جواهر الكلام

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ورد عليها منفردة ، وهو قول الشيخ ، وكذا لو حملت بعد الارتهان وقلنا : بعدم دخول النماء المتجدد ، أو كان قد شرطا عدم دخوله ».

قلت : ما ذكره أخيرا يقتضي أن الزيادة كلها للمالك ، لأنها في قيمة الولد ، والنقصان الذي حصل في الجارية بالضم مستحق على المرتهن ، لعدم صحة بيعها بدونه وقد رضي بها رهنا وهو على هذا التقدير جيد ، كما أنه لو فرض زيادة قيمة الجارية به دون قيمة الولد ، يتجه اختصاص المرتهن بها ، إنما الكلام لو حصلت الزيادة لهما بالضم ، أو النقصان ، وقد عرفت الحال فيه فتأمل جيدا.

ثم إن ظاهر المصنف وغيره ممن اقتصر كاقتصاره على الشروط الأربعة ، عدم اشتراط أمر آخر غيرها ، لكن في القواعد « لا يصح رهن المجهول » ، وفي المحكي عن مواضع من المبسوط ، بل عن الخلاف ، نفي الخلاف عن عدم صحة الرهن فيما في الحق. بل قيل : ظاهره نفيه بين المسلمين ، وفي التذكرة « لو كان ما في الحق مجهولا لم يصح الرهن قطعا في المظروف خاصة ، للجهالة على اشكال ، ويصح الرهن في الحق عندنا ، وإن تفرقت الصفقة إذا كان له قيمة مقصودة ».

وفي الدروس « لا يصح رهن أحد العبدين أو العبيد لا بعينه ، للغرر ، بل قال : والظاهر أنه يعتبر علم الراهن والمرتهن بالمرهون مشاهدة أو وصفا » وهو ظاهر الشيخ حيث منع من رهن الحق بما فيه للجهالة ، وجوزه الفاضل ، واكتفى بتمييزه عن غيره ، والشيخ نقل الإجماع على بطلان رهن ما فيه ، ويصح رهن الحق عنده.

قلت : إن تم هذا الإجماع كان حجة على خصوص معتقده ، وما شابهه من المجهول من جميع الوجوه ، وإلا فالإطلاقات تقتضي الجواز ، ونفي الغرر إنما هو في العقود المبنية على المغابنة ، لا في مثل الرهن المبني على غبن الراهن للمرتهن ، كالواهب بالنسبة إلى المتهب.

قال في التذكرة في باب بيع الغائب : « الأقرب جواز هبة الغائب غير المرئي ولا الموصوف ورهنه ، لأنهما ليسا من عقود المغابنات بل الراهن والواهب مغبونان والمرتهن والمتهب مرتفقان ، ولا خيار لهما عند الرؤية ، كما إذا أرهنه المال الغائب ،

١٤١

أو وهبه له ، لانتفاء الحاجة اليه ، ومعلوم أنه لا خيار لهما باعتبار هذين العقدين ، أما لو شرط في كل من الهبة والرهن موصوفين في عقد البيع مثلا فظهر بخلاف الوصف ثبت الخيار بالعارض » وهو جيد جدا.

نعم قد يتجه البطلان في غير المعين كأحد العبدين أو العبيد ، كما جزم به في المختلف ، وفي حواشي الشهيد ، وجامع المقاصد « المراد بالمجهول الذي لا يصح رهنه المجهول من جميع الوجوه ، أو من بعضها بحيث يمنع من توجه القصد إليه ، وما في الحق كالشاة من القطيع لا يتوجه القصد إليها ، وأما المجهول لا كذلك ، كهذه الصبرة ، إذا لم يعلم قدرها فلا بأس به ».

قلت : يمكن منع عدم توجه القصد إلى ما في الحق ، بعد القطع بكونه مما يرهن ، وإن لم يعلم جنسه ولا نوعه ، ومن هنا كان ظاهر المختلف جوازه. نعم هو كذلك في الشاة من القطيع بعد إرادة الإيهام الذي تنتفي معه الشرائط الأربعة ، بل لا يصح رهنها مع إرادة الإطلاق ، لا لأن المطلق لا يمكن قبضه إلا بقبض الفرد الذي هو غير مرهون ، إذ هو مع أنه غير تام ـ بناء على عدم اعتبار القبض إلا إذا قلنا باعتبار كونه مما يقبض عليه أيضا ـ واضح المنع ، ضرورة صدق قبض الكلي يقبض فرده ، بل لعدم جواز بيعه لو بقي على إطلاقه ، لعدم اشتراط القبض ، أو لأنه قبض الجميع مقدمة لقبض الواحد ، واحتمال استحقاق المرتهن على الراهن تعينه عند ارادة البيع فيصح حينئذ لذلك ، يمكن منعه للأصل وغيره ، وإن كان ذلك كله لا يخلو من نظر بل منع ، ولو فرض أنه أرهنه شاة ، ثم عينها له وقبضها المرتهن لم يبعد الصحة ، وكذا لو أرهنه صاعا من صبرة ، وإن لم يقبضه بعينه ، وفي تنزيله على الإشاعة وعدمها الوجهان ، ولعل الأقوى الأول ، فتأمل جيدا.

فظهر من ذلك كله أن ما لا يجوز رهنه من المجهول ، لا ينفك عن فقد أحد الشرائط الأربعة ، وغيره لم يثبت عدم جواز رهنه ، بل إطلاق الأدلة يقضي بخلافه ، وعدم معرفة مقابلته للحق في بعض أحوال الجهل غير قادح ، إذ لا يعتبر في الرهن إمكان استيفاء تمام الحق منه ، بل يكفي فيه الوثوق باستيفاء بعضه ، والله أعلم.

١٤٢

الفصل الثالث

في : الحق

الذي يجوز أخذ الرهن عليه وهو كل دين ثابت في الذمة قبل الرهانة أو مقارنا لها في وجه تسمعه إنشاء الله يمكن استيفاؤه من الرهن كالقرض ، وثمن المبيع والأجرة وحينئذ ف لا يصح الرهن فيما لم يحصل سبب وجوبه أي ليس بثابت حال الرهن ك‍ ما في القواعد نحو الرهن على ما يستدينه منه أو على ثمن ما يشتريه فلو دفعه إلى المرتهن ثم اقترض لم يصر بذلك رهنا بلا خلاف أجده بيننا ، بل في التذكرة ، وجامع المقاصد ، الإجماع عليه ، بل ولا إشكال ، ضرورة ظهور أدلة المقام في كون الرهن وثيقة على مال المرتهن ، ولا يتصور الاستيثاق قبل حصول مال له عنده ، فلا يشمله عموم الوفاء بالعقود ، بعد فرض عدم صدق الرهن عليه ، كما هو واضح.

