جواهر الكلام

الشيخ محمّد حسن النّجفي

مقدر بهما فالظاهر أنه لا إشكال فيه ، لصحة بيع ذلك قبل قبضه عندنا بغير اختلاف » وفيه أن الإشكال مما ذكرنا لا من ذلك.

نعم في التذكرة « الوجه الصحة ، لأن قوله استوف لنفسك يتضمن التوكيل » وهو جيد ، بناء علي كون المراد اقبضه لي ثم لنفسك باعتبار توقف الثاني على الأول إنما الكلام على تقدير عدم إرادته ، وقد عرفت أنه مشكل ، بل جزم الشافعي بعد صحته كالفاضل في القواعد ، وإن ترتب الضمان على هذا القبض الفاسد ، اللهم إلا أن يقال أن القبض وإن كان لنفسه يقوم مقام قبض الديان فيقدر له آنا ما كما في أعتق عبدك عني ، فتأمل جيدا هذا. وقد تقدم تمام التحقيق في كثير من هذه المسائل في المباحث السابقة في كتاب البيع والله أعلم.

المقصد الثاني

في أحكام متعلقة بالرهن

الرهن لازم من جهة الراهن جائز من جهة المرتهن بلا خلاف أجده فيه ، بل في التذكرة والمحكي عن غيرها الإجماع عليه ، وهو كذلك بناء على عدم مدخلية القبض في صحته ولا لزومه ، بل وعلى تقدير مدخليته مع حصوله. نعم هو جائز من طرف الراهن قبله ، بناء على أنه شرط في اللزوم كما مر تحقيق ذلك ، والمراد هنا بيان حكمه من جهة الراهن ، والمرتهن ، بعد تمام ما هو معتبر في صحته ولزومه ، فالإجماع حينئذ بحاله ، مضافا إلى ما دل على اللزوم من الأمر بالوفاء بالعقود وغيره الذي لا يجري في المرتهن قطعا ، بعد أن كان الحق له ، فهو مسلط على إسقاطه كغيره من الحقوق.

بل الظاهر عدم صحة اشتراط الخيار للراهن ، لمنافاته الاستيثاق ، والحبس الذي هو مقتضى عقد الرهن ، وفرق بينه وبين ارتهان العبد الجاني ونحوه ـ مما لا وثوق للمرتهن ببقائه ، من غير الراهن الذي يكون شرط الخيار منه ، كاشتراط التوقيت ـ في المنافاة.

٢٢١

لكن مع ذلك كله قد استشكل فيه في التذكرة فقال : « وأما الشرط الفاسد فهو ما ينافي مقتضى عقد الرهن ، مثل أن يشترط أن لا يسلمه إليه على اشكال ، أولا يبيعه عند محل الحق ، أولا يبيعه إلا بما يرضى به الراهن ، أو بما يرضى به رجل آخر ، أو تكون المنافع للمرتهن ، أولا يستوفي الدين من ثمنه ، فإنها شروط نافت مقتضى العقد ، ففسدت ، وكذا إن شرط الخيار للراهن على إشكال ، أو أن لا يكون العقد لازما في صفة ، أو يوقت الرهن ، أو أن يكون الرهن يوما ، ويوما لا يكون رهنا ».

إلا أنه لا ريب في ضعفه لما عرفت ، كضعف احتمال الفساد في اشتراط عدم التسليم إذا كان المراد منه استمرار بقاء اليد ، بل وإن لم يرد منه ذلك إذا كان المراد منه مالا يشمل الوكالة ، أو قلنا بعدم اعتبار التسليم فيه ، فإن دعوى احتمال عود ذلك على العقد بالنقض كما ترى ، وكذا الكلام في نحو اشتراط المنافع للمرتهن والله العالم.

وعلى كل حال فلا ريب في لزوم الرهن من جهة الراهن. نعم قد يقال بجوازه لو كان قد وقع منه لانه شرط عليه في بيع قد زعم صحته ، فبان عدمها بعد وقوع الرهانة منه ، كما جزم به في القواعد لنفي الضرر والضرار ، ولان الشرط في البيع كجزء من الثمن أو المثمن اللذين لا ريب في رجوعهما إلى مالكهما بظهور البطلان بل مقتضى ذلك بطلان الرهن قهرا ، إلا أنه لما كان قد وقع بعقد محكوم بصحته لإطلاق الأدلة ، روعي الجمع بين ذلك ، وبين حق الراهن بالخيار ، والمسألة سيالة في غير المقام ، كاشتراط البيع والإجارة ونحوهما في عقد قد ظهر فساده بعد وقوعهما.

مع أنه قد يقال بعدم الرجوع في الجميع ، لأن تخيل الصحة من الدواعي فالعقد الصادر باق علي مقتضى ما دل على صحته ولزومه ، إذ هو حينئذ كما لو أبرأت الزوجة الذمة بظن صحة الطلاق ، أو في خصوص المقام الذي لا مجال للقول بالبطلان فيه ، باعتبار منافاته لإطلاق ما دل على الصحة ، ولا الخيار لعدم قابلية خصوص هذا العقد للخيار ، فهو حينئذ كالإبراء المشترط في عقد قد ظهر فساده بعد وقوعه ، والنكاح‌

٢٢٢

والطلاق والعتق ونحوها ، وعن بعض نسخ القواعد ولو شرط عليه رهن في بيع فاسد فظن اللزوم فرهن فلا رجوع ، وهو لا يخلو من قوة فتأمل جيدا.

وكيف كان ف ليس له أى الراهن انتزاعه من المرتهن بدون رضاه إلا مع سقوط الارتهان ببراءة ذمة الراهن من الدين الذي قد رهن به الرهن بالإقباض من المالك أو المتبرع أو الضمان أو الحوالة أو الإقالة المسقطة للثمن المرهون به ، أو الإبراء من ذي الدين أو بتصريح المرتهن بإسقاط حقه من الارتهان أو ما هو كالتصريح بلا خلاف في شي‌ء من ذلك ، ولا إشكال.

ولو برأت ذمته من بعض الحق فالظاهر بقاء الجميع رهنا على ما يبقى من الدين وإن قل ، إذا لم يكن قد اشترط التوزيع ، أو كونه رهنا على المجموع المنتفى صدقه بذهاب البعض ، وفاقا لصريح جماعة ، بل عن الشيخ الإجماع عليه ، لظهور الارتهان في الاستيثاق ، لجميع أجزاء الدين ، وكون الغرض استيفاؤه بتمامه منه أجمع كما يشعر به ما في النصوص (١) من نفى البأس عن الاستيثاق للمال الصادق على الكل والبعض ، جوابا للسؤال عن أخذ الرهن.

