حتى يثبت إعساره لأصالة بقاء المال ، ولاشتراط الانظار بالإعسار ولم يثبت ، ولأن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يحبس بمجرد الالتواء ، نعم في التذكرة « إنه إذا لم يكن له بينة بذلك يحلف الغرماء على عدم التلف ، فإذا حلفوا حبس ، ولعله مراد غيره مع احتمال العدم ، لما عرفت من عدم اشتراط الحبس باليسار مع المماطلة ، كي يحتاجوا إلى إثباته ، بل يكفي فيه عدم ثبوت اليسار ، وهو حاصل وان لم يحلفوا. هذا.

وقد صرح الفاضل في التذكرة والقواعد « أنه لا يمنع الحبس تعلق حق الغير في عينه بإجارة ونحوها » وهو كذلك مع إمكان الجمع ، أما مع عدمه ففيه اشكال ، من تعارض الأدلة ولا ترجيح ، واحتمال ترجيح الإجارة بالسبق معارض بصورة سبق الدين وإن تأخرت المطالبة. نعم قد يتم في صورة سبق الإجارة عليه ، كما أنه يتم ترجيح الدين عليها في صورة سبقه ، بل قد يقال بترجيحه مطلقا ، باعتبار انجبار المستأجر بالخيار بخلافه ، إلا أن الجميع محل للنظر ، كما أن ما في القواعد من

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب أحكام الحجر.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب أحكام الحجر الحديث ـ ٣.

٣٥٤

أنه يجوز الحبس في دين الولد لا يخلو من اشكال ، لخبر الحسين بن ابى العلاء (١) وللنصوص الدالة على أن الولد وماله لأبيه وعلى عظم حق الوالدين ونحو ذلك ، ولعله لذا جزم في التذكرة بالعدم ، وفي جامع المقاصد أنه لا يخلو من قوة ، وهو كذلك ، والله أعلم.

وعلى كل حال فإذا تصدى لإثبات إعساره ف ان شهدت البينة بتلف جميع أمواله قضى بها ، ولم يكلف اليمين ، ولو لم تكن البينة مطلعة على باطن أمره بالصحبة المتأكدة ، لأنها بينة إثبات ، فيشملها جميع ما دل على قبول البينة ، ولا يقدح تضمنها النفي ، لأن كل بينة إثبات تتضمن ذلك ، حتى بينة ملك العين مثلا لزيد ، المتضمنة لعدم بيعه خفية وعدم هبته وغير ذلك من المحتملات التي لا تقدح ، بعد أن كان شهادة البينة أمرا إثباتيا يمكن علمها به ، وأنه هو المستند لها فيما هو مخالف للأصل ، فيلزمه حينئذ ثبوت الإعسار ، ضرورة اقتضاء تلف جميع الأموال ذلك ولا يحتاج إلى اليمين معها ، للأصل ، وظهور قوله (٢) « البينة على المدعى » إلى آخره في عدم الشركة بينهما ، مضافا إلى أنها كسائر البينات المعلوم عدم توقف ثبوت ما شهدت به على اليمين ، لمعلومية عدم اشتراط قبولها بالاطلاع على باطن أمره بالصحبة المتأكدة إذ هي بعد ما سمعت كباقي بينات الإثبات التي لا ينحصر طريق علمها بما تشهد به لذلك.

أما لو شهدت بالإعسار مطلقا أي من دون تعرض لتلف المال المعلوم أصله وغيره لم تقبل حتى تكون مطلعة على باطن أموره بالصحبة المؤكدة لأنها حينئذ بينة نفي ، ضرورة رجوعها الى عدم الملك الذي يمكن أن يكون مستندها فيه الأصل المعلوم نقضه عند غيرها ، ويمكن أن يكون اطلاعها على التلف ، إلا أنها مع فرض الصحبة المؤكدة يحصل الظن القوي بل المتاخم أن يكون مستندها الثاني ، فيقوى حينئذ بها جانب مدعى الإعسار ، بل ظاهر الأكثر تقديمه حينئذ على خصمه

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧٨ ـ من أبواب ما يكتسب به الحديث ـ ٧.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ـ ١ ـ ٢.