وما عن أبي حنيفة ، وبعض وجوه الشافعية ـ من الجواز ، وأنه يصير رهنا بالقرض ـ في غاية الضعف ، كدليله الذي مقتضاه حينئذ تأخر أثر الإنشاء عن سببه الذي هو العقد ، وهو معلوم الفساد عندنا ، بل لا يصح الرهن على الأعيان التي ليست بمضمونة على من في يده ، كالوديعة والعارية غير المضمونة ونحوها بلا خلاف أجده ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعل المحكي منهما مستفيض ، وبه يخرج عن عموم الوفاء بالعقود ، لو كان مشمولا لها باعتبار صدق الرهن عليه عرفا.

أما المضمونة كالمغصوبة والعارية المضمونة والمقبوض بالسوم ونحوها ، ففي الرياض أن الأكثر على عدم صحة الرهن بها ، ولعله للأصل بعد عدم دليل للصحة ، لعدم الإجماع بعد استقرار فتوى الأكثر على الخلاف ، واختصاص الآية وجملة من النصوص بالدين ، وعدم انصراف إطلاق باقيها بحكم التبادر إلى محل الفرض‌

١٤٣

والمراد بالعقود المأمور بالوفاء بها المتداولة في زمن الشرع ، وفي كون محل الفرض منها نوع شك وغموض. وان علم تداول جنس الرهن ، وتسميته رهنا حقيقة في اللغة والعرف غير معلوم ، فلم يبق إلا الأصل المقتضي للفساد.

مضافا إلى اقتضاء صحة الرهن بها صحته في غير المضمونة ، ضرورة عدم الفرق بينهما ، إذ المراد من ضمانها ، الالتزام بالمثل أو القيمة عند التلف الذي هو غير معلوم الحصول ، فضمانها حينئذ متعلق على شرط ، كتعليق ضمان غيرها على التلف بالتفريط الذي لم يعلم حصوله ، فهما بالنسبة إلى ذلك سواء ، بل كل منهما مضمون عند العقد في الجملة ، وإن كان في الأولى بمجرد التلف ، وفي الثانية به مع التفريط ، وهو غير مجد.

لكن قد يناقش في ذلك كله ، بانقطاع الأصل بإطلاق أدلة الرهن الذي لا ينافيه اختصاص مورد بعضها بالدين ، لصدق اسم الرهن الذي هو للأعم من الصحيح والفاسد عليه في عرف المتشرعة ، فضلا عن اللغة الذي هو بمعنى الحبس ، فيشمله حينئذ إطلاق الأدلة ، ويحكم بصحته مع عدم العلم بالفساد.

كما أنه يحكم باندراجه في عموم الوفاء بالعقود ، وإن سلم إرادة المتداول منها في ذلك الزمن ، إلا أنه يكفي في إثباته معلومية تداول الجنس مع معلومية صدق ذلك الجنس على فرده الذي لم يعلم فساده ، وخروج الرهن على غير المضمون بالإجماع غير قادح ، على أنه قد يفرق بينهما بتعلق العهدة فيها بأحد الأمرين عينها أو بدلها بخلاف تلك ، فإنه لا عهدة فيها لإمكان تلفها بغير تفريط ، فلا حق للمرتهن في بعض أحوالها.

وأما إشكال أصل الرهن عليها ـ بأن المقصود من الرهن استيفاء الحق المرهون عليه منه ، ولا يعقل استيفاء الأعيان الموجودة من الرهن ـ فواضح الدفع ، بأنه يكفي فيه التوثق به ، لأخذ العوض عند الحيلولة ، أو التلف الذي هو محل الحاجة ، ولذا جاز أخذ مال الغاصب المساوي لما غصبه أو المخالف مع الامتناع عن رد العين وتعذر جبره.

١٤٤

على أن إرادة استيفاء نفس الحق من المرهون لا يتم في الدين المجمع على جواز الرهن عليه ، ضرورة عدم كون الثمن عين الدين الكلي الذي اشتغل به الذمة إذ لا ريب في مغايرته لجزئياته ، ولو في الجملة ، سيما على القول بأن وجوده في الخارج في ضمن الفرد ، لا عينه ، على أن ذلك كله في الرهن على الدين ، لا مطلق الرهن المفروض شموله للرهن على العين الذي معناه ما ذكرناه.

وعلى كل حال فالإشكال من هذه الجهة واضح الفساد ، كل ذلك مضافا إلى المعتبرة المستفيضة المتضمنة لنفي البأس عن الاستيثاق للمال ، كصحيح محمد بن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته عن السلم في الحيوان والطعام ويؤخذ الرهن؟ فقال : نعم استوثق من مالك ما استطعت » ونحوه غيره الشاملة بإطلاقها لمحل الفرض ، ضرورة صدق المالية عليه فلا بأس بالاستيثاق له.

والمناقشة ـ بأن الاستيثاق بهذا الرهن أول الكلام ، فإنه لا استيثاق إلا بعد صحته وعدم جواز رجوع الراهن فيه ـ واضحة الفساد ، ضرورة إرادة نفس الرهن من الاستيثاق فيها ، فالمراد أنه لا بأس بأخذ الرهن لمالك ، وهو شامل للدين والعين ، فيدل على الصحة ، ويجري عليه جميع أحكام الرهن.

فمن الغريب وقوعها من بعض الأساطين كالمناقشة بكون الخارج عن ذلك من الرهون الفاسدة أضعاف الداخل ، فيخرج عن الحجية ، ضرورة فسادها بمنع كونه مما يخرج به عن الحجية بعد ملاحظة الأصناف ، خصوصا إذا كان المعيار الوصول إلى حد الاستهجان ، فلا ريب حينئذ بعد ذلك كله في أن الأقوى صحة الرهن عليها ، وفاقا للفاضل ، والشهيدين ، والمحقق الثاني ، وغيرهم ، بل قد يقال :بصحته للمضمون بحكم العقد كالثمن والمبيع ونحوها ، بل ظاهر الدروس وغيرها تلازم الحكم بالصحة فيه ، للحكم بالصحة في الأعيان المضمونة ، قال : « ويجوز على عهدة الثمن لو خرج مستحقا ، وكذا المبيع والأجرة وعوض الصلح إن جوزنا الرهن على الأعيان والضرر بحبس الرهن دائما مستند إلى الراهن ، ولعلهما إذا أمنا الاستحقاق يتفاسخان ». وفي جامع المقاصد بعد أن فرغ من البحث في ضمان

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من أبواب الرهن الحديث ٥.

