جواهر الكلام

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وتعدده ، وإن اتفقا على شغل الذمة كان القول قول الراهن ، وقيل : والقائل الإسكافي القول قول المرتهن ما لم يستغرق دعواه ثمن الرهن ، والأول أشهر بل هو المشهور شهرة عظيمة ، بل عن ابني زهرة وإدريس الإجماع عليه ، ولعله كذلك ، لعدم قدح خلافه فيه ، وهو الحجة.

مضافا إلى قاعدة المدعي والمنكر إذ لا ريب في كون الأول هنا المرتهن ، والثاني الراهن الموافق قوله لأصالة عدم ارتهانه بأزيد مما اعترف به المالك ، بل لو كان النزاع في أصل شغل الذمة به ، كان الأصل براءة الذمة.

وإلى صحيح محمد بن مسلم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام « في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بينة بينهما فيه ، فادعى الذي عنده الرهن أنه بألف ، فقال صاحب الرهن :إنه بماءة قال : البينة على الذي عنده الرهن أنه بألف ، وإن لم يكن عنده بينة فعلى الراهن اليمين ».

وموثقة ابن ابى يعفور (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا اختلفا في الرهن فقال أحدهما : رهنه بألف ، وقال الآخر : بماءة درهم؟ فقال : يسئل صاحب الألف البينة ، فإن لم يكن بينة ، حلف صاحب الماءة ».

وموثق عبيد بن زرارة (٣) عنه أيضا « في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بينة بينهما ، فادعى الذي عنده الرهن أنه بألف فان لم يكن عنده بينة ، فعلى الذي له الرهن اليمين أنه بماءة. » فلا محيص حينئذ عن المشهور ، خصوصا مع عدم دليل للإسكافي صالح لمعارضة ما سمعت ، إذ ليس إلا موافقة الظاهر في بعض الافراد الذي لا عبرة به في مقابلة ما سمعت.

وخبر السكوني (٤) عن جعفر عن أبيه عن على عليه‌السلام « في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن؟ فقال الراهن : هو بكذا وكذا ، وقال المرتهن : هو بأكثر؟ قال

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ٤.

٢٦١

على عليه‌السلام ، يصدق المرتهن حتى يحيط بالثمن ، لأنه أمينه » الضعيف سندا الموافق لأحد قولي العامة ، المخالف للمتواتر كما في جامع المقاصد المحتمل لما عن الشيخ من أن الاولى للراهن أن يصدق المرتهن.

فمثله لا يصلح لمعارضة ما تقدم من وجوه ، على أن ظاهره باعتبار مفهوم الغاية تصديق الراهن فيما لو أحاطت دعوى المرتهن بالثمن ، والمعروف حكايته عن ابن الجنيد أنه يصدق المرتهن ما لم يدع زيادة القيمة على الراهن ، فهو مخالف حينئذ للخبر. نعم على ما حكاه في المتن عنه يتجه الاستدلال له به ، وكان الموجب لاختلاف النقل عنه عبارته المحكية عنه ، وهي : المرتهن يصدق في دعواه حتى يحيط بالثمن ، فإن زاد دعوى المرتهن على القيمة لا تقبل إلا ببينة. باعتبار اشتمالها على مفهوم الغاية القاضي بخروج دعوى الإحاطة عن حكم دعوى غيرها ، وعلى مفهوم الشرط القاضي بدخولها.

وعلى كل حال فالمذهب ، الأول ، بل لو أراد ابن الجنيد ـ ما يشمل دعوى المرتهن أصل الشغل بالزائد ـ كما عساه يظهر من بعض ، بل ظاهر الفاضل في القواعد أن نزاعه في ذلك ـ كان مخالفا للضوابط الشرعية ، بل يمكن دعوى الضرورة حينئذ على خلافه والله أعلم.

المسألة الخامسة : لو اختلفا في متاع فقال أحدهما أي المالك هو وديعة عندك وقال الممسك هو رهن ف المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة بل ربما استظهر من نافع المصنف الإجماع عليه أن القول قول المالك وقيل : والقائل الصدوق ، والشيخ ، في المحكي عن مقنع الأول ، واستبصار الثاني ، القول قول الممسك ، والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، لأنه منكر باعتبار موافقة قوله لأصالة عدم الارتهان.

وفي موثق إسحاق بن عمار (١) عن الصادق عليه‌السلام في الاختلاف في الوديعة والقرض « أن القول قول صاحب المال مع يمينه » وخصوص المورد لا يخصص الوارد ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ـ ١.

٢٦٢

فيستفاد منه حينئذ أصالة عدم الحكم بمال الإنسان بغير قوله ، وإن كان مدعيا ، فضلا عما نحن فيه ، مما هو مدعى عليه ، اللهم إلا أن يقال إن ما فيه مبنى على أصالة الضمان في اليد ، حتى يقوم خلافه ، لا على الأصل المزبور الشامل للمقام ، فلا يكون شاهدا له ، وفيه بحث.

وعلى كل حال فقد يؤيد ما نحن فيه أيضا الخبر المتقدم (١) سابقا في مسألة استيفاء المرتهن الدين مما في يده إذا خاف جحود الوارث لو أقر بالرهانة ، ضرورة ظهوره في أن القول قول الوارث مع الإقرار لا قوله ، وإن كان المال في يده فلاحظ وتأمل.

كل ذلك مضافا إلى خصوص صحيح ابن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام « في رجل رهن عند صاحبه رهنا ، فقال الذي عنده الرهن : أرهنته عندي بكذا وكذا ، وقال الأخر : إنما هو عندك وديعة ، فقال : البينة على الذي عنده الرهن أنه بكذا وكذا ، فإن لم يكن له بينة فعلى الذي له الرهن اليمين » لكن حمله الشيخ على صورة النزاع في الدين ، لا الرهن ، فقال : إنما قال : عليه البينة على مقدار الدين الذي ارتهنه به ، لا على أصل الرهن ، وحينئذ فيمين المالك مع تعذر البينة على نفي الدين ، ومقتضاه أن محل النزاع صورة الاتفاق على الدين ، ولكن اختلفا في الرهانة عليه ، والوديعة.