٣٥٥

الموافق للأصل ، وكم من ظاهر قدم عليه ، كما في دعوى الزوجة مع الخلوة الدخول بها وغيرها ويتجه حينئذ ما ذكره المصنف وغيره بل نسب إلى الأكثر من أن للغرماء إحلافه حينئذ دفعا للاحتمال الخفي وهو احتمال عدم اطلاعها على أصل المال وخفائه عليها ، وإنما شهدت بالأصل المفروض انتقاضه ، وبذلك ظهر الفرق بين بينة التلف وبينة الإعسار ، كما أنه ظهر كون اليمن لقوة جانب مدعي الإعسار حينئذ واليمين تتبع من قوى جانبه بالأصل أو بالظاهر الذي ثبت ملاحظته للشارع ، فالبينة في المقام لحصول الظاهر المرجح بدعوى الإعسار ، فيكون به حينئذ منكرا فيتوجه اليمين عليه لذلك ، لا أنه باق مدع ومحتاج إلى اليمين مع البينة كيمين الاستظهار ، ضرورة ظهور قوله عليه‌السلام (١) « البينة على المدعي » في قطع الشركة ، ولا دليل بالخصوص هنا على اليمين كالاستظهار ، مضافا إلى عدم تنقيح مستند شهادة البينة هنا وإن كان قد حصل الظن القوي بالصحبة المتأكدة أنه التلف لا الأصل ، لكنه إذا لم يصل إلى حد العلم غير مجد في قبول مثل هذه البينة التي قد عرفت رجوعها إلى بينة النفي المعلوم عدم قبولها ما لم تؤل إلى الإثبات بالحصر ونحوه ، ولو فرض كونها في المقام كذلك رجعت إلى البينة الأولى ولم يحتج معها إلى اليمين قطعا ، كما أن الاولى لو فرض شهادتها على تلف المال الظاهر ، ولم تعلم بغيره ولا اعترف الخصم بعدم غيره اتجه أيضا توقف ثبوت الإعسار على اليمين ، ضرورة رجوع الحال حينئذ إلى دعواه ممن لم يعلم له أصل مال ، وستعرف احتياجه حينئذ إلى اليمين.

نعم لو شهدت بتلف الظاهر واعترف الخصم بعدم غيره لم يحتج حينئذ ثبوته إلى يمين كما هو واضح ، وبذلك تم كلام الأكثر وسقط ما أطنب به في المسالك ، فإنه بعد أن قرر المشهور حاكيا له عن المصنف والعلامة في غير التذكرة قال : « أما فيها فعكس الحكم ، وأثبت اليمين في بينة التلف دون بينة الإعسار ، محتجا بأن البينة

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ـ ١ ـ ٢ ـ لكن فيهما « واليمين على المدعى عليه ».

٣٥٦

إذا شهدت بالتلف كان كمن ثبت له أصل مال واعترف الغريم بتلفه ، وادعى مالا غيره فإنه يلزمه اليمين » وأفتي في موضع آخر منها بأنه لا يمين في الموضعين محتجا بأن فيه تكذيبا للشهود ، ول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « البينة على المدعي واليمين على المنكر » والتفصيل قاطع للشركة.

ثم قال : « إن تلخيص الحكم في ذلك لا يخلو من اشكال ، والفرق لا يخلو من نظر ، وذلك لأن شهود تلف ماله إما أن تكون شهادتهم على تلف المال الظاهر لهم من غير معرفة لهم بحال باطن أمره ، بحيث يحتمل أن يكون له مال آخر لم يتلف ، كما هو الظاهر من قول الجماعة وتعليلهم المسألة وتصريحهم بعدم اعتبار كونهم من أهل الخبرة بحاله ، ويشكل مع هذا ثبوت إعساره ، لأن حاله بالنسبة إلى المال باطنا مجهول مطلقا ، حتي لو فرضنا أن هذا المال الظاهر لم يكن له لم يناف ثبوت ماليته باطنا ، والحال أنه لم يختبر ، وإن أرادوا ـ بعدم اعتبار اطلاعهم على باطن أمره أن الحاكم لا يعتبر اطلاعه على ذلك ، مع ان اطلاعهم معتبر في نفس الأمر اتكالا علي عدالتهم ، وأن العدل لا يجازف في شهادته كما صرح بهذا المعنى بعض الأصحاب أشكل الفرق بين الأمرين ، لأن ذلك آت في الشهادة على مطلق الإعسار وتحويلها نحو الإثبات لئلا يتمحض النفي غير متوقف على هذا الشرط ، فإن مرجعه الى تحرير شهادتهم ، لا إلى علمنا بأخبارهم ، وحكم اليمين متفرع على ما قررنا ، فإن اكتفينا في بينة التلف بالاطلاع علي ظاهر ماله ، فلا بد من القول باليمين ، لأنه يصير بهذه البينة كمن لا يعلم له أصل مال مع احتماله ، ويتوجه عدم الافتقار الى اليمين في بينة الإعسار المطلعة علي الحال ، لأن ذلك أقصى ما يمكن اعتباره شرعا في التفحص ، فلا يكلف مع البينة أمرا آخر ، لأصالة البراءة أو لظاهر الخبر ، وإن اعتبرنا اطلاع بينة التلف علي باطن أمره كما ذكره بعضهم توجه عدم اعتبار اليمين معها لما ذكرناه.