١٤٥

الأعيان ، قال : « ومثله أخذ الرهن على الثمن للمشتري ، أو المبيع للبائع على تقدير ظهور فساد المبيع ، وقد صرح باستوائهما بالحكم المصنف في السرائر ، وشيخنا في الدروس ، وإن كان المصنف في التذكرة ـ مع قوله بصحة الرهن على الأعيان المضمونة ـ منع من الرهن بعهدة البيع ، وليس بواضح ، وما علل به منعه الارتفاق مردود ، لورود مثله في الرهن على ثمن المبيع مؤجلا ، والظاهر أن أخذ الرهن على الصحة حذرا من نقصانها كالرهن على المبيع ».

قلت : الموجود فيما حضرني من التذكرة في المقام « وأما الأعيان المضمونة في يد الغير إما بحكم العقد كالمبيع ، أو بحكم ضمان اليد كالمغصوب ، والمستعار المضمون والمأخوذ على جهة السوم ، وكل أمانة فرط فيها وبقيت بعينها ، فالأقوى جواز الرهن عليها » وظاهره أنها مسألة واحدة ، اللهم إلا أن يريد بالمضمون بحكم العقد غير درك المبيع.

نعم كلامه في باب الضمان منها كالصريح في جواز الرهن على الدرك ، محتجا عليه بخبر داود بن سرحان (١) عن الصادق عليه‌السلام « سألته عن الكفيل والرهن في بيع النسيئة؟ قال : لا بأس » وإن كان في استدلاله ما فيه.

لكن في باب الرهن أيضا في مسألة عدم جواز أخذ الرهن على ما لا يستوفي منه قال : « كلما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به ، وما لم يجز أخذ الرهن به لم يجز أخذ الضمين به ، إلا ثلاثة أشياء عهدة البيع يصح ضمانها ، ولا يصح الرهن بها ، والكتابة لا يصح الرهن بها على إشكال سبق ، والأقرب صحة الضمان فيها ، وما لا يجب لا يصح أخذ الرهن به ، ويصح ضمانه ، لأن الرهن بهذه الأشياء يبطل الإرفاق ، فإنه إذا باع عبده بألف ودفع رهنا يساوي ألفا ، فكأنه ما قبض الثمن ولا ارتفق به ، والمكاتب إذا دفع ما يساوي كتابته ، فما ارتفق بالأجل ، لأنه كان يمكنه بيع الرهن وإمضاء الكتابة ، ويستريح من تعطيل منافع عبده ، بخلاف الضمان ، ولأن ضرر الرهن يعم ، لأنه يدوم بقاؤه عند المشتري فيمنع البائع التصرف فيه ، بخلاف

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الرهن الحديث ـ ٣.

١٤٦

الضمان » فظهر من ذلك كله أن كلامه فيه مختلف.

وكيف كان فقد يقال بالفرق بينهما باعتبار عدم علم الاستحقاق في عهدة الثمن والمبيع ، واحتماله غير كاف في صحة الرهن ، وان كان لو تحقق لظهر انكشافه من أول الأمر ، بخلاف الأعيان المضمونة ، فإن الاستحقاق لردها عينا أو بدلا معلوم الثبوت ، بل لا يخفى على السارد ، للنصوص الواردة في الرهن أنه لا تناول في شي‌ء منها لذلك ، حتى النصوص التي ذكرناها آنفا ، ضرورة عدم مآل له ظاهرا عند غيره حتى يستوثق له ، ومنه ينقدح الشك في صدق الرهن عليه ، بحيث يندرج في عموم الوفاء بالعقود والإطلاق العامي المبني على ضرب من المسامحة لا عبرة به ولا وثوق ، فالقول بالمنع فيه وإن قلنا بالجواز هناك لا يخلو من قوة ، خصوصا مع ملاحظة عدم أمد له ينتظر غالبا ، والرهن على غير المعلوم من الدين حال الرهن ثم علم إن جوزناه لعدم شرطية العلم به ، كما في سائر ما يعتبر في المعاملة لا يقضي باجزاء حكم الرهانة عليه حال عدم العلم ، كما هو المفروض في محل البحث ، وبذلك يفرق بينه وبين الضمان الذي ليس فيه سوى شغل الذمة الذي يعلم بعد حصول الدرك كما أومى إليه فيما سمعته من التذكرة.

نعم لا مانع من التزام صحته لو بان بعد ذلك كون العين في العهدة لفساد البيع على نحو صحته في الدين المحتمل ، وكيف كان فقد عرفت أنه لا بد من الثبوت حال الرهن ، لعدم تصوره حقيقة بدونه ، بل لا بد من سبق ثبوته على تمام الرهن ، لأن الشرط للسبب شرط لاجزائه كما في سائر شروط العقود ، فلو شرك بين السبب والرهن في عقد كما لو قال المشتري : صالحتك عن هذا العبد بألف ورهنت الدار بها ، فقال :قبلت أو قال : قبلت الصلح ثم قال : قبلت الرهانة لم يصح ، وفاقا لصريح الكركي وظاهر غيره ، بل في الرياض حكايته عن الأكثر ، فضلا عن رهن العبد نفسه ، لوقوع إيجاب الرهن على التقديرين الذي معناه التوثيق قبل ثبوت الحق ، بل قيل : إنه غير معقول ، وحصوله بعد ذلك لو كان مجزيا في صحته التي هي بحسب حاله ، لا جزء لو تأخر عن الإيجاب والقبول ، خصوصا إذا كان قبل القبض بناء على أنه من تمام‌

١٤٧

السبب فتأمل.

ودعوى ـ كون المعتبر في عقد الرهن أن لا يسبق بتمامه الحق ، لا بعضه ـ لا شاهد لها ، بل الشواهد بخلافها ، ضرورة ظهور الآية (١) والنصوص ، (٢) بتعقب الرهن بتمامه للحق ، حتى يصدق أنه استوثق على ماله ، وليس الاستيثاق الذي هو بمعنى الرهن الجزء الأخير من القبول ، حتى يكون قد تأخر عن ثبوت الحق ، أو قارنه ، بل هو عبارة عن تمام عقد الرهن ، كما أنه ليس في عقد الرهن ما يقضي بالفرق بينه وبين غيره من العقود ، المعلوم تأخر تمام عقودها عما يعتبر في صحتها ، فلو أوجب البيع مثلا على ما لا يصح بيعه ، ثم انتقل إلى الصحة قبل تمام القبول أو قبل الشروع فيه لم يصح قطعا.

بل حكي عمن جوز ما نحن فيه من العامة الاعتراف ببطلان قول المولى لعبده كاتبتك على ألف ، وبعتك هذا الثوب بكذا ، فقال العبد : قبلتهما ، أو قال : قبلت الكتابة والبيع ، والفرق بين المقامين صعب ، وأطرف شي‌ء اشتراط الشافعية في الجواز تقدم إيجاب البيع على إيجاب الرهن ، إذ تقدمه بعد عدم تأثيره الحق في الذمة غير مجد ، فلا فرق بين تقدم إيجاب البيع عن إيجاب الرهن وتأخره ، كما هو واضح.

