جواهر الكلام - ج ٢٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وإلى ذلك أشار المصنف بعد ان ذكر أنه بالمساواة فيهما أى الكيل والوزن في المكيل والموزون يزول تحريم الربويات إجماعا أو ضرورة إذا لم يكن في أحدهما زيادة عينية ، أو حكمية ، ولو أجلا ، قال فلو باع ما لا كيل فيه ولا وزن متفاضلا جاز ولو كان معدودا ، كالثوب بالثوبين والثياب ، والبيضة بالبيضتين والبيض نقدا ، وفي النسيئة تردد و، لا ريب في أن المنع أحوط ، خروجا عن شبهة الخلاف المتقدم ، وإن كان هو ضعيفا بل في محكي التذكرة الإجماع على خلافه ، بل يمكن دعوى تحصيله ، كما أن النصوص السابقة بين صريح وظاهر في جوازه ، والبأس المستفاد من مفهوم بعضها أعم من الحرمة ، على أنك قد سمعت ما في خبر سعيد بن يسار (١).

ومنه يعلم وجه الاقتصار في بعضها على اليد باليد ، وقد ظهر لك من ذلك أن الخلاف متحقق هنا في أمرين ؛ أحدهما : إلحاق المعدود بالمكيل والموزون في جريان الربا كما هو صريح المقنعة ، والمحكي عن سلار وابى علي ، وثانيهما : المنع من البيع متفاضلا نسيئة ، وإن لم يكن معدودا ، كما سمعته من الشيخ وغيره ممن لم يجز المعدود مجرى المكيل والموزون في الربا ، ولعل ذلك منهم إثبات حكم خاص للنسيئة ، لا لأنه ربا أو لأن الربا الممنوع فيه في النسيئة لا النقد ، والظاهر ثبوت ذلك عندهم ، ولو في المعدود أيضا ، كما هو صريح النهاية أيضا وقد يطلق اسم المعدود على ما يشمل نحو العبد والفرس والدار ، ومن هنا اشتبه على بعض الناس الحال في المقام والتحقيق ما عرفت.

وعلى كل حال فلا دليل معتبر على شي‌ء من الدعويين بحيث يصلح لمعارضة تلك الأدلة ، لكن لا بأس بالقول بالكراهة في بيع المتجانس متفاضلا نسيئة ، بل وغير نسيئة في المعدود وغيره ، خروجا من شبهة الخلاف للفتوى والرواية ، بعد القول بالتسامح في الكراهة على هذا الوجه ، والله أعلم.

ولا ربا في الماء للأصل والإطلاق والنصوص السابقة لعدم اشتراط الكيل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٧.

٣٦١

والوزن في بيعه وإن اتفق بيعه بأحدهما في بعض الأحوال أو الأمكنة أو الأزمنة ، نعم قيل إنه لا يباع سلفا إلا وزنا ، فلو أسلف ماء في ماء إلى أجل ، احتمل أن يكون ربويا ، لاشتراط الوزن فيه حينئذ ، وكذا الحجارة والتراب والحطب ، وفيه أن الوزن في السلم للضبط ، لا لأنه يعتبر في صحة بيعه ذلك ، فالأقوى عدم جريان الربا فيه ، حتى في السلم إذ لو سلم اعتبار الوزن فيه ، يمكن منع تحقق شرط الربا ، بذلك ، ضرورة ظهور الأدلة في اعتبار ذلك في أصل بيعه ، لا في قسم خاص من البيع.

وكذا الطين نعم يثبت في الطين الموزون كالأرمني على الأشبه لتحقق الشرط فيه ، والمراد به طين قبر ذي القرنين وعن المصباح أنه‌ روي عن محمد بن جمهور القمي (١) عن بعض أصحابه « أنه سأل الصادق عليه‌السلام عن الطين الأرمني يؤخذ للكسر أيحل أخذه قال : أما إنه طين قبر ذي القرنين وطين قبر الحسين عليه‌السلام خير منه » وعن مكارم الأخلاق (٢) أنه أرسل عنه عليه‌السلام « أنه سئل يؤخذ الطين الأرمني للكسر والمبطون؟ فقال : نعم » الحديث وعن الإيضاح في باب المطاعم نفى الخلاف عن جوازا كله لدفع الهلاك فكان دواء يباع وزنا ، وأما الخراساني فأكله حرام فإن بيع لغرض صحيح بني ثبوت الربا فيه على دخول الاعتبار وعدمه ، ولا تلازم بين حكم أكله وحكم بيعه ، وإن حكى عن الشيخ والقاضي أنه أطلق حرمة بيع الطين المأكول ، بل عن الخلاف الإجماع على ذلك. والله أعلم.

وحيث عرفت اشتراط الكيل والوزن في تحقق الربا في المعارضة ، فينبغي أن يعلم أن الاعتبار في ذلك بعادة الشرع ، فما ثبت أنه مكيل أو موزون في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني عليه حكم الربا إجماعا محكيا في التنقيح إن لم يكن محصلا ، وإن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦٠ من أبواب اطعمة المحرمة الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٦٠ من أبواب الأطعمة المحرمة الحديث ـ ٣.

٣٦٢

تغير بعد ذلك ، بل فيه أيضا أنه ما علم أنه غير مكيل ولا موزون في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس بربوي إجماعا ، ومقتضاه وإن كيل أو وزن بعد ذلك ، وكان الوجه في الأمرين بعد الإجماعين المعتضدين بالتتبع ـ الاستصحاب السالم عن معارضة قاعدة « دوران الحكم المعلق على الوصف مداره وجودا وعدما » بعد تخصيصها بغير المقام ، ولو للإجماع السابق ، أو لأنها حيث يكون التعليق على الوصف المعلوم مناسبته ، أو لأن المراد منها زوال الحكم عن الفرد الفاقد للوصف من أصله ، لا الذي تلبس به ثم زال عنه ، أو لغير ذلك ، مما يشترك في كون المدار هنا على ما عرفت ، من أن وجود الكيل والوزن في ذلك العصر كاف في تحقق الربا كما ان الجزافية مثلا فيه تكفي في تحقق عدمه.