ويمكن أن يوجه كلام الجماعة الدال على عدم اعتبار الخبرة الباطنة في شهادة التلف لا بالنظر إلى الحاكم ، ولا بالنظر إلى الشهود بأن هذا المديون لما كان يعرف

__________________

(١) المصدر نفسه.

٣٥٧

له أصل مال ولو بكون الدعوى كذلك ، فلا بد لهذا المال الثابت ظاهرا من أمر يدفعه ، فإذا شهدوا بتلف أمواله التي يطلعون عليها فقد علم الانتقال عن ذلك الأصل الباقي في المال ، وإن أمكن بقاء بعضه ، إلا أنه غير معلوم ، والتكليف إنما هو بالظاهر ، بخلاف ما إذ اشهدوا بإعساره ، فإن المراد أنهم لم يطلعوا على ماله ، وهذا لا يدفع ذلك الأصل الذي هو بقاء المال السابق بوجه ، فلا بد مع ذلك من الخبرة الباطنة والعشرة المتأكدة ليحصل الظن بتلف ذلك المال ، وانما يحصل بذلك.

فظهر الفرق بين الحالين ، وتوجه به ما اختاروه من ثبوت اليمين في الأول دون الثاني ، لأن الأول لا يدفع المال الباطن يقينا ، ولا ظنا ، لعدم الاطلاع عليه ، بخلاف الثاني ، لأن كثرة ملابسته ومجاورته والاطلاع على الصبر على ما لا يصبر عليه من يكون بيده مال عادة ، يفيد الظن الغالب بعدم المال ، فلا يتجه مع ذلك انضمامه اليمين إلى البينة.

نعم لو ادعى الغريم وجود مال مخصوص للمديون ، واعترف بعدم غيره فشهد الشهود بتلفه لم يجب اليمين في الأول أيضا ، ولم يعتبر اطلاع الشهود على باطن أمره ، إلا أن هذه مادة خاصة والمسألة أعم منها ، والظاهر من عبارة الأصحاب وغيرهم في هذه المسألة هو ما وجهناه أخيرا من أن شهود التلف لا يعتبر اطلاعهم على حاله في أنفسهم ولا عند الحاكم ، بخلاف شهود الإعسار ، ووجهه ما بيناه.

لكن المحقق الشيخ على رحمه‌الله قرر كلامهم على ما نقلنا من الوجه ، وهو أن المراد عدم علم الحاكم باطلاعهم مع اشتراطه في نفس الأمر ، فحصل الالتباس في الفرق على تقريره ، ونفى اليمين في الأول وإثباتها في الثاني على تقريرهم ، فإن الاطلاع على باطن أمره إن كان معتبرا فيها فإما أن يقال باشتراط علم الحاكم به أيضا أو نفيه عنهما اتكالا على العدالة ، فالفرق ليس بجيد ، وإذا لم يطلعوا على باطن أمره في التلف على ما ذكروه ، يكون إثبات اليمين فيه أوجه من الآخر كما ذكره في التذكرة دون العكس ، لأن الخبرة الباطنة أفادت ظنا قويا ، مضافا إلى البينة بعدم المال ، ومختار التذكرة في إثبات اليمين في الأول دون الثاني أجود ، ونقلناه‌

٣٥٨

بطوله ليظهر لك مواقع النظر فيه من غير ما ذكرناه أيضا خصوصا فيما ذكره من التوجيه لكلام الجماعة الذي جعل نتيجته ما لا يقولون به ، من إثبات اليمين لبينة التلف دون بينة الإعسار.