وبالجملة جواز ذلك غير متجه على أصولنا ، فما يحكى عن مالك ، والشافعي وأحمد ، وأصحاب الرأي من الجواز في غاية الضعف ، ومن الغريب تردد بعض الأساطين من أصحابنا فيه ، ففي القواعد « لو شرك بين الرهن وسبب الدين في عقد ففي الجواز إشكال ، ينشأ من جواز اشتراطه في العقد ، فتشريكه في متنه آكد ، أي في الالتزام ، لاحتمال عدم الوفاء بالشرط ، ومن توقف الرهن على تمامية الملك ، لكن يقدم السبب فيقول : بعتك هذا العبد بألف وارتهنت الدار بها ، فيقول : اشتريت ورهنت ، ولو قدم الارتهان لم يصح » وفي الدروس « وهل يجوز مقارنة الرهن للدين؟ فيه وجهان ، فيقول : بعتك الدار بمأة وارتهنت العبد ، فيقول قبلتهما أو

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٨٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الرهن.

١٤٨

اشتريت ورهنت ، ولو قدم الرهن لم يجز ».

بل في التذكرة « لو امتزج الرهن بسبب ثبوت الدين مثل أن يقول بعتك هذا العبد بألف وارتهنت هذا الثوب به ، فقال المشتري : اشتريت ورهنت ، أو قال :أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها دارك ، فالأقرب الجواز ، لأن الحاجة تدعو إليه ، فإنه لو لم ينعقد لم يتمكن من إلزام المشتري بعقده ، ولأن شرط الرهن في البيع والقرض جائز لحاجة الوثيقة ، فكذا مزجه بهما ، بل هو أولى ، لأن الوثيقة هنا ـ آكد ، فإن الشرط قد لا يفي به ».

لكن الجميع كما ترى بعد الإغضاء عما في الأمثلة من تقديم قبول الرهن على إيجابه ، إذ الحاجة مع عدم رجوعها إلى الحرج لا تكون دليلا مثبتا لحكم شرعي واشتراط الرهن لا يشترط فيه شرائط عقد الرهن من ثبوت الحق ونحوه ، فجوازه لا يستلزم جواز ذلك ، بل الظاهر كما قدمنا في بحث الشرائط من البيع صحة اشتراط رهن المبيع نفسه على معنى رهنه بعقد جديد بعد انتقاله.

بل لو جوزنا اشتراط نتيجة العقد بدونه ، وقلنا : إن الشرط يقوم مقامه كقيام الصلح مقام بعض العقود ، وان لم يلحقه حكم ذلك العقد ، اتجهت الصحة حينئذ ، لعموم أدلة الشرط السالم عن معارضة ما دل على اشتراط ذلك مثلا في الرهن ، لأن المفروض عدم كونه من الرهن ، وإن حصلت نتيجته بالشرط ، بل لو قلنا بصحة اشتراط النتيجة على وجه يلحقه أحكام الرهن ، على معنى أن للرهن سببين العقد والشرط ، أمكن جواز اشتراط كونه رهنا على دين سابق ، فضلا عن اشتراط رهن غيره مما هو مملوك للراهن سابقا ، فينتقل حينئذ مقارنا لتعلق حق الرهانة به أو مقدما عليه ، كما هو مقتضى الاشتراط الذي يراد منه الرهن بعد ثبوت الحق كما قيل.

وعلى كل حال لا يستلزم الصحة في محل البحث ، بل لو قلنا بصحة اشتراط رهنه على الثمن في العقد على المعنى المزبور ، لم يستلزم الصحة أيضا ، لإمكان دعوى اشتراط سبق الحق على عقد الرهن ، لا على اشتراطه المقتضي للاقتران ، أو سبق الحق عليه باعتبار بساطته ، بخلاف عقد الرهن الذي هو مركب من الإيجاب والقبول ، ولا يتصور‌

١٤٩

مقارنتهما لثبوت الحق ، بل أقصاها المقارنة للسبب بالطريق المذكور في كلامهم ، وهو مقتض لوقوع الإيجاب قبل حصول الحق الذي هو شرط فيه ، لكونه شرطا للعقد بتمامه فتأمل جيدا فإنه دقيق والله العالم.

وكيف كان فليس المراد من الثابت في المتن وغيره اللازم لصحة الرهن على الثمن في مدة الخيار ، بناء على حصول الشغل بالعقد والرهن على غيره مما هو متزلزل بلا خلاف أجده فيه ، لإطلاق الأدلة. نعم في التذكرة « لا شك في أنه لا يباع الرهن في الثمن ما لم يمض مدة الخيار » مع أنه لا يخلو من نظر ، بل منع فيما إذا حل الدين قبل أجل الخيار.

بل المراد من الثابت ، الحاصل في الذمة وإن لم يكن لازما ، فلا يصح على ما لم يحصل سبب وجوبه بل ولا على ما حصل سبب وجوبه في الجملة ولكن لم يثبت به في الذمة كالدية قبل استقرار الجناية في الخطأ المحض ، وشبه العمد ، وقبل انتهاء حالها وان علم أنها تأتي على النفس الذي هو سبب ثبوت الدية ، على المشهور نقلا وتحصيلا ، بل مقتضى الإطلاق عدم الفرق في الجناية على ما فيه الدية وغيره ، ولعله لان الشارع لم يرتب عليها حكما قبل انتهاء حالها ، فهو حينئذ تمام السبب فلا ثبوت قبله ، والقطع بأنه يحصل أحد السببين لا يجدي في جواز أخذ الرهن ، لعدم ثبوت الحق حينئذ قبل حصول سببه.

لكن في المسالك « ربما قيل : بجواز الرهن على الجناية التي قد استقر موجبها وإن لم تستقر هي ، كقطع ما يوجب الدية ، فإن غايته الموت ولا يوجب أكثر منها ، بخلاف ما دون ذلك ، وليس ببعيد » وتبعه غيره.

وفيه أنه على احتمال سريان الجناية لم يكن لذلك القطع تأثير ، ولا سببية ، بل المؤثر حينئذ الموت ، ولا معنى للرهن قبل ثبوت الحق. نعم لو كان المؤثر للدية القطع المزبور والموت لا أثر له ، اتجه حينئذ الرهن لثبوت الحق ، لكن ظاهر النص والفتوى خلافه ، فإطلاق المتن وغيره حينئذ متجه ، وقد عرفت أن القطع بحصول أحد السببين غير الحصول فعلا ، وكان ذلك هو الذي أوهم القائل ، مع أنه لو تم‌

١٥٠

لجاز الرهن على المتيقن ثبوته من الدية في الجناية على ما لا يوجبها ، كقطع اليد مثلا ، فإن النصف متيقن في ضمن تمام الدية أو مستقلا ، ولا يلتزم به القائل المزبور والفرق بينهما لا يخلو من تكلف ، ثم من المعلوم أن الدية في الخطأ على العاقلة ، وأنها مقسطة على ثلاث سنين.