فلا يكون المحكي عن ابن حمزة ـ من التفصيل بين اعتراف صاحب المتاع بالدين فالقول قول الممسك وعدمه فالقول قول المالك ـ قولا ثالثا في المسئلة منشؤه الجمع بين الصحيح المتقدم وبين خبر عبادة بن صهيب (٣) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن متاع في يد رجلين أحدهما يقول : استودعتكه ، والآخر يقول هو رهن؟ فقال : القول قول الذي يقول أنه رهن عندي ، إلا أن يأتي الذي ادعى أنه أودعه بشهود » وموثق ابن ابى يعفور (٤) عن الصادق عليه‌السلام المتقدم صدره سابقا « قال : وان كان الرهن أقل مما رهن به أو أكثر واختلفا ، فقال أحدهما : هو رهن ، وقال الآخر هو وديعة؟ قال :على صاحب الوديعة البينة ، فإن لم يكن بينة حلف صاحب الرهن ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٦ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ٣.

٢٦٣

وصحيح أبان (١) الموافق في المتن للموثق المزبور ، حتى ظن في الحدائق أنهما خبر واحد منكرا بذلك على ما حكاه عن صاحب الكفاية من عدهما خبرين ، لكن فيه أنه هو قد اعترف بأن الصدوق رواه عن فضالة عن أبان عن الصادق عليه‌السلام ، وأن طريقه إلى فضالة صحيح ، وأن الشيخ روى الأول بسنده عن أبان عن ابن أبى يعفور ، وبذلك يكونان خبرين ، وان اتحد متنهما.

وكيف كان ففيه ـ مع أنه لا شاهد لهذا الجمع أولا ـ أنه فرع المقاومة المفقودة في المقام ، لا للضعف سندا ، لما عرفت من أن فيهما الموثق والصحيح ، ولكن لندرة العامل ، بخلاف الأول الذي قد عرفت عظم شهرته ، ولاعتضاده بما عرفت من القواعد وغيرها ، ودعوى ـ اعتضاد هذه بظهور كونه رهنا بعد الاعتراف بالدين ـ واضحة المنع ، مع أنه على تسليمها لا تساوي ما اعتضد به الأول ، خصوصا ما قيل : من موافقة هذه للتقية أيضا ، وأضعف من ذلك ما يحكى عن ابن الجنيد من الجمع بينها بالتفصيل أيضا بين صورتي اعتراف القابض للمالك بكونه في يده على سبيل الامانة ثم صار رهنا فالقول قول المالك ، وصورة دعواه الرهانة ابتداء فالقول قوله ، إذ هو كما ترى ، وقد ظهر من ذلك كله أنه لا محيص عن المشهور ، وإن وسوس فيه بعض متأخري المتأخرين ، بل جزم بخلافه آخر ترجيحا للنصوص المزبورة على الصحيح الأول ، إلا أن خلافه غير قادح ، بعد أن كان منشؤه اختلال الطريقة ، بل ربما أفاد المشهور قوة والله أعلم.

المسألة السادسة : إذا أذن المرتهن للراهن في البيع ورجع ، ثم اختلفا فقال المرتهن : رجعت قبل البيع ، وقال الراهن رجعت بعده كان القول قول المرتهن عند المشهور بين الأصحاب بل في جامع المقاصد نسبته إليهم مشعرا بدعوى الإجماع ، خصوصا مع قوله أنه ينبغي الوقوف معهم. وإن كان الدليل يقتضي خلافه ، ترجيحا لجانب الوثيقة المستصحب بقاؤها إلى أن يعلم المزيل. وليس ، لأن الاذن في البيع غير مسقط لها ، وإنما المسقط لها البيع المأذون فيه ، ولم يثبت إذ الدعويان متكافئان لأن الراهن يدعى تقدم البيع على الرجوع والأصل عدمه ، والمرتهن بالعكس ،

__________________

(١) المصدر المصنف.

٢٦٤

والأصل عدمه ، فإن كلا منهما حادث ، والأصل تأخره ، والاقتران أيضا حادث والأصل عدمه ، مع انه لو حكم به هنا لاقتضى فساد البيع.

وعلى كل حال يبقى استصحاب الرهانة سالما عن المعارض ، ودعوى ـ معارضته بأصالة صحة البيع المعلوم وقوعه ، فيتساقطان ، ويبقى مع الراهن ملكية المرهون ، وتسلط الناس على أموالهم ـ يدفعها أن أصالة صحة العقد مترتبة على سبقه بالإذن ، فإذا حكم بعدمه لم يمكن الحكم بصحة العقد ، بخلاف استصحاب الوثيقة ، فإنه باعتبار معلومية حصولها صحيحة سابقا ، إنما يكون الشك في طرو المبطل لها ، فيكفي في نفيه أصالة عدمه ، وليس استصحابها مشروطا بسبق الرجوع على البيع ، حتى يقال :إنه إذا حكم بعدمه لم يمكن الحكم به ، نحو ما سمعته في صحة البيع ، بل يكفي في صحة استصحابها عدم العلم بسبق البيع للرجوع.

ومن ذلك يعلم اندفاع ما في جامع المقاصد من المناقشة في أصل تكافؤ الدعويين : « بأن الأصل وإن كان عدم صدور البيع على الوجه الذي يدعيه الراهن ، إلا أنه لا يتمسك به الان ، لحصول الناقل عنه ، وهو صدور البيع مستجمعا لجميع ما يعتبر فيه شرعا ، وليس هناك ما يخل بصحته ، إلا كون الرجوع قبله ، ويكفى فيه عدم العلم بوقوعه كذلك ، والاستناد إلى أن الأصل بقاء الإذن السابق ، لأن المانع لا يشترط العلم بانتفائه ، لتأثير المقتضى وإلا لم يمكن التمسك بشي‌ء من العلل الشرعية ، إذ لا يقطع بنفي موانع تأثيرها بحسب الواقع ، وهو معلوم البطلان ، فإن من صلى مراعيا للافعال والشرائط ، يكفيه في صحة صلاته الاستناد إلى أصالة عدم طرو النجاسة على ثوبه وبدنه الطاهرين ، وإن لم يعلم انتفاؤها بحسب الواقع قطعا.

هذا مع اعتضاده بأن الأصل في البيع الصحة واللزوم ، وحيث تحقق الناقل عن الأصل المزبور امتنع التمسك به ، وخرج عن كونه حجة ، كأصل الطهارة بعد ثبوت المقتضى للتنجيس مثلا ، فإنه لا يتمسك به ، وحينئذ فينتفي حكم كل من الأصلين اللذين ذكروهما ، على أن ما ذكروه في الاستدلال إنما يتم على تقدير تسليم بقاء الأصلين المزبورين ، والانحصار فيهما وفي الأصل الثالث الذي ذكروه ، وليس‌

٢٦٥

كذلك ، فإن لنا أصلا آخر من هذا الجانب ، وهو أن الأصل في البيع الصحة واللزوم ووجوب الوفاء بالعقد.

