جواهر الكلام - ج ٢٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

النظر السادس في لواحق من أحكام العقود

الصبرة لا يصح بيعها إلا مع المعرفة بما يرفع جهالتها من كيلها أو وزنها أو عدها أو نحو ذلك مما هو شرط صحة البيع كما عرفته سابقا ، فإذا عرفها صح بيعها أجمع وبيع جزء منها مشاع ثلث أو ربع ، وبيعها كل قفيز منها بدرهم ، وبيع قفيز منها ، أما بيع كل قفيز منها بدرهم ، فلا يصح ، للجهل بقدر المبيع المستلزم للجهل بقدر الثمن ، خلافا للإسكافي ، فأجازه في المجهولة ( فـ ) ضلا عن المعلومة كما ستسمع ولو باعها إي الصبرة أو جزءا منها مشاعا أو كل قفيز منها بدرهم مع الجهالة بقدرها لم يجز ، وكذا لو قال : بعتك كل قفيز منها بدرهم ، أو بعتكها كل قفيز بدرهم خلافا للإسكافي في الجميع وظاهر الشيخ في الثالث ، إلا أن الأول حكى الفاضل في المختلف عنه بالنسبة إلى الصورة الأولى ، جواز بيع الصبرة تارة اكتفاء بالمشاهدة عن اعتبارها ، واخرى أنه لا بأس ببيع الجزاف بالجزاف مما اختلف جنساهما ، لأن المقتضى وهو البيع موجود ، والمعارض منتف ، لانه إما مانع ؛ الجهالة وهو منتف بالجهالة ، هكذا وجد في المختلف والصواب « بالمشاهدة » أو مانع تطرق الربا وهو منتف باختلاف الجنس ، لكن لا ريب في ضعفه على كل حال ، بل يمكن تحصيل الإجماع على خلافه ، فضلا عن محكيه في المختلف عليه ، إذ الجهالة نفسها مانعة ، للنهى عن الغرر (١) والمشاهدة غير كافية في ذلك قطعا.

وأما الصورة الثالثة ففي المختلف « أنه أطلق الصحة فيما إذا قال : بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم ، ولم يتعرض لكونها معلومة أو مجهولة » وعن ابن جنيد « أنه لو وقع البيع على صبرة بعينها ، كل كر بكذا أو ماءة كر منها بكذا فقبض المشتري‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب آداب التجارة الحديث ـ ٣.

٢٢١

البعض أو لم يقبض ، ثم زاد السعر أو نقص ، كان باقي الصبرة أو الماءة للمشتري بالسعر الذي قاطعه عليه ، وأما إذا اشترى كل كر منها بكذا ولم يشترط جميع الصبرة ، ولا مقدارا معلوما ، كان بقدر ما وزن بسعر يوم الشراء » وظاهره الصحة فيهما.

وفي المختلف « إن التحقيق الصحة إذا كانت معلومة المقدار ، وإلا احتمل البطلان في الجميع ؛ والصحة في قفيز واحد كما قاله أبو حنيفة ، أما بطلان البيع في الجميع ، فلانه مبيع مجهول المقدار ، والثمن فيه غير معلوم فكان باطلا ، وأما صحته في قفيز فلان بيع كل قفيز يستلزم بيع قفيز ما ، فيصح ، لتعينه وتعين ثمنه » وقول الشيخ يقتضي الصحة في الجميع ؛ لانه نقل كلام أبي حنيفة ولم يرتضه ، واختار كلام الشافعي ، ومذهبه صحة الجميع ، وعلى كل حال فضعف الجميع واضح ، وإن اختلفت مراتبه ، ضرورة صدق الغرر فيه ، الذي لا يزول بالتقدير المزبور قطعا ، والصحة في الواحد بعد أن لم يكن مقصودا لهما كما ترى ، نحو الصحة في الصورة الرابعة التي لم يعلم قدر المبيع ولا قدر الثمن.

نعم لو قال : بعتك قفيزا منها ، أو قفيزين مثلا صح كالمعلومة بلا خلاف ولا إشكال إذا علم اشتمالها عليه ، بل ظاهر اللمعة ذلك وإن لم يعلم إلا أنه يجبر نقص المبيع لو تحقق بالخيار ، وفيه أنه لا غرر أعظم من الشك في الوجود ؛ ولعله لذا كان خيرة الأكثر العدم إلا أنه ينبغي تقييده بما إذا لم يكن هناك طريق شرعي يقتضي وجوده من أصل أو غيره ، ولعل من اعتبر العلم أراد ما يشمل ذلك ، بل يمكن إرادة ما يشمل الاطمئنان منه والأمر سهل.

إنما الكلام في أنه هل ينزل على الإشاعة في الصورتين ، أو يكون المبيع ذلك المقدار في الجملة وتظهر الفائدة فيما لو تلف بعضها ، فعلى الإشاعة يتلف من المبيع بالنسبة ، وعلى الثاني يبقى المبيع ما بقي قدره ، ويرجح الأول ، عدم معهودية ملك الكلي في غير الذمة لا على وجه الإشاعة ، بل ينحل إلى جهالة المبيع وإبهامه ، وما تسمعه في بيع الثمار من أن‌

٢٢٢

استثناء البائع أرطالا معلومة ينزل على الإشاعة من غير خلاف فيه بينهم قالوا : فلو خاست الثمرة بأمر من الله تعالى مثلا ؛ وزع على النسبة وهو مثل المقام كما اعترف به في الدروس.

لكن‌ في الصحيح (١) « رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن في أنبار بعضه على بعض من أجمة واحدة والأنبار فيه ثلاثون ألف طن ، فقال البائع : بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن فقال المشتري : قد قبلت ورضيت ، فأعطاه من ثمنه ألف درهم ، ووكل المشتري من يقبضه ، فأصبحوا وقد وقع في القصب نار فاحترق منه عشرون ألف طن ، وبقي عشرة آلاف طن ، فقال عشرة آلاف التي بقيت هي للمشتري ، والعشرون التي احترقت من مال البائع » وهو يؤيد الثاني وبه يفرق بين ما هنا ، وبين ما في بيع الثمار ، إلا أنه قد يشكل صحة أصل البيع فيه بجهالة عين المبيع فيه الموجبة للضرر المنفي (٢) الموجب لفساد المعاملة ؛ وصرح الأصحاب ـ فيما لو باع شاة غير معلومة من قطيع ـ بالبطلان وإن علم عدد ما اشتمل عليه من الشياة لتفاوت أثمانها ، بل صرحوا بالبطلان فيما لو فرقت الصبرة صيعانا متمايزة ، واشترى مقدارا منها ، فالأطنان إن كانت قيمية فمن الأول ، وإلا فمن الثاني.