فتحصل أن المدار المتصف بكل منهما في ذلك الزمان ، وفي مضمر على بن إبراهيم الطويل (١) « ولا ينظر فيما يكال أو يوزن إلا إلى العامة ولا يؤخذ فيه بالخاصة فإن قوما يكيلون اللحم ويكيلون الجوز فلا يعتبر بهم ، لأن أصل اللحم أن يوزن ، وأصل الجوز أن يعد » وهو مؤيد بما ذكرنا في الجملة ، ولعل العلم باتفاق البلدان في هذا الزمان على أحدهما ، مع عدم العلم بالحدوث ، بل اتفاق بعضها مع عدم العلم بخلاف الباقي كاف ، في إثباته فيه ، لأصالة عدم التغير والانتقال من صفة أخرى.

وإليه أشار المصنف بقوله وما جهل الحال فيه ، رجع إلى عادة البلد وأما إن اختلفت البلدان فيه على وجه لم يعلم عادة عصره عليه‌السلام ، فالمشهور بين المتأخرين بل لعل عليه عامتهم أنه كان لكل بلد حكم نفسه ، وهو المحكي عن المبسوط والقاضي معللين له بالأصل في الجملة ، وأن المعتبر العرف والعادة عند عدم الشرع ، وكما أن عرف تلك البلد التقدير فيلزمه حكمه عرف الآخر الجزاف مثلا فيلزمه حكمه صرفا للخطاب إلى المتعارف من الجانبين ، وردا للناس إلى عوائدهم ، كما في القبض والحرز والإحياء وإلا لزم الخطاب‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الربا الحديث ١٢.

٣٦٣

بما لا يفهم ، فيكون قد قام العرف الخاص مقام العام عند انتفائه ، وهو مخالف لما سمعته من خبر على بن إبراهيم (١) ويجب تقييده أيضا بما إذا لم يعلم سبق الاختلاف بالاتفاق ، فإن المتجه حينئذ عدم الربا ، وإن لم يعلم أن الاتفاق كان على عدم التقدير ، ضرورة الإكتفاء في نفى الحرمة باحتمال عدم التقدير ، للأصل وغيره.

أما إذا لم يعلم فقد يتجه ذلك ؛ لكن لا لما ذكروه ، بل لاستصحاب هذا الحال إلى زمن الخطاب ، فينساق الذهن حينئذ إلى أن لكل بلد حكم نفسه ، إذ هو صادق عليه اسم التقدير وعدمه ، والأول علة للربا كما أن الثاني علة لعدمه ، فإعمالهما معا بعد عدم الترجيح بينهما يقضي بذلك ، وليس ذا من تنزيل اللفظ على العرف الخاص المتعدد الذي هو واضح البطلان ، كما حرر في الأصول ، ضرورة أن الاختلاف بين البلدين مثلا بالتقدير وعدمه ، لا في معنى اللفظ ، وبينهما بون ، كما أن الحكم المزبور لا ينافي ما تقدم سابقا من الاكتفاء في جريان حكم الربا سبق التقدير وإن زال ، القاضي بعدم دوران الحكم مدار الوصف ، وإلا لانتفى بانتفائه ، إذ هو هنا أيضا كذلك ، فإنه وإن أعطينا كل بلد حكمه ، لكن ليس لدوران الحكم على الوصف وجودا وعدما ، بل لدورانه على أصل ثبوت الوصف كما في سابق التقدير ، فيجري حينئذ حكم الربا في بلاد التقدير وإن زال ، ولا يجري في بلاد الجزاف وإن قدر ، بناء على أن ذلك كذلك في المعلوم حاله في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

نعم قد يشكل ذلك بأن المختلف في بلدين مثلا لا يدخل تحت إطلاق أحد الخطابين ، لا أنه مصداق لكل منهما ، فقضية الأصل عدم حرمة الربا وربما يؤيده خبر على بن إبراهيم (٢) السابق إلا أنى لم أجد قائلا به هنا بل ولا من احتمله ، وبمنع مثل ذلك في الشرع إذا المعلوم منه أن الأشياء منها ما لا يصح بيعها إلا بالتقدير ، ولتوقف رفع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١٢.

٣٦٤

الجهالة عليها ومثلها لا ينبغي اختلاف البلدان ، بل لا بد من الحكم بفساد فعل فاقدة التقدير ، ومنها لا يعتبر فيها ذلك ، فيجوز بيعها مقدرة وبلا تقدير واختلاف البلدان في هذه بان كان التعارف في بعضها التقدير وفي الأخر العدم ، غير قادح في عدم الربا فيها ، لعدم اشتراط صحة بيعها بالتقدير ، فيجوز بيعها بدونه في بلاد التقدير ، فلم يتحقق شرط الربا ، ودعوى إمكان توقف رفع الجهالة على التقدير في بلاد دون اخرى ، يمكن منعها حينئذ فمفروض المسألة حينئذ لا بد وأن يكون من الثاني ، حملا لأفعال المسلمين على الصحة ، فلا يجرى فيه الربا ، بل احتمال ذلك فيه كاف في رفع الحرمة ولكن قد يدفع ذلك كله وغيره بالإجماع المركب إن لم يكن البسيط ، إذ الأقوال في المسألة ثلاثة أشهرها ما عرفت.

وقيل والقائل الشيخ في النهاية وسلار فيما حكى عنه يغلب جانب التقدير ويثبت التحريم حينئذ عموما من غير فرق بين بلد الكيل والوزن والجزاف ، وعن فخر المحققين أنه قواه ، ولعله لصدق التقدير ، وإن كان يعارضه صدق عدمه ، وكما أن الأول مناط الربا ، كذلك الثاني مناط عدمه ، وأصالة الجواز المستفادة من إطلاق الأدلة وعمومها تقتضي الجواز ، ولا يعارضها إطلاق حرمة الربا بعد تقييده باشتراط الوزن والكيل.

وقيل والقائل المفيد : إن تساوت الأحوال فيه غلب جانب التقدير ، والأرجح الأغلب ، ولعل المشكوك عنده من المتساوي ترجيحا له بغلبته على غيره ، بخلاف الأول الموافق جريان الربا فيه للاحتياط ، ول‌ قوله عليه‌السلام (١) « ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام ، الحلال » لكن لا يخفى عليك عدم وجوب مراعاة الأول عندنا ، وعدم تناول الثاني لما نحن فيه.

نعم يؤيد القولين معا ما ذكرناه من أنهما موافقان لعمومية الحكم وأن الشي‌ء إما ربوي أو لا ، لا أنه ربوي في مكان دون آخر ، بل قد يظهر من بعضهم أنه كذلك في الزمان أيضا ، لكن ومع ذلك فالوقوف على المشهور أولي ، وإن كان الاحتياط‌

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبع الحديث.

