جواهر الكلام - ج ٢٣

الشيخ محمّد حسن النّجفي

في اعتبار تأبير الجميع في بقاء الثمرة على ملك البائع.

والجميع كما ترى بعد ما عرفت ؛ على أن صدق التأبير ليس بأولى من صدق عدم التأبير ، بل يمكن منع صدق الأول بظهور النصوص في تأبير الجميع ، والاقتصار على المتيقن لا يعارض الدليل ولو كان ظنيا ، وعسر التميز ـ مع أنه لا يشخص ملكية البائع ـ يمكن رفعه حينئذ بالصلح ، كما في الدروس « إذا لم يعلما قدر ما لكل منهما ، نحو ما لو كانت مؤبرة للبائع ، فتجددت أخرى للمشتري قال في القواعد : إن لم يتميزا فهما شريكان ، فان لم يعلما قدر ما لكل منهما اصطلحا ، ولا فسخ لا مكان التسليم ، وكذا لو اشترى طعاما فامتزج بطعام البائع قبل القبض فله الفسخ ولعله أراد الانفساخ من قوله لا فسخ ، اى لا يتوهم ذلك لعدم القدرة على التسليم ، لا مكانه ولو بتسليم الجميع ، فلا ينافي حينئذ ما ذكره أخيرا من أن له الفسخ بالتعيب بالشركة قبل القبض. فتأمل جيدا.

فلا ريب حينئذ في قوة ما ذكرناه أولا ، وأضعف من ذلك احتمال كون الجميع للمشترى لصدق عدم التأبير ؛ ولم أجده لأحد من أصحابنا نعم في جامع المقاصد أنه ربما ظهر من عبارة التذكرة ـ وهو مع ضعفه ـ يمكن منع ظهورها فيه. فلاحظ وتأمل.

الفرع الثاني قد عرفت أن تبقية الثمرة على الأصول إلى بدو الصلاح مستحقة لمالكها مجانا ، ولو مع الضرر اليسير ، للأصول بائعا كان أو مشتريا ، ولكن بعد أن لم يكن لها مقدر شرعا يرجع إليه كان المرجع فيها إلى العادة في تلك الشجرة كما في نظائره خصوصا في نحو المقام الذي مبناه حديث الضرار (١) ونحوه فما كان من الشجر حينئذ يخترف ويجتنى بسرا ينبغي أن يقتصر على بلوغه وانتهاء حلاوته وما كان لا يخترف في العادة إلا رطبا فكذلك وما يؤخذ تمرا فإلى أن ينشف نشافا تاما ، وهكذا. ومع اضطراب العادة يرجع إلى الأغلب فيها ، ومع التساوي يحتمل الحمل على الأقل ، اقتصارا فيما خالف أصل تسلط‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ ـ ٤.

١٤١

المشتري على ملكه ـ ومنع غيره من الانتفاع به ـ على المتيقن والأكثر لثبوت أصل الحق ، فيستصحب الى أن يثبت المزيل ، ووجوب التعيين للاختلاف المؤدي إلى الجهالة ، وتسمع في باب الثمار تتمة لهذا. إنشاء الله تعالى.

ولو اتفق في التبقية الضرر الكثير على مشتري الأصول ، فالأقرب ـ كما في القواعد وجامع المقاصد ـ جواز القطع. فله إجباره عليه كما عن المختلف والدروس وحواشي الشهيد وغيرها ، لوجوب التسليم مفرغا عليه ، ولنفى الضرر ، ولا يقدح رضاه بالعقد المقتضى للتبقية بعد تنزيله على الغالب من عدم الضرر الكثير ، بل في الأول النظر في دفع الأرش ، للأصل بعد أن كان القطع مستحقا ، بل عن الدروس الجزم بعدمه له أولا ؛ وان كان فيه من الضعف ما لا يخفى. للمنع من جواز القطع بلا أرش ، ولعدم ، زوال الضرر بالضرر ، ولانه نقص دخل على مال غيره لنفعه. نعم قد يحتمل البقاء بالأرش ، والاولى مراعاة أكثرهما ضررا ، ومع التساوي والتشاح القرعة.

ومن ذلك يعلم ما في التذكرة من أنه لا يجب القطع مع خوف الضرر على الأصل وإن كان كثيرا على اشكال ، وما عن التحرير من عدم الترجيح ، بل عنها في موضع آخر والمبسوط وعميد الدين الجزم بعدم القطع وان كثر الضرر ، بل ربما احتمل في عبارة المبسوط ذلك وان أدى الى تلف الأصول ، وفيه ما لا يخفى.

الفرع الثالث يجوز ال سقي لذي الثمرة لصلاحها لانه من حقوقها المستحقة له باستحقاق تبقيتها وسقى الأصول كذلك لصاحبها فان امتنع أحدهما فمنع الأخر من السقي أجبر الممتنع لعدم تسلطه علي منع تصرف الأخر لصلاح ماله. نعم لو تضررا معا منعا منه. فان كان السقي يضر أحدهما بالفعل والأخر بالترك رجحنا مصلحة المبتاع كما عن الفاضل والشهيدين ، بل نسبه ثانيهما إلى الأشهر ، لأن البائع هو الذي أدخل الضرر على نفسه بتسليطه عليه.