اللهم إلا أن يلتزم الأخير ويكون البيع غير ملاحظ فيه خصوص ذلك التميز ، وإنما المراد مقداره ، حتى لو أراد البائع تغيير الأطنان من غير نقصان للمقدار كان له ذلك لأن المفروض أن الجميع من أجمة واحدة ، فيصح حينئذ لأنه كبيع المقدار المعلوم من الصبرة.

ولكن على كل حال فالمتجه الجمود على النص في خصوص البيع بالفرض المزبور ولا يتعدى منه إلى غيره ، كالصلح وثمن الإجارة ومهر النكاح ونحو ذلك بناء على ما سمعت من أن ملك الكلي في العين الخارجية لا يكون إلا على الإشاعة وفرض المسألة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٩ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ـ ١.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ ـ ٥.

٢٢٣

كون المبيع في الذمة ، وشرط التأدية من الصبرة خروج عن موضوع البحث ومقتضاه عدم البطلان ، حتى لو تلفت الصبرة أجمع ؛ وإن تسلط على الخيار بانعدام الشرط.

بقي شي‌ء وهو أن منشأ الوجهين على الظاهر ، الاختلاف في تعيين مراد المتعاملين من العبارة التي هي مورد العقد ، لان ذلك حكم شرعي وإن لم يقصداه ، فيخرج عن محل البحث حينئذ ما صرح فيه بقصد الإشاعة أو الكلي ، إلا أنه قد يشكل صحة الثاني ، بناء على عدم ملك الكلي في غير الذمة لا على وجه الإشاعة وخبر الأطنان (١) لا دليل فيه على صحته ، بل هو أعم منه ومن الإشاعة ، وإن كان قد خولف مقتضاها بجعل التالف عن البائع خاصة ، فيكون حكما شرعيا تعبديا لا يقاس عليه غيره.

بل قد يقال : إن هذا المعنى حكم مطلق بيع الصاع من الصبرة ، أما لو صرح به فلا دليل على جوازه وقد يحتمل في أصل المسألة أن منشأ الوجهين الاختلاف فيما تقتضيه الأدلة الشرعية في بيع مطلق الصاع من الصبرة من غير مدخلية لتعرف قصد المتعاملين ، بل لو علم خلوهما عن الأمرين معا ، جاء الوجهان أيضا ولم يحكم بفساد المعاملة ، فتأمل جيدا ، فإن التحقيق التنزيل على الإشاعة ، ضرورة كونه كالمالين المختلطين ، أو كالمال الذي اشترى أبعاضه ، هذا كله فيما يتوقف رفع جهالته على الاعتبار.

وأما بيع ما تكفى فيه المشاهدة فإنه جائز مع حصولها بلا خلاف ولا إشكال ، لحصول المقتضى وانتفاء المانع كأن يقول : بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب ، أو هذه الساجة بالجيم أو جزء منها مشاعا من غير مسح لها ، بناء على كفاية المشاهدة في الثلاثة كما هو الأقوى ، خلافا للشيخ في المحكي من ظاهر خلافه ، فمنع في الأولين من دون مسح ، ولا ريب في ضعفه ، سيما بعد اقتضاء العمومات الجواز ولا معارض وكذا ما لا يكون العد معتبرا في معرفته ، كقطيع الغنم ، وجملة النخيل والشجر وصبرة الكتب ونحو ذلك ، فيصح شراؤه بعد مشاهدة كل واحد مثلا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٩ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ـ ١.

٢٢٤

على وجه يعلم به ، وإن لم يعرف عده ضرورة عدم كونه كالدراهم ونحوها مما يتوقف معرفته على عده كما هو واضح.

نعم لو أراد بيعها ذرعانا فـ ( قال : بعتكها كل ذراع بدرهم لم يصح إلا مع العلم بذرعانها ) بجملتها ، لحصول الجهالة في الثمن ، وإن كانت هي معلومة بالمشاهدة على وجه يصح بيعها ، وهذا هو الفارق بينها ، وبين الصبرة المعلومة حيث صح بيعها كل قفيز بدرهم لأن معلوميتها ، انما تكون من جهة الكيل ، فيستلزم العلم بقدر الثمن ، ولو اكتفينا بالمشاهدة فيها كما ذهب اليه ابن الجنيد ، اشترط في بيعها كل قفيز بدرهم معرفة ما تشتمل عليه منه ليحصل بذلك العلم بقدر الثمن.

ولو قال بعتك عشرة أذرع منها وعين ابتداء الموضع ومنتهاه جاز قطعا بل في المسالك ومحكي التحرير الإجماع عليه ، لكونه معلوما بالحد والمشاهدة ، فهي عين مشخصة لا جهالة في شي‌ء منها ، ولو عين المبتداء أو المنتهى ، فقال : من هنا إلى حيث ينتهي ، أو إلى هنا من حيث يبتدى ، صح أيضا مع فرض تشخص المبيع بدايته ونهايته في الواقع ، وإن جهل ذلك المتشخص ، إلا أن جهله ليس لصدقه على كثيرين ، بحيث تكون أفرادا له حتى يكون المبيع كليا من بعض الجهات بل كان الجهل لعدم العلم بخصوص المحل الذي تنتهي إليه العشرة ومثله غير قادح للأصل سواء كانت أجزاء الأرض أو الثوب متساوية أو مختلفة لأن الفرض مشاهدته لها أجمع ، فارتفع الغرر من هذه الجهة ، وليست هي بأعظم غررا من بيع الثوب والأرض برؤية بعضها الذي لا خلاف في جوازه ، ولا من بيع شي‌ء مع عدم العلم بدخول ما يدخل فيه عرفا ، مما يجوز معه النزاع ، بل هذه الجهالة عند التأمل ، كالجهالة بوزن العشرة أقفزة مثلا أو بعلو الصبرة التي تحصل منها أو نحو ذلك ، ما لا تعد جهالة في العرف ولذا استمر العمل على مقدار الاذرعة من الثياب من دون علم بما ينتهى اليه ذلك المقدار من المذروع منه استمرارا يمكن تحصيل العلم بتقرير المعصوم منه.