ولكن لا يجوز الرهن على قسط كل حول إلا بعد حلوله لعدم تعين المستحق عليه منها قبله ، وإن الجامع لشرائط العقل عند تمام الحول هو الذي يعقل ، وإن كان فاقدا لها قبله ، لا غيره ، وإن كان جامعا لها سابقا ، واستصحاب الجامعية إلى مضي الحول غير مجد ، بعد أن كان جزء سبب الثبوت مضي الحول ، فإذا مضى صح الرهن حينئذ من ذلك المتعين الذي قد ثبت في ذمته.

أما الدية في شبيه العمد فيصح الرهن عليها بمجرد حصول سبب ثبوتها ، لأنها على الجاني وإن كانت مؤجلة إلى سنتين ، لكن كأجل الدين ، فلا يمنع من الرهن بها بعد أن كانت متعلقة بذمته ، وإن مات في تركته.

اللهم إلا أن يقال إن الأجل فيها كالأجل في دية الخطأ ، بمعنى أن مضيه جزء سبب الاستحقاق ، فيتجه حينئذ عدم الرهن بها أيضا ، وستسمع إن شاء الله في كتاب الديات ما يؤكد ذلك ، وإن كان في بعض العبارات هناك ما يوهم اشتغال الذمة بها قبل الحول ، ولكن غير مستقر لاحتمال الموت والإعسار عند الحول ، إلا أنه محمول على ضرب من التوسع ، ضرورة اقتضاء التدبر في كلامهم هنا وهناك كون المراد بالخطاب بها الحكم التكليفي ، لا الديني الذي لا يسقط بالموت ، ولا بالإعسار ، فلاحظ وتأمل.

وقال في الدروس : « ولا يصح الرهن على الدية قبل استقرار الجناية ، وإن حصل الجرح ، ويجوز بعد الاستقرار في النفس والطرف ، فإن كانت مؤجلة فبعد الحلول على الجاني ، أو على العاقلة في شبيه العمد والخطأ ، ويجوز على الدين المؤجل والفرق تعيين المستحق عليه فيه ، بخلاف العاقلة ، فإنه لا يعلم المضروب عليه عند الحلول ، ويحتمل قويا جوازه في الشبيه على الجاني لتعيينه ، ولو علل بأن الاستحقاق‌

١٥١

لم يستقر إلا بعد الحلول في الجناية ، شمل الجاني والعاقلة ، إلا أنه ينتقض بالرهن على الثمن في الخيار ، فالظاهر جواز أخذ الرهن من الجاني كالدين المؤجل » ولعل بناء المسألة على ما ذكرنا أولى بعد الإغضاء عما في بعض كلامه ، ونسأل الله التوفيق لتحقيق ذلك في محله فتأمل.

وكذا لا يصح الرهن على مال الجعالة قبل الرد لعدم استحقاق المجعول له قبل العمل ، بلا خلاف أجده فيه ، بل وقبل تمام العمل وإن شرع فيه ، خلافا للفاضل في التذكرة ، فجوزه بعد الشروع قبل التمام ، لانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم ، كالثمن في مدة الخيار ، وأشكله في المسالك بعدم استحقاق شي‌ء وإن عمل الأكثر ، قال : « والفرق بينها وبين الخيار واضح ، لأن البيع متى أبقى على حاله انقضت مدة الخيار ، وثبت له اللزوم ، والأصل فيه عدم الفسخ ، عكس الجعالة فإن العمل فيها لو ترك على حاله لم يستحق بسببه شي‌ء ، والأصل عدم الإكمال ».

قلت : مدار الحكم على الاستحقاق بالشروع وعدمه ، وظاهرهم في الجعالة الثاني ولعلها غير الأجرة على العمل التي يملكها بالعقد ، كما هو مقتضى المعاوضة ، وإن كان لا يستحق تسليمها إلا بالعمل ، بخلاف الجعالة التي مورد العقد فيها أنها عوض العمل ، لا ملكه على المجعول له ، ولذا كانت جائزة بالنسبة إليه ، وتحقيق الحال في محله إنشاء الله.

وكيف كان فلا إشكال في أنه يجوز الرهن على مال الجعالة بعده أي العمل ، بل ولا خلاف ، بل في التذكرة الإجماع ، لحصول الاستحقاق به كما هو واضح ، ويجوز على مال الكتابة المطلقة بلا خلاف على ما في المسالك ، بل ولا إشكال ، لثبوت الحق بها ولزومها من الطرفين ، بل والمشروطة على الأقوى ، وفاقا للمشهور عند المتأخرين ، لأنها لازمة للمكاتب مطلقا عندنا كما في المختلف ، بل لو قلنا : بالجواز بالنسبة إليه خاصة ، أو إلى المولى معه اتجه الصحة أيضا ، لعدم منافاته لاستحقاق المولى كالثمن في مدة الخيار كما أنه لا ينافيها تسلط المولى على رده في الرق ، إذ قد لا يريده.

١٥٢

ومن ذلك يظهر لك ضعف القول بعدم الجواز ، كما عن الشيخ ، والقاضي ، والحلي ، وسبطه يحيى بن سعيد ، للأمرين المزبورين اللذين قد عرفت عدم اقتضائهما ذلك ، بعد تسليم الأول منهما ، بل وظهر لك ان تأدية المطلوب الذي قد عرفت الحال فيه بقول المصنف وكذا مال الكتابة ، ولو قيل بالجواز فيه كان أشبه غير جيد إذا الخلاف كما عرفت مختص بالمشروطة ، بل الخلاف فيها ضعيف جدا ، لضعف دليله والأمر سهل ف يبطل الرهن عند فسخ الكتابة المشروطة ممن له فسخها ، لذهاب الاستحقاق به كالفسخ بالخيار كما هو واضح.