ومن الغريب قوله بعدم احتياج الثانية اليه ، مع اعترافه بأنها إنما تفيد الظن القوى بسبب الصحبة بأن مستندها التلف ، ومعلوم أن مثل ذلك لا يخرجها عن كونها بينة نفى ، وعن احتمال كون مستندها الأصل المعلوم قطعه كما أوضحناه سابقا وأغرب منه عدم ذكره الوجه الظاهر من كلماتهم في تشقيقه عدم اعتبار الاطلاع في بينة التلف من أن مرادهم جميع الأموال المستلزم لثبوت الإعسار ، وأن مثله لا يعتبر فيه الاطلاع بالصحبة ولا اليمين ، لأنها فرد من بينة الإثبات ، ولا ينحصر طريق علمها بذلك في الصحبة ، ولو فرض ان بينة الإعسار كذلك ، استغنت عن اليمين أيضا ، إلا أنك قد عرفت احتمالها وأنها ظاهرة مع الصحبة في أن مستندها الاطلاع على التلف ، كما أنه لو فرض كون بينة التلف على تلف مال مخصوص ، اتجه اعتبار اليمين من المديون في نفي دعوي غيره ، وما حكاه عن التذكرة من عكس الأمر إنما ذكره احتمالا ، مع أن الظاهر خروجه عن موضوع البحث كما اعترف به في جامع المقاصد ، لأن ظاهر كلامه فرض شهادة البينة على تلف المال الذي في يده ظاهرا لا جميع الأموال ، واليمين حينئذ مع عدم اعتراف الخصم بعدم غيره متوجه كما ذكرناه ، بل لعل ما حكاه عنها أيضا من عدم احتياج اليمين في البينتين خارج أيضا ، لظهور كلامه في عدم اليمين مع بينة الإعسار التي تؤل إلى بينة التلف في معلومية كون مستندها العلم بتلف جميع أمواله ، وأنها غير محتملة لأن يكون مستندها الأصل ، فإنه جعلها كالبينة على عدم الوارث فلاحظ وتأمل.

وبالجملة كلامه في المقام لا يخلو من نظر من وجوه ، ثم قال : « واعلم أن الخبرة المعتبرة في شهود الإعسار إن اطلع الحاكم عليها فلا كلام ، وإلا ففي الاكتفاء بقولهم له أنهم بهذه الصفة وجه قوي ، وقطع به في التذكرة » قلت لا ريب في ضعفه ،

٣٥٩

ضرورة عدم الدليل على ثبوته بقولهم الذي مرجعه إلى دعوى لا يثبت بها مثله بعد اعتبار اتصافهم به كالعدالة ، فلا بد من العلم به ولو ببينة شرعية كما هو واضح ، وأومأ إليه في جامع المقاصد.

وقد تلخص مما ذكرناه أن بينة الإعسار عندهم ، لم يعلم رجوعها إلى إثبات حتى يتوجه الاستغناء عن اليمين ، للخبر القاطع للشركة ، بل هي بسبب الصحبة المؤكدة أفادت كون الظاهر مع دعوى الإعسار ، فقدموه على الأصل بيمين المعسر كما أوضحناه سابقا ، ولو فرض العلم برجوعها إلى إثبات ، أغنت عن اليمين قطعا وكانت كبينة التلف حينئذ ، بناء على المعلوم من مذهب الأصحاب من قبول بينة النفي إذا رجعت إلى إثبات ، خلافا لبعض العامة ، ضرورة شمول ما دل على حجية البينة حينئذ لها ، بخلاف ما إذا لم يعلم رجوعها إلى إثبات ، لاحتمال كون مستندها أصل العدم ، المعلوم انتقاضه ، كما في المقام ، أولا تزيد على إنكار المنكر والله أعلم.

وكيف كان فان لم يعلم له أصل مال ولا كانت الدعوى الثابتة عليه مالا وادعى الإعسار قبلت دعواه ولا يكلف البينة ، وللغرماء مطالبته باليمين لانه بموافقته للأصل كان منكرا وقد قال عليه‌السلام (١) « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بل منه ينقدح الإشكال في قبول البينة منه لو أقامها على وجه يعلم رجوعها إلى إثبات ، بناء على عدم قبولها من المنكر ، لكن جزم في التذكرة بقبولها وإسقاط اليمين عنه حينئذ ، ولا يخلو من بحث كما يأتي إنشاء الله.

ومن الغريب من بعض العامة منع قبوله هنا إلا بالبينة ، بناء على أن الظاهر من حال الحر أنه يملك شيئا قل أو كثر ، وفيه منع اعتبار هذه الظاهر بدون دليل بحيث يقطع الأصل. نعم لو فرض العلم بذلك اتجه ما ذكره ، بل لعله متجه أيضا فيما لو حصل العلم بإتلافه مالا أيضا ، لانقطاع أصل العدم فيه قطعا ، وحصول المال في الجملة معارض بالعلم بإتلافه كذلك ، فلا يستصحب شي‌ء منهما ، لرجوعه إلى استصحاب الجنس ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ من أبواب كيفية الحكم لكن فيه : واليمين على المدعى عليه.

٣٦٠