٢٢٥

فما في الدروس وعن المبسوط والخلاف وابن إدريس والقاضي والمقدس الأردبيلي من الصحة حينئذ قوي جدا ، بل قيل إنه خيرة الإرشاد وشرحه لولده ، لكن عن غاية المراد أنه حكى ولد المصنف عن والده إصلاح صح « بلم يصح » حتى يوافق ما في كتبه وفي المسالك « إن الأجود الصحة مع تساوي الأجزاء أو تقاربها ، وإلا فالبطلان أجود » وكأنه أخذه مما عن غاية المراد من أنه قد ينصر الشيخ بأن هذا الاختلاف غير قادح لأنه اختلاف مقاربة لا مفارقة مع غلبة تساوى الأجزاء المتجاوزة ، وحينئذ فالأولى أن يحمل قوله تساوي أجزاء الأرض غالبا أو تقاربها ، وفيه أنه بناء على ما ذكرنا لا فرق بين تساوي الأجزاء واختلافها ، لأن جهالتها تتبع الكلي إذا لم يكن مشاعا منها ، أما إذا كان شخصيا مشاهدا فلا جهالة فيه.

فالأولى بناء كلام الشيخ على ذلك ، لا على ما ذكراه وإلا لاتجه الصحة وإن لم يعين المبدأ ولا المنتهى كما في الصبرة ، لكون الفرض التساوي ، أو التقارب ، وقد صرح غير واحد بعدم الجواز بناء على عدم تساوي الأرض وكذا الثوب ، ولذا قال : في المتن ولو أبهمه أي الموضع لم يجز لجهالة المبيع ، وحصول التفاوت في أجزائها ، بخلاف الصبرة نعم في الدروس أنه لو باعه ذراعا من ثوب معلوم المساحة وقصدا معينا أو أن يختار أحدهما ما شاء ، بطل ، وإن قصد الإشاعة صح ، وهو كذلك ، إلا أنه غير ما نحن فيه.

من ذلك كله ظهر لك أنه لو عين المبدأ وكان المبيع عشرة أذرع كلية بالنسبة إلى غير محل الابتداء لم يصح قطعا كما إذا لم يعين مبدأ المبيع ، وإن عين ما فيه المبيع بداية ونهاية بناء على اختلاف أجزاء الأرض على وجه لا يمكن رفعها بالكلي ، وإن شوهد جميع أفراده الدائرة بينها ، اللهم إلا أن يقصد الإشاعة ، فقد يقال : بالصحة ، كما سمعته من الدروس وإن لم يعلم مساحة الأرض ، إذا كان المبيع أذرعا معلومة ، لكون المبيع حينئذ حصة مشاعة مقدرة بالعشرة أذرع مثلا ، والجهل‌

٢٢٦

بنسبتها إلى المجموع حال العقد غير قادح ، بعد الضبط بالأذرع ، فيملك حينئذ في كل جزء من الثوب على حسب نسبة العشرة إلى المجموع ، نحو ما سمعته في بيع الصاع من الصبرة ، علي تقدير التنزيل على الإشاعة ، واختلاف الأجزاء وتساويها لا مدخلية لها في علم المبيع وجهالته ، فإذا صح بيع الصاع من الصبرة منزلا على ملك حصة من الصبرة مشاعة تعلم بنسبة الصاع الى المجموع ، ولا يقدح جهالتها حال العقد ، فكذلك المقام.

بل قد ينقدح من ذلك ومما سمعته سابقا في بيع الصاع من الصبرة من انصراف مطلقه عندنا إلى الإشاعة ، صحة نحو ذلك في المقام ، وإن لم يصرح بقصدها ، فينزل حينئذ على الإشاعة المزبورة ، ويكون صحيحا ، وما عساه يوهمه إطلاق بعض العبارات من عدم جواز مثل ذلك ، بل والصورة السابقة ، يمكن دفعه بظهور الإطلاق في غير ذلك ، وأن المراد منه بيع مقدار مخصوص لا على جهة الإشاعة ، ولا ريب في بطلانه خصوصا في مختلف الأجزاء فتأمل جيدا.

فإن الظاهر البطلان مع قصد النسبة بما ذكره من العدد على وجه يكون المبيع الكسر الذي يطابق النسبة المزبورة في الواقع ، لجهالة المبيع التي لا يرفعها ضبط النسبة المزبورة ، وإلا لصح ذلك في القيمي كأن يبيعه من العبد مثلا ما يقابل عشرة من النسبة إلى مجموع قيمته ، وهو معلوم الفساد ، ولا ينافي ذلك القول بتنزيل الصاع من الصبرة على الإشاعة ، فإنه لا يراد منه وقوع البيع على الكسر الذي يكون نسبة الصاع إلى مجموعه ، بل المراد منها أن المبيع كلي شائع في مصاديقه في الصبرة كشيوع كلي الشاة في الزكاة في الأربعين في وجه ، وهذا وإن لم يكن من الاشتراك على اشتراك الكسور كالنصف ونحوه ؛ ولكن حكمه حكمه بالنسبة إلى توزيع التالف على المجموع باعتبار عدم تعيين كلي كل من المالكين في فرد مخصوص ، بل هو مصداق لكل منهما وحينئذ فالتحقيق صحة بيع الكلي في الشائع في الافراد الخارجة ، ولكن مع تساوى‌

٢٢٧

الاجزاء كالصاع من الصبرة على الوجه الذي ذكرنا ، وكذا الأرض والثوب مع فرض تساوى الاجزاء ، ولا يصح مع اختلافها ، أما بيعه على وجه النسبة بمعنى كون المبيع الكسر من الصبرة أو الأرض المقدر بنسبة الصاع أو الذراع إلى المجموع فغير جائز في متفق الاجزاء ومختلفها ، ولعله بذلك تعرف الوجه في إطلاقهم والله أعلم.

ولو باعه أرضا مثلا على أنها جربان معينة مصرحا بذلك أو بنى العقد عليه فكانت أقل فالمشتري بالخيار بلا خلاف ولا إشكال ، إلا أن الأكثر نقلا وتحصيلا بل في الرياض أنه حكى الشهرة عليه جماعة على كون الخيار بين فسخ البيع واسترجاع الثمن إن كان قد قبضه البائع وبين أخذها بحصتها من الثمن ، وقيل : بل بكل الثمن كما هو خيرة الشيخ والقاضي والفاضل وولده وأبى العباس والصيمري على ما حكي عن بعضهم ، بل هو ظاهر الوسيلة والنافع وجامع المقاصد ، وقواه في الميسية على ما قيل ، واستوجهه في المسالك والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده ، إذ المذكور وإن كان بصورة الوصف والشرط الذين لا يوزع عليهما الأثمان لكنهما أجزاء من المبيع حقيقة خارجية فيفوت بفواتها بعض المبيع حينئذ فيثبت الخيار المزبور لتخلف الوصف الذي هو بعض من المبيع ، وبذلك افترق عن بعض الأوصاف التي لا ترجع إلى أجزاء من المبيع ، فكان الخيار فيها بتخلف الوصف بين الفسخ والقبول بتمام الثمن ، لكون الفائت ليس جزء مبيع يقابل شيئا من الثمن ، بل وصفه ، وما نحن فيه ليس من ذلك قطعا ، بل هو لا ينقص عن وصف الصحة الذي يثبت الخيار بفقدها بالعيب بين الرد والقبول بالأرش ، مضافا إلى‌ خبر عمر بن حنظلة (١) المنجبر بما سمعت قال فيه : « رجل باع أرضا على أن فيها عشرة أجربة ، فاشترى المشتري منه بحدوده ، ونقد الثمن ، وأوقع صفقة البيع وافترقا ، فلما مسح الأرض ، فإذا هي خمسة أجربة ، قال : إن شاء استرجع فضل ماله وأخذ الأرض ، وإن شاء رد المبيع و‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من أبواب الخيار الحديث ـ ١.