وكيف كان فقد عرفت فيما مضى أنه يعتبر في الحق كونه عهدة ، أو دينا في الذمة يمكن استيفاؤه من الرهن الذي هو بمعنى الوثيقة لصاحب الحق مع التعذر أولا معه ، وإلا لم يكن وثيقة ف لا يصح على ما لم يمكن استيفاؤه من الرهن كالإجارة المتعلقة بعين المؤجر مثل خدمته فإنه مع تعذرها بموت ونحوه ، بل بعصيان منه تنفسخ الإجارة فليس للمرتهن استيفاؤها من الرهن ، وثبوت أجرة المثل عليه في بعض الأحوال الأجر الخاص ، كما لو انتفع بنفسه في مدة الإجارة ، أو أجر نفسه لغيره ، ولم يجز المستأجر الأول ، واختار الرجوع على الأجير ، لأنه هو المتلف لا تسوغ أخذ الرهن ، لعدم معلومية تحققها ، فالرهن عليها حينئذ رهن على الحق قبل ثبوته ، بل على احتمال ثبوته ، بل كل معين من ثمن أو أجرة أو نحوها لا يصح الرهن عليه ، لعدم إمكان استيفائه من الرهن ، ولذا قال في التذكرة : « لا يجوز أخذ الرهن بعوض غير ثابت في الذمة ، كالثمن المعين ، والأجرة المعينة في الإجارة ، والمعقود عليه في الإجارة إذا كان منافع معينة مثل إجارة الدار ، والعبد المعين ، والحمل المعين مدة معلومة ، أو لحمل شي‌ء معين إلى مكان معلوم ، لأنه حق يتعلق بالعين ، لا بالذمة ، ولا يمك استيفاؤه من الرهن ، لأن منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من غيرها ، وتبطل الإجارة بتلف العين ».

لكن قد يشكل ذلك كله بإطلاق أدلة الرهن والاستيثاق للمال التي يكفي فيها الاستيفاء من الرهن في بعض الأحوال ، كما إذا استوفى المنفعة المؤجر مثلا ، أو‌

١٥٣

منعها في مثل الدابة على الأقوى ، فإن قيمتها حينئذ تثبت في ذمته ، فيستوفي من الرهن نحو ما سمعته في الأعيان المضمونة ، واحتمال الانفساخ ـ بموت ونحوه مع أن الأصل عدمه ـ غير مناف ، كما لا ينافي احتمال الفسخ في الخيار.

بل لعل الضمان في المقام أولى مما ذكره الشهيد في الدروس ، من أنه لو ارتهن المستأجر على مال الإجارة خوفا من عدم العمل بموت أو شبهه فهو كالرهن على الأعيان المضمونة ، وهو صريح في الجواز هنا بناء على الجواز هناك ، مع أن المال هنا قد انتقل بالعقد إلى غيره ، فليست الأجرة حينئذ له ، حتى يستوثق لها ، بخلاف المنفعة والأجرة المعينة والمبيع المعين ونحوها مما هي مملوكة له في الظاهر ، فله أن يستوثق على تسليمها إليه ، وعلى احتمال ضمان من في يده لها ، وقد سمعت ما في التذكرة في الأعيان المضمونة ، وأن منها المضمون بحكم العقد ، مع قوله بعدم صحة الرهن على الدرك ، فيمكن أن يريد بالمضمون بحكم العقد ما نحن فيه فتأمل جيدا.

إلا أني لم أجد خلافا بينهم في عدم جواز الرهن على ذلك ، فالجرأة على الجزم به لا تخلو من مخالفة الجزم ، فالأولى التوقف في المسألة أو الحكم بالعدم ، ولعله لما أشرنا إليه سابقا من عدم تحقق العهدة ، كي يتجه الرهن ، واحتمالها غير كاف في الحكم بالرهن ظاهرا كالدين المحتمل فلاحظ وتأمل ، والله العالم.

وعلى كل فلا إشكال كما لا خلاف في أنه يصح الرهن فيما هو ثابت في الذمة كالعمل المطلق في الذمة الذي لا يبطل بالموت ، لعدم اشتراط المباشرة فيه ، فمع التعذر وشبهه يباع الرهن حينئذ ويستوفى منه العمل كما هو واضح ولو رهن على مال رهنا ثم استدان آخر ممن له الدين الأول مساويا له في الجنس والقدر أو مخالفا وجعل ذلك الرهن عليهما معا مصرحا بذلك أو اتفقا معا على ارادته جاز بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، ومشغوليته بالدين الأول غير قادحة بعد أن لم تكن منافية للثانية ، فهو كما لو رهنه عليهما من أول الأمر.

ومن هنا يعلم أنه لا حاجة إلى إبطال الرهانة الاولى ، ثم التجديد لهما كما صرح‌

١٥٤

به غير واحد ، بل يعلم أنه لا يحكم ببطلان الأولى لو أطلق رهانته على الدين الثاني من غير تعرض للاول ، لما عرفت من عدم التنافي فالأصل بقاؤها حينئذ ، ودعوى ظهور الإطلاق في ذلك ممنوعة ، فتردد الشهيد حينئذ في بطلان الاولى في صورة الإطلاق في غير محله.

نعم قد احتمله في القواعد فيما إذا كان الدين المتجدد لأجنبي ، وقد أجاز المرتهن الأول رهانته عنده ، والبطلان في خصوص ما قابل دين الثاني لو فرض زيادته عليهما ، والعدم مطلقا من غير ترجيح لأحد الثلاثة كالتحرير ، والدروس ، وغيرها.

مع أن الأقوى الأخير منها فيه ، وفاقا للتذكرة ، وجامع المقاصد ، أيضا ، لعدم التنافي حتى لو كان الرهن لا يفي إلا بدين الثاني ، لإطلاق الأدلة ووجوب الوفاء بالعقد ، ولا يمتنع كون الشي‌ء رهنا بمجموع لا يفي ثمنه بأدائه ، لأن الأداء ثمرة الرهن بعد تحققه ، لا نفسه ، وإنما يثبت الأداء بحسب حال الثمن باعتبار كثرته وقلته.

وتقديم دين شخص في الأداء على الآخر لا ينافي تعلق كل من الدينين بالرهن لما قلناه من أن ذلك ثمرة الرهن ومقصوده ، ولا محذور في أن يكون المقصود في بعض أولى وأسبق من البعض الآخر ، وإن استويا فيما له المقصود والثمرة.

ولأنه لو تضمن عقد واحد رهنا بدينين وتقديم أحدهما على الآخر في الأداء ثم تأدية الآخر بعد أداء الأول لم يكن ذلك باطلا ، ففي العقدين المستقلين أولى ، لوقوع الثاني بعد القطع بصحة الأول ، فلا بد في طرو البطلان عليه من دليل أقوى من دليل الصحة.

ودعوى أن مقتضى الرهن الاختصاص بمجموعه بالنسبة إلى الدين المرهون به ، ليقضى ذلك الدين من ثمنه ، واختصاص كل من الدينين بمجموع الرهن متناف لأن اختصاص أحدهما بالمجموع على هذا الحكم ينافي اختصاص الأخر ، وقد ثبت الرهن الثاني بالسبب الطاري وإجازة المرتهن الأول فيبطل الأول ـ يدفعها منع المنافاة كما عرفته مفصلا واجازة المرتهن انما توجب تقديمه عليه بناء على اقتضاء العقد ذلك لا بطلان الأول.