ويحتمل البائع كما في الدروس لسبق تعلق حقه الذي لا يزيله تسليط المشتري ،

١٤٢

وقد يحتمل بل لعله الأقوى مراعاة أكثرهما ضررا ، ومع التساوي القرعة ، إلا أنه على كل حال ينبغي بذل الأرش للمتضرر منهما جمعا بين الحقين ، خلافا لظاهر المتن وغيره من التقديم مجانا ، وأما احتمال جواز فسخ العقد ـ بينهما مع التشاح كما حكاه في المسالك عن بعض الأصحاب ، وغيره عن المبسوط ـ ففي غاية الضعف لعدم المقتضى له ، وعليه لا يسقط البحث ، لانه يمكن فرض المسألة فيما لا خيار فيه من العقود أو غيرها وكيف كان فليسق من تقدم فيه لكن لا يزيد عن قدر الحاجة فإن اختلفا فيها رجعا إلى أهل الخبرة كما في غير المقام.

الفرع الرابع : الأحجار المخلوقة في الأرض والمعادن تدخل عرفا في بيع الأرض بلا خلاف أجده فيهما ، مما عدا ثاني الشهيدين لأنهما من أجزائهما ولكن قال المصنف فيه تردد مما سمعت ، ومن عدم صدق اسمها على الحجارة عرفا ، وخروج المعادن عن الحقيقة ، وعدم دلالتها عليها بأحد الدلالات الثلاث. وفي المسالك « أن الأقوى ، دخول الحجارة ، دون المعادن ، لان الحجارة من الاجزاء بخلاف المعادن الخارجة عن الحقيقة والطبيعة » والأقوى عدم الفرق ، إذ لا ريب أن أرض المعدن قطعة من الأرض المخصوصة ، لها خصوصية فتدخل في بيعها ، وأضعف من ذلك ، احتمال الخروج في الأحجار.

نعم هو كذلك في الأحجار المدفونة فيها كما في التذكرة والقواعد والدروس وغيرها ، لتميزها ، وكونها كالكنوز ونحوها من الأمور المودعة فيها للنقل ولكن للمشتري حينئذ أمره بالمبادرة بإخراجها ، لتفريغ ملكه ، وإن لم يكن عليه ضرر في الإبقاء ، ولا أجرة له مدة الإخراج وإن كان كثيرا ، واحتمله في التذكرة بعد اختيار اللزوم ، فان الظاهر ثبوت الخيار له إذا لم يكن عالما ، وفات ما يعتد به من المنافع مدة الإخراج أو نقصت العين ، ولو بذل له الدفين لم يجب عليه القبول ، كما أن له الخيار في الأحجار المخلوقة فيها إذا كانت مانعة من الغرس والزرع ولم يكن عالما بها وان قلنا بدخولها في ملكه والظاهر انه‌

١٤٣

لا خيار للبائع لو ظهر فيها صفة زائدة على وصفها ، كما لو ظهرت مصنعا أو معصرة للزيت أو العنب أو نحوهما ، لدخولها في ملك المشتري على كل حال ، خلافا للمسالك ، فخيره ، ونحوه يأتي في المعدن ، بناء على دخوله وعدم علم البائع به.

وبه جزم في الدروس قال : « ويدخل المعدن على الأقرب ، فلو جهله البائع تخير ، وكذا البئر والعين وماؤهما ، ولو ظهر فيها مصنع أو صخرة عظيمة معدة لعصر الزيتون أو العنب فكذلك ، وللبائع الخيار مع عدم العلم ، والحجارة المخلوقة تدخل » قلت : قد يمنع دخول الأخيرين في ملك المشتري إذا لم يكونا مخلوقين فيها. وخيار البائع إذا كانا كذلك كما عرفت ، لأنها على الأول كالمدفونة التي اعترف بعدم دخولها وعلى الثاني داخلة في بيع الأرض كيف ما كانت ، بل قد يمنع الدخول في سابقيهما ، لعدم تناول اسم الأرض لهما ، والغرض عدم كونهما من التوابع لها ، والا لم يتسلط البائع على الخيار إذا لم يكن عالما ، كما أنه لا تسلط له مع فرض الدخول في الأرض ولو بالقصد الإجمالي. فتأمل جيدا. والله اعلم.

( النظر الثالث في التسليم )

لا خلاف في أن إطلاق العقد وتجريده عن اشتراط التأخير يقتضي وجوب تسليم المبيع والثمن عرفا فيتبعه الوجوب شرعا ، لعموم قوله تعالى (١) ( أَوْفُوا ) وغيره بل الظاهر ذلك ، وإن لم يطالب كل منهما الأخر بذلك ، فلا يجوز لأحدهما التأخير إلا برضاء الأخر ، ضرورة أنه بتمام العقد ، يتم ملك كل منهما للعوض ، فإبقاؤه في اليد محتاج إلى الاذن. نعم الظاهر باعتبار كون العقد عقد معاوضة ، ـ وجوب التقابض معا دفعة ، كما أنه حصلا لهما الملك به كذلك.