لانه كما ترى مبنى على أن الشك في صحة العقد إنما وقع في المانع الذي هو الرجوع قبل البيع ، لا في حصول الشرط الذي هو الاذن ، وقد عرفت ما فيه ، وإلى ذلك يرجع ما في المسالك من دفعه ، فإنه قال : « لا نسلم وقوع البيع جامعا للشرائط الشرعية ، لأن من جملة شرائطه إذن المرتهن ، وحصوله غير معلوم ، وتنقيح ذلك أن الرهن المانع للراهن من التصرف لما كان متحققا ، لم يمكن الحكم بصحة البيع الواقع من الراهن إلا بإذن معلوم من المرتهن حالة البيع ، ولما حصل الشك في حصولها حالته ، وقع الشك في حصول الشرط نفسه ، لا في وجود المانع ، ومعلوم أن الشرط لا يكفى فيه عدم العلم بانتفائه ، بل لا بد من العلم بحصوله ، ليترتب عليه المشروط ، ولو بطريق الاستصحاب ، كالصلاة مع تيقن الطهارة سابقا ، والشك في بقائها الآن ، والأمر هنا كذلك ، فإن الرهن المانع من صحة البيع واقع يقينا ، ويستصحب الآن ، والشرط المقتضي لصحة البيع غير معلوم الوقوع في زمان البيع ، لا باليقين ولا بالاستصحاب ، فيرجح جانب الوثيقة كما ذكروه ».

لكن فيه أولا : أنه لا ريب في كون الشرط هنا بعد تحقق الإذن عدم الرجوع بها الذي هو لازم بقائها ، ويكفى ما ذكروه من أصالة العدم والاستصحاب في إثباته ، إلا أنه لو كان النزاع في الرجوع وعدمه ، لا فيما إذا كان النزاع في أنه قبل البيع أو بعده كما هو الفرض ، ضرورة معارضة أصالة عدم كونه قبله حينئذ ، بأصالة عدم كون البيع قبله ، كما أن استصحاب بقاء الإذن لا يمكنه أن يفيد المقارنة للبيع حينئذ ، لاحتمال تخلل الرجوع الذي قد عرفت معارضة أصالة عدمه ، لأصالة عدم تخلل البيع بين الاذن والرجوع ، فاستصحاب بقاء الإذن حينئذ الذي لازمه عدم الرجوع ، كاستصحاب بقاء المال الذي لازمه عدم البيع كما هو واضح ، فكان الذي ينبغي توجيه الرد بذلك ، لا بأن الشك في الشرط لا المانع ، فتأمل جيدا.

وثانيا : أنه لا ريب في الحكم بحصول الشرائط بعد وقوع الفعل ، وإن كان‌

٢٦٦

الأصل يقتضي عدمها ، كما لو شك في الطهارة أو الاستقبال أو التستر أو نحو ذلك بعد الصلاة ، خصوصا إذا كان أصلها ثابتا كما لو تيقن الحدث بعد الفراغ من الصلاة ، ولكن لا يعلم سبقه عليها أو بالعكس ، فقوله إن الشرائط لا بد من إحرازها بيقين أو باستصحاب ، إن أراد به قبل التلبس بالفعل ، فهو مسلم ، ولكنه غير ما نحن فيه ، وإن أراد بعده ، فهو واضح المنع ، ضرورة اقتضاء أصالة صحة فعل المسلم ما ذكرنا ، بل الظاهر اقتضاؤها وإن كان الشرط من فعل الغير ، كما لو صلى في لباس غيره أو مكان كذلك ، ثم شك في أنه هل كان مأذونا أولا؟ فإنه يحكم بصحة فعله ، ولا يكلف بالإعادة ، وكذا لو شك بعد البيع هل كان مأذونا أولا؟.

نعم أصل صحة الفعل لا يسقط بها حق غير الفاعل إذا أنكر ، فللمالك الأجرة في المثال ، ويحكم بعود المال لو كان موجودا لو باعه ، لأن أصالة صحة فعله لا تقتضي سقوط حق غير الفاعل ، أما في مثل الفرض الذي قد تحقق فيه أصل الإذن ، فقد يتجه دعوى جريان أصالة صحة البيع التي يكفي فيها احتمال عدم الرجوع قبله ، ففي الحقيقة سقوط حقه بإذنه ، لا بأصالة الصحة ، إلا أنه يعارض ذلك أصالة الصحة في رجوعه ، ضرورة كونه فعلا من أفعال المسلم الذي ينبغي حملها على الصحة التي هي هنا الحكم بكونه قبل البيع ، حتى يؤثر فسادا ، فصحيحة ذلك ، وفاسده الواقع بعد البيع ، لعدم تأثيره ، إذ ليس الفساد والصحة إلا ترتب الأثر وعدمه ، ودعوى ـ تساقطهما والرجوع إلى الأمر بالوفاء بالعقود الذي هو غير أصل الصحة ضرورة شموله لما لم يحكم بصحته وفساده ، بعد الإغضاء عما فيها ـ يدفعه أنه شامل ، لعقد الرهن أيضا ، فيكون مخاطبا بالوفاء به.

نعم لو كان النزاع في أصل الرجوع وعدمه اتجه الحكم بصحة البيع ، ونفى الرجوع بالأصل ، واستصحاب بقاء الاذن ، ودعوى أن الفرض من ذلك ـ إذ قول الراهن رجعت بعد البيع كلام أجنبي ، لا مدخلية له في الدعوى ، وإنما العمدة قوله لم ترجع قبل البيع ، فهو منكر والمرتهن مدع ـ يدفعها أنها ليست بأولى من العكس ،

٢٦٧

إذ قول المرتهن بعت بعد الرجوع كلام أجنبي لا مدخلية له في الدعوى ، وإنما العمدة قوله لم تبع قبل الرجوع : فهو منكر ، والراهن مدعي.

ولا يرد أن مقتضي ذلك تحالفهما معا ، وفسخ البيع ، لان ذلك كذلك لو لم يكن لأحدهما أصل آخر يرجع اليه ، أما إذا كان وهو استصحاب الرهانة ، فالمنكر هو ، لموافقته للأصل ، والمدعي الراهن ، فيكون عليه البينة ، وعلى الأول اليمين.

