جواهر الكلام

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وفي الدروس « ليس له إلزامه بالإزالة قبل حلول الدين لعدم تعديه ، فإن احتيج إلى البيع قلعه » فإن بيعا ففي توزيع الثمن ما تقدم في بيع الأمة وولدها ، ولم يفرقوا أيضا في الإزالة بين ما كان فيه ضرر على الراهن وعدمه ، وجميع ذلك محل للنظر. ومن هنا أمكن أن يقال إن الإنبات إذا كان من فعل الله لم يجبر على القلع في الحال ، لإمكان أن يؤدي الدين من محل آخر ، وهذا البقاء له لا منه ، فإذا دعت الحاجة إلى البيع فإن قام ثمن الأرض لو بيعت وحدها بالدين لم يستحق القلع ، بل وكذا لو لم يقم ، إلا أنه لم تنقص قيمة الأرض بما نبت فيها ، ولم يحصل ضرر على الراهن بذلك.

نعم إن نقصت ولم تف بالدين فقد يتجه حينئذ القلع للمرتهن ، إلا إذا أذن الراهن بالبيع مع الأرض والفرض عدم النقص بذلك عليه أيضا ، فيباعان ويوزع الثمن عليهما كما أومى إليه في الدروس ، بل ربما قيل إنه إذا كان محجورا عليه بالفلس تعين البيع مع الأرض ولم يجز القلع ، لتعلق حق الغرماء ، ويوزع الثمن عليهم ، فإن نقصت قيمة الأرض بسبب الأشجار حسب النقصان على الغرماء ، لأن حق المرتهن في الأرض فارغة ، وإنما منع من القلع رعاية لجانبهم ، بل ينقدح من ذلك الإشكال في القلع في بعض الأحوال ، وإن كان الإنبات من فعل الراهن كما إذا لم يكن ضرر على المرتهن بوجه من الوجوه ، وخصوصا إذا أراد القلع قبل حلول الحق ، إذ دعوى أنه ظالم ولا حق لعرقه في نحو ذلك لا يخلو من إشكال وعن التذكرة أنه أطلق عدم الإجبار على القلع قبل حلول الحق ، لإمكان قضاء الدين من الغير ، فمن اللازم التأمل في شقوق المسألة في المقام والله أعلم.

ولو رهن لقطة مما يلقط كالخيار ، فإن كان الحق يحل قبل تجدد الثانية صح بلا خلاف ولا إشكال ، لوجود المقتضي وارتفاع المانع وإن كان متأخرا تأخرا يلزم منه اختلاط الرهن بحيث لا يتميز قيل كما عن المبسوط وموضع من التذكرة يبطل لتعذر الاستيفاء بسبب عدم التميز ، ولعدم صحة البيع عند الأجل للجهل.

٢٤١

والوجه أنه لا يبطل وفاقا للفاضل في غيرها ، وولده والشهيدين ، والمحقق الثاني ، وغيرهم على ما حكي عن بعضهم ، لإمكان الاستيفاء مع المضايقة من الراهن بالقسمة معه ، ولو بالصلح قهرا.

ومنه يعلم اندفاع الثاني ، على أنك قد عرفت سابقا عدم اعتبار إمكان خصوص البيع في الرهن ، بل يكفي الصلح ، لأن كلا منهما طريق لاستيفاء الدين ، مضافا إلى اعتبار إحراز الشرائط في الرهن حال الرهانة ، والأمور العارضة لا تقدح بعد فرض وجود طريق للتخلص ، ولو اشترط القطع عند تجدد الثانية فالظاهر الصحة ، كما عن المبسوط التصريح بها. هذا إذا وقع المزج بعد القبض ، أما لو وقع قبله ، فعن الدروس أن الأقرب الفسخ والبطلان ، وهو كذلك ، بناء على اعتبار القبض في الصحة وفرض تعذره ، وكذا البحث في رهن الخرطة مما يخرط والجزة مما يجز والله أعلم.

وإذا جنى العبد المرهون عمدا تعلقت الجناية برقبته بلا خلاف ولا إشكال وكان حق المجني عليه أولى به من حق المرتهن المتعلق بالذمة مع العين ، بخلاف حق الجناية المقدم على حق المالك الذي هو أولى من المرتهن ، بل لم يتوقف استيفاؤه على استيذان المالك في جناية العمد ، بخلاف حق الارتهان فله حينئذ أن يقتص فتبطل الرهانة إن كان في النفس ، وإلا اقتص وبقي الباقي رهنا ، وله أن يسترقه أو يبيعه مع استيعاب الجناية ، وإلا فمقدارها ، بل ليس له إلا أحدهما إذا كانت الجناية العمدية مما توجب أرشا لا قصاصا.

وإن كان قد جنى خطأ فان افتكه المولى أو غيره بقي رهنا لأصالة الرهانة وإن سلمه ولم يتبرع متبرع في فكه حتى المرتهن كان للمجني عليه منه بقدر أرش الجناية ، والباقي رهن ، وإن استوعبت الجناية قيمته ، كان المجني عليه أولى به من المرتهن لما عرفت فيسترقه أو يبيعه ، وتبطل الرهانة ، ولو اتفق حصول راغب فيه فزاد ثمنه عن الجناية كان الباقي منه رهنا.

والظاهر أن له إلزام المجني عليه بالبيع ، مع بذل الزيادة ، لتكون رهنا ولو‌

٢٤٢

كان الواجب دون قيمة العبد ، ولكن تعذر بيع البعض أو انتقصت القيمة به بيع الجميع والفاضل من الثمن عن الجناية يكون رهنا ، كما لو اضطر الى بيع الرهن ، ولا فرق في ذلك كله بين كون الجناية من العبد ابتداء ، أو بأمر السيد ، وإن كان مكرها له عندنا ، لعدم التقية في الدماء ، إلا أنه يحبس المكره حتى يموت.

نعم لو كان العبد غير مميز أو أعجميا يعتقد وجوب طاعة السيد في جميع أوامره ، فعن التذكرة وقصاص المبسوط وغيرهما أن الجاني هو السيد ، وعليه القصاص أو الضمان ، بل في الأول لا يتعلق برقبة العبد شي‌ء ، فيبقى رهنا ، وإن كان السيد معسرا ، خلافا للعجلي وخلاف الشيخ ، فأسقطا القود عن الآمر أيضا ، إذا كان المأمور صغيرا لعدم قتله ، ويأتي إنشاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله.