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١.

١٤٤

فإن امتنعا معا عنه عصيا وأجبرا على التقابض ، كما في كل ممتنع عما وجب عليه ، ولو امتنع أحدهما أجبر الممتنع خاصة ، لاختصاصه بالعصيان ، وكان للآخر حبس العوض حتى يجبر الآخر على التقابض ، كل ذلك لتساوى الحقين في وجوب إيصال كل منهما المال إلى مالكه ، ولا رجحان لأحدهما على الآخر بالتقدم ، وقيل والقائل الشيخ في محكي عن خلافه ومبسوطة ، وابن زهرة والقاضي والحلي على ما حكي عنهما يجبر البائع أولا إذا تمانعا ، وهو أحد أقوال الشافعي ، لأن الثمن تابع للمبيع ، ولأنه بتسليمه يستقر البيع ويتم ، إذ لو تلف قبل القبض كان من مال البائع وينفسخ العقد.

ولا ريب أن الأول أشبه بأصول المذهب ، بل لا أجد فيه خلافا بين المتأخرين سواء كان الثمن عينا أو دينا لاستواء العقد في إفادة الملك لهما ، وتبعية الثمن للمبيع على وجه يقتضي ذلك ، ممنوعة كمنع اقتضاء الثاني له ، بل لعل ما عن أبي حنيفة ومالك والشافعي ـ من القول الآخر له ، وهو العكس إي يجبر المشتري على تسليم الثمن ـ أولى منه ، لأن حقه متعين في المبيع ، فيؤمر بدفع الثمن ليتعين حق البائع ، فإن للبائع حقا آخر ، وهو التسلط على الخيار بعد الثلاثة وقد يفوته ذلك بالقبض.

وأولى منهما معا القول الثالث للشافعي وهو لا يجبران معا ، لكن يمنعان من التخاصم ، فان سلم أحدهما ما عليه ، أجبر الآخر ، وكأنه لحظ أن الوجوب على كل منهما مشروط بعدم امتناع الأخر فإذا امتنعا معا ارتفع الوجوب عنهما ، فلا عصيان من أحدهما حتى يجبرهما الحاكم ، لكن قد عرفت أن وجوب التقابض عليهما مطلق غير مشروط بشي‌ء ولا ينافيه جواز الامتناع لأحدهما ، إذا عصى الآخر في عدم التقابض.

والرابع له أيضا أنهما يجبران معا وهو المختار ، لكن أقواله الأربعة إذا كان الثمن في الذمة فإن كان معينة فقولان له خاصة ، عدم الإجبار وبه قال أحمد للشبهة السابقة ، والإجبار لهما ، وقد عرفت أنه الأقوى على كل حال ، ومن ذلك كله ظهر لك أن المراد‌

١٤٥

بوجوب التسليم على كل منهما التقابض ، وإلا فيجوز لأحدهما الامتناع عن التسليم ، إن سبقه الآخر بالامتناع ، كما هو مقتضى المعاوضة ، والمعلوم من بناء المتعاقدين ، بل إطلاق العقد بالنسبة إلى ذلك كالتصريح به.

لكن عن الأردبيلي بعد أن حكى عن الأكثر أنه إنما يجب عليهما معا الدفع بعد أخذ العوض ، ويجوز لكل المنع حتى يقبض ـ أشكله بعدم النص ، وثبوت الانتقال بالعقد يقتضي وجوب الدفع على كل واحد منهما عند طلب الآخر ، وعدم جواز الحبس حتى يقبض حقه ، وجواز الأخذ لكل حقه من غير إذن الأخر ، لأن ذلك هو مقتضى الملك ، ومنع أحدهما حق الأخر وظلمه لا يجوز الظلم للآخر ومنعه حقه ، واستجوده المحدث البحراني ، لكن قال : إن في فهم ذلك من عباراتهم في هذا المقام إشكالا ، إذ غاية ما يفهم منها أن إطلاق العقد يقتضي وجوب تسليم المبيع والثمن ، فالواجب حينئذ على كل منهما التسليم من غير أولوية تقديم ، خلافا للشيخ.

فالغرض بيان تساويهما في وجوب التسليم ردا على ما سمعته من الشيخ ، وأين هذا من المعنى الذي ذكره وأشكله ، قلت : لا ينبغي التأمل في أن المفهوم من عبارات الأصحاب أن لأحدهما الامتناع بعد امتناع الأخر ، وأن بناء المعاوضة على ذلك ، وهو المراد مما في الدروس من أن حكم العقد تقابض العوضين ، إلى أن قال : « فإن تنازعا في التقدم تقابضا » ونحوها غيرها لا ان الوجوب على كل منهما مستقل على كل حال وأن المالين بمنزلة الوديعتين فليس لأحدهما الامتناع عن التسليم مع عدم إرادة المقاصة مثلا بعد امتناع الأخر.

ومن ذلك يظهر أنه لا وجه لإشكال الأردبيلي بعد الفهم العرفي من إطلاق العقد ، وفتاوى الأصحاب ـ بعد الإغضاء عما نقله عنهم ـ مما حاصله يرجع إلى ما ذكرناه في القول الثالث للشافعي ، وربما حكي عن بعض الفسخ أو بعد الخلاف ؛ وحينئذ يكون على وفق المشهور. فتأمل جيدا. فإن المقام لا يخلو من دقة.