٢٢٨

أخذ ماله كله ، إلا أن يكون إلى جنب تلك له أيضا أرضون ، فليوفيه ، ويكون البيع لازما ، وعليه الوفاء بتمام المبيع ، فإن لم يكن له في ذلك المكان غير الذي باع ، فان شاء المشتري أخذ الأرض واسترجع فضل ماله ، وإن شاء رد الأرض وأخذ المال كله » واشتماله على ما نقول به مع إمكان تأويله ، لا يمنع من العمل بالباقي ، وإشكال ذلك كله ـ بأن ما فات لا قسط له من الثمن ، لاستحالة تقسيط الثمن على الأجزاء أو العلم ، لعدم الفائت ، وعدم المماثل له ، فاستحال تقومه ، فاستحال ثبوت قسط له ، خصوصا إذا كانت الأرض المشتراة مختلفة الاجزاء ، وفرض الفائت من الجيد أو الردي تحكم ، فاتضح أن الفوات هنا كفوات صفة كمال ، وهو كم ، والكم عرض فكان كالتدليس ، وفرق بينه وبين ما إذا باع عبدين ، فبان أحدهما مستحقا ، لأنه في هذه لم يسلم المبيع ، وهو مجموع العبدين ، وهنا قد سلم المبيع وهو مجموع الأرض ، وإنما فقد منها كونها بقدر الجريب الواحد عشر مرات مثلا ، وهذا وصف يعد كمالا ، ولا يعد نقصه عيبا ، وبأن التقسيط يؤدي إلى جهالة الثمن في الجملة والتفصيل ـ يدفعه إمكان كون طريق التقويم بأن هذه الأرض المشخصة من غير زيادة عليها ولا نقيصة على فرض أنها عشرة أذرع ، ولو للاشتباه فيها ، قيمتها كذا وعلى فرض أنها خمسة قيمتها كذا ، فينسب إحدى القيمتين إلى الأخرى ، ويؤخذ من الثمن بنسبته ، فلا يحتاج حينئذ إلى إضافة شي‌ء إليها كي يستشكل بأنه يستحيل تقويمه لعدم المماثل ، حتى يجاب عنه بأن الغالب في الأرض التساوي ، فيفرض كونه مساويا لها ، مع أنه قد يستشكل بأنه قد يفرض كونها مختلفة ، فيلتزم كون الفائت مختلفا على نسبة اختلافها ، إذا الجميع كما ترى ، ولا جهالة حال العقد بعد الإقدام منهما على مقابلتها بالثمن على أنها عشرة ، كما أنه لا يقدح الجهالة في التقسيط بعد معلومية المقابلة في الجملة.

ومن ذلك ظهر لك الوجه في قول المصنف ولو زادت كان البائع بالخيار بين الفسخ والإجازة بجميع الثمن ، وكذا كل ما لا يتساوى أجزاؤه لعدم موجب التقسيط‌

٢٢٩

هنا ضرورة اختصاص إيجاب التبعيض ذلك بالمشتري ، فلم يبق إلا جهة تخلف الوصف الموجب ضررا على البائع لو كان البيع لازما فثبت له الخيار بالطريق المزبور وإلزام المشتري هنا بإعطاء ما يخص الزيادة على نسبة الثمن ، أو تخيره بين ذلك وبين الفسخ لا يوافق الضوابط الشرعية ؛ كاحتمال بطلان البيع كما في القواعد.

وعن المبسوط بل عن التبصرة أنه الوجه عندي لجهالة المبيع ، لكون الزيادة غير معينة ، إذ فيه أن المبيع بحسب الصورة هو المجموع ، وقد تجدد كون الزائد ليس منه بعد الحكم بصحة العقد ، على أن ذلك مبنى على كون الزيادة للبائع ، وهو خلاف التحقيق كما ستعرف ، بل قد عرفت أن مبنى كلام المصنف ، ومن عبر كعبارته على ذلك ، ومن هنا كان لا يرد على المتن بقرينة ذيله ، أن إيجابه التقسيط في الأول قاض بالتبعيض ، وإثباته الخيار المزبور هنا قاض بأنه من تخلف الوصف فيتدافع ، إذ قد عرفت اجتماع الحيثيتين في الأول بخلاف الثاني.

لكن قد يناقش بأنه وإن كان التبعيض لا يوجب تقسيطا بالنسبة إلى البائع ، إلا أن مقتضاه كون الزيادة للبائع كما صرح به بعضهم ، واحتمله آخر ولا يكون له خيار حينئذ واحتماله ـ حينئذ للتضرر بعيب الشركة ـ يدفعه أولا أنه هو الذي غرر بنفسه ، وثانيا عدم الضرر عليه بعد أن كان قادما على مقابلة الجميع بالثمن ، فظهور الشركة في الحقيقة نفع لا ضرر عليه ، والتسلط بمثله على الخيار محل شك ، بل منع لأصالة اللزوم.

نعم لا بأس به بالنسبة للمشتري حينئذ لأنه أقدم على كون الجميع له ، فظهور الشركة فيه عيب بالنسبة إليه ، بل لا يسقط حتى لو بذل البائع الزيادة ، لعدم وجوب القبول عليه ، فلا ريب حينئذ في ضعف الاحتمال المزبور ، وأضعف منه حمل المتن عليه ، ضرورة ظهوره في كون متعلق الخيار مجموع الأرض ، بجميع الثمن.