ولو جنى على مولاه عمدا فان كانت طرفا اقتص منه لعموم الأدلة وأولوية السيد من الأجنبي في ذلك ، لعظم حقه على العبد ، ولا ينافيه عدم القطع بالسرقة ، إذ لعله لأنه مشروط بسرقة ما لا شبهة فيه ، والعبد له شبهة في مال سيده ، وهو غير محرز عنه في العادة وعلى كل حال ف ـ لا يخرج عن الرهانة بذلك للأصل ، ولو كانت الجناية نفسا جاز للوارث قتله وله العفو فيبقى رهنا ، وليس له العفو على مال كالمورث فيبقى رهنا ، أما لو كانت خطأ أو عمدا يوجب مالا لم يكن لمولاه عليه شي‌ء وبقي رهنا لعدم استحقاقه على ماله مالا بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بل ولا إشكال.

ولو كانت الجناية على من يرثه المالك ثبت للمالك مع موت المجني عليه ما ثبت للموروث من القصاص قطعا في نفس أو طرف أو انتزاعه من الرهانة في الخطأ أو العمد إن استوعبت الجناية قيمته ، أو إطلاق ما قابل الجناية إن لم تستوعب ويبقى الباقي رهنا بلا خلاف أجده بين من تعرض له ، وكان الفرق بينه وبين الجناية على المولى ـ مع أن الحق للمولى في الموضعين ـ أن الواجب في الجناية على المولى له ابتداء ، ويمتنع أن يجب له على ماله مال كما تقدم ، أما الجناية على موروثة فالحق فيها ابتداء للمجنى عليه ، وإنما ينتقل الحق إلى الوارث‌

٢٤٣

من الموروث وإن كانت دية ، لأنها محسوبة من تركته ، يوفى منها دينه ، وتنفذ وصاياه وكما لا يمتنع ثبوت مال لمورث المولى على عبده ، لا يمتنع انتقاله عنه إليه ، فيفكه عن الرهن لذلك.

فما عن بعض الشافعية ـ من الحكم بسقوط المال بانتقاله إلى سيده ، ويبقى رهنا قياسا على ما لو كان المال للسيد ابتداء ـ ضعيف ، لما عرفت من أن الانتقال للسيد من الموروث ، لأن الدية تنتقل إلى الميت في آخر جزء من أجزاء حياته ولو في جناية العمد في قول ، وعلى الأصح فيه ينتقل معوضها الذي هو القصاص ، ولذا حسبت مطلقا من تركته ، ففي الحقيقة ملك السيد للعبد بذلك جديد ، غير الملك الأول الذي كان به رهنا ، وقد تقدم سابقا بعض الكلام على هذه المسائل فلاحظ وتأمل.

ولو جنى على عبد مولاه فكالجناية على مولاه في العمد والخطأ ، إذا لم يكن المجني عليه مرهونا عند غير مرتهن الجاني ، والا جاز له العفو على مال في العمد ، وهو رقبة العبد وتعين عليه ذلك في الخطاء وفيما لا قصاص له من العمد ، ولا يقدح في ذلك قاعدة عدم استحقاقه على ماله مالا بعد أن كان المسلم منها غير الفرض الذي للغير تعلق به.

بل قد يقال : إن الاستحقاق فيه في الحقيقة لمرتهن المقتول وان كان هو يقدم عليه لو أراد القصاص ، أما مع عدم ارادته فيستحق على العبد القاتل دية المقتول ـ لتكون رهنا ، وليس إلا نفسه فينتزع وتكون رهنا قهرا ، نحو قيمة الرهن المتلف ، أو يباع بها وتجعل هي رهنا ، وليس ذلك بأعظم من جناية المولى نفسه على المرهون فإنه يضمن قيمته للمرتهن رهنا ، وإن كانت الجناية على ماله.

بل قد يقال بتعين العفو له على مال في الأول أيضا ، وإن قلنا أن جناية العمد توجب القصاص لأحد الأمرين ، إذ الظاهر اختصاص ذلك بالحر دون العبد الذي صرح غير واحد من الأصحاب بأنه إذا قتل الحر (١) عبدا كان الولي مخيرا

__________________

(١) هكذا في النسخ. والظاهر ـ إذا قتل العبد حرا.

٢٤٤

بين القصاص والاسترقاق ، بل قيل : إنه كذلك قولا واحدا ، بل الظاهر إلحاق جناية الأطراف بالنفس ، ومن هنا يظهر لك أنه لا ينبغي بناء جواز العفو له على غير مال ، على القولين المزبورين ، فيصح على الأول ، لأن اختيار المال ضرب من الإكتساب ، ولا يجبر الراهن على ذلك لحق المرتهن ، بل لو عفي مطلقا لم يثبت المال حينئذ ، ولا يصح على الثاني ، لأن عفوه حينئذ كعفو المحجور عليه لفلس لا ينفذ الا فيما لا تعلق فيه للمال ، إذ قد عرفت ان ذلك في الحر.

ثم إن كان الواجب في الجناية أكثر من قيمة القاتل أو مثلها ، فعن الشيخ أنه يباع لأنه ربما رغب فيه راغب ، فيفضل من قيمته شي‌ء يكون رهنا عند مرتهنه. وعن بعض العامة ومحتمل التحرير ، أنه ينقل عينه إلى مرتهن المجني عليه ، لعدم الفائدة في بيعه ، وربما رجح الأول بأن الحق في مالية العبد لا عينه التي لم يجبر الراهن عليها ، وإنما تعلق بها حق مرتهن المقتول بسبب الجناية ، وإن كان الواجب الأقل فبالنسبة ، نقلا أو بيعا على الوجهين أيضا.

قلت : إن اتفق الثلاثة على نقل العين أو البيع فلا بحث ، وقد يحتمل صيرورة الزائد رهنا في الأول لو تجددت زيادة قيمته ، والأقوى خلافه مع بطلان رهانته حال النقل ، إذ لا دليل على عودها في المتجدد ، وإن اتفق الراهن ومرتهن المقتول على أحد الأمرين ، لم يكن لراهن القاتل منعهما منه ، سواء كان بيعا أو نقلا ، إلا إذا وجد الراغب الباذل للزيادة على قيمة المقتول ، فله حينئذ الإلزام بالبيع ، أو إبقاء ما قابلها منه رهنا عنده ، ولو اتفق المرتهنان على أحد الأمرين ، كان للراهن مخالفتهما لأن حق الجناية له.