وربما ظهر منه أيضا أن وجوب التسليم الذي اقتضاه العقد بعد الطلب ، فلا تجب حينئذ قبله ، وفيه أن ظاهر الأصحاب ما قد مناه سابقا من اقتضاء إطلاق العقد وجوب‌

١٤٦

التسليم ، كما أن العرف والقواعد الشرعية كذلك أيضا ، فالتأخير يحتاج إلى الاذن لا الدفع فلاحظ وتأمل جيدا فيه وفي أن حق الحبس حيث يكون لأحدهما حق متعلق بالعين فيأثم حينئذ بالقبض بغير إذن ، وسائر تصرفاته فيها وإن لم يضمن له قيمة المنافع للملك بالعقد ، أو أنه لا تعلق له بالعين ، بمعنى ، أن الإثم يحصل بالقهر على القبض خاصة ، وأما التصرف في العين فلا إثم فيه ، وجهان لم أقف على تنقيح لأحدهما في كلام الأصحاب.

والذي يناسب الإرفاق وحديث الضرار الأول ، فلا تصح الصلاة فيه مثلا ، كما أنه لم أقف على تنقيح في كلامهم ، لكون الإثم يحصل بالقبض بلا إذن ، أو أنه مع المنع خاصة ، مع أن الوجهين قائمان فيه أيضا ؛ والمناسبة المذكورة لأولهما أيضا. هذا كله مع عدم الشرط لا معه.

فـ ( لو اشترط البائع ) خاصة تأخير التسليم للمثمن إلى مدة معينة جاز سواء كان كليا في الذمة أو عينا مشخصة ، للعموم الذي مقتضاه عدم استحقاق التسليم عليه كما لو اشترط المشتري تأخير الثمن ولو اشترطا معا جاز أيضا إذا لم يكن كل من الثمن والثمن كليا في الذمة ، والا كان من بيع الكالي بالكالي كما في الدروس ، وتسمع إنشاء الله تعالى تحقيق الحال في ذلك أيضا ، وليس لغير مشترط التأخير الامتناع عن التسليم حينئذ ، لبقاء اقتضاء العقد بالنسبة إليه سالما كما هو واضح ولو فرض اتحاد الأجل منهما ؛ ففي بقاء حكم ما اقتضاه العقد من التقابض بعد حلول الأجل وجهان : ولو كان الشرط لأحدهما ، فلم يقبض العوض حتى حل الأجل ، ففي عود حكم التقابض إشكال ، أقواه العدم ، لعدم إطلاق للعقد بقبضه بعد أن كان مستحقا لتقدم التسليم على الآخر ولو كان الثمن تدريجيا كعمل من المشتري ، فالظاهر عدم اعتبار التقابض لعدمه ، بل الواجب دفع المبيع كما لو كان الثمن نسيئة.

نعم لو كان منفعة عين مملوكة ، كدابة أو دار أمكن اعتباره بدفع العين ذات‌

١٤٧

المنفعة. فتأمل. فإنه قد ينافيه كلامهم في كتاب الإجارة. ثم إن الشرائط التابعة للثمن والمثمن تتبعهما أيضا في اعتبار التقابض لاتحاد اقتضاء الإطلاق في الجميع.

نعم لو فرض خروجهما عن ذلك ، أمكن دعوى عدم اقتضاء الإطلاق التقابض وإن استحق كل منهما على الأخر ، نحو الوديعتين ، فليس لأحدهما الحبس بامتناع الأخر ، كما في بعض الشروط في النكاح التي يراد منها أصل الاستحقاق ، لا معنى المعاوضة الملحوظ فيها التقابض. فتأمل. والظاهر أن حق الحبس ثابت بالامتناع من بعض العوض بل الظاهر عدم وجوب التقابض على النسبة لأنه خلاف مقتضى العقد ، مع احتماله فيما يتحقق منه. والله العالم.

وكذا يجوز لو اشترط البائع مثلا سكنى الدار أو ركوب الدابة مدة معينة كان أيضا جائزا بلا خلاف ولا إشكال في أصل جواز ذلك ، وظاهر المصنف عدم استحقاق التسليم عليه حينئذ ، ولعله لاقتضاء العرف ، وإلا فلا منافاة بين استحقاق الركوب والسكنى ، ووجوب التقابض ، ولكن البحث فيما يتحقق به القبض الذي يتوقف عليه الصحة في بعض العقود ، ويرتفع به ضمان البائع وخياره بعد الثلاثة في بعض الأحوال ، والحرمة أو الكراهة في بيع ما لم يقبض ، الى غير ذلك من الأحكام المترتبة في البيع وغيره وهو في النهاية الأثيرية : القبض بجميع الكف ومحكي المصباح المنير : الأخذ. وفي الرياض عن جماعة من أهل اللغة : أنه القبض باليد. وفيه في غيره أنه في العرف كذلك أيضا.