٣٦٥

لا ينبغي تركه ؛ خصوصا بعد أن حكى الميل إلى قول المفيد جماعة من المتأخرين والله اعلم.

وكيف كان فـ ( المراعى في المساواة ) المسوغة لبيع المتجانس كيلا أو وزنا وقت الابتياع فيجوز حينئذ بيع كل ماله حالتا رطوبة وجفاف ، بعضه ببعض مع تساوى الحالين ، كالرطب بمثله والعنب بمثله ، والفواكه الرطبة بمثلها ، واللحم الطري بمثله ، والحنطة المبلولة بمثلها ، والتمر والزبيب والفاكهة الجافة والمقدد والحنطة اليابسة كل واحد بمثله ، بلا خلاف أجده فيه ، بل في التحرير القطع به الجاري مجرى الإجماع ، بل عن نهاية الأحكام نسبته إلى علمائنا للأصل السالم عن معارضة التفاضل حالة العقد ، ولانه وجد التماثل فيهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص كبيع اللبن باللبن.

وكذلك جميع الأشياء الرطبة بعضها ببعض سواء كان لها حالة جفاف أولا ، كالرطب الذي لا يتمر ، والعنب الذي لا يزبب ، والبطيخ ونحوه ، وكذا بيع اليابس بمثله ، فيندرج حينئذ في جميع ما تقتضي الجواز ، كما أنه يخرج عما يقتضي المنع بل ما تسمعه من نصوص (١) المسألة الاتية ظاهرة في الجواز فيه ، لكنه قد يقال بوجوب تقييد ذلك بما إذا لم تختلف كيفية الرطوبة بما لا يتسامح في مثله بالعادة ، وإلا كان إلحاقه بالمسألة الاتية أي بيع الرطب بالجاف أولى ، بل قد يناقش في الجواز في غيره أيضا بفحوى ما تسمعه من النصوص الاتية ، الدالة على منع بيع ما ينقص إذا جف بجنسه الجاف ؛ معللة له بذلك ، ضرورة اقتضائها الحرمة بعدم المساواة المتأخرة عن وقت الابتياع ، فهي حينئذ شرط في الجواز ، والشك فيها شك فيه ، ومع فرض رطوبة العوضين معا لم يعلم مساواتهما بعد الجفاف قطعا ، لاحتمال زيادته في واحد دون الأخر ، اللهم الا أن تدفع بمنع اقتضاء تلك النصوص شرطية‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من أبواب الربا.

٣٦٦

المساواة على الوجه المزبور ، بل أقصاها الحرمة بتحقق النقصان عند العقد ، وهو منتف في الفرض قطعا ، لاحتمال المساواة في الواقع.

نعم لو علم حال البيع بنقصان أحدهما من الآخر بعد الجفاف ، اتجه الإلحاق بالمسألة الآتية ؛ أما إذا لم يعلم وقت الابتياع فلا معارض لما يقتضي الصحة من النصوص وغيرها ، بل مقتضى إطلاقها ذلك وإن تحقق النقصان متأخرا عن وقت الابتياع ، وإن كان لا يخلو من تأمل في الجملة ، بل خيرة المصنف تبعا للمحكي عن الشيخ في مبسوطة وخلافه وابني زهرة وإدريس وكاشف الرموز الاكتفاء بالمساواة وقت الابتياع ، وإن علم النقصان حاله بعد ذلك.

فلو باع لحما نيا بمقدد متساويا جاز ، وكذا لو باع بسرا برطب ، وكذا لو باع حنطة مبلولة بيابسة ، لتحقق المماثلة فيخرج عما دل على حرمة الربا ، ويدخل فيما دل على الجواز ، بعد عدم حجية منصوص العلة في غير ذي العلة ، وقيل بالمنع والقائل القديمان والشيخ في موضع من المبسوط ، والوسيلة ، والتذكرة ، والتحرير ، ونهاية الأحكام ، والإرشاد ، والمختلف ، والقواعد ، واللمعة ؛ والمقتصر والمهذب ، والتنقيح ، وإيضاح النافع ، والميسية ، والمسالك ، والروضة ، والدروس ، على ما حكي عن بعضها ، بل في التذكرة أنه المشهور ، وفي التنقيح وعن إيضاح النافع أن عليه الفتوى ، نظرا إلى تحقق النقصان عند الجفاف فلا تجدي المساواة وقت الابتياع ؛ وقد أرسله‌ العامة والخاصة في كتب فروعهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « انه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : أينقص إذا جف؟ فقيل له : نعم ، فقال : لا إذا » وكان سؤاله مع العلم بالحال ، لبيان الوجه في التحريم وقد‌ قال : الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (٢) « لا يصلح التمر اليابس بالرطب من أجل أن التمر يابس والرطب رطب فإذا يبس نقص » و‌

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٤٨٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الربا الحديث ١ ـ.

٣٦٧

في‌ خبر داود بن سرحان (١) « لا يصلح التمر بالرطب ، إن الرطب رطب ، والتمر يابس فإذا يبس الرطب نقص » وخبر داود الأبزاري (٢) الذي يقرب من ذلك » والباقر عليه‌السلام في خبر محمد بن قيس (٣) « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كره أن يباع التمر بالرطب عاجلا بمثل كيله إلى أجل من أجل أن التمر ييبس فينقص من كيله » بناء على إرادة الحرمة من نفي الصلاح والكراهة في باب الربا ، لكثرة التعبير بهما عنها فيه خصوصا في نحو المقام الذي قد عرفت شهرة الأصحاب عليه ، وخصوصا بعد ما ورد (٤) في نحو ذلك من‌ أن عليا عليه‌السلام لا يكره الحلال ، بل في صحيح الحلبي ما يشهد لإرادتها منه ، كما لا يخفى.

والمناقشة في حجية العلة في غير موردها واهية ، كما حرر في الأصول ، بل هي هنا في صحيح الحلبي كالصريحة في التعميم ، أو يعلل المنع مضافا إلى ذلك ، بانضياف أجزاء مائية مجهولة فمقابله أزيد منه بالنسبة إلى أجزائه فعلا فلا مساواة حال الابتياع حينئذ.