واحتمال أن لمرتهن القتيل الإلزام بالبيع ـ ، لأن الدية المستحقة نقدا والإلزام بالنقد ، لأن الاستحقاق حينئذ له ، وإلا فالمولى لا يستحق على مملوكه ـ ضعيف لأن استحقاقه تبع لاستحقاق المولى لو كان غير مالك ، فالمتجه حينئذ كون التخيير بيد المولى في البيع أو النقل ، بناء على ثبوت ذلك للمولى غير المالك ، وثبوت حق الرهانة في رقبة الجاني قهرا ـ لعموم ما دل على أن جناية العبد في رقبته ، الشامل‌

٢٤٥

لمثل حق الرهانة ـ ، لا ينافي ضرورة كون ثبوته مراعى بحق المولى المفروض تخيره بين القصاص ، والنقل للعين والبيع ، بل الظاهر أن المراد بالبيع الكناية عن قيمة العبد لا خصوص البيع ، وحينئذ فللمولى دفع القيمة لمرتهن المجني عليه ، وفك الجاني من الرهانة ، بعد عدم اختياره القصاص أو النقل للرهانة ، والأمر في ذلك كله سهل.

انما الكلام فيما هو ظاهر من تعرض لهذا الفرع من الأصحاب من بطلان رهانة القاتل ، مع أنه لا داعي إليه ، إذ يمكن القول باجتماع الرهانتين ، وإن قدم في الاستيفاء مرتهن المقتول ، لمكان حق الجناية ، وتظهر الثمرة فيما لو فك منه وفي غيره ، اللهم إلا أن يقال : إنه لما كان القاعدة عدم استحقاق المولى على عبده مالا ، إلا أنه هنا لمكان تعلق حق الارتهان في المقتول كان للمولى حينئذ حكم الأجنبي الذي له الاسترقاق والبيع ، وإبطال حق المرتهن ، فلما تعذر الاسترقاق حقيقة بالنسبة إليه لأنه تحصيل الحاصل اعطى لازمه ، وهو الانتزاع وإبطال الرهانة ، ولكن للبحث فيه مجال ، والمسألة غير محررة في كلام الأصحاب.

وأما إذا كان المقتول رهنا عند مرتهن القاتل ، فإن كان على حق واحد فالجناية هدر ، وإن تعدد قيل : وكذا إن تعدد وتساويا جنسا وقدرا وتساوت القيمتان ، إلا أن يكون دين المقتول أصح وأثبت من دين القاتل ، كأن يكون مستقرا ودين القاتل عوض شي‌ء يرد بعيب أو صداق قبل الدخول ، فله حينئذ النقل أو البيع على أحد الوجهين السابقين للرهانة عليه ، وكذا إن تعدد الدينان واختلفا بالحلول والتأجيل أو في طول الأجل وقصره.

أما إذا أنفقا فيه فإما أن يتفقا جنسا وقدرا ، أو يختلفا ، فإن اتفقا واختلف العبدان في القيمة ، وكانت قيمة المقتول أكثر ، فالجناية هدر ، لانتفاء الفائدة كما لو تساويا ، وإن كانت قيمة القاتل أكثر منه نقل قدر قيمة القتيل إلى دين القتيل ، وبقي الباقي رهنا بما كان.

وإن اختلف الدينان قدرا لا جنسا ، فإن تساوت قيمة العبدين أو كان القتيل‌

٢٤٦

أكثر قيمة ، فإن كان المرهون بأكثر الدينين القتيل فله التوثق بالقاتل ، لأن التوثق لأكثر الدينين في نفسه فائدة مطلوبة ، بخلاف ما لو كان القتيل مرهونا بأقله فلا فائدة في النقل حينئذ.

وإن كان القتيل أقل قيمة كان مرهونا بأقل الدينين فلا فائدة في النقل ، وإن كان مرهونا بأكثر نقل من القاتل قدر قيمة القتيل إلى الدين الآخر ويبقى الباقي رهنا ، وإن اختلف الدينان في الجنس ، فهو كالاختلاف في القدر أو في الحلول والتأجيل ، هذا حاصل ما ذكروه ، ومرجعه إلى حصول الفائدة للمرتهن في نقل الرهانة ، وعدمها إلا ان ما قدمناه سابقا من البحث آت في المقام ، بل لعله أولى من السابق.

بل قد يشكل أيضا بأنه لا مدخلية للفائدة وعدمها في النقل القهري للرهانة ، باعتبار اقتضاء الجناية ذلك وله ثمرات ، فإنه بناء على ذلك لو اتفق وفاء دين الجاني بإبراء ونحوه لم يقدح في بقائه رهنا على دين المجني عليه ، وإن كان مساويا له في القدر والجنس والحلول مع تساوى قيمتي العبدين ، بخلافه على تقدير عدم انتقل فإنه تمضي الرهانة إلى غير ذلك مما يظهر لك بأدنى تأمل بعد الإحاطة بما ذكرناه من كون الانتقال إلى الرهانة قهريا بسبب الجناية.

ثم إن الكلام في نقل العين أو القيمة يأتي مثله هنا أيضا ، لكن عن التحرير أنه جزم في هذه المواضع بالبيع ، وجعل الثمن رهنا ، ولعله يريد أن له ذلك لا تعيينه بل ربما قطع بكون المراد ذلك ، كما أن ما في القواعد في أصل المسألة يمكن إرادته ما ذكرنا ، وإن أطلق هو ، قال « ولو جنى على عبد مولاه ، فكمولاه ـ أي فكالجناية على مولاه ـ إلا أن يكون رهنا من غير المرتهن ، فله قتله ويبطل حق المرتهنين ، والعفو على مال فيتعلق به حق المرتهن الآخر ، ولو عفى بغير مال فكعفو المحجور عليه ، ولو أوجبت أرشا فللثاني ، ولو اتحد المرتهن وتغاير الدين فله بيعه ، وجعل ثمنه رهنا بالدين الأخر ».

بناء على أن المراد من المغايرة مجرد عدم كون الدين واحدا ، بل وكذا عبارة الدروس في الاكتفاء بمطلق التغاير ، قال : « ولو اختلف الدينان جاز نقل ما قابل‌

٢٤٧

الجناية بدلا من المجني عليه لمرتهنه » بناء على أن المراد بالاختلاف نحو ذلك ، وقد نقلناها سابقا وجملة من فروع المقام عند البحث في رهانة الجاني والأمر سهل والله أعلم.

ولو أتلف الرهن متلف كلا أو بعضا الزم بقيمته ولو الأرش.

وتكون رهنا بلا خلاف أجده فيه ، بل ولا إشكال ، لأن حق الرهانة متعلق بالعين وقد جعل لها الشارع بالتلف بدلا ، فيتعلق به كما هو مقتضى البدلية ، ولأن معنى الرهن الاستيثاق بالعين ، ليستوفي الدين من قيمته ، وإن كان العقد إنما جرى على العين ، فوسوسة بعض الناس في هذا الحكم في غير محلها ، بل الحكم ذلك ولو كان الذي أتلفه المرتهن لعدم دلالة إتلافه على إسقاط حق رهانته ، كما أن عدم ضمان المالك لماله لا يسقط حق المرتهن ، لو كان المتلف المالك كما هو واضح.