لكن ذلك لا يوافق ما عند الأصحاب ، إذ قيل : أنه التخلية مطلقا سواء كان المبيع مما لا ينقل كالعقار ، أو مما ينقل ويحول كالثوب والجوهر والدابة ، وقيل فيما ينقل ، القبض باليد ، أو الكيل فيما يكال ، أو الانتقال به في الحيوان وقريب منه ما في المحكي عن المبسوط ، بل لعله هو الذي أراده ، وإن كان لم يحكه بتمامه قال فيه على ما في المختلف : « أنه التخلية فيما لا ينقل ويحول. وأما فيه فإن كان مثل الدراهم والدنانير والجوهر وما يتناول باليد ، فهو التناول ، وإن كان حيوانا‌

١٤٨

كالعبد والبهيمة ، فالقبض في الأول أن يقيمه في مكان آخر ، وفي الثاني أن يمشي بها إلى مكان آخر ، وإن كان اشتراه جزافا ، فالقبض أن ينقله من مكانه ، وإن كان مكايلة فالقبض أن يكيله » قال : وتبعه ابن البراج وابن حمزة.

وقيل : أنه التخلية فيما لا ينقل ، وفي المنقول نقله ، واختاره أبو المكارم مدعيا عليه الإجماع ، وتبعه الشهيدان في اللمعة والروضة ، وفي الدروس « في غير المنقول التخلية بعد رفع اليد ، وفي الحيوان نقله » وفي المعتبر « كيله أو وزنه ، أو عده ، أو نقله ، وفي الثوب وضعه في اليد » قال : وقيل : التخلية مطلقا ، ولا بأس به في نقل الضمان ، لا في زوال التحريم أو الكراهة عن البيع قبل القبض.

نعم لو خلى بينه وبين المكيل فامتنع حتى يكتاله ، لم ينتقل إليه الضمان وفي المختلف « أنه إن كان منقولا فالقبض فيه هو النقل أو الأخذ باليد ، وإن كان مكيلا أو موزونا فقبضه هو ذلك أو الكيل أو الوزن ، وإن لم يكن منقولا فالتخلية ، وفي التحرير « الأقرب عندي أن القبض : الكيل أو الوزن فيما يكال أو يوزن ، والقبض باليد فيما ينقل ويحول ، والنقل في الحيوان ، والتخلية فيما لا ينقل ويحول ومنه الثمرة على رؤس النخل » وفي المسالك « التخلية في غير المنقول ، وفيه استقلال اليد عليه ، سواء نقله أم لا ، وفي المكيل والموزون كيلهما ووزنهما » إلى غير ذلك من الأقوال المتفقة ، على أنه التخلية في غير المنقول ، واختلافهما إنما هو في المنقول ، ومرجعها مع ملاحظة سائر القيود إلى سبعة ، كما أن منشأها منحصر في دعوى العرف.

وصحيح معاوية بن وهب (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ؛ فقال : ما لم يكن كيل أو وزن ، فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه إلا أن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من أبواب أحكام العقود الحديث ١١.

١٤٩

توليه » وخبر عقبة بن خالد (١) عن الصادق عليه‌السلام « في رجل اشترى متاعا وأوجبه ، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، وقال : آتيك غدا إنشاء الله ، فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال : من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته ، حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته ، فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه »

فبين جامع بين مضمونهما والعرف ، وبين مقتصر على الثاني ؛ لضعف سند الثاني منهما ، واعتباره الإخراج المخالف للإجماع ، وارادة النقل منه ليس بأولى من ارادة التخلية أو الاستيلاء أو نحو ذلك ، ولا تصريح في الأول بأن الكيل قبض ، ويمكن إرادة النهي عن بيعه قبل كيله ووزنه ، وإن تحقق القبض فيه بالنقل ، ولعل الاكتفاء به في جواب السؤال عن البيع قبل القبض ، لاستلزامه حصول القبض مع زيادة الاعتبار المزبور ، فالمراد حينئذ أن اشتراط ذلك في بيعه مستلزم لحصول القبض ، وفرض حصوله أى الاعتبار بدونه نادر لا ينافي الإطلاقات ، فانحصر الأمر حينئذ في اللغة.

لكن قد عرفت أن ما فيها لا يوافق ما أجمع عليه الأصحاب في غير المنقول ، والذي يقوي في النفس ، أن المراد به في جميع المقامات التي اعتبره الشارع في صحتها أو لزومها أو غيرهما من الأحكام ، تحويل السلطنة العرفية من المنقول منه إلى المنقول اليه سواء حصل له السلطنة الشرعية قبله بالعقد ، كما في البيع ونحوه ، أو لا كالوقف والهبة ونحوهما.

ولا ريب في حصولها بالتخلية في غير المنقول ؛ بمعنى رفع المنافيات للمنقول اليه مع رفع يد الناقل والإذن منه ، ضرورة صيرورته بذلك كالناقل في قبضه لعقاره ولا يحتاج حينئذ وصول المنقول اليه بنفسه أو وكيله الى المنقول أو تصرفه فيه بل لا يحتاج الى مضى زمان وان كان بعيدا عن المنقول اليه ، لصدقها بدونه قطعا ، كصدق دخوله في قبضته واستيلائه وتحت يده بذلك كالمنقول منه ؛ وليس الإذن المزبورة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ من أبواب الخيار الحديث ١.