لكن في المسالك عن الفاضل في القواعد أنه اختار فيها كونه رهنا على مجموع الدين الذي ينتفي صدقة ببراءة الذمة من بعضه وإن قل ، فيبقى الباقي من غير رهن بعد أن احتمله هو ، والذي فيها ، ولو أدى بعض الدين بقي كل المرهون رهنا بالباقي على إشكال ، أقر به ذلك إن شرط كون الرهن رهنا على الدين وعلى كل جزء منه ، ولا صراحة فيه فيما ذكره ، ضرورة أعمية مفهوم الشرط فيها من ذلك.

بل في جامع المقاصد في شرحها أنه قد يتوهم عدم إفتاء المصنف نظرا إلى أن المذكور في كلامه هو الحكم مع الاشتراط ، ولا نزاع فيه ، لأن النزاع مع الشرط وليس كذلك ، لأن الأقرب يقتضي الفتوى ، إذ لا يتطرق الاحتمال مع الشرط ، إنما يتطرق بدونه ، ثم قال في القواعد « ولو دفع أحد الوراث نصيبه من الدين لم ينفك نصيبه على اشكال ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الرهن.

٢٢٣

وفي جامع المقاصد أي : لو دفع أحد وارثي الرهن نصيبه من الدين ، وهذا الاشكال ـ بعد الفتوى المتقدمة بأنه مع الاشتراط يكون الرهن رهنا بكل جزء ، وبدونه على ما يقتضيه التقسيط ـ لا وجه له ، إذ مع الاشتراط لا ينفك قطعا وبدونه بمقتضى التقسيط يلزم الانفكاك ، ومقتضاه أنه فهم من العبارة الأولى التقسيط وإن كان هو كما ترى ، لما عرفت من كون المفهوم أعم ، وإن جعلنا الأقرب راجعا إليه ، إذ أقصاه أن لا يكون الحكم كذلك ، لا خصوص التوزيع وعلى كل حال فلا ظهور فيه ، بل ولا إشعار بذلك ، وحينئذ فلا قائل به فيما أجد.

نعم ربما حكي عن الفاضل وولده التوزيع والتقسيط ، بدعوى أن الرهانة كالمعاوضة في اقتضاء مقابلة الأجزاء بالأجزاء لا الجملة بالأبعاض فان برء من بعض الدين انفك من الرهن بحسابه نصفا أو ثلثا أو غيرهما من الأجزاء المشاعة.

وفيه مضافا إلى مخالفته ما عرفت أنه يقتضي عدم كون الباقي رهنا على الجميع فيما لو تلف بعضه ، وهو باطل نصا وإجماعا بقسميه ، ومنه يعلم قوة ما ذكرنا من كون المقابلة في الرهن مقابلة جملته بكل جزء ، لا على حسب مقابلة المعاوضات التي لا شبه بينها وبين الرهن ، ودعوى ان العرف فارق بين التلف وغيره في التقسيط المزبور غير مسموعة ضرورة اقتضاء العرف ما قلناه كما هو واضح بأدنى تأمل فيه.

أما إذا اشترط فلا خلاف أجده في لزوم ما اشترطه من التوزيع أو الرهانة على المجموع أو على كل جزء من الدين ، كما لا تأمل في الأول والأخير ، لعموم « المؤمنون » نعم قد يتوقف في الثاني باعتبار منافاته للتوثق ، لكن الاتفاق ظاهرا على صحته ينفيه ، مع أنه لا منافاة بناء على عدم وجوب قبول المرتهن للبعض المبذول لما فيه من الضرر عليه بفوات الرهينة وان وجب بدونها ، فيكون هذا البعض حينئذ كالبعض المبذول المستلزم لنقص في المالية ، مثل مال السلم وثمن المبيع في عدم وجوب القبول.

إلا أنه قد يدفعه إطلاق ما دل على القبول ، والضرر غير قادح ، بعد أن أقدم عليه بالرضا بالشرط المزبور ، بل لا يبعد وجوب القبول لو قلنا بانصراف الإطلاق‌

٢٢٤

إلى الاحتمال المزبور من دون شرط ، لتناول ما دل على لزوم القبول لذلك ، بحيث لا ينافيه التضرر بفك الرهانة به بعد بنائها على ذلك ورضاه على هذا النحو ، وحينئذ يتأكد التوقف المزبور في الشرط المذكور ، باعتبار اقتضائه عدم الوثوق بالرهن المفروض انفكاكه بدفع جزء يسير من الدين ، فتأمل جيدا والله العالم.

وكيف كان ف بعد ذلك الإقباض وغيره مما يحصل به الفك يبقى الرهن أمانة في يد المرتهن مالكية وحينئذ لا يجب تسليمه إلا مع المطالبة من المالك أو من يقوم مقامه ، لأن حصولها في يد الأمين بإذن المالك ، بخلاف الشرعية كالثوب الذي أطارته الريح ونحوه مما لا إذن فيه من المالك ، وإنما هي من الشارع الذي أوجب عليه رده إلى مالكه ، أو إخباره به ، لعدم إذنه في بقائه في يده ، وبهذا افترقت الشرعية عن المالكية المستندة إلى الإذن المستصحب حكمها حتى مع النسيان ونحوه.

ودعوى ـ تقييد الإذن هنا بالرهانة ، فمتى زالت ، زالت ـ مدفوعة بعدم استلزام الرهانة الأمانة عند المرتهن ، فهو حينئذ أمر آخر لا مدخلية له بالارتهان ، فما عن بعض العامة من الضمان على المرتهن ـ إذا قضاه الراهن ، بخلاف ما إذا أبرأه ثم تلف الرهن في يده ، ـ واضح الضعف ، بل الذي يقتضيه الاستحسان العكس ، ضرورة أنه مع القضاء يكون عالما بانفكاك ماله ، فإذا لم يطالب به فقد رضي ببقائه أمانة ، بخلاف الإبراء ، فإنه قد لا يعلم به الراهن فلا يكون تاركا لماله باختياره.

بل ربما ظهر من الفاضل في التذكرة الميل إلى هذا التفصيل ، قال : وينبغي أن يكون المرتهن إذا أبرء الراهن من الدين ، ولم يعلم الراهن ، أن يعلمه بالإبراء أو يرد الرهن ، لأنه لم يتركه عنده إلا على سبيل الوثيقة ، بخلاف ما إذا علم ، لأنه قد رضي بتركه وهو حسن ، كما في المسالك إن أراد الأولى كما يشعر به لفظ ينبغي ، وإلا كان فيه نظر بعد ما عرفت من أن الأمانة المالكية يكفي فيها حصول الإذن السابق من المالك بعنوان العارية والوديعة ونحوهما ، وإن حصل لها فسخ من المالك‌

٢٢٥

أو من المستعير مثلا ، فإن فسخ العقد المخصوص لا ينافي بقاؤها أمانة ، ولو باعتبار كون ذلك من توابع العقد الأول ، فتأمل جيدا ، فإنه دقيق جدا.