١٥٥

وأوضح منها منعا دعوى كونها موجبة لفسخ رهنه فيما قابل الدين الثاني ، لأن المنافاة باعتبار مقصود الراهن مختصة به ، بخلاف ما زاد ، إذ الرهن متعلق بالمجموع ، فان اقتضى الاختصاص اقتضاه في المجموع ، وإلا لم يقتض في شي‌ء منه ، ولأن الثمن على تقدير اعتبار المقابلة والزيادة بالنسبة إليه لا تنضبط ، فقد يكون في وقت الرهانة كثيرا يبقى منه بقية بعد الدين الثاني ، ثم يتجدد النقصان ، وبالعكس ، ويستحيل تجدد ثبوت الحق بعد كون العقد حال وقوعه غير مقتض له.

وعلى كل حال فيترتب على كل من الاحتمالات الثلاثة حكم إسقاط المرتهن الثاني حقه من الرهن ، فعلى ما اخترناه يبقى رهنا عند الأول ، وعلى الثاني لا حق له ، وعلى الثالث لا حق له فيما قابل الدين الثاني كما هو واضح ، ولو لم يعلم المرتهن الأول برهن الثاني حتى مات الراهن ، وفك الرهن لم يبطل الرهن ، بناء على عدم اعتبار القبض ، لكونه لازما من طرف الراهن ، فليس للورثة ولا للغرماء المنع لسبق التعلق ، فإن أجاز الأول قبل الفك ففيه الاحتمالات.

نعم ان كان قد بيع الرهن في دين الأول فقد يقوى بطلانه حينئذ ، وإن فضل منه شي‌ء ، لعدم تناول الرهانة للثمن فلم يبق له موضوع ، أما لو بقي من عين الرهن بقية وقد قضى دين الأول ، أو بقي تمام الرهن لقضاء دينه من غيره ، فقد يتجه نفوذ الرهن للثاني ، ويختص به عن الغرماء ، وليس للأول المنع بعد فرض سقوط تعلقه من الرهن ، ولم يكن قد رد الرهن في حال تعلقه ، لكون المفروض عدم علمه حتى فك الرهن منه ، كما أنه لا أثر لإجازته ، فلم يبق مانع من النفوذ ، لوجود المقتضي وارتفاع المانع ، واحتمال ـ عدم صحة أصل الرهانة حال كونه رهنا عند الأول ـ يدفعه أنه لا إشكال في الصحة مع الإجازة التي هي مقدمة لإسقاط مانعية حقه ، فعلم قابلية العقد للتأثير مع ارتفاع المانع بالإجازة ، أو بالفك ، فإذا فرض عدم علم المرتهن الأول حتى فك منه ، اتجه نفوذ الثاني.

ومن ذلك كله يظهر لك ما في عبارة القواعد قال بعد ذكر الاحتمالات في المسألة السابقة : « ولو لم يعلم الأول حتى مات الراهن ، ففي تخصيص الثاني بالفاضل عن‌

١٥٦

دين الأول من دون الغرماء ، إشكال ، ولا حكم لإجازة الأول ولا فسخه بعد موت الراهن » بل فيها نظر من وجوه أخر أيضا تظهر بأدنى تأمل ولكن الانصاف عدم خلو المسألة بعد من الإشكال ، لإمكان الفرق بين الإجازة والفك ، باقتضاء الأول تعلق الرهانة من أول الأمر ، لأنها كاشفة على الأصح ، بخلاف الثاني ، ويأتي إنشاء الله تمام الكلام في ذلك والله العالم.

ولو زاد في الرهن للدين الواحد جاز بلا خلاف ، حتى من أبي حنيفة ، ولا إشكال لإطلاق الأدلة من غير حاجة إلى إبطال الأول ، واستيناف عقد جديد ، والظاهر كون الجميع حينئذ كالرهن الواحد الذي حكمه بقاء الرهنية ما دام شي‌ء من الدين باقيا إن كان قد صرح بكونه رهنا على كل جزء من الدين ، أو اتفقا على ذلك ، بخلاف ما إذا صرحا بكونه على التقسيط ، أو بكون مجموعه رهنا على المجموع ، أو اتفقا على ذلك ، فإنه ينفك من الرهن في الأول بالنسبة ، وفي الثاني بأداء شي‌ء من الحق وليس للديان الامتناع من قبض البعض ، مخافة انفكاك الرهن بعد الشرط عليه والإقدام منه على ذلك ، وان تردد فيه في الدروس مما سمعت ، ومن أدائه إلى الضرر بالانفساخ ، لكنه في غير محله.

كما ان تردده في حمل الإطلاق على الأول كذلك أيضا ، ضرورة غلبة تعلق الأغراض باستيفاء الدين عن آخره من الرهن ، مضافا إلى ما عن المبسوط من الإجماع والتقابل بين الأجزاء في المبيع ونحوه من عقود المعاوضة ، لا يقضي بذلك في الرهن المراد به الاستيثاق لمجموعة على جميع اجزاء الدين ، فلا ينفك حينئذ بتمامه ولا جزء منه بأداء البعض ، إلا مع التصريح ، أو ما يقوم مقامه.

ومن الغريب ما في الدروس حيث أنه بعد أن ذكر صحة اشتراط الرهانة على كل جزء جزء ، فيبقى مجموعه رهنا ببقاء شي‌ء من الدين ، واشتراط رهنه عليه لا على كل جزء منه ، وينفسخ حينئذ بأداء شي‌ء من الدين قال : « وإن أطلق ففي حمله على المعنى الثاني أو الأول نظر ، من التقابل بين الاجزاء في المبيع فكذا في الرهن ، ومن النظر إلى غالب الوثائق فإن الأغلب تعلق الأغراض باستيفاء الدين عن آخره‌

١٥٧

من الرهن وهذا قوى » وقال في المبسوط : « إنه إجماع » وهو كما ترى مع أنه لا ينطبق تعليله الأول على الوجه الثاني ، وإنما هو صالح للتوزيع الذي لم يذكره هو ، وتسمع فيما يأتي إن شاء الله تمام الكلام في المسألة.

وعلى كل حال فقد ظهر لك أن الرهن المضاف حكمه حكم المضاف إليه ، بعد ظهور كون المقصود منه رهانته على حسب الأول وما عن أبي حنيفة ـ من أنه يكون رهنا بالنسبة على معنى قسمة الدين على قيمة المضاف إليه الرهن يوم قبضه ، على المضاف يوم قبضه ، فلو كانت قيمة الأول ألفا مثلا ، وقيمة الثاني خمسمائة ، والدين ألف مثلا قسم أثلاثا ثلثان في المضاف إليه ، وثلث في المضاف ـ لا شاهد له ، بل الشواهد على خلافه.