١٥٠

لتوقف جواز قبض المشتري للمبيع عليها ، كي يرد أنه لا دليل عليه بعد أن ملكه بالعقد بل لتوقف تحقق التخلية المعتبرة في حصول السلطنة العرفية في مثله عليها ، وإلا فالأقوى عدم اعتبار الاذن فيما كان قبضه بغير التخلية ، حيث لا يكون له الحبس لتسلم الثمن أو المثمن.

نعم هي معتبرة حيث يكون له ذلك ، على الوجه الذي عرفته سابقا ، وكذا لا ريب في حصولها في غير المنقول بالاستيلاء على العين استيلاء يستطيع به النقل والأخذ وغيرهما من أحوال المالك ، من غير حاجة إلى وقوع ذلك منه فعلا ، ضرورة صدق تحقق المراد من القبض بطرح العين بين يدي المنقول إليه على وجه يتمكن من الفعل فيها كيف شاء نقلا وأخذا ونحوهما ، إذ ليست أمواله التي بيده ويصدق عليها أنها مقبوضة له وتحت قبضته وفي يده إلا كذلك ، من غير حاجة إلى المماسة والتصرف الحسيين ، وليس ذا كالتخلية المزبورة في غير المنقول ، إذ من الواضح الفرق بين تحقق السلطنتين عرفا في ذلك ، فإن أراد القائل بالتخلية مطلقا ما يشمل ذلك ، بدعوى انها في المنقول غيرها في غيره فمرحبا بالوفاق كما انه إن كان المراد بما في المسالك ذلك اختص البحث معه حينئذ في خصوص القبض في المكيل والموزون ، لكن في كلامه بعد ذلك ما ينافي حمله على ما ذكرناه ، بل فيه ما يقضى بالتشكيك في اعتبار القبض في المكيل والموزون بالكيل والوزن.

قال : « التحقيق أن الخبر الصحيح (١) دل على النهي عن بيع المكيل والموزون قبل اعتباره بهما ، لا على أن القبض لا يتحقق بدونهما ، وكون السؤال فيه وقع عن البيع قبل القبض لا ينافي ذلك ، لان الاعتبار بهما قبض وزيادة ، فلو قبل بالاكتفاء في نقل الضمان فيهما بالنقل ، عملا بمقتضى العرف والخبر الآخر (٢) ويتوقف البيع ثانيا على الكيل والوزن ، أمكن إن لم يكن إحداث قول في المسألة » انتهى فتأمل‌

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من أبواب أحكام العقود الحديث ١١.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من أبواب الخيار الحديث ١.

١٥١

جيدا ، فان كلامه لا يخلو من اضطراب في الجملة ، كالفاضل في الرياض.

والتحقيق ما عرفت ، وليس مرادنا حصر مصداق القبض بما ذكرنا ، بل المراد عدم اعتبار القبض باليد أو النقل حسا ولو كان المبيع بيد المشتري قبل الابتياع ، ففي المسالك « إن كان بغير إذن البائع ، فلا بد من تجديد الاذن في تحققه ، أي القبض بالنسبة إلى رفع التحريم أو الكراهة ، وأما بالنسبة إلى نقل الضمان فيحتمل قويا تحققه بدونه ، كما لو قبضه بعده بغير إذن البائع » قال : « ويحتمل توقف الأمرين على تجديده ، لفساد الأول شرعا ، فلا يترتب عليه أثره ، ولو كان بإذنه كالوديعة والعارية ، لم يفتقر إلى تجديد إذن ولا تخلية ». وفيه أنه لا وجه لاعتبار الاذن في المنقول ، حيث لا يكون له الحبس ، كما لو باعه بثمن في ذمة البائع مثلا ، لانتقاله إلى ملكه بالعقد ، والفرض أنه في يده وفي قبضته وكون اليد سابقا عدوانا لا ينافي انتقال استمرارها إلى غير العدوان ، وليس ذا كالقبض المتوقف صحة العقد عليه ، فان اعتبار الاذن في ذلك مطلقا متجه ، بخلاف المقام المتجه فيه على الظاهر عدم الفرق.

نعم لا يبعد بقاء حق الحبس له إذا لم يكن الثمن واصلا إليه ، فيحرم عليه التصرف ، بناء على اقتضائه ذلك ، ويبقى له الخيار بعد الثلاثة ، أما انتقال الضمان ، وزوال الحرمة أو الكراهة ، فالوجه تحققهما به ، لصدقه ، ودعوى ارادة الصحيح منه ـ بدعوى أنه يشترط فيه شرعا الاذن وبذلك ينقسم حينئذ إلى الصحيح والفاسد دعوى في دعوى لا شاهد على شي‌ء منهما ، خصوصا مع أن الأصل ضمان المشتري. فتأمل.