لكن لو كان المرتهن وكيلا في الأصل على بيع أو غيره لم يكن وكيلا في القيمة ، لأن العقد لم يتناولها ولم يكن حق الوكالة من الأمور المتعلقة بالعين على حسب الرهانة ، ولعل الاستيداع كذلك ، كما صرح به في المسالك ، فلم يفرق بين الوكالة على البيع أو على الحفظ في البطلان مع التلف ، لكن في التذكرة وغيرها أن للعدل حفظ القيمة ، لأنها بدل الرهن ، وله إمساك الرهن وحفظه ، والقيمة قائمة مقامه ، وليس له البيع لبطلان وكالته فيه ، وفيه ما عرفت من ان الوكالة منوطة بما عينه المالك الذي يختلف أغراضه في الاستيمان على الأموال ، وبيعها باختلاف الأشخاص ، فقد يستأمن على عين ، ولا يستأمن على قيمتها ، وكذا البيع ، فالفرق بينهما لا يخلو من نظر ، فتأمل جيدا والله أعلم.

ولو رهن عصيرا جاز بلا خلاف ، بل عن المبسوط الإجماع عليه ، لأنه عين مملوكة يجوز بيعها إجماعا بقسميه ، واحتمال صيرورته خمرا قبل حلول الحق غير قادح كرهن المريض. نعم لو علم ذلك اتجه المنع ما لم يعلم انقلابه خلا ، وإلا جاز أيضا ، بل قد يقال بجوازه بدونه ، على نحو ما سمعته في رهن ما يسرع اليه الفساد قبل‌

٢٤٨

الحلول ، فلاحظ وتأمل.

وعلى كل حال ف إن صار خمرا في يد المرتهن بطل الرهن عندنا ، للخروج عن الملكية التي هي شرط صحته ، خلافا لأبي حنيفة فلم يبطل الملك ولا الرهانة ، قياسا على العبد المرتد ، وهو باطل عندنا ، مع أن الفرق بينهما بمعلومية عدم ملك المسلم الخمر ، وعدم جواز التصرف له فيه دون المرتد واضح ، ف لا ريب في أن التحقيق ما قلنا.

نعم لو عاد خلا عاد إلى ملك الراهن بلا خلاف أجده بيننا ، إلا ما تسمعه من المحكي عن أبي الصلاح وهو شاذ ، لرجحانه على غيره بالملك السابق ، واليد المستمرة ، إذ يد المرتهن من آثار يد المالك ، وللسيرة وللإجماع ، بل الضرورة على ملك الخل وجواز اتخاذه ، مع أن العصير لا ينقلب إلى الحموضة إلا بتوسط الشدة ، على ما صرح به في التذكرة وجامع المقاصد والمسالك ، فلو لم يعد بالخلية إلى الملك لم يملك الخل من اتخذه حينئذ ، مضافا إلى الشك في اندراج الفرض في المباح الذي يملكه من استولى عليه ، فلا بد من دخوله في ملك أحد حال تخلله ، ولا ريب في رجحان المالك السابق على غيره ، وإلى غير ذلك مما يظهر من التأمل فيما ذكرناه ، فإذا عاد إلى ملك الراهن عادت الرهانة حينئذ معه ، بلا خلاف أجده لأن العائد الملك السابق الذي كانت الرهانة متعلقة به ، لا أنه ملكه بسبب جديد.

وفي التذكرة « معنى قولنا يبطل الرهن ، لا نريد به ارتفاع أثره بالكلية ، وإلا لم يعد الرهن بل المراد ارتفاع حكمه ما دامت الخمرية ثابتة » وتبعه في جامع المقاصد والمسالك ، والمراد أن العلاقة باقية ، لمكان الأولوية ، ففي الحقيقة الرهن والملك موجودان بالقوة القريبة ، لأن تخلله متوقع ، وإنما الزائل كونه رهنا وملكا بالفعل لوجود الخمرية المنافية لذلك ، فيكون البطلان مراعى ببقائه كذلك ، أو بتلفه لا على جهة الكشف كما عن بعض الشافعية ، فيبين عدم البطلان بالعود خلا والأظهر بطلانه بل على إرادة عود حكم الرهانة الاولى ابتداء من دون استيناف عقد رهانة جديدا ،

٢٤٩

كما عن بعض آخر من الشافعية.

ولا استبعاد في مشروعية ذلك بعد وقوع النظير له في الشريعة ، كإسلام زوجة الكافر التي تخرج به عن حكم العقد إذا أسلم قبل انقضاء العدة ، وكذا إذا ارتد أحد الزوجين ، بل من نظيره ما إذا اشترى المرتهن عينا من الراهن بدينه فتلفت قبل القبض ، أو تقايلا بعده ، بناء على عود الرهانة بانفساخ البيع ، وحاصله أن عقد الرهانة لم يبطل بالخمرية حتى يقال : أنه لا بد من استينافه ، بل الخمرية صارت مانعة من جريان حكم العقد ، فمتى زالت عمل العقد عمله ، ودعوى أن استدامة الملك شرط في صحة العقد ، يمكن منعها خصوصا مع ملاحظة كلام الأصحاب في المقام ، بل أقصى ما يسلم كونها شرطا في استمرار حكم العقد ، وحينئذ فما دل على عدم ملك الخمر لا يقتضي فساد الرهانة فتأمل جيدا.

وقد ظهر من ذلك كله أن ما عن أبي الصلاح ـ من أنه إن صار خمرا بطلت وثيقة الرهن ووجب إراقته ـ ضعيف إن أراد بذلك عدم العود إن عادت ، بل وإن أراد عدم جواز إبقائها للتخليل ، إذ الظاهر عدم الخلاف عندنا في جوازه ، وهي المسماة بالخمرة المحترمة ، كما ستسمع.