وقد بان لك أن صور الرهن ثلاثة وتسمع إن شاء الله تمام الكلام فيها الأولى :رهن المجموع على كل جزء من الحق الثانية : الرهن عليه لا على كل جزء منه الثالثة :رهن الأجزاء المشاعة على الاجزاء كذلك ، وفي الأخيرة ينفك بعضه بأداء بعض ، ويبقى الباقي ، كما أنه كذلك لو استدان رجلان كل منهما دينا ثم رهنا مشتركا بينهما ، ولو بعقد واحد مطلق ، ثم قضى أحدهما فإن حصته تكون طلقا ، لانصراف رهن كل منهما إلى ملكه على دينه إن لم يشترط المرتهن رهنه على كل جزء من الدين ، وإلا اتبع الشرط الذي لا يقدح فيه عدم ملكية كل منهما للجميع ، بعد فرض رضا كل منهما بذلك ، والمال غير خارج عنهما.

ولو تعدد المرتهن واتحد العقد من الواحد فكل منهما مرتهن للنصف مع تساوى الدين وأما مع اختلافه فربما احتمل ذلك أيضا ، لأنه الأصل في التشريك ، إلا أن الأظهر التقسيط على مقدار الدين ، كما هو الأصل في اجتماع الأسباب المعتبر سببية كل منهما ، ولأن مقتضى الرهن قضاء الدين كله من ثمن المرهون إذا وفي به فالزائد من أحد الدينين إن استحق قضاؤه من الرهن اقتضى تعلق ذلك الزائد بالرهن فيكون تعلق مجموع الدين الزائد من الرهن أكثر من تعلق الأخر ، وان لم يستحق قضاؤه منه امتنع كونه رهنا بالمجموع ، وقد فرض كونه كذلك ، فظهر أن التقسيط‌

١٥٨

أولى ، فإن وفي فلا بحث ، والا قسط عليهما بحسبهما كما هو واضح.

نعم هذا كله في التعدد ابتداء دون التعدد في الأثناء ، فإنه لا عبرة به على الظاهر سواء كان في الرهن أو المرتهن ، كما في ورثة كل منهما لو تعددوا ، فلو مات الراهن عن ولدين لم ينفك نصيب أحدهما بأداء حصته من الدين ، كما أنه لو مات المرتهن عن ولدين فأعطى أحدهما نصيبه من الدين ، لم ينفك بمقداره من الرهن ، وذلك لأنه قد تعلق الدين بكل جزء منه في حيوة الموروث ، وقد انتقل إلى الورثة على هذا الحال ، فلا يتوهم أنه كتعلق حق الغرماء بالتركة التي لا ريب في انفكاك نصيب أحد الورثة بمقدار ما يخصه من الدين ، وإن قلنا ان التعلق كتعلق حق الرهانة ، لا كأرش الجناية ، لكن لما لم يكن ذلك سابقا على الموت ، وإنما هو بعده كان تعدد الورثة بمنزلة تعدد الراهن ، فتأمل جيدا والله اعلم.

الفصل الرابع في الراهن

ويشترط فيه بالنسبة إلى صحة الرهن له ولغيره كباقي العقود كمال العقل فلا يصح من الصبي ولا المجنون ولو مع الإجازة لسلب العبارة وفي لزومه جواز التصرف فلا يلزم من السفيه والمملوك ونحوهما إلا مع إذن الولي ، لكن ذلك بالنسبة إلى عقودهم ، أما لو عقدوا للغير وكالة أو فضولا فكجائزي التصرف في اللزوم.

وكذا يعتبر في لزومه أيضا الاختيار ف لا ينعقد مع الإكراه الذي لم يخرجه عن قصد اللفظ والمعنى ، فإنه إذا تعقبه الرضا بعد ذلك لزم على الأقوى أما إذا كان إكراها مخرجا له عن القصد المزبور فلا يصح ، وان تعقبه القصد والرضا بعد ذلك ، كما حرر في محله.

ويعتبر فيه أيضا إذا كان الرهن لنفسه أن يكون مالكا ، أو بحكم المالك ، كالمستعير الذي يأتي تمام الكلام فيه عند تعرض المصنف لبعض أحكامه.

وحينئذ ف يجوز لولي الطفل مثلا وإن لم يكن اجباريا رهن‌

١٥٩

ماله إذا افتقر إلى ذلك للاستدانة ونحوها بلا خلاف أجده فيما بيننا ، وإنما حكي عن بعض الشافعية ، ولا ريب في فساده ، لكن مع مراعاة المصلحة التي هي الأحسن الذي « نهى الله (١) عن القرب إلى ماله بدونه » كأن يستهدم عقاره فيروم رمه وإصلاحه أو يكون له أموال يحتاج إلى الإنفاق لحفظها من التلف ، أو الانتقاص ، فيرهن بذلك ما يراه من أمواله إذا كان استبقاؤها أعود له أي للطفل من بيعها ، إذا لم يمكن البيع أو غير ذلك من المصالح التي لا تنضبط لاختلافه باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال.

فالضابط فيه الميزان المزبور التي تقتضي أيضا غالبا وضع الرهن على يد عدل يجوز إيداعه منه ، أو من يطمئن به عليه من التلف ونحوه ، بل قد تقتضي صحة رهن ماله فيما إذا اشترى له بمأة نسيئة ما يساوي مائتين ، ورهن من ماله ما يساوي ماءة ، فإن لم يعرض التلف ففيه الغبطة الظاهرة ، وإن عرض فلا ضرار ، أيضا.

بل قد يقال : بالجواز فيما إذا لم يرض إلا برهن تزيد قيمته عن المأة إذا كان مما لا يخشى تلفه كالعقار ونحوه ، بل عن التذكرة قوة جوازه إذا كان على يد من يجوز إيداعه ، وبالجملة الأمر في ذلك غير منضبط ، ومع فرض تعدد أفراد المصلحة ولا ترجيح تخير ، والطفل في المتن وغيره من باب المثال ، ضرورة الجواز أيضا لولي المجنون والسفيه أيضا والمسألة غير مخصوصة بالرهن ، بل هو كغيره من التصرفات لهم المحرر جملة من أحكامها في غير المقام والله أعلم.

الفصل الخامس : في المرتهن

ويشترط فيه : ما يشترط في الراهن من كمال العقل وجواز التصرف والاختيار على حسب ما سمعته في ذلك كله ، لكن الظاهر أنه لا بأس بقبول السفيه والمفلس الارتهان الذي ليس بمستحق على المديون بشرط ونحوه ، إذا كان الدين من غيره ، أو منه قبل الحجر ، لأنه ليس تصرفا ماليا ، ولا مناف له ، بل فيه مصلحة

__________________

(١) سورة الانعام الآية ـ ١٥٢.

١٦٠