ولو كان المبيع مشغولا بملك البائع ، فإن كان منقولا كالصندوق المشتمل على أمتعة البائع ، كفى في قبضه على المختار حصول تلك السلطنة عليه ولو قبل تفريغه. بل لو اعتبرنا نقله ، ونقله المشتري بالامتعة كفى في نقل الضمان وغيره‌

١٥٢

حتى مع عدم إذن البائع في نقل الأمتعة ، بعد أن يكون آذنا في المبيع ، أو كانت إذنه غير معتبرة لوصول الثمن إليه ، إذ الإثم في ذلك لا ينافي صحة القبض ، وترتب أحكامه عليه ، واحتمل في المسالك توقفه ـ فضلا عن غيره من أحكام القبض ـ على إذن البائع في نقل الأمتعة ، وفيه من الضعف ما لا يخفى.

وإن كان غير منقول فلا ريب في تحقق التخلية قبل نقل الأمتعة ، فيكتفى. بها ، واحتمل في المسالك عدم الاكتفاء بها قبل النقل أيضا وهو أضعف من سابقه. ولو كان المبيع مشتركا بين الناقل وغيره ففي المسالك « إنه على ما اخترناه إن كان منقولا فلا بد من إذن الشريك في تحقق القبض لتوقفه على إثبات اليد والتصرف في حصة الشريك » الى ان قال فان « أذن الشريك والا نصب الحاكم من يقبضه أجمع ، بعضه أمانة وبعضه لأجل البيع » واختار العلامة في المختلف الاكتفاء حينئذ بالتخلية ، لأن المانع الشرعي من النقل كالمانع العقلي في العقار ، ذكر ذلك في باب الهبة ، والحكم واحد بل فيها أقوى.

قلت الظاهر تحقق القبض بنقله وقبضه وإن كان عصيانا ، لما عرفت من أن الإثم في ذلك لا ينافي تحقق القبض عرفا ، بل وشرعا ، بل قد يقال : بتحققه وإن لم يحصل له النقل الحسي ، بل بمجرد حصول سلطنة البائع له وهي تامة ، والمنع من جهة الشريك أمر خارجي عنها لا ينافي تسلط المشتري على ذلك كتسلط البائع ، وحينئذ يرفع أمره إلى الحاكم في استيفاء المنفعة مع التشاح ، وأولى من ذلك غير المنقول الذي يكتفى فيه بالتخلية ، واستجوده في المسالك بعد أن احتمل التوقف على الإذن أيضا ، قال : « لأن حقيقة قبض ما هذا شأنه رفع يد المالك وتخلية المشتري بينه وبينه ، وهذا لا يقتضي التصرف في مال الشريك » ثم قال : « ووجه الاشتراط أن وضع اليد والتسليط على التصرف لا يمكن بدون التصرف في حصة الشريك » قلت : هو كما ترى بعد عدم اعتبار مثل ذلك في التخلية التي يكفي فيها رفع المانع عرفا وشرعا من قبل البائع. ومن ذلك ظهر لك الحال فيما لو كان المبيع مختصا بالبائع ، أو مشتركا بينه وبين‌

١٥٣

غيره أو المشتري ، إذ المدار عندنا على حصول تلك السلطنة المزبورة ، والاستيلاء المذكور وفي المسالك « أنه ان كان في مكان لا يختص بالبائع ، كفى في المنقول نقله من حيز إلى آخر ، وإن كان في موضع يختص به ، فإن نقله فيه من مكان إلى آخر بإذنه كفى أيضا ؛ وإن كان بغير إذنه كفى في نقل الضمان خاصة كما مر ، ولو اشترى المحل معه كفت التخلية في البقعة ، وفيه وجهان أصحهما الافتقار إلى النقل ، كما لو انفرد بالبيع ، ولو أحضره البائع ، فقال له المشتري ففعل تم القبض لأن البائع حينئذ كالوكيل فيه ، وإن لم يقل شيئا ، أو قال لا أريده ففي وقوعه بذلك وجهان ، وينبغي الاكتفاء به في نقل الضمان ، كما لو وضع المغصوب بين يدي المالك دون غيره ».

وأنت إذا أحطت خبرا بما ذكرناه لا يخفى عليك مواقع النظر من هذا الكلام. كما أنه لا يخفى عليك ما في قول المصنف والأول من الأقوال الذي لم نعرف قائلا به قبله أشبه وإن استدل له ـ بعد دعوى العرف ـ بأنه استعمل فيها إجماعا فيما لا ينقل ويحول ، فيجب أن يكون كذلك في غيره ، ويكون حقيقة في المعنى المشترك ، إذ لو استعمل في المنقول بمعنى آخر لكان إما حقيقة فيهما ، فيلزم الاشتراك ، أو مجازا في الأخر فيلزم المجاز ، وكلاهما على خلاف الأصل. ونظر فيه في الرياض « بوجوب المصير إلى أحدهما ؛ بعد قيام الدليل عليه ، مع أن استعمال القبض في التخلية في المنقول ، خلاف المفهوم والمتبادر منه في العرف واللغة ، بل المتبادر منه عرفا عند الإطلاق هو القبض باليد ؛ وبه صرح جماعة من أهل اللغة ، فاللازم الاقتصار عليه ، إلا ما قام الإجماع على إرادة التخلية منه ، وهو إنما يكون في غير المنقول خاصة ، وكذا لا يجب اعتبار شي‌ء زائد عليه من النقل ، إلا ما قام الدليل على اعتباره فيعتبر إن تم. فتأمل جيدا. ومع ذلك يرده المعتبرة (١) فلا وجه لهذا القول أصلا ».