لكن قد يناقش فيه بأنه إنما يتم في ذل البلل العرضي كالحنطة المبلولة ، لا في مثل العنب ونحوه مما كان الماء فيه أحد أجزائه ، ومن هنا فرق في المحكي عن موضع من المبسوط بين الحنطة المبلولة وغيرها ، فمنع فيها دون نحو العنب بالزبيب ، وعلى كل حال فلا ريب في أن المنع مطلقا أقوى ، ومنه يعلم أنه لا ينبغي أن يكون في بيع الرطب بالتمر في غير العرية تردد كما وقع من المصنف إذ هو مورد العلة المزبورة ، وإن قال والأظهر اختصاصه بالمنع اعتمادا على أشهر الروايتين رواية وعملا ، بل هو المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل في الغنية وعن الخلاف الإجماع عليه ، وهما الحجة بعد النصوص السابقة التي لا وجه للمناقشة فيها باحتمال حملها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٧.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١.

٣٦٨

على النسيئة المتفق على منعها فيه ، كما في التحرير استنادا إلى خبر محمد بن قيس (١) منها ، ضرورة ظهور شمول مفهوم التعليل للنقد والنسيئة ، ولو أريد الثاني لكان اللازم التعليل بها ، على أنه لو سلم دلالة خبر محمد بن قيس على ذلك فلا دلالة فيه على العدم في النقد ، كي ينافي غيره من النصوص الذي يراد حملها عليه ، كما أنه لا وجه للمعارضة بالأصل والإطلاقات التي يكفي في تخصيصها الأقل من ذلك.

وب‌ موثق سماعة (٢) قال « سئل أبو عبد الله (ع) عن العنب بالزبيب قال لا يصلح إلا مثلا بمثل قال والتمر بالرطب مثلا بمثل » المؤيد بخبر ابى الربيع (٣) في الجملة « قال لأبي عبد الله عليه‌السلام ما ترى في التمر والبسر الأحمر مثلا بمثل؟ قال : لا بأس قلت فالبختج والعنب مثلا بمثل؟ قال : لا بأس » القاصرين عن المعارضة من وجوه بل قد يحتملان بل قيل : انه الظاهر إرادة المماثلة بوصفى الرطوبة واليبوسة ، فيكون كل منهما حينئذ مشعرا بالمنع مع المخالفة ؛ بل ربما احتمل في الموثق حمله على عنب يابس أو زبيب رطب ، والتفاوت اليسير غير قادح كبيع العسل بالعسل قبل التصفية ، واللحم الطري بمثله ، بل في الكافي قلت : والتمر والزبيب قال : مثلا بمثل فيكون خارجا عما نحن فيه ، كما أن خبر أبى الربيع كذلك إذ ليس فيه بيع الرطب بالتمر.

نعم أقصاه المنافاة لتعدية العلة ، وقد يحتمل إرادة الرطب من التمر ، فيكون حينئذ من قبيل بيع ذي الحالتين مع التساوي فيهما ، والمراد بالبختج فيه عصير العنب المطبوخ بالنار ، وبالعصير ذلك قبل أن تمسه النار كما قيل ، ولعله مما ينقصه التجفيف ؛ لا الجفاف بنفسه ، وستسمع الحال فيه كل ذلك مع ندرة الخلاف ، لانحصاره فيما أجد في المحكي عن الإستبصار الذي لم يعد للفتوى ، وموضع من المبسوط ، وابن إدريس فجوازه على كراهية ، بل قال الثاني منهما : أن مذهبنا ترك التعليل والقياس ، لأنه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٥.

٣٦٩

كان يلزم عليه أنه لا يجوز بيع رطل من العنب برطل من الزبيب ، وهذا لا يقول به أحد من أصحابنا بغير خلاف ، وهو كما ترى.

نعم تبعهما بعض متأخري المتأخرين ولو زاد في الرطب بما يساوي نقيصة الجفاف لم يرتفع المانع ، سواء كانت الزيادة من الجنس أو المخالف لفوات التساوي حال الابتياع ، كما أنه كذلك لو نقص في التمر ، وفي التحرير الاتفاق على منع بيع أحدهما بالآخر متفاضلا ، نعم لو نقص الرطب وضم إليه من غير جنسه وباعه بالتمر صح ، ولو فرض زيادة أحد العوضين على حال الابتياع من غير نقيصة للآخر جاز بعد إحراز المساواة حال البيع ، للأصل والإطلاقات السالمة عن معارضة تعدية العلة ، اللهم إلا أن يدعى ظهورها في إرادة المثال ، ولو كان النقصان بالجفاف يسيرا لقلة العوضين جرى عليه حكم الربا في وجه ، لكونه مما لا يتسامح فيه حال الكثرة ، وربما يومي إليه ترك الاستفصال في منع بيع الرطب بالتمر ، كما أن المتسامح به حال الكثرة لا يقدح في القلة وإن تفاحش ، وقد يقوى في النظر ملاحظة أشخاص الأعواض في ذلك ، ولو كان مما ينقصه التجفيف لا الجفاف أمكن الإكتفاء بالمساواة حال البيع ، إذا لم يكن معظم الانتفاع به متوقفا على التجفيف ، أو أنه متخذ عادة لذلك ، وكذا يكتفى بالمساواة في وجه لو كان مما يعود نقصه ، لاعتياد رش الماء عليه والله أعلم.

( فروع‌ )

الأول : إذا كانا أي العوض والمعوض في حكم الجنس الواحد وأحدهما مكيل والآخر موزون كالحنطة والدقيق فبيع أحدهما بالآخر وزنا جائز مع التساوي وإن تفاوتا بالكيل وفاقا للمحكي عن المبسوط والسرائر والقاضي ، وبه صرح في التحرير والمسالك وغيرهما ، للإطلاقات وصدق بيع المثل بالمثل ، وفي‌ صحيح زرارة (١) « الدقيق بالحنطة والسويق بالدقيق مثلا بمثل لا بأس به » وقال محمد بن مسلم (٢) للباقر عليه‌السلام في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١ ـ باختلاف يسير.

٣٧٠

الصحيح « ما تقول في البر بالسويق فقال : مثلا بمثل لا بأس به ، قلت إنه يكون له ريع فيه فضل فقال أليس له مؤنة؟ قلت : بلى قال : هذا بهذا » وقال الصادق عليه‌السلام في مرسل صفوان (١) « الحنطة والدقيق لا بأس به رأسا برأس » وسأله أبو بصير (٢) أيضا « عن الحنطة بالشعير والحنطة بالدقيق فقال : إذا كانا سواء فلا بأس ، وإلا فلا » مضافا إلى أصالة الوزن للكيل وأنه أضبط وأشد رفعا للغرر والجهالة منه ، ولذا لم يتردد المصنف في الجواز.