وقد ظهر من ذلك كله أنه لا وجه لما قيل أو يقال من أن المتجه العمل بالأصلين ، أى أصلي بقاء الرهانة وصحة البيع ، فيحكم بكونه مبيعا وهو رهن ، إذ قد عرفت أنه لا أصل سالم فيقتضي الصحة ، على أن العمل بالأصلين في الموضع الواحد غير متجه في المقام ، ضرورة اقتضائهما حينئذ حكما فيه معلوما من الشرع خلافه ، وهو رهانة ملك الغير بغير إذنه ، وبقاء الرهانة مع صحة البيع المنافية لها ، المقتضية سقوطها وبالجملة هو واضح الفساد ـ

فبان أن كلام الأصحاب في محله ، بل هو كذلك ، لو شك المرتهن في نفسه أن رجوعه كان قبل البيع أو بعده ، بعد أن علمهما معا ، وكذا لو شك الراهن كذلك ، فإن الأصل بقاء الرهانة في الجميع ، فتأمل جيدا هذا.

وفي التذكرة عن بعض الشافعية « التفصيل بين ما لو قال الراهن أولا تصرفت بإذنك؟ ثم قال المرتهن : كنت قد رجعت قبله ، فالقول قول الراهن بيمينه ، وبين ما لو قال المرتهن أولا : رجعت عما أذنت ، فقال الراهن : كنت تصرفت قبل رجوعك ، فالقول قول المرتهن بيمينه ، لأن الراهن حينما أخبر لم يكن قادرا على الإنشاء.

وفي جامع المقاصد يقرب من ذلك ، ما لو تصادقا على صدور البيع ، ثم اختلفا في حال الرجوع أو تصادقا على صدور الرجوع ، ثم اختلفا في حال البيع ، أخذنا بالإقرار السابق.

قلت : لعل مبنى كلام بعض الشافعية ـ كما يومي إليه التعليل ـ على إنكار الراهن الرجوع قبل البيع المتفق عليه بينهما ف الأول ، من غير اعتراف بالرجوع بعده ، وعلى إنكار المرتهن البيع قبل الرجوع المتفق عليه بينهما في الثاني ، وهو‌

٢٦٨

كذلك ، إلا أنه غير مفروض الأصحاب فلا يكون تفصيلا فيه.

أما ما في جامع المقاصد فيصعب الفرق بينه وبين مفروض الأصحاب ، والإقرار بعد أن كان الفعل من غير المقر قد يمنع الأخذ به ، فتأمل جيدا.

نعم بقي شي‌ء أشار إليه الشهيد في الدروس والحواشي وتبعه عليه غيره ، وهو أن كلام الأصحاب يتم فيما إذا أطلق الدعويان ولم يعينا وقتا للبيع أو الرجوع ، وأما إذا عينا وقتا واختلفا في الآخر فلا يتم ، لأنهما إذا اتفقا على وقوع البيع يوم الجمعة مثلا ، واختلفا في تقديم الرجوع عليه وعدمه ، فالأصل التأخر ، وعدم التقدم ، فيكون القول قول الراهن ، وينعكس الحكم لو اتفقا على عدم وقت الرجوع ، واختلفا في تقدم البيع عليه وعدمه ، وهذه مسألة تأخر مجهول التاريخ عن معلومه ، وقد حققنا الكلام فيها في مقام آخر.

ولعل إطلاق الأصحاب هنا وفي مسألة الجمعتين ومسألة من اشتبه موتهم في التقدم والتأخر ، ومسألة تيقن الطهارة والحدث وغيرها شاهد على أن أصالة التأخر إنما تقتضي بالتأخر على الإطلاق ، لا بالتأخر عن الأخر ومسبوقيته به ، إذ وصف السبق حادث ، والأصل عدمه ، فيرجع ذلك إلى الأصول المثبتة : وهي منفية ، فأصالة الرهن هنا حينئذ بحالها ، إلا أن الإنصاف عدم خلو ذلك عن البحث والنظر ، خصوصا في المقام فتأمل جيدا والله أعلم.

ولو كان التصرف المأذون فيه الذي اختلف في الرجوع به قبل وقوعه أو بعده انتفاعا كسكنى وركوب ، ونحوهما ، بناء على أن الواقع منهما بغير اذن يوجب أجرة تكون رهنا ، فقد يقال : ان القول قول الراهن ، لتعارض الأصلين فيبقى أصل براءة الذمة سالما هنا عن المعارض ، اللهم إلا أن يقال إن الأصل في منافع الرهن على الضمان ، فيكون واردا على أصل البراءة قاطعا له. ولو تلفت العين ، فوقع النزاع بينهما أن إتلافها كان قبل الرجوع أو بعده ، فقد يقال : أيضا بتقديم قول الراهن ، لأصالة البراءة أيضا من القيمة ، إذ استصحاب الرهانة بعد انعدام الموضوع غير معقول ، لكن قد يقوى خلافه ، لان التلف لا ينافي جريان الاستصحاب إلى حال التلف ، فيكون رهنا‌

٢٦٩

تالفا فتأمل جيدا. والله أعلم.

المسألة السابعة الظاهر أنه ليس للمرتهن إلزام الراهن بالوفاء ، بعين الرهن ، وإن كان مجانسا للحق ، للأصل وغيره ، نعم له إلزام المرتهن بالقبول مع التجانس ، وليس له طلب البيع ، ولو كان مخالفا للحق واتفقا على دفعه عنه أو بيعه بالموافق أو المخالف ، كان لهما ذلك قطعا ، لأن الحق لهما ، وكذا في الرهن الموافق للحق.

وإذا اتفقا على البيع ، واختلفا فيما يباع به الرهن فأراد أحدهما بيعه بالنقد الغالب ، وآخر بغيره بيع بالنقد الغالب في البلد بإذن الحاكم ، من غير فرق في طالب الغالب بين كونه الراهن أو المرتهن ، لأن لكل منهما حقا في العين ، وحينئذ فلا بد من استيذانه ليجبر الممتنع أو يأذن بالبيع عليه ، نعم لو كان المرتهن مثلا وكيلا لازما وأراد بيعه بالغالب لم يتوقف على إذن الحاكم ، ولم يلتفت إلى معارضة الراهن المخالفة للشرع ، لانصراف الإطلاق إلى الغالب شرعا وعرفا.

وكذا لو طلب كل واحد منهما نقدا غير النقد الغالب وتعاسرا ردهما الحاكم إلى الغالب ، لأنه الذي يقتضيه الإطلاق بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بيننا.