ثم إن كان الرهن مشروطا ببيع لم يكن للمرتهن الخيار في الفسخ ، وان لم يتعقب التخليل ، للوفاء بالشرط ، وكذا إذا لم يقبضه ، بناء على عدم اعتبار القبض في صحة الرهن ، وإن قلنا باعتباره في اللزوم ، وأما على القول بالاعتبار في الصحة ولم يقبضه حتى صار خمرا فالظاهر البطلان ، لعدم الشرط قبل تمام الرهانة بلا خلاف أجده بين من قال بشرطية القبض ، كما اعترف به في جامع المقاصد ، وإن كان قد ناقش هو في ذلك بأنه لا مانع من الصحة مع تخلل الخمرية بين العقد والقبض الذي هو أحد أجزاء السبب ، إذ دعوى ـ كون الشرط قابلية المورد للرهانة من أول العقد إلى حين تمام السبب ـ لا دليل عليها لكنها مناقشة مقطوع بفسادها بين الأصحاب في جميع القيود المعتبر في تمام السبب غيرها ، كالتقابض في الصرف ، والقبض في المجلس في السلم ، والقبض في الهبة ، وغير ذلك مما هو عندهم كأجزاء العقد التي لا إشكال‌

٢٥٠

في اعتبار الشرطية فيها ، ولتحرير ذلك مقام آخر ، وحينئذ يتخير المرتهن في المقام في فسخ البيع المشروط به ، ولا تعود رهنا بعودها خلا ، كما صرح به في الدروس ، إلا برهانة مستأنفة.

ولو اختلفا في القبض هل كان قبل الخمرية أو بعده؟ قدم قول مدعي الصحة ، وإن كان الراهن ، كما تقدم البحث في نظائره في المباحث السابقة ، وعن الشيخ أنه تردد في ذلك من البناء على الظاهر ، ومن أن القبض فعل المرتهن ، فيقدم قوله فيه وهو في غير محله.

نعم لو كان الاختلاف في أصل القبض لا في صفته ، كان القول قوله ، لأصالة عدمه ومن ذلك يظهر لك حينئذ ما في التذكرة من أن الأولى في المسألة الأولى تقديم قول المرتهن ، حاكيا له عن الشيخ وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي ، محتجا عليه بما هو واضح الضعف بأدنى تأمل ، فلاحظ وتأمل.

وفي التذكرة ، أيضا « ولو انقلب المبيع خمرا قبل القبض فالكلام في انقطاع البيع وعوده إذا عاد خلا على ما ذكرنا في انقلاب العصير المرهون خمرا بعد القبض » وفيها أيضا في موضع آخر قريب من ذلك ، « وإذا اشترى عصيرا فصار خمرا في يد البائع وعاد خلا فسد العقد ، ولم يعد ملك المشتري لعوده خلا ، والفرق بينه وبين الرهن ، أن الرهن عاد تبعا لملك الراهن ، وهاهنا يعود ملك البائع لعدم العقد ، ولا يصح أن يتبعه ملك المشتري » وهو مناف لذلك الكلام فتأمل جيدا. ولعله لإمكان ان يكون ذلك من التلف قبل القبض ، فينفسخ العقد حينئذ ، ولا معنى لعوده ، وإن كان فيه منع واضح كما ستعرف.

وكيف كان ف لو رهن مسلم من مسلم خمرا ، لم يصح بلا خلاف ولا إشكال ، كما تقدم الكلام فيه ، وفيما إذا وضعه على يد ذمي أو رهنه عنده أو بالعكس سابقا ، لعدم الملكية التي قد عرفت اشتراطها في الرهن مما تقدم ، وعدم جواز بيع المسلم إياها من غير فرق بين المحترمة وغير المحترمة فلو انقلب في يده أي المرتهن خلا فهو له لاستيلاء يده عليه ، وليست هي يد الأول ، إذ الفرض‌

٢٥١

كون الرهانة فاسدة ، فهو حينئذ حال خليته مال لا مالك له ، كباقي المباحات يملك حينئذ بالاستيلاء مع النية ، أو بدونها على القولين ، لكن قد يناقش بأن أولوية الأول للملك السابق ، فلا تعارضه يد الثاني بعد ما سمعت سابقا من الشك في كون مثله من المباحات ، وبأن فساد الرهانة لا ينافي كون اليد للأول ، وأن المرتهن من فروعه ، وخصوصا إذا كانت الخمر محترمة ، ولعله لذا قال المصنف على تردد بل في جامع المقاصد ، والمسالك أن الأقوى كونها للأول ، إذا كانت محترمة ، بخلاف غير المحترمة ، فإنه لا يد لأحد عليها.

وحينئذ فلو غصبها غاصب فتخللت في يده كانت ملكا له ، دون المغصوب منه ، بل أطلق في القواعد ، والمحكي عن المبسوط ، والإيضاح ، ملكية الغاصب للخمر المتخللة في يده لكن قد يناقش بما سمعت من أولوية الأول بالملك السابق ، بل عن غصب التذكرة ما يظهر منه الإجماع على أن الخمر المتخللة في يد الغاصب للمغصوب منه حيث نسبه إلى مذهبنا ، بل عن غصب الخلاف أنه لا خلاف فيه ، اللهم إلا أن ينزل كلامهما على المحترمة ، لعدم تصور الغصب في غيرها ، إذ لا سلطنة له عليها بخلافها فإن السلطنة ثابتة عليها ويجب ردها ، وبالتخليل يضمن المثل لو تلف ، فحينئذ يعود الملك للأول بعودها خلا لأن يد الغاصب كعدمها.

ولعل الأقوى صيرورتها ملكا للأول على كل حال بالتخلل ، للأولوية التي مبناها حصول المانع للسبب في بعض الأزمنة ، فيبقى الباقي على مقتضى عمله فيه ، نحو ما سمعته في العصير المرهون المنقلب خمرا ثم خلا ، ضرورة كون الجميع من واد واحد ، فإن السبب الذي اقتضى الملك قبل الخمرية باق على حسب استعداده ، وإنما منعه حال الخمرية ما دامت ، باعتبار ما دل على عدم ملكها الذي لا يقتضي بطلان أصل السبب ، بل أقصاه بطلان أثره ما دام المانع ، فإذا زال عمل المقتضي مقتضاه.

ومن هنا لم يشترط في ملكية الأول حصول يده عليه ، لأن المملك له هو السبب الأول لا يده ، وحينئذ فلا فرق بين المحترمة وغيرها ، وبين المأخوذة قهرا من يده إذا‌

٢٥٢

فرض تخللها وغيرها.

ويؤيد ذلك ما تسمعه إنشاء الله من عدم الخلاف في أنه لو غصب عصيرا فصار خمرا في يد الغاصب ثم صار خلا يعود على ملك الأول ، ليس إلا لما ذكرناه ، ومنه يعلم الوجه فيما ذكره في التذكرة أولا ، فإنه لما صار خمرا في يد البائع لم يبطل أصل السبب ، بل بطل حكمه ، في أن الخمرية ، نحو ما سمعته في الرهانة ، وفي إسلام أحد الزوجين ، فلما زال المانع عمل السبب عمله.