أما في الكيل بمعنى بيع أحدهما بالاخر كيلا مع التساوي فيه وإن تفاوت في الوزن فقال فيه تردد من إطلاق النصوص السابقة ، ولأن الكيل أصل للحنطة فيستصحب في فروعها ، ومن أن الوزن أضبط وأنه أصل للكيل ، ولذا المقدر بالوزن لا يباع كيلا ، لعدم ارتفاع جهالته به ، وللشك في صدق إطلاق المثلين مع تفاوت الوزن ؛ ولأن من أفراد هذه القاعدة ما لا يمكن فيه القول بالكيل ، كالحنطة بالخبز والسمسم بالشيرج.

فـ ( الأحوط ) حينئذ تعديلهما بالوزن الذي هو الأصل خروجا عن خلاف المبسوط وابن البراج ، حيث قالا في مفروض المسألة : لا يباع إلا وزنا ، وإن مثلاه بالحنطة والخبز ، بل ظاهرهما أنه ليس الحنطة والدقيق منه ، ولذا ذكر أولهما أن الأحوط فيهما بيعهما بالوزن ، ثم عقبه بحكم ما نحن فيه جازما بما سمعت ، وفي المختلف « أن الحنطة من المكيلات وكذا الدقيق لأن أصله من الحنطة ، وهي مكيلة فلا يباع أحدهما بالاخر الا بالكيل ولا يباع بالوزن وإلا جاء الربا ، لا يقال : إذا بيعا بالكيل حصل الربا أيضا ، لأن الحنطة أثقل من الدقيق ، فيحصل التفاوت في الوزن : وهو عين الربا ، لأنا نقول لا اعتبار بالتفاوت في الميزان في المكيل.

ثم روى زرارة في الصحيح (٣) إلى آخره ومحمد بن مسلم (٤) إلخ وإنما تتحقق‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٥ وذكر صدره في الباب ٨ ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٦ وذكر صدره في الباب ٨ ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٢.

٣٧١

المتماثلة بالتساوي في المقدار الذي جعله الشارع معيارا لهما وهو الكيل ، وإن اختلف في غيره مما لم يجعله معيارا ، وقول الشيخ أن الأحوط الوزن ، لأن الدقيق أخف من الحنطة غير جيد ، لأنه من هذه الحيثية كان الأحوط الكيل ، إذ تساويهما في الوزن يقتضي التفاضل بينهما فيما جعله الشارع معيارا لهما وهو الكيل الذي نهى عنه ، وتساويهما في الكيل يقتضي تماثلهما فيما جعله الشارع معيارا لهما الذي أمر به ، وإن اختلفا فيما سواه.

قلت : لكن هذا كله خروج عما نحن فيه من بيان حكم ما لو اختلف ما هو كالجنس الواحد في التقدير ودعوى امتناع ذلك لتبعية الفروع للأصول كما يومي إليه أول كلامه ، واضحة المنع ، وربما كانت هي منشأ قوله بأن الدقيق مكيل ، وإلا فالمنقول أنه موزون ، وربما كان في صحيح ابن مسلم (١) إيماء إليه بناء على أن الفضل في الحنطة عليه ، إنما يكون بالوزن بل في بعض نصوص مقاطعة الطحان (٢) التصريح باعتباره بالوزن ، كما أن فيه اعتبار الحنطة به ، ولا ينافيه معلومية اعتبارها بالكيل ، إذ يمكن أنها كانت تعتبر بهما.

وكيف كان فالظاهر عدم الخلاف في مفروض المسألة ، لا في مثالها في عدم جواز البيع بالكيل ، وتردد المصنف والفاضل في التحرير ليس قولا بل لم أجد من احتمله غيرهما ، بل اقتصر الثاني منهما في القواعد على احتمال تحريم البيع بالكيل والوزن للاختلاف قدرا وتسويغه بالوزن ، لكن في المسالك عن الفاضل انه اعتبر الكيل فيما هو أصله ، واستحسنه هو ، وفيه مع انه لا يتم في نحو الحنطة بالخبز ، أنه لا مدخلية لكيل الأصل في ذلك ، وعن السرائر نفى الخلاف عن عدم جواز بيع الموزون مكيلا.

والتحقيق في المسألة مبني على تحقيق مسألة أخرى ، وهي جواز بيع الموزون مكيلا وبالعكس وعدمه ، فعن المبسوط إذا كان عادة الحجاز على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الربا الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب الربا الحديث ٣ وذيله.

٣٧٢

وسلم في شي‌ء الكيل لم يجز إلا كيلا في سائر البلاد ؛ وما كانت فيه وزنا لم يجز فيه إلا وزنا بلا خلاف في ذلك كله ، قيل : وظاهره بين المسلمين واحتمل في جامع المقاصد في ذلك ثلثة احتمالات.

الأول ـ الجواز مطلقا لاندفاع الغرر والجهالة بذلك ، واعتبار الشارع له بالكيل مثلا لا يقضى بعدم حصول العلم بدونه ، مضافا إلى أصالة صحة البيع ، ثم أجاب عما لعله يورد هنا من منع بيعه بجنسه كذلك ، بأن ذلك إنما هو لأجل الحذر من التفاوت ، لا لحصول الجهالة ، الثاني ـ عدم الجواز مطلقا ، لأن كلا من المعيارين بالإضافة إلى ما علم بالاخر غير محصل للعلم بالمقدار فلا يندفع به الغرر ، ثم قال : وفيه منع الثالث ـ التفصيل بجواز بيع المكيل موزونا دون العكس ، قال : ويظهر من التذكرة اختياره ، والمستند فيه أن الوزن أصل المكيل ، ولم يثبت مرادهم منه ، فإن أرادوا أن الكيل طار على الوزن فغير واضح ، لأن المفروض أن المكيل لم يكن موزونا ، وإن أرادوا أن الوزن أدل على المقدار ، فغير ظاهر أيضا ، لأن مقدار معيار الكيل إنما هو باعتبار حجمه لا باعتبار ثقله وخفته ، وإن أرادوا أغلبيته في أكثر الأشياء ، فيكون الأصل بمعنى الراجح ، فشرعا غير معلوم ، والعرف لا يرجع إليه فيما ثبت حكمه شرعا ، هذا كله في غير البيع بالجنس.