لكن قد يناقش أولا : بأن المتجه إجابة المالك لو كان طالبا للبيع بمساوئ الحق ، وإن لم يكن الغالب ، لأن المراد منه وفاء عين الحق ، وليس للمرتهن غرض بالبيع بالنقد الغالب أو غير مساوي الحق ، حتى يصلح لأن يكون معارضا لذلك ، ولا إطلاق في الأدلة بحيث يعارض ذلك ، بل ربما ظهر من قوله عليه‌السلام ـ في خبر خوف جحود الورثة (١) المتقدم سابقا « فليأخذ ماله مما في يده » ـ أن الرهن يباع بمساوئ الحق ، فيجاب إليه حينئذ من أراده منهما ، وإن كان المرتهن.

وربما يؤيده أنه المنساق من الاستيثاق ، بل يؤيده أنه لو لم يكن له ذلك ، لأدى

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب أحكام الرهن الحديث ـ ١.

٢٧٠

إلى الضرر على المرتهن بالنقد ، ثم النقل ، لعدم دليل يقتضي إلزام الراهن شراء الحق بثمن الرهن في المرتبة الأولى ، اللهم إلا أن يجعل ذلك هو الغاية ، فيقال للراهن التغليب ما لم يستلزم الضرر على المرتهن بالتعطيل ، أو يقال ليس للراهن إلا البيع بالنقد الغالب أولا ، ثم ليس له إلا شراء عين الحق بالثمن إذا لم يرض المرتهن فتأمل جيدا.

أو يقال أن مبنى كلام الأصحاب على وجوب قبول المرتهن الثمن الغالب عوضا عن حقه وافقه أو خالفه ، لأن مبنى الرهانة على ذلك ، إلا أنه كما ترى فيه هدم لقاعدة استحقاق المستحق عين ماله من غير دليل ، إذ ليس في الأدلة إلا بيعه وهو أعم من ذلك إذ يمكن إرادة أنه يباع ويشترى بثمنه عين الحق ، ودعوى ـ أن الرضا بالارتهان مقتض للرضا بأخذ الثمن ، عوضا عن حقه وإن خالفه ـ واضحة المنع ، كدعوى أن ذلك حكم شرعي لا مدخلية فيه لرضاهما ، فتأمل جيدا.

وثانيا : أنه لا معنى لرد الحاكم لهما إلى الغالب بعد ان اتفقا على عدمه ، والحق منحصر فيهما ، وقطع نزاعهما يكون بترجيح أحدهما على الآخر بمساواة الحق ونحوها ، فإن لم يكن فالقرعة ، أو اختيار الحاكم.

هذا ولكن ليس في كلام من تعرض للمسألة من الأصحاب شي‌ء من ذلك ، قال في القواعد : في فروع وضع الرهن على يد العدل : « ولو عينا ثمنا لم يجز له التعدي فإن اختلفا لم يلتفت إليهما إذ للراهن ملكية الثمن ، وللمرتهن حق الوثيقة ، فيبيعه بأمر الحاكم بنقد البلد ، وافق الحق أو قول أحدهما أولا ، وإن تعدد فبالأغلب فإن تساويا فبمساوي الحق ، فإن باينهما عين له الحاكم »

وقال في التذكرة في فروع العدل أيضا « لو اختلف المتراهنان فقال أحدهما : بع بدنانير ، وقال الآخر : بع بدراهم ، لم يبع بواحد منهما ، لاختلافهما في الاذن ، ولكل منهما حق في بيعه ، فللمرتهن حق الوثيقة في الثمن ، واستيفاء حقه منه وللبائع ملك الثمن ، فإذا اختلفا رفعا ذلك إلى الحاكم ، فيأذن له أن يبيعه بنقد البلد ، سواء‌

٢٧١

كان من جنس حق المرتهن أو لم يكن ، وسواء وافق ذلك قول أحدهما أو خالفه ، لأن الحظ في البيع يكون بنقد البلد ، ولو كان النقدان جميعا نقد البلد ، باعه بأعلاهما ، وان كانا متساويين في ذلك باع بأوفرهما حظا ، فإن استويا في ذلك ، باع بما هو من جنس الحق منهما ، فإن كان الحق من غير جنسهما باع بما هو أسهل صرفا إلى جنس الحق وأقرب إليه ، فإن استويا في ذلك ، عين له الحاكم أحدهما فباع به ، وصرف نقد البلد اليه ».

وقال في الدروس : « ولو اختلفا فيما يباع به ، بيع بنقد البلد ، بثمن المثل حالا ، سواء كان موافقا للدين أو اختيار أحدهما ، أم لا ، ولو كان فيه نقدان بيع بأغلبهما ، فإن تساويا فبمناسب الحق فإن بايناه عين الحاكم إن امتنعا من التعيين ، ولو كان أحد المتباينين أسهل صرفا إلى الحق تعين » الى غير ذلك من عباراتهم التي لا تعرض فيها لشي‌ء مما ذكرنا ، كما لا تعرض فيها لبيان البلد الذي يعتبر البيع ، بنقده الغالب ، هل هو بلد البيع ، أو بلد الرهانة ، أو بلد المرتهن ، أو بلد الراهن ، إذ لا اشكال مع اتحاد الجميع ، أما مع الاختلاف ففيه إشكال ، وان كان ترجيح بلد البيع لا يخلو من وجه ، ولعل إرجاع الأمر إلى الحاكم مع التنازع في هذا الحال فيقطعه بنظره أولى.

وعلى كل حال ف لو كان للبلد نقدان غالبان متساويان إذ لو كانا متفاوتين بيع بالأغلب ، بل قد يندرج في السابق أما مع التساوي ففي المتن بيع بأشبههما بالحق والظاهر إرادة الموافقة من المشابهة ، ويمكن إرادة الأعم من ذلك ، ترجيحا لجانب المرتهن الذي كانت الحكمة في مشروعية الارتهان له استيفاء حقه من الرهن ، ولا ريب في أولوية استيفائه أولا على غيره.

لكن قد سمعت ما في التذكرة أنه مع التساوي يباع بأوفرهما حظا ، وكأنه رجح مصلحة المالك ، أما مع المباينة فظاهر المتن وصريح القواعد البيع بما عين الحاكم ، إلا أنه قد تقدم ما في الدروس أن البيع بالأسهل صرفا إلى الحق ، وفي‌

٢٧٢

المحكي عن التحرير بيع بأقربهما حظا ، وفي المسالك هو أقعد من الجميع ، فإنه ربما كان عسر الصرف إلى الحق أصلح للمالك. قلت : والكلام في اعتبار مراعاة مصلحة المالك. فتأمل جيدا والله أعلم.