وأما احتمال أنه من التلف قبل القبض ، فيدفعه منع كونه تلفا حقيقة ، بل ولا حكما بعد فرض العود إلى الخلية ، وبذلك يظهر الفرق بين حالي الابتداء والاستدامة ضرورة مشروعية المانع في الثاني في إسلام أحد الزوجين والارتداد ونحوهما ، بخلاف الأول ، فلا يجوز العقد على الخمر ابتداء مراعيا في صحته صيرورته خلا ، ضرورة كونه كتعليق السبب المعلوم بطلانه ، فاتضح أن صحة مانع الاستدامة لا يستلزم الصحة في الابتداء. كما أنه اتضح بهذا التحقيق ما في جملة من الكلمات التي هي غير محررة ولا منقحة ، حتى ما في المتن.

نعم ليس كذا لك لو جمع جامع خمرا مراقا فتخللت في يده إذ الظاهر كونها ملكا للثاني بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له ، دون الأول ، لإسقاط حق أولويته منها بالإراقة الظاهرة في الإعراض الذي يزيل حكم الملك الذي هو أقوى من الحق المزبور ، ولا يقدح حرمة الجمع على الجامع ، إذ ليس حكمنا بملكه للجمع المزبور ، بل لاستيلائه على العين حال التخليل الذي صارت به مالا بلا مالك ، لتكون كالمباحات ، مع أن الظاهر عدم الحرمة لو أراد الجمع للتخليل ، فإن الظاهر صحة إبقائها وحفظها لذلك ، ومن ثم سميت محترمة : أي يحرم غصبها وإتلافها على من في يده.

بل في المسالك لو لا احترامها لأدى ذلك إلى تعذر اتخاذ الخل ، لأن العصير لا ينقلب إلى الحموضة إلا بتوسط الشدة ، ونحوه في جامع المقاصد والتذكرة ، قال في الأخير : « الخمر قسمان ، محترمة : وهي التي اتخذ عصيرها ليصير خلا ، وإنما‌

٢٥٣

كانت محترمة ، لأن اتخاذ الخل جائز إجماعا ، والعصير لا ينقلب إلى الحموضة إلا بتوسط الشدة ، فلو لم تحرم وأريقت في تلك الحال لتعذر اتخاذ الخل ، والثاني :غير محترمة : وهي التي اتخذ عصيرها لغرض الخمرية.

وقد استفاد بعض مشايخنا من هذه العبارات أنه لا بد من سبق الخمرية للخل في عصير التمر وغيره ، بل قال : ليس المراد من العصير ما استخرج ماؤه بالعصر ، بل هو أعم منه فحينئذ ما يستعمله الناس من خل التمر والزبيب لا يجوز استعماله إذا اشتد قبل الحموضة ، ولنا معه بحث ذكرناه في غير المقام ، وعلى كل حال فما يظهر من المصنف من التردد في كون المفروض ملكا للجامع في غير محله ، كالإشكال عن التحرير أولا ، وقد بان من ذلك كله الفرق بين الجامع والغاصب ، فيملك في الأول دون الثاني على الأصح.

وعلى كل حال ف ليس كذلك لو غصب عصيرا فصار خمرا في يده ثم تخلل كذلك ، فإنه لا خلاف كما في المسالك ومحكي غاية المرام في عدم ملكية الغاصب له ، بل هو ملك للمغصوب منه ، فيرجعه إليه ، ويرجع أرش النقصان معه لو قصرت قيمته عن العصير ، بل الظاهر وجوب دفعه إليه في حال الخمرية ، لأولويته ، وإمكان إرادة تخليله ، إلا أن يعلم إرادته منه الشرب ، فلا يجوز ، ويرد معه مثل العصير ، لإمكان عدم انقلابه خلا ، فإذا عاد رده إليه ، لأنه قد عاد ملكه إليه ، وان تغيرت صورته ، وتمام الكلام يأتي في باب الغصب إنشاء الله.

ثم ليعلم أن الخمر قد يذكر ، كما عن القاموس وغيره ، بل ظاهر المحكي عن المصباح المنير : أنهما على حد سواء ، قال : الخمر معروفة يذكر ويؤنث ، فيقال :هو الخمر ، وهي الخمر ، وقال الأصمعي : الخمر أنثى وأنكر التذكير ، كما أن ظاهره اختصاص الإنكار بالاصمعي المحجوج بنقل المثبت ، بل تذكير المصنف والفاضل وغيرهما من الأساطين الضابطين شاهد على خلافه أيضا ، والأمر سهل.

ولو رهنه بيضة فأحضنها فصارت في يده فرخا كان الملك والرهن باقيين ،

٢٥٤

وكذا لو رهنه حبا فزرعه بلا إشكال في كل منهما ، أما الأول فلأن هذه الأشياء نتيجة ماله ، ومادتها له ، فلم تخرج عن ملكه بالتغيير ، والاستحالات المتجددة صفات حاصلة فيهما ، وحصل بسببها استعدادات مختلفة ، لتكونات متعاقبة خلقها الله تعالى فيها ووهبها له ، والأرض والماء والإحضان ونحوها من المعدات التي لا تخرج المادة عن ملك صاحبها.

وأما الثاني : فلأن الرهن تابع للعين كيفما تغيرت وتنقلت ، إذ هو مشابه لصفة الملك في ذلك ، وليس معلقا على اسم البيضة والحب حتى يزول بزوال الاسم ، كما هو واضح ، بل ليس ذا من مسألة النماءات التي فيها البحث السابق ، بل هو كسمن الدابة ونحوه مما لا إشكال في تعلق الرهن به ، واحتمال تعلق الرهن بمقدار الحب من الزرع وغيره ظاهر الفساد ، بل لا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك إلا ما يحكى عن الشيخ وبعض العامة من تسبيب هذه التغييرات الملك للقابض ، تنزيلا للعين منزلة التلف ، فغايته ضمان المثل أو القيمة ، وضعفه واضح ، كما هو محرر في باب الغصب والله أعلم.

وإذا رهن اثنان عبدا بينهما بدين عليهما ، كانت حصة كل واحد منهما رهنا بدينه مع الإطلاق فإذا أداه صارت حصته طلقا ، وإن بقيت حصة الآخر رهنا ، كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا عند قول المصنف : ولو رهن على مال رهنا ثم استدان آخر ، إلى آخر البحث فلاحظ وتأمل.

٢٥٥

المقصد الثالث

من المقاصد التي استدعاها البحث في لواحق كتاب الرهن في النزاع الواقع فيه.