أما فيه فقد صرح غير واحد بوجوب ذلك الاعتبار فيه فلا يباع المكيل بجنسه إلا مكيلا ، وكذا الموزون ، وإن قلنا بالجواز في غيره ، بل قيل إنه مجمع عليه في الظاهر ، قال في التذكرة : « ما أصله الكيل يجوز بيعه وزنا سلفا ومعجلا ، ولا يجوز بيعه بمثله وزنا ، لأن الفرض في السلف والمعجل تعيين الجنس ومعرفة المقدار ، وهو يحصل بهما ، والفرض المساواة فاختص المنع في بعضه ببعض به.

وفي المختلف « قال ابن إدريس : يجوز أن يسلف في المكيل من الحبوب والأدهان وزنا وفي الموزون كيلا إذا كان يمكن كيله ؛ ولا يتجافى في المكيال ، ولا يجوز بيع الجنس الواحد فيما يجري فيه الربا بعضه ببعض وزنا إذا كان أصله الكيل ، و‌

٣٧٣

لا كيلا إذا كان أصله الوزن ـ والفرق أن المقصود من السلم معرفة مقدار المسلم فيه ، حتى يزول عنه الجهالة ، وذلك يحصل بأيهما قدر من كيل أو وزن ، وليس كذلك ما يجري فيه الربا فإن الشارع أوجب علينا التساوي والتماثل بالكيل في المكيلات وبالوزن في الموزونات ، فإذا باع المكيل بعضه ببعض وزنا فإذا رد إلى الكيل جاز أن يتفاضل لثقل أحدهما وخفة الأخر ، فلذلك افترقا ، ويجوز بيع المكيل بالوزن ، ولا يجوز بيع الموزون بالكيل ، » وعن المبسوط في باب السلم « لا يجوز بيع الجنس الواحد فيما يجري فيه الربا بعضه ببعض وزنا ، إذا كان أصله الكيل ، ولا كيلا إذا كان أصله الوزن ».

وفي القواعد « هنا لا يجوز بيع الموزون بجنسه جزافا ولا مكيلا ولا المكيل جزافا ولا موزونا » وفي باب السلم تردد في جواز السلف في المكيل موزونا وبالعكس ، وفي المختلف هنا « الأقرب عندي أن المكيل لا يباع بعضه ببعض بالوزن مع احتمال التفاوت ، وكذا العكس » إلى غير ذلك من كلماتهم المتفرقة ، لكن في المسالك في شرح قول المصنف فيجوز بيع المتجانسين وزنا بوزن نقدا « هذا إذا كان أصلهما الوزن ، أما لو كان أصلهما الكيل ففي الاكتفاء بتساويهما وزنا خاصة نظر من كون الوزن أضبط حتى قيل : إنه أصل للكيل ، ومن ورود الشرع والعرف بالكيل ، فلا يعتبر بغيره ، وظاهر كلام المصنف اختيار الأول ، وهو متجه ، ونقل بعضهم الإجماع على جواز بيع الحنطة والشعير وزنا ، مع الإجماع على كونهما مكيلين في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. »

قلت وعن التذكرة أيضا إجماع الأمة على أنهما والملح والتمر كانت مكيلة في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ قال : « فلا تباع بعضها ببعض إلا مكيلة ، ولا يجوز بيع شي‌ء منها بشي‌ء آخر من جنسها وزنا » ونحوه قال : في الموزون أيضا ، قلت : التحقيق في أطراف المسألة أنه لا ريب في أن الإطلاقات تقتضي صحة البيع مع تعارف الكيل في الموزون أصلا وبالعكس ، ولا دليل يدل على وجوب اعتبار أصله صالح لتقييدها ، بل السيرة القاطعة على بيع ما ذكروا أنها مكيلة في عهده بالوزن ، عاضدة لها ، بل لعل دليل الغرر والجهالة‌

٣٧٤

يقضي بعدم جواز البيع بالاعتبار الأصلي ، بعد أن كان المتعارف غيره ، ضرورة حصولهما به بعد نسخ الأصل ورفضه ، وإن كان قد لو حظ في ابتداء التعارف حتى يصح البيع.

ومنه يعلم أنه لا يجوز بيع ما كان المتعارف كيله بالوزن حال تعارف كيله وبالعكس ضرورة حصول الجهالة والغرر بذلك ، إذا الوزن لمتعارف الكيل مثلا كالمكيال المجهول وكالوزن بصخرة مجهولة ودعوى أصالة الوزن للكيل قد عرفت المراد بها ، وعدم ثبوتها على وجه يجدى.

فتحصل أن الأقوى اعتبار التعارف في ذلك ، وهو مختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، ولا فرق في ذلك بين البيع بالجنس وغيره ، فالموزون الذي كان يتعارف كيله في السابق يجرى فيه الربا باعتبار الوزن لعدم صحة بيعه كيلا على ما ذكرنا ، وكذا المكيل ، والتساوي والتفاضل المذكور في الأدلة ينصرف إلى ما تعارف من الاعتبار لذلك البيع ، كما هو واضح.

اللهم إلا أن يقال : انه بالنسبة إلى رفع الربا يعتبر التساوي بالمعيار الأصلي ، وإن كان لا يباع إلا بالوزن فيعتبر مساواته مثلا بالكيل ليسلم من الربا ثم يوزن إذا أريد بيعه ، وإن حصل التفاضل فيه ، ولكن مقتضى ذلك أن التساوي في الوزن المتعارف لا يكفى ، والتفاضل فيه بعد التساوي في الكيل لا يقدح ، والتزامه في غاية الصعوبة ، وليس في الأدلة ما يشهد له ، والإجماع السابق من التنقيح إنما هو في جريان الربا على المعتبر أصلا وإن تعارف جزافيته ، وعدمه وإن تعارف اعتباره ، فليس حينئذ إلا ما ذكرناه فتأمل جيدا.

ولو فرض تعارف الكيل والوزن فيه جاز البيع بكل منهما مع التساوي فيه ، وإن اختلف في التقدير الأخر ، ومن ذلك يعلم أن الأقوى في موضوع مسألة المتن عدم الجواز بالكيل وبالوزن ، لاستلزام كل منهما تقدير أحدهما بغير المتعارف في تقديره ، وتعارف كيل الأصل أو وزنه غير مجد في الفرع بعد فرض حصول التعارف فيه على‌

٣٧٥

خلاف أصله.