فالتحقيق كون الزيادة والنقيصة من واد واحد ، والظاهر أنه من تخلف الوصف‌

٢٣٠

فيهما ؛ لأن المفروض كون المبيع عينا مشخصة محددة غير قابلة للزيادة والنقيصة إلا أنه وصفها البائع بمقدار مخصوص ، وأخذها المشتري على ذلك الوصف فتخلف ، فحصل الضرر منه على البائع أو المشتري ، فيثبت الخيار ؛ فليس في الحقيقة فواته مفوتا لجزء من المبيع ، لما عرفت من أنه محدد مشخص غير قابل للزيادة والنقيصة.

لكن الخبر المزبور (١) الذي عمل به جماعة من الأصحاب أوجب التوزيع في صورة النقصان ، ولا محيص عن العمل به إن لم يحمل بقرينة ذيله على كون المبيع عشرة معينة الابتداء إلى أن تنتهي ، بناء على صحة ذلك ، فبان قصورها عن العشر ، فإن التوزيع هنا متجه ، ضرورة كون مورد البيع المعدود من حيث العدد ، إلا أنه خلاف الظاهر ، وذيله ـ بعد أن انفرد الشيخ بالعمل به في النهاية التي لم تعد للفتوى ، فلا جابر له بالنسبة إلى ذلك ـ لا بأس بطرحه أو تنزيله على ما يوافق الضوابط وإن بعد ، ولا يمنع من العمل بما تضمنه من التوزيع المزبور.

ومنه يعلم حينئذ الحال فيما لو نقص ما يتساوى أجزاؤه فإنه ي ثبت الخيار للمشتري بين الرد وأخذه بحصته من الثمن وفاقا للشيخ والفاضل في بعض كتبه والشهيدين في الدروس واللمعة وغاية المرام على ما حكي عن بعضها ، بل عن الأخير أنه المشهور ، بل هو لازم لجميع من عرفته ممن قال به في مختلف الأجزاء ضرورة أولويته منه بذلك ، ولذا أرسله بعضهم في ضمن الاستدلال إرسال المسلمات ، بل ظاهر المقداد في التنقيح أو صريحه ، أنه لا كلام فيه لإمكان توزيع الثمن فيه على أجزائه ، فلا مانع فيه من هذه الجهة ، بل إذا كان منه ما لا يضبط إلا بالوزن ونحوه ، ولا تكفي فيه المشاهدة ، كما هو الغالب فيه بكون التقدير فيه ملاحظا في المبيع أولا وبالذات ، فكأنه باعه المقدر من حيث التقدير ، فيفوت البعض بفواته.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ ـ من أبواب الخيار الحديث ١.

٢٣١

إلا أن الإنصاف كون العمدة إلحاقه بمضمون الخبر المزبور (١) وإلا فمتساوى الأجزاء ، وإن كان يمكن توزيع الثمن عليه ، وليس فيه المانع المزبور ، لكن بعد أن كان عينا مشخصة لا تزيد ولا تنقص صار التقدير المفروض فيها وصفا أيضا ، حتى لو كان وزنا ونحوه ، إذ هو طريق إلى المعلومية المسوغة للإقدام على البيع كالوصف ، لا أنه بعض مبيع ؛ ولذا كان خيرة الفاضل في القواعد التخيير فيه بين الرد والأخذ بالثمن ، بل هو المحكي عن ولده في الإيضاح ، وعن الشهيد في حواشيه والميسية والكفاية أنه أقوى ، وفي المسالك أنه متجه ، ومال إليه في جامع المقاصد ، إلا أن فيه إعراضا عن الخبر المزبور ، المنجبر بما عرفت ، فالتوزيع هو الأقوى.

نعم هو متجه فيما لو زاد ، فيتخير البائع بين الرد والقبول بالثمن المسمى ، كما سمعته في مختلف الأجزاء وفاقا للفاضل في القواعد ، والمحكي عن ولده في شرح الإرشاد ومال إليه المحقق الثاني والمقدس الأردبيلي على ما حكي عنه ، بل ربما قيل إنه لازم لكل من قال به في مختلف الأجزاء ممن عرفت ، فحينئذ يكون الزيادة للمشتري ، ولا خيار له حينئذ ، لأن المتضرر بفوات الوصف البائع دونه ، خلافا للمبسوط والتحرير والإرشاد والتبصرة والتنقيح وظاهر موضع من الدروس ، فجعلوا الزيادة للبائع على ما حكي عن بعضها ، بل في مجمع البرهان لا شك في أنها له ، بل في التنقيح لا كلام فيه ، ولعله لا يخلو من قوة فيما يعتبر فيه الوزن والكيل والعدد ، إذ التزام دخول الصبرة المبيعة بعنوان أنها وزنة في ملك المشتري وإن كانت وزنتين لا يخلو من صعوبة.

وعلى كل حال فالمتجه ثبوت الخيار للمشترى ، لأنه خلاف ما قدم عليه ، وللتضرر بالشركة دونه ، نحو ما سمعته في مختلف الأجزاء فمن الغريب ما في القواعد والتحرير من عدم الخيار له على هذا التقدير ، ولعله لعدم التضرر ، فهو كالصاع من الصبرة إلا أنه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من أبواب الخيار الحديث ١.

٢٣٢

كما ترى ، فتأمل جيدا في جميع ما ذكرنا ، فإن منه يظهر لك الخلل في جملة من كلمات الأصحاب في مواضع متعددة والله أعلم.

ولو جمع بين شيئين مثلا مختلفين في كون كل منهما مورد عقد مخصوص في عقد واحد بثمن واحد كبيع وسلف فقال : بعتك هذا العبد وعشرة أقفزة حنطة موصوفة بكذا مؤجلا إلى كذا بمأة درهم أو إجارة وبيع فقال : آجرتك الدار وبعتك العبد بكذا أو نكاح وإجارة فقال : أنكحتك نفسي وآجرتك الدار بكذا صح بلا خلاف أجده فيه ، وإن أوهمه نسبة بعضهم إياه إلى الأكثر بل قيل صرح في المبسوط بأن فيه خلافا عندنا ، لكنه احتمل إرادته من العامة.

نعم عن الأردبيلي أنه تأمل فيه ، ولعله للشك في نقل مثل هذا العقد الذي لا يدخل في اسم كل منهما ، وإلا اعتبر فيه ما يعتبر فيهما ، ولأن الجهالة والغرر وإن ارتفعا بالنسبة إلى هذا العقد ، إلا أنهما متحققان بالنسبة إلى البيع والإجارة ، وقد نهي الشارع عنهما في كل منهما ] (١) وارتفاعها بالنسبة إلى مجموع العقد غير مجد ، وليس هو كالمبيعين الذين فسد البيع بالنسبة إلى أحدهما ، للاكتفاء فيه بمعلومية ثمن المجموع الذي هو مبيع والجهل بالتقسيط غير قادح بعد أن كان بالنسبة إلى جزء المبيع لا إلى مجموعه ، بل لعل مثل ذلك غير قادح حتى مع العلم بالفساد من أول الأمر ، لصدق معلومية ثمن المبيع ، ولو كان البيع في بعضه فاسدا بخلاف المقام الذي ثمن تمام المبيع فيه مجهول ، وإن كان هو معلوما بالنسبة إلى مجموع العقد.