وان تقدم بعضها في مطاوي الأبحاث السابقة ولكن مع ذلك فيه مسائل :الأولى : إذا رهن مشاعا وأذن للمرتهن في قبضه واستدامة يده عليه وتشاح الشريك والمرتهن في إمساكه للرهانة ولو من حيث إذن الراهن له في ذلك أو للاستيمان انتزعه الحاكم وقبضه لهما بنفسه ، أو نصب عدلا يكون في يده لهما ، بل قد يقال : بجواز نصب أحدهما لذلك ، لكن لا يخلو من اشكال ، وعلى كل حال يقوم القبض مقام قبض المرتهن ، في تحقق الرهانة ، وإن لم يكن ذلك بوكالة من المرتهن ، بل ربما لا يكون له التوكيل في ذلك ، كما إذا شرط الراهن عليه القبض بنفسه ، بل لاقتضاء نصبه حاكما من الشارع ذلك ، ضرورة أن الحاكم هو المعد لقطع أمثال هذه المنازعات المتوقف على نحو ذلك ، وان كان موضوعه حال طلب كل منهما انقطاعه ، لكن لا يكون الحاكم في ذلك فرع إذنهما على وجه يكون له حكم المأذون ، بل قد يقال : لا حاجة إلى اذن الراهن.

لكن في المسالك فان الحاكم ينصب له عدلا لقبضه عن الرهن ، وليكن بإذن الراهن ، وللأمانة ، ولعل إطلاق الأصحاب على خلافه. نعم لو أن الراهن شرط في عقد الرهانة القبض بنفسه ، أمكن حينئذ الحكم بانتفائها بالتشاح ، وقد يظهر من لفظ النصب في جملة من عبارات الأصحاب كون العدل قيما لا وكيلا عنهما ، بل ولا عن الحاكم ، فلا يزول حكم قبضه بخروج الحاكم أو المرتهن أو الشريك عن بعض صفة التوكيل ، ومثله لو كان التشاح بين الشريكين في أصل قبض المال المشترك والاستيمان عليه ، بل لعل الظاهر أن للحاكم من حيث الحكومة المعدة لقطع النزاع انتزاعه منهما ونصب أمين عليه ، وان اتفقا معا على عدم الرضا بذلك ما لم يتفقا على ما‌

٢٥٦

يحصل به قطع النزاع بينهما ، والأصل في ذلك وغيره من الأحكام المتصورة في المقام قوله عليه‌السلام « فإنى قد جعلته عليكم حاكما » إذ الحاكم هو المعد لقطع مثل ذلك الذي يجب على الشارع حسم مادته لما يترتب عليه من المفاسد.

ومنه يظهر أن حكومة الحاكم لا تختص بما كان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل هي أعم من ذلك ، ضرورة عدم المعروف في الفرض ، إذ لا يجب على أحد الشريكين الإذن للآخر في القبض ، أو لمن يريده أحدهما فتشاحهما لا معصية فيه من أحدهما ، وربما تكون المصلحة لكل منهما في عدم استيمان الآخر ، بل ربما يكون ضرر على كل منهما بذلك.

وعلى كل حال فإذا انتزعه منهما آجره إن كان له أجرة ولو على بعض الشركاء على إشكال ، مدة لا تزيد عن أخذ الحق إلا برضا المرتهن وإجازته ، ثم قسمها بينهما بموجب الشركة ان طلبوا استيجاره ، فان لم يطلبه أحد منهم أبقاه من دون إجارة ، وإن طلبه أحد الشريكين دون الأخر هايأ بينهما ، فيؤجره في مدة الطالب دون الأخر ، وإن طلبه المرتهن توقف على إذن الراهن وكذا العكس ، والأجرة تكون بين المرتهن والشريك بناء على تبعية مثل هذا النماء للرهن وإلا كانت بين الشريكين.

وإن لم تكن له أجرة أو لم يريدوا استيجاره جعله عنده أمانة أو استأمن عليه من شاء ولو أحدهما على اشكال ، وقد عرفت ان له فعل ذلك كله قطعا للمنازعة المنصوب لحسمها وما شابهها ، بل الظاهر أن له الإلزام بالقسمة فيما يقسم ، والبيع في غيره ونحو ذلك ، مع توقف قطعها عليه ، بل قد يحتمل جواز ذلك له وإن لم يتوقف ، لأنه مخير في أفراد القطع والفرض ان ذلك أحدها ، لكن يقوى العدم فيقتصر في القطع على أقل الأفراد ضررا عليهما ، وأقلها مخالفة للضوابط.

وتحرير هذه الجملة محتاج إلى بسط في الكلام ، وليس هذا محله ، خصوصا بالنسبة إلى ثبوت ولاية الحاكم في نحو المقام الذي يكون فيه القبض شرطا في الصحة ،

٢٥٧

الظاهر في كون الشرط قبض المرتهن نفسه ، وقبض المتعاقدين في مثل الصرف ، وقبض الموقوف عليه في الوقف ، وقبض الموهوب في الهبة ، فإن قيام قبض الحاكم مقامه مع عدم التوكيل لا يخلو من بحث ، بل لا يخلو أصل ثبوت ولايته فيما يقطع به النزاع اقتراحا مع فرض عدم معصية من أحدهما في دعواه منه أيضا ، وإن كان ظاهر الأصحاب في المقام ونظائره ذلك ، لإطلاق الأدلة في كونه منصوبا لذلك ، ولأن مجاري الأمور بيده ، وأولويته من الحكمين في نزاع الزوجين وغير ذلك ، والله العالم.

المسألة الثانية : إذا مات المرتهن انتقل حق الرهانة إلى الوارث بلا خلاف ولا إشكال فإن امتنع الراهن من استئمانه كان له ذلك وإن كان المرتهن مؤتمنا سابقا لبطلان ذلك بالموت فان اتفقا على أمين وإلا استأمن عليه الحاكم كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا في آخر الفصل الخامس وغيره ، بل تقدم الآن في المسألة السابقة ماله تعلق به في الجملة ، كما لا يخفى.

المسألة الثالثة : إذا فرط في الرهن أو تعدى فيه ضمنه بلا خلاف ولا إشكال ، فإن كان مثليا وتلف لزمه مثله. فإن تعذر فقيمته عند الأداء أو التلف.

أو الأعلى على ما تقدم سابقا في باب القرض وغيره من نظائر المسألة ، وان كان قيميا لزمته قيمته إلا أن المصنف على أنها يوم قبضه ولم نعرفه لغيره ، بل عن جماعة الاعتراف بمجهولية قائله ، وإن أرسله في القواعد ، وربما أراد المصنف ، كما أنه لم نعرف له وجها يعتد به ، ضرورة عدم كون العين مضمونة قبل التفريط.