المسألة الثامنة : إذا ادعى المرتهن رهانة شي‌ء مخصوص فأنكر الراهن ، وذكر أن الرهن غيره ، وليس هناك بينة ، بطلت رهانة ما ينكره المرتهن بلا خلاف أجده فيه ، لكونه جائزا من قبله ، فيكفي في فسخه إنكاره ، الظاهر في عدم الرضا بكونه رهنا الآن ، ولكنه لا يخلو من تأمل ، خصوصا بعد ما تسمعه عن الإرشاد إن لم يكن إجماعا ، كما يظهر من تتبع كلماتهم في نظائر المقام ، كإنكار الطلاق الرجعي وغيره مما صرحوا بكونه فسخا من المنكر فلاحظ وتأمل.

وإذا بطلت رهانة ما أنكره المرتهن حلف الراهن على نفى رهانة الآخر الذي ادعاه المرتهن ، لانه منكر بلا إشكال ، كما لو قال : رهنت العبد فقال المرتهن : بل هو والجارية وحينئذ فإذا حلف الراهن في الفرض خرجا معا عن الرهن في ظاهر الشرع ، لكن عن الإرشاد أنهما يتحالفان ، ولعله لعدم البطلان بالإنكار الذي هو أعم من الفسخ ، وفيه مضافا إلى ما عرفت من ظهور الاتفاق على كونه فسخا ، أن له طريقا إلى التخلص عن اليمين بالفسخ على تقدير الرهانة ، لأنه جائز من قبله ، فتكليفه باليمين التي مرجعها إلى الفسخ الذي يمكن وقوعه منه بدونها لا وجه له ، فلا ريب في أن الأقوى ما ذكره الأصحاب الذين هو من جملتهم في القواعد ، والمحكي عن التذكرة.

نعم قد يتجه التحالف لو كان ما اختلفا في رهنه شرطا في بيعه ، كما اختاره الشهيدان ، ومال إليه ثاني المحققين ، لرجوعه حينئذ إلى الاختلاف في الثمن ، إذ الشرط من مكملاته ، فيتحالفان حينئذ على كيفية الشرط ويتسلط البائع مثلا حينئذ على فسخ العقد ، لعدم سلامة الشرط الذي اتفقا عليه في الجملة له ، لكن في القواعد أن الأقوى تقديم قول الراهن أيضا ، وهو لا يخلو من وجه لأصالة اللزوم وعدم ثبوت عدم الوفاء بالشرط ، بحيث يتسلط به على الفسخ ، إذ لعله‌

٢٧٣

ما أنكر رهانته فيكون هو المفوت لشرطه ، فلا يفسخ بمجرد الاحتمال فإذا لم يكن له الفسخ لم يتوجه عليه اليمين ويختص اليمين بالراهن ، وهو قوي جدا ، ولا غرابة في بقاء العقد بلا شرط ، وإن اتفقا معا عليه ، بعد الجريان على الضوابط ، كما أومى إليه فخر المحققين في المحكي عنه ، فلاحظ وتأمل. والله أعلم.

المسألة التاسعة : لو كان له دينان أحدهما برهن والآخر بلا رهن مثلا فدفع الراهن اليه مالا واختلفا في أنه عن ذي الرهن ، أو عن فاقده فالقول قول الدافع بلا خلاف ولا إشكال لأنه أبصر بنيته التي لا تعلم إلا من قبله ، بل ربما قيل : بأن القول قوله بلا يمين ، لذلك ، لكن يمكن أن يكون قد علم المرتهن منه ذلك ، ولو بقرائن فيحتاج إلى اليمين حينئذ في النفي ، خصوصا بعد مشروعيتها لنفي التهمة ، أما لو ادعى المرتهن عليه الإقرار ، فلا إشكال في توجه اليمين ، والأمر في ذلك سهل.

إنما الكلام فيما إذا اعترف الدافع بأنه لم ينو أحدهما حال الدفع ، فقد يحتمل التوزيع ، وبقاء التخيير ، فله أن يصرفه الآن إلى ما شاء ، بل جزم في جامع المقاصد بالأول ، لصحة القبض والدفع ، وليس أحدهما أولى من الأخر ، ولانه قد ملكه ملكا تاما. فإما عن الدينين ، أو عن أحدهما بعينه ، أولا عن أحدهما ، أو عن أحدهما لا بعينه ، والكل باطل إلا الأول ، لاستحالة الترجيح بلا مرجح ، وملك المقضي به مع عدم زوال المقضي عن الذمة ، ولأنه إن لم يزل عن ذمته شي‌ء منهما لزم المحال ، وإلا كان هو المقضي عنه.

لكن فيه أن الفعل المشترك لا ينصرف من دون تعيين ، فالتوزيع محتاج إلى مرجح أيضا ، وعدم اعتبار ذلك في قضاء الدين إنما يسلم مع عدم اختلاف جهة الدين لعدم ما يترتب حينئذ على النية ، أما مع الاختلاف ولو بتعدد الغريم فلا. لأصالة بقاء المال على ملك الدافع ، وبقاء شغل الذمة ، وحينئذ فإن كان مبنى الاحتمال الثاني ذلك ، كان له وجه ، وإلا فهو مشكل.

٢٧٤

اللهم إلا أن يدعى أنه وإن ملكه القابض ، لكن إذا تعقب بالتعيين بعد ذلك ينكشف الملك على هذا الوجه من حين الدفع وبه حينئذ يرجح على التوزيع وغيره أو يقال إنه بالدفع يملك على الغريم ما قابله مما في ذمته على وجه التخيير له في التعيين.

وقد يحتمل القرعة أيضا ، كما احتملت فيما إذا كان له زوجتان أو زوجات ، فقال :زوجتي طالق ، ولم ينو واحدة منهما ، فإن المحكي عن الشيخ والفاضلين والشهيد احتمالها ، واحتمال التعيين بعد ذلك ، فيقع الطلاق حينئذ من حينه ، أو حين اللفظ ، قيل : وكذا لو أسلم على أكثر من أربع ، أو دفع الزكاة وكان له مالان غائب وحاضر. أو سمى ولم ينو سورة معينة ، أو كان له خيار حيوان ، وشرط وأسقط من خياره يومين ، لكن فيه ـ بعد الفرق بين بعض الأمثلة أو جميعها ، وبين المقام ـ أنه قد يلتزم القائل بالتوزيع مثله في القابل منها ، لعدم الإشكال حينئذ معه ، وغير القابل يفزع إلى القرعة ، أو غيرها.