ومنه يعلم الحال في حكم الرهن بناء على ما ذكرناه من استحقاق المرتهن قبضه من الراهن ، فإنه لا يخرج بذلك عن كونه أمانة أيضا من الراهن ، وإن كانت مستحقة عليه بعقد الرهن ، فالفك حينئذ من الرهانة كفسخ عقد العارية لا يخرج البقاء في الزمان المتأخر عن كونه أمانة مالكية ، ولو للتبعية المزبورة ، والله العالم.

ولو شرط المرتهن على الراهن في عقد الرهن إن لم يؤد الحق مطلقا أو عند الأجل أو في وقت كذا أن يكون الرهن مبيعا ، لم يصح الشرط قولا واحدا ، للتعليق ، وتوقف البيع على سببه من الصيغة ونحوها ، بل والرهن بناء على اقتضاء بطلان مثل هذا الشرط بطلان العقد الذي علق الرضا فيه على الشرط بل وإن لم نقل بذلك للتوقيت في الرهن ، المتفق على بطلانه ، لمنافاته الاستيثاق ، وإن كان زائدا على أجل الدين ، إذ قد لا يتيسر بيعه فيه ، لو جوزنا بيعه معه ، ولم نقل بكون المراد من التوقيت بقاؤه رهنا إلى الوقت المعلوم ؛ بحيث ليس للمرتهن التصرف فيه ، وإلا كانت منافاته واضحة أيضا ، وإن كان التوقيت إلى أجل الدين ، إذ قد تدعو الحاجة إلى بيعه ، لموت المديون مثلا فضلا عن اقتضاء التوقيت المزبور الخروج عن الرهنية عنده ، فليس للمرتهن حينئذ تعلق به ، فكيف يعقل الاستيثاق بمال لا يجوز استيفاء الدين منه قبل انتهاء الوقت وبعده.

ولعله لذلك اتفق الأصحاب هنا على بطلان الشرط والعقد ، حتى أن الشيخ الذي قد حكي عنه في باب الرهن القول بعدم اقتضاء فساد الشرط فيه فساده ، قال ببطلانه هنا ، مدعيا الإجماع عليه ، وكذا ابن إدريس في ظاهر السرائر ؛ فمن الغريب ما في التحرير قال : « وإذا شرط كونه مبيعا عند حلول الأجل بالدين ، هل يفسد الرهن بفساد الشرط؟ فيه نظر ، والذي قواه الشيخ عدم الفساد ، وهو جيد ».

وكأنه أخذ ذلك من مذهبه في الشرط ، وغفل عن كلامه في المقام الذي لم يعرف‌

٢٢٦

الخلاف فيه ، إلا من بعض العامة ، فصحح الرهن وأفسد البيع ، محتجا بأن الراهن إذا رضي بالرهن مع هذا الشرط كان أولى أن يرضي به مع بطلانه ، وفساده ظاهر ، لأن مجرد تقدير الرضا غير كاف مع اختلال شرائط العقد الذي قد وقع ، بعد الإغضاء عما في الأولوية المزبورة ، ويمكن أن يريد الفاضل في التحرير النظر في البطلان من هذه الحيثية ، لا من حيث التوقيت ، والأمر سهل.

ثم إن الظاهر عدم ضمان العين في يد المرتهن إلى المدة ، كما أن الظاهر ضمانها بعدها ، لأن القبض فيها بالرهن الفاسد ، فلا يضمن كصحيحه ، وبعدها بالبيع الفاسد فيضمن كصحيحه ، واحتمال أنه غير مضمون مطلقا ـ إلا إذا نوى تملكه بعد المدة بعنوان أنه مبيع ، لتحقق القبض بالبيع الفاسد المغاير للقبض الأول الذي هو بالرهن الفاسد ـ واضح الفساد ، لأن المراد من اشتراط كونه مبيعا انه من الآن مبيع في تلك المدة ، لا أنه يباع فيها.

وعلى كل حال فلا فرق في القاعدة المزبورة فيهما بين العلم بالفساد منهما والجهل كذلك والتفريق ، للإجماع المحكي إن لم يكن المحصل على القاعدة المزبورة المقتضية بإطلاقها ذلك.

ولا ينافيه الإشكال من بعض المتأخرين في بعض أفرادها ، كصورة جهل الدافع في المدة وعلم القابض في المقام ، باعتبار أن القابض قد أخذ بغير حق ، لأن الدافع قد توهم الصحة ، فيشمله حينئذ عموم (١) « على اليد » بل ربما أشكل بنحو ذلك في الجاهلين إلا أن ذلك كله كأنه اجتهاد في مقابلة النص ، خصوصا بعد ما في المسالك « من أن الأصحاب وغيرهم أطلقوا القول في هذه القاعدة ، ولم يخالف فيها أحد » بل فيها أيضا « إمكان دفع الإشكال المزبور بأن المالك أذن في قبضه على وجه لا ضمان فيه ، والمتسلم تسلمه منه كذلك ، وعدم رضاه لو علم بعدم اللزوم غير معلوم ، فالإذن حاصل والمانع غير معلوم ».

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٩٠.

٢٢٧

ومرجعه إلى أن تخيل الصحة في مثل ذلك من الدواعي للدفع على وجه المزبور لا أنها شرط في عدم الضمان ، بل دفعه في الجاهلين أوضح من ذلك ، ضرورة كون القابض كالمغرور بفعل الدافع ، وأوضح من ذلك اندفاعها في فاسد المعاوضة التي لا فرق فيها بين العلم والجهل ، بعد كون الدفع على وجه الضمان ، لا عدمه كما هو واضح ، إنما الإشكال إن كان ففي الصورة الأولى في المقام ، كصورة عدم ضمان العين المستأجرة مع علم المستأجر بالفساد ، وجهل الموجر ، والعين المستعارة ، خصوصا إذا كان الفساد بغصب للعين ونحوه ، بل ربما ظهر من بعضهم في باب الإجارة ما ينافي الإجماع المزبور ، فلاحظ وتأمل والله أعلم هذا.

وقد تقدم تحقيق الحال فيما لو غصبه اى المال ثم رهنه المالك من الغاصب وقد قلنا هناك أنه صح الارتهان ولم يزل الضمان ، وكذا لو كان في يده بسوم أو ببيع فاسد أو استعارة مضمونة إلا إذا أذن له في استمرار القبض ، فإن الظاهر زوال الضمان كما أوضحنا ذلك كله وغيره فلاحظ وتأمل ، بل وذكرنا هناك أيضا عن الشيخ وغيره أنه لو أسقط عنه الضمان ، صح أيضا وإن لم يفد إذنا بالبقاء ، ضرورة أعمية ذلك من الرضا به لبقاء الإثم حينئذ.