لكن في المسالك « حكم المصنف باعتبار قيمته يوم قبضه ، مبني على أن القيمي يضمن بمثله » وقد أخذ ذلك من الدروس حيث قال : « والمعتبر بالقيمة يوم التلف » وقال ابن الجنيد : « الأعلى من التلف الى الحكم عليه بالقيمة » ويلوح من المحقق أن الاعتبار بالقيمة يوم القبض ، بناء على أن القيمي يضمن بمثله ، وفي كلام ابن الجنيد إيماء اليه ، وفيهما معا ـ بعد الإغضاء عن إرادة المثل من القيمة في كلام المصنف إلا أن يحمل على تعذر المثل ، وفيه ما لا يخفي أيضا ـ أن ذلك لا يقتضي الاعتبار يوم القبض أيضا ، ومن هنا في المسالك بعد أن بناه على ما سمعت قال : « ومع ذلك ففي‌

٢٥٨

اعتبار يوم القبض نظر ، لأنه ثم لم يكن مضمونا ، فينبغي على ذلك اعتبار المثل يوم الضمان » وهو كذلك ، فلو كان الرهن يوم القبض سمينا فهزل قبل التفريط ثم فرط فيه ضمنه بمثله الصوري من يوم التفريط لا القبض كما هو واضح ، ودعوى أن التفريط يوجب رد المقبوض يوم القبض ، كما ترى ، مع أنه لا تخص القول بضمان القيمي بمثله.

وبالجملة هذا القول على كل حال في غاية الضعف ، ومثله في ذلك القول بضمان أعلى القيم من حين القبض إلى حين التلف ، وإن قال في المسالك : « أنه نسب إلى الشيخ في المبسوط » بل عن الصيمري أنه قول مشهور ، نقله فخر الدين واختاره ، بل في الرياض « أنه مشهور في المصنفات ولعله أحوط وأجود ، إما لكونه كالغاصب فيؤخذ بأشق الأحوال ، أو لاقتضاء الشغل الذمة اليقيني البراءة كذلك ، ولا تحصل إلا بذلك ».

لكن فيه ما عرفت من انه لا وجه لضمان القيمة قبل حصول سبب الضمان ، والمشابهة للغاصب انما تحصل بالتفريط لا قبله ، والبراءة اليقينية أو ما بمنزلتها تحصل بما دل على ضمانه يوم التلف ، على أن الظاهر عدم كون المقام مما يجب فيه يقين البراءة لعدم الإجمال في موضوع التكليف ، بل هو من الشك في الأقل والأكثر ، مع عدم توقف صحة الأول على الثاني ، فأصل البراءة محكم في نفسه إذ هو كالشك في شغل الذمة لشخص بالأقل أو الأكثر ، وكالشك في وجوب قضاء فريضة عليه أو أزيد ونحو ذلك ، فلا ريب حينئذ في ضعف هذا القول ، ومشاركته في عدم المستند للأول ،

وأضعف منهما ما عن الإسكافي من أنه أعلى القيم من يوم التلف إلى يوم حكم الحاكم عليه أو إلى المطالبة بها كما في نقل آخر عنه ، ولعلهما بمعنى ، كما أن فسادهما معا على تقدير اختلافهما واضح ، ضرورة تعلق الضمان حال التلف من غير مدخلية للمطالبة أو حكم الحاكم. نعم قد يقوى ضمان أعلى القيم من حين التفريط إلى حين التلف ، كما عن المختلف والصيمري وابن فهد. لأنه حينئذ كالغاصب ، ولتضرر المالك بما فات في يده من تفاوت القيمة.

٢٥٩

ولكن الأقوى منه ما قيل : من أن ضمانه بقيمته يوم هلاكه بل لعله خيرة الأكثر كما اعترف به في المسالك ، لأنه يوم الانتقال ، إذ قبله كان الخطاب منحصرا في رد العين ، وعدم المنافاة بين انحصار الحق في العين قبل التلف وانتقال قيمتها قبله إلى الذمة بعده لا يكون مقتضيا لذلك ، والحكم في الغاصب ممنوع فضلا عن المقام ، كمنع ضمان مثل هذا الضرر ، ولذا لا يضمن لو رد العين نفسها فكذا ما أقامه الشارع مقامها الذي هو في الحقيقة طريق تأدية لها. نعم لو كانت التفاوت بسبب نقص في العين قد حصل في يده بعد التفريط ، اتجه اعتبار الأعلى حينئذ ، لفوات الأجزاء المضمونة عليه في يده ، حتى لو رد العين نفسها على الأقوى ، كما هو واضح.

وقد ظهر من ذلك أن ما في المتن وغيره من أنه قيل : يضمن أعلى القيم يرجع إلى أحد الأقوال السابقة إذ لا معنى له بدون التنزيل على أحدها ، وقد مر تمام الكلام في نظائر المسألة ، ويأتي إنشاء الله تعالى في باب الغصب.

فلو اختلفا اى الرهن والمرتهن في القيمة المضمونة بالتفريط فالقول قول الراهن عند الأكثر كما في الدروس ، بل عن الغنية الإجماع عليه ، مؤيدا بحكاية عن الشيخين والقاضي والديملي والتقي وابن حمزة لأن المرتهن خائن بتفريطه ، فلا يقبل قوله وفيه أن قبول قوله لإنكاره ، لا من حيث أمانته التي ارتفعت بخيانته ومن هنا قيل القول قول المرتهن لأصالة البراءة من الزائد ، فيكون منكرا عليه اليمين ، وعلى الراهن المدعي البينة كما هو مضمون النبوي ولا ريب في أنه هو الأشبه وفاقا للشهيدين والمحكي عن الحلي والفاضل وكثير من المتأخرين. نعم القول قول الراهن في دعوى قلتها لو كان هو المتلف للرهن ، وأراد المرتهن القيمة منه ، تكون رهنا ، فادعى عليه زيادتها ، لكون الأصل معه ، فيكون منكرا عليه اليمين ، والمرتهن المدعي عليه البينة ، ولو كان المتلف أجنبيا وصدقه الراهن في دعوى القلة لم يكن للمرتهن سبيل عليه ، مع احتمال توجه اليمين له عليه ، باعتبار تعلق حق الرهانة بها ، والله أعلم.

المسألة الرابعة لو اختلفا فيما على الرهن قلة وكثرة مع اتحاد الدين‌

٢٦٠