نعم لو فرض أن أحدهما مكيل وموزون ؛ والأخر موزون خاصة ، أو مكيل كذلك جاز بيعهما بالتقدير المشترك بينهما دون المختص بأحدهما وبهذا يظهر لك النظر في جملة مما تقدم وغيره ، خصوصا مثل عبارة المصنف وغيرها كما لا يخفى على من لاحظ كلماتهم ، لكن بقي شي‌ء ، وهو أنه وإن قلنا أن التحقيق عدم الجواز في موضوع مسألة المتن ، إلا أن الظاهر عدم كون الحنطة والدقيق من ذلك ، فإن النصوص والفتاوى اتفقت على الجواز فيها ، بل في التذكرة الإجماع عليه.

نعم ليس في شي‌ء من النصوص ما يدل على أن أحدهما لا يباع إلا كيلا والآخر لا يباع إلا وزنا ، كي يكون ذلك مثالا لموضوع المسألة ، فيمكن كونهما معا مكيلين ويمكن كونهما معا موزونين ويمكن كونهما يباعان بهما ، أو أن أحدهما كذلك دون الأخر وقد وقع البيع بالاعتبار المشترك ، فلا منافاة حينئذ بين ما ذكرناه وبين هذه النصوص ، ومقعد إجماع التذكرة ومن الغريب احتمال الحرمة في القواعد في خصوص ذلك والله أعلم.

الفرع الثاني بيع العنب بالزبيب جائز عند المصنف ومن عرفت سابقا ممن لا يعدى العلة وقيل لا ، اطرادا العلة الرطب بالتمر وهو لا الأول أشبه عندنا كما عرفت الحال فيه ، وكذا البحث في كل رطب مع يابسه‌ الفرع الثالث يجوز بيع الأدقة بعضها ببعض مثلا بمثل مع اتحاد الجنس ، ومتفاضلا مع اختلافه ، من غير فرق بين الناعمين والخشنين ، والناعم والخشن ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بيننا ، للإطلاقات ، وعن الشافعي في القديم والجديد أنه لا يجوز بيع الدقيق بالدقيق مع اتحاد الجنس ، وعن أبي حنيفة عدم جواز بيع الناعم بالخشن ، ولا ريب في فسادهما ، وكذا يجوز بيع الأخباز بعضها ببعض متساويا مع اتحاد الجنس ، ومتفاضلا مع اختلافه ، نعم يعتبر في الأول الاتحاد أيضا في الرطوبة واليبوسة وإلا جاء البحث السابق بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بيننا ، لإطلاق الأدلة ، وعن‌

٣٧٦

الشافعي أنه لا يجوز بيع أحدهما بالآخر إذا كانا رطبين ، بل عنه في كتاب الصرف أنه لا يجوز أيضا إذا كانا يابسين مدقوقين يمكن كيلهما ، ولا ريب في فساده.

وكذا يجوز بيع الخلول بعضها ببعض متساويا مع اتحاد الجنس ، ومتفاضلا مع اختلافه ، بلا خلاف أجده بيننا من غير فرق في أفراد الخل بين المعتصر وبين الممزوج بالماء ، فيجوز حينئذ عندنا كما في التذكرة بيع خل العنب بالزبيب لاتحاد أصلهما ، خلافا للشافعي فلا يجوز ، لأن في خل الزبيب ماء ، وفيه أنه غير مانع إذ هو إن أفاد اختلاف الحقيقة جاز متفاضلا ، وإلا متساويا ، وكذا حل الزبيب بخل الزبيب عندنا ، كما عن التذكرة أيضا خلافا له أيضا ، لأن في كل منهما ماء قال : وإن قلنا في الماء ربا لم يجز ، بمعنى جواز تفاضل الزبيب والماء ، وهو كما ترى ، وكذا خل التمر بخل التمر عندنا ، كما في التذكرة خلافا له أيضا.

أما خل التمر بالزبيب فلا إشكال فيه عندنا أيضا لاختلاف الجنس ، وعن الشافعي انه ان قلنا في الماء ربا لم يجز وان قلنا لا ربا فيه جاز ، وفساده واضح عندنا ، واما بيع الدبس بالدبس فيجوز عندنا متساويا كما في التذكرة مع اتحاد أصله ومتفاضلا مع اختلافه وعن الشافعي المنع للاشتمال على الماء ويجوز عندنا أيضا بيع الدبس بالتمر مع اتحاد الأصل متساويا ومنعه الشافعي أيضا ، ويجوز بيع خل العنب بعصيره متساويا عندنا كما في التذكرة وبالجملة لا ريب في الجواز عندنا في هذه كلها وغيرها وان جهل مقدار ما في كل واحد من الرطوبة في بعضها اعتمادا على تناول الاسم وقد تقدم لك تمام البحث في ذلك.

ومنه يعلم ما في المسالك هنا « قال لا بد في الجواز من اشتراكهما في أصل الرطوبة أي الأخباز في الرطوبة فلو كان أحد الخبزين رطبا والأخر يابسا لم يصح ، بناء على ما سلف من القاعدة » وفي العبارة إشارة إليه حيث اثبت لكل واحدة رطوبة جهل مقدارها ، ولو علم أن رطوبة أحدهما أكثر من رطوبة الأخر مع اشتراكهما في الأصل ، ففي الجواز‌

٣٧٧

نظر ، من صدق الاسم في المثلين ، ومن العلم بزيادة حقيقة أحدهما على الأخر ، ولعل الأقرب الجواز ، لأن الرطوبة غير مقصودة ، والحقيقة مطلقة عليهما ، وكذا لو علمت الرطوبة في أحدهما ، وانتفت من الأخر ؛ كخل الزبيب وخل العنب الخالص.

قلت : عرفت أنه لا يكفى الاتحاد في الحقيقة والمساواة عند الابتياع ، بل لا بد من مراعاة عدم النقصان في أحدهما عن الأخر بعد ذلك ، للأخبار السابقة ، فإذا فرض عدمه صح ؛ وإن كانت الرطوبة في أحدهما عارضيه كخل الزبيب إلا أنها صارت من أجزاء الحقيقة ، فلاحظ ما تقدم سابقا وتأمل. والله أعلم.