اللهم إلا أن يقال : إن المعلوم من قدح الجهالة ما إذا كان البيع عقدا مستقلا لا جزء عقد ، فإطلاق الأدلة بحاله ، كما أن عموم قوله تعالى (٢) ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) كاف في ثبوت مشروعيته ، بعد ظهور اتفاق الأصحاب عليه ، الذي يكفي في ثبوت معهوديته ، فتشمله الآية‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٠ من أبواب آداب التجارة الحديث ٤ المستدرك ج ٢ ص ٤٧٠.

(٢) سورة المائدة الآية ١.

٢٣٣

وإن قلنا بأن اللام إشارة إلى العقود المتعارفة ، إذ لا طريق لنا إلى ذلك إلا كلام الأصحاب ، فيكفي حينئذ معلومية العوض لهذا العقد الذي هو في الصورة عقد واحد وفي المعنى عقدان أو عقود ، ولذا يجري عليه حكم كل منها لنفسه من غير مدخلية للآخر نحو خيار المجلس وغيره ، كما هو واضح ، إلا أنه من حيث اتحاد القبول فيه ـ باعتبار عدم الدليل على اعتبار القبول بعد العقد على وجه لا يشاركه غيره في معناه ـ واحد.

وحينئذ فإن احتيج إلى أن يقسط العوض لتعدد المالك أو غيره قسط على قيمة المبيع وأجرة المثل بلا خلاف ولا إشكال وعلى مهر المثل بلا خلاف أيضا إلا أنه أشكل بأن المفوضة ترجع إلى مهر السنة لو زاد مهر المثل عنه ، وهنا لما لم يتعين لها مهر مقدر ابتداء أشبهت المفوضة ، فلا يتم إطلاق مهر المثل ، ويدفع بأنها هنا ليست مفوضة بل مسماة المهر ، غايته عدم العلم بقدر ما يخصه ابتداء ، على أن الرجوع إلى مهر السنة على تقدير زيادة مهر المثل محل تأمل أو منع.

نعم هو مسلم بالنسبة إلى مفوضة البضع ، وهذه ليس منه قطعا كما هو واضح ، ولو كان أحد الأعواض مؤجلا ، قسط عليه كذلك ، فلو باعه عبدا يساوى عشرة حالا ، وعشرين مؤجلا فباعه مؤجلا ، وأجره داره مدة سنة بعشرين ، والعوض عشرون ، فإنه يقسط بينهما بالسوية وكذا يجوز بلا خلاف بل ولا إشكال بيع السمن بظروفه مع العلم بوزن المجموع الكافي عن معلومية وزن كل منهما ، بعد إقدام المشتري على الرضا بكون سعر الظرف سعر الدهن ، فإذا احتيج إلى التقسيط قسط على ثمن مثلهما ، بأن يقال : قيمة الظرف مثلا درهم ، وقيمة السمن تسعة فيخص الظرف عشر الثمن ولو قال : بعتك هذا السمن بظروفه كل رطل بدرهم بعد العلم بوزن المجموع كان جائزا أيضا لما عرفت‌

٢٣٤

من وجود المقتضى وارتفاع المانع ، والتقسيط فيه بأن يوزن الظرف منفرد أو ينسب إلى الجملة ، ويؤخذ له الثمن بتلك النسبة ، وبذلك افترق هذا المثال عن الأول كما هو واضح والله أعلم.

( الفصل الخامس : في أحكام العيوب )

من اشترى مطلقا أو بشرط الصحة اقتضى سلامة المبيع من العيوب بلا خلاف ولا إشكال في الثاني ؛ بل والأول إن كان المراد الاقتضاء شرعا ، أما عرفا فلا يخلو من إشكال ، خصوصا بعد عدم الانصراف في مثل التكاليف والوصايا ونحوهما وأصالة السلامة لا تقتضي إرادة السالم من الإطلاق ، وإلا لاقتضت في الجميع ، بل لم يكن المعيب بعض أفراد المبيع لو كان كليا.

اللهم إلا ان يفرق بينها وبين البيع بل جميع عقود المعاوضات ، والإطلاق إنما يقتضي السلامة في المبيع ، لا أن المبيع السالم ، فلا ينافي كون المعيب فردا هذا. ولكن مع ذلك لا يخلوا الانصراف المزبور عرفا من تأمل في بعض الأحوال ، خصوصا بالنسبة إلى بعض العيوب والأمر سهل ، لكن صريح جماعة أن الشرط المزبور بعد تسليم الانصراف المذكور مؤكد بل لم أجد قائلا بغيره.

نعم في المسالك « وربما قيل : إن فائدة اشتراط الصحة جواز الفسخ وإن تصرف لو ظهر عيب ، فيفيد فائدة زائدة علي الإطلاق كاشتراط الحلول » وهو متجه ، وإن قال بعض مشايخنا إنى لم أجد هذا القول لأحد من العامة والخاصة ، ضرورة أنه لا بأس باجتماع الجهتين عملا بالدليلين الغير المتنافيين ، نعم قد يتوقف في أصل صحة اشتراط ذلك كسائر الصفات في الأعيان الشخصية ، لظهور أدلة الشرط في أنه مما يكلف المشترط عليه بالوفاء به ، وفي الفرض لا يتصور ذلك على تقدير عدم الاتصاف ، إلا أنه قد يمنع اعتبار ذلك في الشرط ، وإن كان فائدته حينئذ أنه في مثل ذلك قلب اللازم جائزا ،

٢٣٥

فتأمل جيدا والله أعلم.