إلا أنه أشكل بكونه إسقاطا لما لم يجب ، ضرورة كون المراد بالضمان أنه لو تلف ثبت في الذمة مثله ، أو قيمته ، فقبل التلف لم يثبت حتى يسقط.

وقد يدفع بأن الإسقاط للحق الذي تحقق فعلا وهو تهيؤ ذمته للضمان بالتلف ، فليس حينئذ إسقاط لما لم يجب ، بل هو إسقاط لما وجب وتحقق.

ودعوى ـ عدم صحة إسقاط مثل ذلك ـ يدفعها عموم (١) « تسلط الناس على حقوقهم وأموالهم » كدعوى ـ أن الإسقاط لا يتعقل بعد استمرار السبب ، وهو القبض غصبا ، وتجدده في كل آن آن ، إذ هو يجدي في خصوص أثر السبب المقارن والسابق ، فيبقى أثر السبب المتجدد غير ساقط ، ويكفي حينئذ في ثبوت الضمان ـ إذ يدفعها أيضا منع كون ذلك أسبابا متعددة ، بل هي جميعها بعد اتحاد أثرها

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ طبع الحديث.

٢٢٨

وصدق الأخذ على مجموعها سبب واحد عرفا ، بل وشرعا ، فالإسقاط حينئذ في محله فتأمل جيدا ، فإنه قد يمنع كون ذلك من الحقوق التي يتعلق بها الإسقاط وانما هو من الأحكام للأصل وغيره والله اعلم.

وما يحصل من الرهن من فائدة متصلة أو منفصلة بالاكتساب كحيازة العبد أو غيره فهي للراهن بلا خلاف ولا إشكال ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل المحكي منهما مستفيض ، كالنصوص ، بل يمكن دعوى ضرورة المذهب ، بل الدين عليه ، وإن خالف فيه في الجملة أبو حنيفة كما قيل ، إلا أن خلافه إن لم يؤكد الضرورة لا ينافيها ، إنما الكلام في تبعيتها له في الرهانة وعدمها ، وقد أشار إليه المصنف بقوله ولو حملت الشجرة أو الدابة أو المملوكة بعد الارتهان كان الحمل رهنا كالأصل على الأظهر وهو مشعر أو ظاهر في أن الخلاف في نحو ذلك لا مطلق الفائدة ، وهو كذلك بالنسبة إلى الفوائد المتصلة كالسمن والطول والعرض ونحو ذلك ، للإجماع بقسميه على تبعيتها ، بل هي في الحقيقة كصفات الرهن وأحواله التي لا تخرج عن مسماه.

بل قد يقال : بعدم صحة اشتراط خروجها ، وإن كان لا يخلو من إشكال ، بل وبالنسبة إلى ما يتجدد من المنافع بالاختيار ، كاكتساب العبد ، لخروجها عن التبعية ، بل جزم في التذكرة بعدم صحة اشتراط دخولها ، لأنها ليست من أجزاء الأصل ، فهي معدومة على الإطلاق.

لكن في الدروس لم يفرق بينها وبين ثمرة الشجرة ، بل ربما ادعى أنه ظاهر الأصحاب ، وإن كان لا يخلو من بحث ، كما أومأنا إليه سابقا ، ومنع الراهن من استيفائها لا لتبعيتها ، بل لاستلزامه التصرف في المرهون الممنوع منه مطلقا نصا وفتوى ، وإلا فهي ليست من النماءات المتولدة في الأعيان أو منها ، وإن كانت هي أحد مقدمات حصولها ، ضرورة استنادها إلى الأفعال مع الأعيان ، كالانتفاع الحاصل بالتكسب بالدراهم ، فتأمل جيدا.

٢٢٩

وكيف كان فما اختاره المصنف قد نسب إلى الأشهر والأكثر ، بل قيل أنه المشهور شهرة كادت تكون إجماعا بل في الانتصار « أنه مما انفردت به الإمامية » ، بل في الغنية ، والسرائر ، الإجماع عليه ، بل والأخير منهما أنه مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وأن عدم الدخول مذهب المخالفين ، وهو الحجة بعد التبعية ، وأنها أجزاء من العين المرهونة استحالت إلى موضوع آخر ، وعدم خروج الفرع عن أصله.

لكن قد يوهن الإجماع بمصير كثير من الأصحاب إلى خلافه ، إذ القول بعدم التبعية للمبسوط والخلاف ونكت النهاية للمصنف ، والتحرير ، والتذكرة والإرشاد ، والمختلف ، والإيضاح ، والتنقيح ، وجامع المقاصد ، والروضة ، ومجمع البرهان ، والكفاية ، على ما حكي عن بعضها ، ومال إليه في المسالك ، وحكاه في الدروس عن المصنف في درسه ، بل قد يظهر من التذكرة الإجماع عليه ، بل في زكاة الخلاف دعواه صريحا ، قال : « إذ أرهن جارية أو شاة فحملتا بعد الرهن كان الحمل خارجا بإجماع الفرقة ».

وتمنع التبعية في غير الملك ، للأصل ، وتبعية ولد المدبرة للدليل ، مع أن العتق مبني على التغليب ، وكون النماء أجزاء من العين بعد التسليم في جميع أفراده لا يقضي بذلك بعد خروجه عن مسماها لغة وعرفا وشرعا ، وغير ملحوظ للعاقد ، ولا دليل في الشرع ، فأصالة تسلط المالك على ملكه بحاله.

بل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « له غنمه ، وعليه غرمه » كخبر إسحاق عن أبي إبراهيم عليه‌السلام « قلت : فان رهن دارا لها غلة ، لمن الغلة؟ قال : لصاحب الدار » دال على ذلك أيضا ، بقرينة كون الظاهر أن السؤال لتخيل الدخول في الرهانة ، والمراد حينئذ بالجواب رفع ذلك ، وأنه لصاحب الدار التصرف به كيف يشاء ، لا أن المراد بيان أصل الملكية الواضحة ، لوضوح بقاء الرهن على ملك المالك ، ومن ذلك كله يظهر لك قوة القول بعدم الدخول ، وإن كان الأشهر خصوصا بين المتقدمين الأول والله أعلم.

ولو كان في يده رهنان ، بدينين متغايرين ، أو متوافقين ثم أدى الراهن أحدهما لم يجز للمرتهن إمساك الرهن الذي يخصه الدين‌

٢٣٠

المؤدى بالدين الآخر من غير تراض مع الراهن بلا خلاف ولا إشكال ، وكذا لو كان له دينان ، وبأحدهما رهن ، لم يجز له أن يجعله رهنا بهما من غير تراض معه أيضا ولا أن ينقله إلى دين مستأنف أما مع الرضا منه فيجوز قطعا ، كما تقدم تحقيق ذلك كله ، وجميع ما يتعلق به في آخر الفصل الثالث فلاحظ وتأمل والله أعلم.