( تتمة فيها مسائل‌ )

الأولى : لا ربا بين الوالد وولده إجماعا محكيا مستفيضا ، إن لم يكن متواترا ، صريحا وظاهرا ، بل يمكن تحصيله ، إذ لا خلاف فيه إلا من المرتضى في الموصليات ، لكن في الانتصار بعد أن ذكر مما انفردت به الإمامية القول بأنه لا ربا بين الولد ووالده ، ولا بين الزوج وزوجته ، ولا بين الذمي والمسلم ، ولا بين العبد ومولاه ، وخالف باقي الفقهاء ، قال : « وقد كتبت قديما في جواب مسائل وردت علي من الموصل وتأولت الأخبار التي يرويها أصحابنا المتضمنة لنفي الربا بين من ذكرناه ، على أن المراد ـ بذلك وإن كان بلفظ الخبر ـ معنى الأمر ، كأنه قال : يجب أن يقع بين من ذكرناه ربا ، كما قال تعالى (١) ( مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) وكقوله تعالى (٢) ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) « العارية مردودة ، والزعيم غارم » ومعنى ذلك كله الأمر » إلى أن قال :

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٩٧.

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٧.

(٣) جامع الصغير للسيوطي ص ـ ٦٨ طبع عبد الحميد احمد حنفي.

٣٧٨

« واعتمدنا في نصرة هذا المذهب على عموم ظاهر القرآن ، ثم لما تأملت ذلك رجعت عن هذا المذهب ، لأني وجدت أصحابنا مجمعين على نفى الربا بين من ذكرنا ، وغير مختلفين فيه في وقت من الأوقات ، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنه حجة ، ويخص به ظاهر القرآن ».

وهو كما ترى بعد اعترافه بالخطإ وأنه مخالف للإجماع في فتواه السابقة ، لا يقدح في تحصيل الإجماع ، بل هو مؤكد له ، مضافا إلى‌ خبر عمرو بن جميع (١) الذي رواه المشايخ الثلاثة عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : « قال : أمير المؤمنين عليه‌السلام ليس بين الرجل وولده ربا ، وليس بين السيد وعبده ربا ، » وصحيحي زرارة (٢) ومحمد بن مسلم (٣) الذي رواه الكليني والشيخ عن أبى جعفر « ليس بين الرجل وولده ، وبينه وبين عبده ، ولا بينه وبين أهله ربا ، إنما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك ، قلت : فالمشركون بينى وبينهم ربا قال : نعم ، قلت : فإنهم مماليك ، فقال : إنك لست تملكهم ، إنما تملكهم مع غيرك ، أنت وغيرك فيهم سواء ، فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك ، لأن عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك. » فمن الغريب دغدغة بعض المتأخرين في الحكم المزبور ؛ وكأنه ناشئ من اختلال الطريقة ، وإطلاق الخبرين ومعاقد الإجماعات يقضي بأنه يجوز لكل منهما أخذ الفضل من صاحبه كما صرح به الحلي والفاضلان والشهيدان وغيرهم ، بل لعله لا خلاف فيه إلا من الإسكافي ، فقال كما في المختلف لا ربا بين الوالد وولده إذا أخذ الوالد الفضل ، إلا أن يكون له وارث أو عليه دين وهو اجتهاد في مقابلة النص والفتوى.

وكيف كان فلا يتعدى الحكم إلى الأم لحرمة القياس بعد اختصاص الدليل بغيرها ، كما أن الظاهر من النص والفتوى إرادة الولد النسبي دون الرضاعي ، وإن احتمله بعضهم ؛ ولا إطلاق للمنزلة بحيث يشمل المقام ، ضرورة انصرافها للنكاح ونحوه ، نعم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من أبواب الربا الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ٧ من أبواب الربا الحديث ـ ٣.

(٣) الوسائل الباب ٧ من أبواب الربا الحديث ـ ٤.

٣٧٩

قد يتوقف في ولد الزنا من صدق الولد لغة ، ومن انصرافه إلى غيره ، وعموم التحريم قوي ، ولذا صرح جماعة منهم الفاضل وثاني المحققين والشهيدين بعدم تعدي الحكم إلى ولد الولد ، لكن توقف فيه بعضهم ، بل في الدروس الجزم بالإلحاق ، وهو لا يخلو من قوة ، وإن كان الأحوط خلافه ، كما أن الأحوط الاقتصار على الذكر ، لأنه المنساق عرفا ، لكن في التذكرة وجامع المقاصد أنه لا فرق في الولد بين الذكر والأنثى ، لشمول الاسم ، وحينئذ لا إشكال في الخنثى ؛ وإن كانت مشكلا.

نعم قد يتوقف في المشكل منها بناء على اختصاص الحكم بالذكر ، فيحتمل التحريم للعموم ، والحل للأصل و، كذا لا ربا بين المولى ومملوكه إجماعا بقسيمه وللخبرين السابقين (١) وصحيح علي بن جعفر (٢) « سأل أخاه موسى بن جعفر عليه‌السلام عن رجل أعطى عبده عشرة دراهم على أن يؤدي العبد كل شهر عشرة دراهم ، أيحل ذلك؟ قال : لا بأس » بل لا يتصور وقوع الربا بينهما بناء على عدم ملكية العبد ، ولذا قيل أنه كان ينبغي ترك ذكره ممن كان يرى ذلك.

نعم يتجه ذكره بناء على الملكية ومستنده حينئذ ما عرفت ، اللهم إلا أن يقال : إن المراد هنا بالمملوك ما يشمل المكاتب ، والقائل بعدم ملكية العبد يقول بها فيه ، لكن ذلك مبني على إرادة الأعم منه من النص ومعقد الإجماع ، وربما نوقش فيه بأن المنساق غيره.

نعم لا فرق بين القن والمدبر وأم الولد ، لا أقل من الشك فتبقى حرمة الربا على عمومها ، كما أن مقتضاها بل هو الظاهر من النص والفتوى ، بل هو كصريح صحيح زرارة (٣) قصر الحكم على غير المشترك ، كما صرح به جماعة ، بل في المختلف أطلق أصحابنا ، ومقصودهم إذا لم يكن مشتركا ، وهو كذلك ، ضرورة ظهور النص والفتوى في اتحاد المولى ، وكون المملوك جميعه لا بعضه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ١ ـ ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٦.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب الربا الحديث ـ ٤ ـ.

٣٨٠