وعلى كل حال فمما ذكرنا يعرف الحال في نظائر المسألة. كما لو تبايع كافران درهما بدرهمين ، ودفع مشترى الدرهم درهما ، ثم أسلما فإنه إن قصد به الفضل ، بقي عليه الأصل وإن قصد الأصل فلا شي‌ء عليه ، وإن قصدهما ووزع وسقط ما بقي من الفضل وإن لم يقصد فالتوزيع. أو التعيين الآن ، أو والبطلان كما ذكرنا ، وقد يحتمل هنا الاحتساب من الأصل ، لأنه الدين حقيقة وغيره حكما ما داما على الشرط. فتأمل وكما لو كان لزيد عليه ماءة ولعمر ومثلها ، ووكلا من يقبض لهما ، ودفع المديون لزيد أو لعمرو أو لهما فذاك ، وإلا فالوجوه والبطلان هنا أقوى منه فيما تقدم ، ولو اقتص الغريم حيث يجوز له ذلك ، احتمل كون المدار على نيته ، لكن ينبغي مراعاة المصلحة والتوزيع ، ولو دفع الحاكم عن المماطل كان الاعتبار بنيته ، لأنه الولي.

نعم لو نوى المماطل بعد القهر بما دفعه الحاكم أمكن اعتبار نيته ، كما لو قهره الحاكم على الدفع فنوى ، وقد يحتمل اعتبار نية القابض ، ولو لم ينو أحد منهم‌

٢٧٥

احتمل التوزيع ، والتعيين ، والبطلان ، وفي القواعد « ولو أخذ من المماطل قهرا فالاعتبار بنيته ، ويحتمل القابض » ولو فقدت فالوجهان أي التوزيع والتعيين بعد ذلك والله أعلم.

وان اختلفا في رد الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه إذا لم يكن له اى المرتهن بينة بلا خلاف أجده فيه لانه منكر ، باعتبار موافقته لأصالة عدم الرد ، وكون المرتهن أمينا أعم من تصديقه في ذلك ، والقياس على الودعي ـ مع أنه باطل عندنا ـ قد يفرق بينهما ، بالقبض لمصلحة المالك ، فيكون محسنا لا سبيل عليه ، وعدمه ، وكذا المستعير والمقارض والوكيل بجعل وغيرها والله أعلم.

٢٧٦

كتاب المفلس

المفلس بالكسر لغة هو الفقير الذي ذهب خيار ماله وبقي فلوسه ونحوه ما في القواعد من أنه من ذهب جيد ماله ، وبقي رديه ، فصار ماله فلوسا وزيوفا ، ولعل العرف الآن على كون المفلس بالكسر أعم من الذاهب خيار ماله ، بل هو شامل لمن لم يكن له مال من أول أمره إلا الفلوس. نعم قد يقال إن المفلس بالفتح عرفا ذلك ، على أنه لا يخلو من بحث ، وعن المبسوط أن المفلس لغة هو الفقير المعسر وهو مشتق من الفلوس ، وكان معناه نفى خيار ماله وجيده ، وبقي معه الفلوس ، وعن التحرير أنه مأخوذ من الفلوس التي هي آخر مال الرجل.

وعن التذكرة الإفلاس مأخوذ من الفلوس ، وقولهم أفلس الرجل كقولهم أخبث أي صار أصحابه خبثاء ، لأن ماله صار فلوسا وزيوفا ، ولم يبق له مال خطير ، وكقولهم أذل الرجل : أى صار إلى حالة يذل فيها ، وكذا أفلس أي صار إلى حالة يقال فيها ليس معه فلس ، أو يقال لم يبق معه إلا الفلوس ، أو كقولهم أسهل الرجل وأحزن ، إذا وصل إلى السهل والحزن ، لأنه انتهى أمره إلى الفلوس.

والأصل أن المفلس في عرف اللغة هو الذي لا مال له ، ولا ما يدفع به حاجته ، ولهذا لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « أتدرون ما المفلس؟ قالوا : يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : ليس ذلك المفلس ، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة حسناته أمثال الجبال ، ويأتي وقد ظلم هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٤ كتاب البر والصلة الحديث ٥٩ طبع دار احياء التراث العربي بيروت ، مسند احمد بن حنبل ج ٢ ص ٣٠٣ طبع دار صادر بيروت.

٢٧٧

حسناته وهذا من حسناته ، فإن بقي عليه شي‌ء أخذ من سيئاتهم ، فيرد عليه ، ثم صار إلى النار ».

وعن القاموس : أفلس إذا لم يبق معه مال ، فكأنما صارت دراهمه فلوسا ، أو صار بحيث يقال : ليس معه فلس ، وفلسه القاضي تفليسا ، حكم بإفلاسه ، قلت : لا ريب في أن أفلس بالمعنى الذي ذكروه ، فيكون لازما ، واسم الفاعل منها مفلس بالكسر ، ولا يكون منها اسم مفعول. نعم فلس بالتشديد اسم مفعولها مفلس ، والظاهر أن ما ذكره في القاموس أخيرا من جملة خبطه في المعاني ، إذ الظاهر أنه أراد بذلك المعنى الشرعي ، وعلى كل حال ففي العرف ـ الكاشف عن اللغة للأصل ـ أن المفلس بالكسر الفقير الذي لا مال له يعتد به عنده ، والمفلس الذي ذهب جيد ماله وبقي معه الفلوس وربما أطلق على الأول عرفا.

أما المفلس بالفتح شرعا ، ولو على جهة المجاز أو الحقيقة المتشرعة أو الشرعية بناء على ثبوتها في مثله ، ففي المتن هو الذي جعل مفلسا ، أي منع من التصرف في أمواله وفي القواعد من عليه ديون ، ولا مال له يفي بها ، وهو شامل لمن قصر ماله ومن لا مال له ، بناء على عدم استدعاء السالبة وجود الموضوع ، وفي المسالك نسبة هذا التعريف إلى أكثر الفقهاء منا ومن العامة ، عليه يكون المفلس ذلك ، وإن لم يحجر عليه.

ويشهد له قولهم ، لو مات المفلس قبل الحجر عليه لم تترتب الاحكام ، وشرط الحجر على المفلس التماس الغرماء ، وغير ذلك مما قيل إنه صار بسببها حقيقة ، لكثرة الاستعمال ، بحيث يبعد حمله على ارادة المجاز ، وحينئذ يكون الفلس سابقا على الحجر ومغاير إله ، وهو أحد أسبابه كما ذكروه ، لا عينه ولا جزء مفهومه.