وكيف كان فان ظهر به عيب سابق على العقد فالمشتري خاصة بالخيار ، بين فسخ العقد وأخذ الأرش إجماعا محصلا ، ومحكيا مستفيضا ، صريحا وظاهرا ، وهو الحجة مضافا إلى ما أرسله ـ في محكي الخلاف من الأخبار وخبر الضرار (١) وفقه الرضا (٢) بناء على حجيته « إن خرج في السلعة عيب وعلم المشتري فالخيار إليه إن شاء رد وإن شاء أخذ أو رد عليه بالقيمة أرش المعيب » والظاهر زيادة أو فيه كما عن بعض الأجلة ، ولعل المراد « الهمزة » ـ والى المعتبرة التي منها‌ مرسل جميل (٣) عن أحدهما عليه‌السلام « في الرجل يشترى الثوب أو المتاع فيجد به عيبا قال : إن كان قائما رده على صاحبه وأخذ الثمن ، وإن كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ رجع بنقصان العيب » وغيره إلا أنه ليس فيها جميعا ذكر الإمضاء مع الأرش ، بل ظاهرهما الرد خاصة كما اعترف به في الرياض ، لكن قال : « إن الإجماع ولو في الجملة كاف في التعدية ».

قلت : إن لم يثبت أولوية ثبوت الأرش قبل التصرف المزبورة منه بعده ، لوضوح منعها ، أو أن ثبوته ـ لأنه عوض جزء من المبيع ـ قد فات ، فهو كمقابل أحد المبيعين من الثمن لو بطل البيع فيه ، بناء على مقابلة أجزاء المبيع بأجزاء الثمن ، ويكون استحقاق المشتري له على القاعدة ، كما في تبعض الصفقة ؛ وفيه أنه أوضح منعا من الأولوية المزبورة لعدم ثبوت التوزيع المزبور قصدا ولا شرعا على وجه يتناول الحكم المذكور ، بل تصريحهم بأنه يسقط بالإسقاط بعد العقد ، بحيث لا يصح الرجوع منه بعده كما ستعرف ينافيه ضرورة عدم صحة تسلطه على الأعيان ، ولو كان بمنزلة الهبة جاز الرجوع فيها ، فالعمدة حينئذ في ثبوته ما عرفت.

وقد يظهر من المتن وغيره ، أن الخيار المزبور عند ظهور العيب ؛ لا أنه كاشف عن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ ـ ٥.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٧٨.

(٣) الوسائل الباب ١٦ من أبواب الخيار الحديث ٣.

٢٣٦

ثبوته حال العقد ؛ لكن يمكن عدم إرادة ذلك منها ، وإن اقتضاه ظاهر التعبير المساق إلى بيان أن ثمرته عند الظهور ، لعدم تصور فائدة له قبل العلم غالبا ، لكن فيه إن له ثمرات. منها ـ إسقاطه بالتصرف قبل ظهوره ، ولولا أنه ثابت لم يتصور سقوطه به ، إلا أن يكتفى بوجود سببه وكذا إسقاطه ، ومنها ـ أنه لو فسخ قبل ظهوره أثر الانفساخ حينه ولو تأخر الظهور عن ذلك فتأمل جيدا ، والظاهر ثبوت الخيار المزبور في العيب في الثمن ، وإن خلت عنه أكثر النصوص والفتاوى إن لم يحمل المبيع فيها على ما بشملهما ، وهو كما ترى ، ولا ينافي ذلك قول المصنف خاصة ضرورة كون المراد ذلك بالعيب في المبيع والله أعلم.

وكيف كان فـ ( يسقط الرد ) والأرش بالتبري من العيوب بأن يقول : بعتك هذا بكل عيب ، أو وأنا بري‌ء من كل عيب ، أو نحو ذلك مما لا يفرق فيه بين العيوب ظاهرة أو باطنة ، معلومة أو غير معلومة ، حيوانا كان المبيع أو غيره ، إجماعا محكيا صريحا عن الخلاف والغنية والتذكرة ، وظاهرا في غيرها إن لم يكن محصلا ، ضرورة كون المراد البراءة مما رتب الشارع عليه من الحكم ، وهو الرد أو الأرش ، فهو حينئذ شرط مندرج فيما دل على الشرائط ، حتى لو ذكره قبل العقد ، وبنياه عليه بناء على أنه حينئذ كالمصرح به فيه ، ولأن المشتري حينئذ راض به على ذلك ، فهو كما لو علم به وأقدم عليه ، بل يشمله دليل ذلك ، بل قد يقال إن في شمول أدلة الخيار المزبور لمحل الفرض محل شك ، بل ظاهرها خلافه ، فيبقى أصالة لزوم العقد وأصالة برأيه الذمة من الأرش بلا معارض.

مضافا إلى مفهوم‌ الحسن أو الصحيح (١) « أيما رجل اشترى شيئا فيه عيب أو عوار ، ولم يتبرء إليه منه ولم يبين له ، فأحدث فيه بعد ما قبضه شيئا وعلم بذلك العيب وذلك العوار أنه يمضى عليه البيع ، ويرد عليه بقدر ما ينقص من ذلك الداء والعيب من ثمن ذلك لو لم يكن به » وخبر جعفر بن عيسى (٢) قال : « كتبت إلى أبى الحسن عليه‌السلام جعلت فداك المتاع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من أبواب الخيار الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ٨ من أبواب أحكام العيوب الحديث ١.

٢٣٧

يباع فيمن يزيد فينادي عليه المنادي ، فإذا نادى عليه بري‌ء من كل عيب فيه ، فإذا اشتراه المشتري ورضيه ولم يبق إلا نقد الثمن ، فربما زهد فإذا زهد فيه ادعى عيوبا وأنه لم يعلم بها ، فيقول : له المنادي قد تبرئت منها ، فيقول المشتري : لم أسمع البراءة منها ، أيصدق؟ فلا يجب عليه الثمن ، أم لا يصدق فيجب؟ فكتب عليه الثمن » الذي يمكن تقرير الدلالة فيه على المطلوب بوجهين.

ويصح التبري من العيوب المتجددة ، بل ظاهر التذكرة الإجماع عليه ، لأن المراد التبري من الخيار الثابت بسببها بمقتضى العقد ، فليس براءة مما لم يجب ، على أنه يمكن منع عدم صحته على جهة الشرطية. ثم على الصحة فالظاهر شمول إطلاق البراءة من العيوب لها ، وإن كان المنساق أولا إلى الذهن العيوب الموجودة حال العقد.