وإذ أرهن مال غيره بإذنه صح بلا خلاف فيه ، بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه عندنا ، بل وغيرنا عدا ما حكي عن ابن شريح من القول على تقدير كونه عارية لا يصح رهنه ، لأنها غير لازمة ، ولعله غير مخالف في أصل الحكم ، ومن هنا حكى في التذكرة عن ابن المنذر أنه أجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئا يرهنه ، على دنانير عند رجل إلى وقت معلوم ففعل كان ذلك جائزا وفي المسالك « أجمع العلماء على جواز رهن مال الغير باذنه على دينه في الجملة ، وسموه استعارة ».

نعم في التذكرة « هل يكون سبيل هذا العقد سبيل العارية أو الضمان؟ الحق عندنا الأول » ولعله مشعر بالإجماع ، كالمحكي من نسبة ولده ذلك إليه ، وإلى المحققين.

لكن عن المبسوط أنه حكي فيه قولا بأنه على سبيل الضمان المعلق بالمال ، والمعروف حكاية ذلك عن أصح قولي الشافعي ، كالمحكي عن بعض الشافعية من أنه بين الراهن والمرتهن رهن ، وبين المعير والمستعير عارية ، وبين المعير والمرتهن ضمان ولا ريب في ضعف الجميع ، بل في بطلانه حتى على ما وجهه به في الدروس ، من أن المعير أناب المستعير في الضمان عنه ، ومصرفه في هذا المال ، إذ هو غير مجد في مخالفته للمعهود من الضمان الذي هو الانتقال من ذمة إلى ذمة ، وهو مفقود هنا قطعا ، وكيف يكون ضمانا ولم يقصده الراهن ، ولا المرتهن ، مع أنه لو صرح المالك وقال للديان لزمت دينك في رقبة هذا المال على وجه لا تكون ذمته مشغولة له لم يكن صحيحا وبالجملة لا ينبغي إتعاب النظر في فساد ذلك.

٢٣١

نعم قد يشكل العارية بأن التوثيق الحاصل بدفع الرهن ليس من منافع العين التي تباح بعقد العارية المساوي لعقد الإجارة في ذلك ، المعلوم امتناعه في مثل الفرض وإنما هو انتفاع بسبب تعلق عقد الرهن بها ، لا أنها من منافعها التي هي كالسكنى في الدار والخدمة في العبد ، والركوب في الدابة ونحو ذلك.

على أن تعلق عقد الرهن بها قد يؤدى إلى خروجها عن الملك المنافي للعارية التي هي إباحة المنفعة ، مع بقاء العين ، وإن اعتراها اللزوم كعارية الأرض للدفن ونحوه ، بل ما تسمعه من مشهورهم من الضمان في هذه العارية وإن تلفت بآفة سماوية بعد الرهانة ، بل ولو بجناية العبد نفسه ـ ، مناف لما ذكره من عدم الضمان لها في غير الذهب والفضة إلا بالتعدي أو التفريط أو الشرط.

ودعوى رجوع ما هنا إلى الثالث واضحة الفساد ، كدعوى خروج ذلك عن مطلق العارية ، بدليل مخصوص ، لعدمه كما ستعرف ، فلا يبعد أن يكون ذلك من الأحكام الجائزة شرعا وإن لم يندرج تحت عقد من العقود المتعارفة ، إذ دعوى عدم خلو الواقع منها يكذبها الوجدان ، فإن كثيرا مما هو جائز شرعا لا يدخل كالقبالة والمنحة ونحوهما ، على بعض الأقوال أو الوجوه ، بل حاصل ذلك عدم اعتبار كون الرهن ملكا للراهن ، كما أنه لا يعتبر في صحة الرهن كون الدين على الراهن ، فيجوز أن يرهن ماله على دين غيره متبرعا ، كما ذكرناه سابقا في الشرائط.

بل هو غير زائد على ما نحن فيه إلا بالإذن التي تكون سببا لاستحقاق الرجوع عليه بها كالوفاء تبرعا ، وبالإذن الذي يمكن دعوى عدم انحلال الثاني منه إلى القرض بعد عدم اعتبار الملكية فيما يوفى به ، فيستحق حينئذ الرجوع عليه بالإذن ، وإن كان ما وفى به باقيا على ملك الموفي إلى حين الوفاء ، ولعله للإذن في إتلاف المال فيما يعود نفعه إليه ، فإنه يكفي في تسبيب مثله الضمان.

وعلى كل حال فدعوى كون المقام عارية حقيقة في غاية الإشكال ، ولعله لا يريده الأصحاب كما يومي إليه ما في المسالك من نسبة التسمية إليهم ، وكذا من قال‌

٢٣٢

بالضمان ، فإنه لا يريده حقيقة بل المراد قربه منهما بالنسبة إلى بعض الأحكام ، ولا ريب حينئذ في أن الحق مع الأصحاب ضرورة أقربية ذلك إليها من الضمان ، والأمر سهل بعد عدم وضوح ثمرة معتد بها على هذا الخلاف.

وإن حكي عن المبسوط وتبعه غيره تفريع اعتبار ذكر جنس الدين وقدره وحلوله وتأجيله ووصفه وصاحبه على تقدير الضمان ، لعدم صحته في المجهول ، بخلاف العارية ، وأنه عليه ليس لمالك العين إجبار الراهن على الفك ، إذ هو كضمان الدين المؤجل الذي لا يصح للضامن المطالبة بالتعجيل ، لإبراء ذمته ، بخلافها ، فإنها غير لازمة ، وأنه عليه يرجع بما بيع به ، وإن كان أقل من ثمن المثل ، لأنه الذي أداه ، بخلافها فإنه يرجع بقيمة تامة ، وكذا إذا بيع بأكثر منه ، فعلى الضمان يرجع بالجميع ، وعليها يرجع بقدر القيمة.

لكن في الأول : أن الفاضل في ظاهر القواعد وصريح المحكي عن التذكرة والكركي وابن المتوج مع القول بالعارية قد اعتبروا ذكر جميع ذلك أو بعضه ، وفي المسالك أنه أولى ، فلا يجوز بدونه لما فيه من الغرر والضرر ، لكثرة تفاوت الدين وجنسه والمرتهن والأجل ، وإن كان قد يقوى الجواز ، وفاقا للمحكي عن التحرير ، وجامع الشرائع ، وظاهر إطلاق الإرشاد واللمعة ، كالكتاب بل والمبسوط ، والدروس ، وان فرعاه على القول بالعارية مع إطلاق الإذن الذي هو كالتعميم في تناول الأفراد مع عدم الانصراف إلى البعض ، وإن تفاوتا في الدلالة قوة وضعفا.