نعم قد يطلق التفليس على حجر الحاكم على المفلس ، كما يقال : فلسه القاضي لكنه من باب إطلاق اسم السبب على المسبب ، وحينئذ فلا مانع من اجتماع الفلس والصغر ، كما إذا استدان الولي للصبي إلى هذه المرتبة ، وكذا السفيه ، ولا يمنع من ذلك عدم حجر الحاكم على الصبي المفلس ، لأنه ليس بشرط في تحقق مفهومه شرعا ،

٢٧٨

وعليه فبين المعنى اللغوي والشرعي عموم من وجه ، يجتمعان فيمن عليه الديون ولا مال له ، وينفرد اللغوي بمن ذهب ماله ، وليس عليه دين ، الشرعي بمن له مال كثير ولكن عليه دين يزيد على ماله ، وبه جزم في المسالك ، قال : « وعلى ما يظهر من تعريف المصنف يكونان متباينين ».

قلت : فيه أولا : أنه على تعريف المصنف بينهما العموم من وجه ، ضرورة ملاحظته بالنسبة إلى المصداق ، فالمحجور عليه تارة يكون عليه الديون ، ولا مال له ، أوله مال فلوس فيجتمعان فيه ، وينفردان بما ذكره هو أيضا ، وثانيا أن الحق كون المفلس شرعا من حجر عليه لقصور ماله عن ديونه ، أو لعدم ما في يده ، فيكون التحجير عليه بالنسبة إلى المتجدد ، كما صرح به الفاضل وإن كان لنا فيه بحث ، تسمعه إنشاء الله تعالى ، فقبل الحجر لا يسمى المديون مفلسا شرعا ، وان استغرقت ديونه أمواله ، وزادت عليها ، كما يشهد لذلك التأمل لكلماتهم ، والمناسبة لمعنى اسم المفعول في المفلس ، إذ منع الحاكم له من التصرف يكون كأخذ فلوسه منه ، وبه صرح المحقق الثاني ، والأمر سهل والله أعلم.

وكيف كان ف لا يتحقق الحجر عليه إلا بشروط أربعة وفي القواعد والتذكرة خمسة ، بزيادة المديونية التي ترجع إلى الأول وهو أن تكون ديونه ثابتة عند الحاكم الذي أراد التحجير عليه ، أو غيره ضرورة أصالة بقاء سلطنته مع عدم الثبوت ، بل هو ليس مفلسا شرعا كما عرفت.

الثاني : أن تكون أمواله من عروض ومنافع وديون غير المستثنيات في الدين قاصرة عن ديونه فإن لم تكن قاصرة فلا حجر عليه إجماعا محكيا في جامع المقاصد والمسالك وظاهر التذكرة ، بل طالبه أرباب الدين ، فإن قضى وإلا رفعوا أمرهم إلى الحاكم ، فيحبسه إلى أن يقضي ، أو يبيع عليه ويقضى عنه ، لأنه ولي الممتنع ، ولا يمنع في هذا الحال عن التصرف في أمواله ، فلو تصرف فيها بحيث أخرجها عن ملكه ، قبل وفاء الحاكم بها نفذ تصرفه ، وانتقل حكمه إلى من لم يكن عنده مال لديونه ، للإجمال في التذكرة على اشتراط منع التصرف بالحجر ، كما هو مقتضى الأصل.

٢٧٩

ويحتسب من جملة أمواله معوضات الديون لأنها من أملاكه سيما فيما لا يكون لأهلها الرجوع فيها ، كما أنه يحتسب أعواضها من ديونه ، بلا خلاف أجده بيننا.

نعم عن بعض العامة أنها لا تقوم عليه ، لأن لأربابها الرجوع فيها ، فلا تحتسب من ماله ولا عوضها عليه من دينه ، وفيه ـ مضافا الى ما عرفت من أنه قد لا يكون لأربابها الرجوع ، وثبوته بالفلس إنما يكون بعد التحجير لا قبله ، على الأصح ، كما ستعرف ـ أنه لا يمنع ذلك من احتسابها من أمواله ، بعد أن كانت من أملاكه ، فمع عدم القصور بها تبقى حينئذ سلطنته على ماله ، بل الظاهر بقاؤها إذا كانت له أموال مؤجلة بها يرتفع القصور ، أو أموال غايبة ، بل لو كانت على معسرين أمكن القول ببقاء السلطنة للأصل ، لكنه لا يخلو من اشكال ، ونحوهم من لا يتمكن من الاستيفاء منهم ، ولو ظلما وكذا الأموال المغصوبة.

الثالث : أن تكون حالة لعدم الاستحقاق مع التأجيل. فلا يحجر عليه ، وإن لم يف ماله بها لو حلت ، للأصل ، ولو كان بعضها حالا حجر عليه مع القصور ، وسؤال أربابها ، فيقسم ماله حينئذ بينهم ، ولا يذخر للمؤجلة شي‌ء حتى أعواضها ولا يدام الحجر عليه لها ، كما لا يحجر بها ابتداء ، ودعوى حلولها بالتحجير ـ كما عن الشافعي واحمد ومالك ـ واضحة الفساد ، لعدم الدليل القاطع ، للأصل حتى القياس على الميت ، لظهور الفرق بينهما ببقاء الذمة ، وقابلية الإكتساب وغيرهما ، كما هو واضح.

الرابع : أن يلتمس الغرماء أو بعضهم الحجر عليه إذ الحق لهم ، فلا يحجر عليه مع عدم التماس أحدهم ، للأصل ، إلا أن يكون الدين لمن هو وليه ، من يتيم أو مجنون أو نحوهما ، دون الغائب الذي لا ولاية له عليه بالنسبة إلى استيفاء دينه ، بل يعتبر في التحجير عليه بالتماس البعض أن يكون دينه مقدارا يجوز الحجر به عليه للأصل وان عم الحجر حينئذ له ولغيره ، من ذي الدين الحال الذي يستحق المطالبة به ، وبذلك افترق عن المؤجل ، مع أنه لم يثبت التحجير لبعض الدين الحال ، خلافا للتذكرة ، فاستقرب جواز الحجر بالتماس البعض ، وإن لم يكن دين الملتمس زائدا عن ماله ، ولا دليل عليه يقطع الأصل ، والضرر عليه يرتفع عنه بإجبار الحاكم له على الوفاء.

٢٨٠