وكذا يسقطان بالعلم بالعيب قبل العقد بلا خلاف أجده ، لأن إقدامه معه رضا منه به ، ولا خلاف في الغنية في سقوط خيار العيب به حينئذ ، مضافا إلى أصلي لزوم العقد وبراءة الذمة من الأرش ، ضرورة ظهور أدلة الخيار المزبور في غير الفرض وإلى مفهوم خبر زرارة (١) المتقدم المتمم بعدم القول بالفصل بين عدم الأرش والرد معه ، بل قد يقضى إطلاقه كالفتاوى السقوط به فيما لو علم به ثم نسيه ، وهل يصح شرائه من العالم مصرحا ببقاء خيار العيب له؟ ونحو ذلك مما يرفع دلالة العلم على الرضا به معيبا؟ الأقوى ذلك ، لأنه كالشرط حينئذ ، بل لو اقتصر على خصوص الرد من مقتضى العيب صح أيضا لذلك ، وأما لو اقتصر على الأرش فقد يحتمل البطلان ، التجهل الثمن حينئذ ، ويحتمل الصحة الكتفاء بعلم الثمن بالجملة كما لو باع ما يصح وما لا يصح مع العلم به.

ويسقط الخيار المزبور أيضا بإسقاطه بعد العقد بلا خلاف ، لأنه من الحقوق التي تسقط بالإسقاط ، كما عرفته في الخيارات السابقة ، فيسقط الرد حينئذ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من أبواب الخيار الحديث ـ ٢.

٢٣٨

وكذا الأرش ، لأنهما هنا متعلقاه ، فإسقاطه إسقاطهما معا ، ولو اقتصر على إسقاط أحدهما صح وإن اتحد سبب استحقاقهما كما هو واضح ، ويمكن استفادته من العبارة.

ويسقط الرد خاصة بإحداثه فيه حدثا كالعتق وقطع الثوب بلا خلاف معتد به بل في المختلف وعن شرح الإرشاد للفخر الإجماع عليه سواء كان قبل العلم بالعيب أو بعده على نحو ما سمعته في الخيارات السابقة ؛ ضرورة اشتراكه معها في أن له الفسخ وإن زاد عليها بالأرش ، فيسقط ما به الاشتراك ما يسقطها ، ولذا كان البحث السابق في التصرف المسقط آتيا هنا مضافا ، إلى مرسل جميل (١) وخبر زرارة (٢) السابقين الدالين على ثبوت الأرش لعدم دلالة التصرف على إسقاطه شرعا ولا عرفا ، خلافا لما عن ابن حمزة في الوسيلة فأسقط الأرش به إذا كان بعد العلم به ، ولا ريب في ضعفه للأصل وإطلاق النص (٣).

بل في صريح الغنية أو ظاهرها الإجماع عليه ، مؤيدا بالتتبع لفتاوى الأصحاب صريحها وظاهرها ، بل عن شرح الإرشاد للفخر الإجماع على ثبوت الأرش ، على أن فيما حضرني من نسخة الوسيلة « وإن علم بالعيب ثم تصرف فيه لم يكن له الرد والأرش ، لأن تصرفه ليس بموجب لرضاه » وتعليله إنما ينطبق على أن له الأرش ، ولعل الاسقاط من النساخ ، والا فلا ريب في ضعفه ، كضعف ما عن المبسوط من أن التصرف قبل العلم لا يسقط الخيار ؛ للأصل المنقطع بما عرفت ، ومفهوم خبر زرارة المحتمل لأن يكون المراد منه أنه لو أحدث فيه شيئا ثم علم به لم يكن له الخيار ، لا أن الحدث إذا كان بعد العلم ينفى الخيار ، حتى يستدل بمفهومه على أن الحدث قبله لا ينفيه ، بل لعل المراد منه أنه لا يتحقق ثبوت الخيار إذا لم يكن علم به ، فتأمل جيدا ، وما عنه أيضا من أنه إن كان بيع المشتري له قبل علمه بالعيب وعاد إليه فله رده ، وما عنه أيضا والمقنعة والنهاية من أن الهبة والتدبير لا يمنعان من الرد لأن له الرجوع فيهما بخلاف العتق ، لما عرفت من إطلاق النصوص والفتاوى ومعاقد الإجماعات والله أعلم.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ ـ من أبواب الخيار الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ١٦ ـ من أبواب الخيار الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ١٦ ـ من أبواب الخيار الحديث ٣ ـ ٢.

٢٣٩

وكذا يسقط الرد بحدوث عيب بعد القبض غير مضمون على البائع بلا خلاف أجده فيه ، بل عن شرح الإرشاد للفخر الإجماع عليه ، وفي محكي الخلاف الإجماع والأخبار على أنه ليس له رده إلا أن يرضى البائع بأن يقبله ناقصا فيكون له رده ، وأنه يكون له الأرش إن امتنع البائع من قبوله معيبا ، وعن موضع من المبسوط « إذا باع عبدا وقطع طرف من أطرافه عند المشتري ، ثم وجد به عيبا قديما سقط حكم الرد إجماعا ووجب الأرش » وعنه أيضا « نفى الخلاف عن أن له الأرش إذا امتنع البائع من قبوله » ولعل مراده من الشرط أن له رده إن أراده إذا لم يمتنع البائع من قبوله ، لا نفى الأرش حينئذ وإن اختاره.

لكن في التحرير « لو تعيب عند المشتري لم يكن له رده ، فلو اختاره البائع جاز وأو أراد المشتري الأرش حينئذ قال الشيخ : ليس له ذلك ، والوجه عندي أن له الأرش إن اختاره ولو امتنع البائع من قبوله معيبا كان للمشتري حق الأرش قولا واحدا » وفي الدروس « وثاني الأمور المسقطة للرد دون الأرش ، حدوث عيب عند المشتري مضمون عليه ، إلا أن يرضى البائع برده مجبورا بالأرش أو غير مجبور ، ولا يجبر البائع على الرد وأخذ الأرش ، أي أرش العيب الحادث ، ولا يتخير المشتري بينه وبين المطالبة بأرش السابق ، ولو قبل البائع الرد لم يكن للمشتري الأرش بالعيب الأول عند الشيخ » وقد فهما منه الخلاف في ذلك ، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه ، للأصل وإطلاق الأدلة والإجماع السابق المعتضد بفتاوى الأصحاب ، بل إن لم يثبت إجماع على سقوط الرد به مطلقا لأمكن المناقشة فيه ، إذا لم يكن من جهته بحيث يعد تصرفا فيه ، لعدم معارض للأدلة المزبورة ؛ خصوصا مع عدم سقوط غيره من الخيار بذلك ، بل قد عرفت عدم سقوطه فيما لو تلف بآفة سماوية في وجه ، فضلا عن التعيب ، وتعليل غير واحد من الأصحاب السقوط هنا بأنه لما كان مضمونا عليه كان بمنزلة إحداثه فيه حدثا ، ولو كان من غير جهته فنقصانه محسوب عليه ، فيمنع الرد ويثبت الأرش حينئذ لذلك كما ترى ، وإلا لجري في غيره من الخيارات.

٢٤٠