ومنه ينقدح حينئذ عدم الفرق بين الضمان والعارية في ذلك ، إذ ليس هو من ضمان المجهول حينئذ. نعم لو فرض تصور اذن في العارية للرهن لا على وجه الإطلاق أمكن حينئذ التوقف لرجوع الأمر إلى الإجمال حينئذ لا الإطلاق.

وفي الثاني : ان الأقوى على العارية أيضا عدم جواز إجباره على الفك قبل الحلول ، لأنها لزمت بالعارض ، كالعارية للدفن ، بل ربما ظهر من ثاني الشهيدين أن لزومها إجماعي خلافا لمحكي المبسوط ، والسرائر ، والتذكرة ، وعارية التحرير ، وجامع الشرائع ، لكون العارية من العقود الجائزة ، وفيه ما عرفت ، ومن هنا كان‌

٢٣٣

خيرة ثاني الشهيدين كالمحكي عن التحرير في المقام ، وجامع المقاصد ، عدم جواز المطالبة له ، بل الظاهر ذلك وإن أجابه المرتهن إلى قبول الحق أو تبديل الرهن ، فظهر حينئذ أنه لا تلازم بين القول بالعارية وبين القول بالجواز ، كما يومي إليه ما سمعته ممن قال باللزوم من أصحابنا ، مع قوله بالعارية ، إذ القول بالضمان ليس لأحد منا.

نعم لا إشكال في أن له المطالبة بالفك على كل حال بعد الحلول ، بلا خلاف أجده فيه ، بل قيل : كأنه إجماعي ، ولا ينافيه لزوم العارية بالرهن ، إذ لا نقول ان له فسخ الرهن ، بل يطالب الراهن بالفك ، فإن حصل وإلا فإن باعه المرتهن في الدين رجع هو على الراهن كما ستعرف ، وليس له التعرض للمرتهن بوجه ، لعدم السبيل له عليه.

وما قيل : من أنه قد يقال : إذا حل الأجل وأمهل المرتهن الراهن أن للمالك أن يقول للمرتهن إما أن ترد مالي ، أو تطالب الراهن بالدين ليؤديه فيفك الرهن كما أنه إذا ضمن دينا ومات الأصيل فللضامن أن يقول إما أن تطالب بحقك من التركة ، أو تبرئني لا وجه له معتد به لا في المشبه ولا في المشبه به.

وفي الثالث والرابع : ما ستعرفه عند التعرض لحكم ذلك ، فمن الغريب تفريع ذلك وغيره على القولين ، خصوصا من مثل الشهيد في الدروس ، وعلى كل حال فإذا أعاره للرهانة فإن عمم له أو أطلق بناء على كونه كالتعميم رهنه كيف شاء ، وإن عين له مقدارا من الدين أو خصوص مرتهن أو أجل مخصوص أو نحو ذلك تعين ، فلو خالفه كان فضوليا إلا إذا عين له الأكثر فرهنه ، على الأقل ، للأولوية ، أما إذا عين له الأقل فرهنه على الأكثر ففي فضوليته بالنسبة إلى الجميع أو خصوص الزائد وجهان أو قولان ، أقواهما الثاني ، بل ينبغي الجزم به لو كان في عبارة مستقلة بأن قال : هو رهن على المأة وعلى الخمسين مثلا.

بل عن بعض نسخ جامع المقاصد ، أنه يجب أن يستثنى من هذه المسألة ما لو رهنه بالزائد ، وبكل جزء منه فإنه رهن بالمقدار المأذون فيه على وفق الأذن ،

٢٣٤

والزائد موقوف ، ويكون موضع الوجهين ما إذا رهنه على المجموع ، ثم إنه استشكل في الصحة لأنا إذا قسطنا الأجزاء على الأجزاء يكون بعضه رهنا بالمأذون ، فيكون خلاف الإذن ، لأن الإذن اقتضى رهن جميعه بالمأذون فيه ، والأولوية ممنوعة بعد احتمال التعيب بالشركة.

وعن نسخة أخرى المتجه أنه إن رهن على الأكثر وعلى كل جزء منه صح في المأذون فيه ، وبطل في الزائد ، وجها واحدا ، وإن رهن على الأكثر مقتصرا على ذلك فالمتجه البطلان مطلقا ، وهما معا كما ترى ، والأقوى ما ذكرناه من النفوذ في المقدار المأذون فيه ، والفضولية في الزائد مطلقا كما لو أعاره شيئا معينا فرهنه مع غيره ، وليس ذلك من قبيل الوكيل على البيع بشي‌ء معين فباعه بالأنقص متفاحشا فإنه فضولي ولا ينفذ البيع فيه بمقدار ما أذن له فيه ، كما هو واضح والله أعلم.

وكيف كان فإن رهنه المستعير ضمنه بقيمته إن تلف أو تعذر إعادته كما صرح به غير واحد ، بل في المسالك جعلوها أي العلماء مضمونة على الراهن ، وإن تلفت بغير تفريط ؛ لكن عن عارية التحرير ؛ لم يكن على أحدهما ضمانه ؛ واحتمله في الدروس قال : « لأنها أمانة عندنا ، إلا أن نقول الاستعارة المعرضة للتلف مضمونة قلت : أو نقول الأصل الضمان ، خصوصا بناء على ما سمعت سابقا من عدم كون ذلك عارية في الحقيقة ، كي يعارضه ما دل على عدم ضمان العارية ، بل وعليه بعد الشك في شموله لمثله ، ولو لكلام الأصحاب ، ولأنه بتعلق الرهن به شابه المال المحترم المدفوع وفاء بالإذن من غير ظهور من المالك فعلا ولا قولا بالمجانية.

بل في جامع المقاصد ، ومحكي قواعد الشهيد ، وموضع من التذكرة ، الضمان لو تلف في يد المستعير قبل الرهانة ، بل في الأخير عندنا مشعرا بدعوى الإجماع عليه ، كالمحكي عن ولده من أنه نص الأصحاب على أنها عارية مضمونة ، مضافا إلى أنه قبضه للإتلاف في دينه ، فهو قبض ضمان ، كالقبض في السوم ، لا أن سبب الضمان الرهن ، ومنه ينقدح حينئذ الضمان لو تلف في يد المستعير بعد الفك ، كما نسب إلى‌

٢٣٥

ظاهر إطلاقهم.

لكن استشكل في الضمان قبل الرهانة في القواعد : بل عن موضع آخر من التذكرة استقرب عدم الضمان ، لأنه أمانة ، وإنما ضمن بالرهن للتعرض للإتلاف ، وسببه الرهن ، والمسبب لا يتقدم على السبب ، بل جزم ثاني الشهيدين بعدم الضمان ، ولعل الأول لا يخلو من قوة ، خصوصا مع القول بالضمان في المال المدفوع إلى رجل لقضاء دينه ، وإن فرق بينهما في الدروس ، بأن هذا إقراض متعين للصرف ، بخلاف المستعار ، فإنه قد لا يصرف في القضاء إلا أنه كما ترى ، على أن المراد التشبيه به في الجملة ، وأقرب شبها به المقبوض بالسوم ، بل لعل المدرك فيهما واحد عند التأمل.

وعلى كل حال فلا خلاف أجده في عدم ضمان المرتهن للأصل وما دل على عدم ضمان المرتهن الشامل للمقام ، لكن في القواعد « الأقرب عدم الضمان » وهو مشعر باحتماله ، ولعله لأن يده مترتبة على يد المستعير التي قد عرفت ضمانها ، إلا أنه كما ترى ، وأوضح منه فسادا ما عن ولده من توجيهه ، وإن أطنب فيه ، وحكاه عنه نفسه كما لا يخفى على من لاحظه ، والمراد بالقيمة التي يضمنها له قيمة يوم التلف ، لأنه ليس أسوء حالا من الغاصب.

نعم لو كان التفاوت لنقص في العين ، اتجه ضمان الأعلى لكون الأبعاض مضمونة عليه كالجملة ، وتعذر الرد للغصب ونحوه كالإتلاف كما هو واضح. وعن المبسوط ، والتحرير ، أنه إذا جنى العبد وبيع في الجناية يرجع بقيمته ، وهو كذلك ، إذ إتلاف العبد نفسه كالتلف بآفة في الضمان ، لكن قيل إن ذلك منهما محمول على الغالب من البيع بالقيمة ، ولا بأس به. نعم الظاهر أن للمالك إلزام الراهن بالفك في الخطأ بل والعمد مع رضي المجني عليه بذلك ، ولم يسترقه ولو بالأزيد من قيمته ما لم يصل إلى حد يقبح الإلزام به.

هذا كله في غير البيع بالرهن ، أما هو فإن باعه المرتهن حيث يجوز له ذلك بقيمته رجع بها على المستعير ، وإن كان بأنقص مما يتغابن بمثله رجع بها تامة ، ولو بيع بأكثر من ثمن مثله ، كان له المطالبة بما بيع به لأن الثمن ملكه ، وقد‌

٢٣٦

أخذ في الدين ، وفي المسالك « أن ما في المتن أجود مما في القواعد من التعبير بالرجوع بأكثر الأمرين من القيمة وما بيع به ، لإيهامه إمكان بيعه بدون القيمة ، وهو ممتنع لعدم تصور بيعه على وجه يصح بنقصان من قيمته ؛ بخلاف الزيادة ، لإمكان اتفاق راغب فيها تزيد عن ثمن المثل ، بحيث لولا ظهوره لما وجب تحريه ، لكونه على خلاف العادة المعروفة في ثمن مثله.

وربما فرض نقصان الثمن عن القيمة مع صحة البيع بسبب قلة الراغب في الشراء مع كون قيمة المال في ذلك الوقت والمكان عند ذوي الرغبة أزيد مما بذل فيه ، ويشكل بأن المعتبر في القيمة ما يبذل في ذلك الوقت ، لا ما يمكن بذله فإن كان الذي باع به المرتهن يسوغ البيع به لم يثبت للمالك سواه ، وإلا لم يصح البيع ».

قلت : يمكن فرضه بما عرفت من البيع بما يتغابن بمثله ، كما أومى إليه في الدروس قال : « ليس للمرتهن بيعه بدون إذن ، إلا أن يكون وكيلا شرعيا أو وصيا على القولين ، فلو امتنع الراهن من الإذن أذن الحاكم ، ويجب على الراهن بذل المال ، فإن تعذر وباعه ضمن أكثر الأمرين من قيمته ، ولو بيع بأقل من قيمته بما لا يتغابن به ، بطل ، وإن كان يتغابن به كالخمسة في المأة صح ، وضمن الراهن النقيصة على قول العارية ، وعلى الضمان لا يرجع ، لأن الضمان يرجع بما غرمه ».

وهو صريح فيما قلناه من ضمان الراهن نقيصة التغابن ، وإن صح البيع ، لكن قد يوهم أول كلامه اكتفاء المرتهن في صحة البيع بإذن الراهن الذي هو المستعير ، والظاهر اعتبار إذن المالك معه ، وإن كان لا يجوز له الامتناع ، ولو امتنع قام الحاكم مقامه كالراهن المالك ، ومن هنا لم يقدح إذنه في البيع في جواز رجوعه بمقدار التغابن ، لأن إذنه باعتبار لزومها عليه ، كعدم الإذن كما هو واضح.

ولو اقتصر المرتهن على إذنه في البيع والوفاء لم يكن له الرجوع على الراهن لأنه كالمتبرع بقضاء الدين حينئذ ، كما أنه لا يصح البيع لو اقتصر علي إذن المستعير لعدم كونه مالكا ، والإذن بالرهانة أعم من الاذن في البيع فتأمل جيدا.

٢٣٧

وكيف كان فالمعروف بين الأصحاب عدم دخول زوائد الرهن الموجودة حال العقد التي لا تدخل في اسمه الذي هو مورد عقد الرهن لغة ولا عرفا ولا شرعا ، ولا تتبعه في العقد عليه في أحدهما ، بل في التنقيح الإجماع عليه ، كما عن الانتصار ذلك أيضا لكن في خصوص الحمل ، وهو الحجة بعد الأصل ، خلافا للمحكي عن الإسكافي « فتدخل » وهو واضح الضعف ، بل في التنقيح انعقد الإجماع بعده على خلافه نعم ربما قيل بدخول نحو الصوف والوبر والشعر على ظهر الحيوان ونحو ذلك مما هو جزؤه بل عن التذكرة أنه استقربه ، وتردد فيه ، وفي دخول الأس تحت الجدار ، والمغرس تحت الشجرة ، واللبن ، والضرع ، والأغصان في الشجر ، في القواعد.

والظاهر دخول الصوف وشبهه إذا لم يكن مستجزا بل لعله ليس من محل البحث والتردد إذا كان جزءا مما جعل عنوانا للرهن ، إنما الكلام في المستجز مع كون العنوان الحيوان ، وقد سمعت ما عن التذكرة من الدخول ، نحو ما عن التحرير وجامع المقاصد ، لكونه جزء حقيقة من الحيوان ، وإنما يخرج عن الجزئية بعد الانفصال وهو قوي ، اللهم إلا أن يدعى تعارف خروجه في عقد الرهن ونحوه.

وأما الأس فإن أريد به بعض الجدار المستور الذي هو أصل البناء ، فقد يقوى دخوله ، لأنه بعض مسمى اللفظ وكونه مستورا غير قادح ، وإن أريد به موضع الأساس كما عساه يومي إليه ذكر المغرس بعده ، فالأقوى عدم دخوله ؛ كما عن التذكرة وغاية المرام ، لعدم تناول اللفظ له ؛ ودعوى دلالته عليه بالالتزام على وجه يدخل في الرهانة ممنوعة.

ومنه يعلم الحال في المغرس ؛ واستحقاق المرتهن إبقاءه على الراهن ؛ لتوقف التوثق عليه ؛ أو اسم الجدار مثلا ـ لا يقضي بالرهانة ؛ ومنه يعلم عدم دخول الجدران في رهنية السقف ، وإن كان لا يمكن بقاؤه بدونها فتأمل جيدا.

وأما اللبن فقد يقوى عدم دخوله خلافا للمحكي عن حواشي الشهيد ؛ لعدم دخوله في مسمى اللفظ ؛ وظهور انصراف الرهانة إلى غيره ، ودعوى أنه كالجزء ومن جملة رطوبات البدن واضحة المنع ، بل لو قيل : بدخوله في البيع والهبة ونحوهما‌

٢٣٨

أمكن الفرق بينهما ، وبين الرهن في ذلك عرفا ، فلا وجه لبناء المسألة هنا على ذلك ولا إشكال في دخول الأغصان الرطبة ونحوها مما لم تجر العادة بقطعها ، بل عن الإيضاح أنه لا خلاف فيه ، بل قد يقوى دخول اليابسة وما جرت العادة بقطعه ، لأنها بعض المسمى ، إلا أن يتعارف الخروج في الرهن.

والضابط خروج كل ما لا يدخل تحت مسمى اللفظ إلا أن يتعارف دخوله ، ودخول كل ما هو بعض مسماه ، إلا أن يتعارف خروجه ، وحظ الفقيه من ذلك الإجمال مع أنه قد تقدم في بحث ما يندرج في المبيع ما يستفاد منه تمام التفصيل في ذلك ، فراجع ملاحظا للفرق بين الرهانة والبيع في بعض الجزئيات.

وقد ظهر حينئذ من ذلك كله أنه إذا رهن النخل لم تدخل الثمرة ، وإن لم تؤبر لعدم تناول اللفظ لها ، والدخول في البيع ، لدليل مخصوص لا يقتضي به هنا ، بعد حرمة القياس عندنا ، فلا فرق حينئذ بين ثمرة النخل وغيره ، وخصه هنا تنبيها على خلاف بعض العامة وكذا لو رهن الأرض لم يدخل الزرع ولا الشجر ولا النخل لعدم تناول اللفظ ولو قال : بحقوقها ضرورة عدم كونها من حقوقها ، خلافا للمحكي عن الشيخ فتدخل حينئذ ، ولا ريب في ضعفه.

فمن الغريب قول المصنف هنا أنه لو قال ذلك دخل كل منها وفيه تردد ، ما لم يصرح بل لم أجد أحدا غيره تردد فيه. نعم لو قال وما اشتملت عليه ونحو ذلك مما هو صريح في الدخول أو ظاهر كان متجها ، وقد تقدم الكلام في نحو ذلك في البيع وكذا لا يدخل ما ينبت في الأرض بعد رهنها سواء أنبته الله سبحانه أو الراهن أو الأجنبي إذا لم يكن الغرس من الشجر المرهون بلا خلاف أجده فيه ، بين من تعرض له ، لعدم كونه من نماء الأرض حتى يأتي فيه ما تقدم ، إلا أنه لا يخلو من إشكال في بعض أفراده ، كالحشيش ونحوه مما يظهر منهم في غير المقام الحكم منهم بملكيته لصاحب الأرض لأنه نماء أرضه.

نعم هو كذلك في بعض أفراده مما لا يعد نماء لها ، وإنما هي من معدات وجوده ودعوى أن جميع ما ينبت فيها كذلك لا تخلو عن نظر ، وتحقيق البحث في ذلك في‌

٢٣٩

مقام آخر ، وأما إذا كان الغرس من الشجر المرهون مثلا فهو باق على الرهنية ، لا أنه يدخل في الأرض من حيث أنه نماء.

وهل يتوقف غرسه حينئذ على إذن المرتهن؟ احتمله في المسالك ، لأنه تصرف في الرهن وانتفاع به ، وقد يقوى العدم ، لأنه مصلحة له وزيادة في قيمته ، كالسقي والدواء ونحوهما ، نعم لو أضر بالأرض فلا ريب في توقفه على إذنه ، وكذا لو كان الغرس من غير المرهون ، وأطلق في الدروس المنع من الزرع وإن لم تنقص به الأرض حسما للمادة ، وهو لا يخلو من اشكال ، خصوصا إذا كان في الزرع مع ذلك مصلحة للأشجار والنخل ، بل ربما يتضرر الراهن بالترك فتأمل جيدا.

وكيف كان ف هل يجبر الراهن على إزالته؟ أي ما نبت في الأرض بفعله أو بفعل الله أو بفعل أجنبي قيل : كما عن المبسوط والتذكرة لا يجبر على الإزالة وقيل كما في القواعد ، ومحكي المختلف والإيضاح وغاية المرام ، وجامع المقاصد ، نعم يجبر على إزالته وهو الأشبه عند المصنف ، لأن الإبقاء ولو كان الأصل من غيره تصرف منهي عنه ، فهو كالمتاع الموضوع في دار الغير ، وفيه منع عد مثل ذلك تصرفا.

ومن هنا مال في المسالك إلى التفصيل بين ما كان من فعله فالأقوى إزالته وبين ما كان من فعل غيره فلا يجب ، قال « : وقد يفرق بينه وبين المتاع بأن وضع المتاع منه فهو سبب في بقائه بخلاف ما أنبته الله ».

وفيه أنه يمكن أن يريد الأول وضع المتاع من غيره ، فكان اللائق في رده التزام عدم وجوب الإزالة فيه أيضا ، أو إبداء الفرق. كما أن كلمات الأصحاب لا تخلو من إجمال في المقام ، حيث لم يفرقوا بين ما كان للنابت أمد ينتظر كالزرع وعدمه ، خصوصا إذا كان أمده قبل حلول الدين ، ولا في الإجبار على الإزالة قبل حلول الدين وبعده ، مع أن المحكي عن الإيضاح ، وغاية المرام ، إيجاب إزالة الزرع عند انتهاء المدة عادة.

٢٤٠