قلت : قد عرفت أنه يمكن إرادة المعنى الشامل للتخلية وغيرها من القبض ،

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ من أبواب الخيار الحديث ١.

١٥٤

وهو السلطنة العرفية ، بل ظاهر الأصحاب أن المذكورات أفراد للقبض ، لا معان ، فلا حاجة حينئذ إلى ارتكاب دعوى الاشتراك أو المجاز ، للدليل ، كما أنك عرفت إمكان إرادة القائل بالتخلية ما قلناه ، وحينئذ دعوى منافاته للعرف كما ترى ، ولو سلم فالمراد شرعا لا يزيد على ذلك قطعا ، بل قد يحتمل إرادة ذلك من القبض باليد والنقل في عبارات الأصحاب ، ضرورة عدم الاجتزاء بذلك مع عدم حصول السلطنة به ، فهو كناية عما ذكرنا ، لغلبة حصولها معه.

والمعتبرة قد عرفت الحال فيها ، إذ هي الخبران المزبوران (١) خاصة الذي على تقدير القول بالأول منهما ، قال في المسالك : « لا يخلو المبيع إما أن يكون قد كيل قبل البيع ووزن ؛ أولا بأن أخبر البائع المشتري بكيله أو وزنه ، أو باعه قدرا منه معينا من صبرة مشتملة عليه ، فان كان الأخير فلا بد في تحقق قبضه من كيله أو وزنه ، للنص المزبور ، وإن كان الأول ففي الافتقار إلى اعتباره ثانيا لأجل القبض ، أو الاكتفاء بالاعتبار السابق وجهان ، من إطلاق توقف الحكم على الكيل والوزن وقد حصلا ، وقوله عليه‌السلام « لا تبعه حتى تكيله أو تزنه » لا يدل على أزيد من حصولهما الشامل لما كان قبل البيع.

ومن كون الظاهر ذلك لأجل القبض ، لا لأجل صحة البيع ، فلا بد له من اعتبار جديد بعد العقد ، وبه صرح العلامة والشهيد وجماعة ، وهو أقوى ، ويدل عليه قوله عليه‌السلام في الخبر السابق « إلا أن توليه » فإن الكيل السابق شرط لصحة البيع أو ما قام مقامه ، فلا بد منه في التولية وغيرها ، ومقتضى قوله عليه‌السلام « إلا أن توليه » أنه معها لا يتوقف على كيل أو وزن ، فدل ذلك على أنهما لأجل القبض لا لأجل صحة البيع.

وأما الثاني فإن اكتفينا بالاعتبار الأول ؛ في الأول ، كفى الاخبار فيه ، واختارهما في التذكرة وإن لم نكتف في السابق في الأول ، لم يكتف حينئذ بالاخبار في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من أبواب أحكام العقود الحديث ١١ وباب ١٠ من أبواب الخيار الحديث ١.

١٥٥

الثاني بطريق أولى.

وقد‌ روى محمد بن حمران (١) قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اشترينا طعاما فزعم صاحبه أنه كاله ، فصدقناه وأخذناه بكيله؟ فقال عليه‌السلام : لا بأس ، فقلت : أيجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل؟ قال : لا ، أما أنت فلا تبعه حتى تكيله » انتهى وفيه أولا ما عرفت من عدم دلالة النص ، وثانيا أنه لا ينبغي التأمل في تحقق القبض في الأول ، لو وهبه مثلا ما بقي من الصبرة ، ثم نقل الجميع ، وبه صرح بعض المحققين ، وثالثا أن السيرة القطعية ، بل يمكن دعوى الضرورة على خلاف ما جعله الأقوى كما هو واضح ، خصوصا إذا كاله المشتري قبل الشراء ونقله ، فإنه لا حاجة حينئذ إلى قبض ، لأنه اشترى ما هو مقبوض له فتأمل جيدا. وستعرف إنشاء الله تحقيق أنه لا فرق فيه ؛ بين البيع تولية وغيره في الكراهة أو الحرمة قبل القبض.

ولعل المراد من خبر محمد بن حمران (٢) أنه لا يباع ثانيا مخبرا بكيله ، على حسب ما أخبر به الأول ، ضرورة ظهور الاخبار في مباشرة المخبر الاعتبار ، والفرض أنه كذلك ، فهو حينئذ تدليس محرم ، أو أن المراد به ما يراد من غيره من حرمة بيع المكيل أو الموزون قبل اعتبارهما ، أو كراهته مطلقا ، أو إذا كان طعاما كما ستعرف ذلك في محله ، من غير مدخلية لتحقق معنى القبض ، وإن كان ينافيه ظاهر كلامهم الاتى الذي هو ظاهر في أن المدار على تحقق القبض فلاحظ وتأمل.

وكيف كان فلا ينبغي إلحاق المعدود بالمكيل والموزون ، في أنه لا يكتفى بعده سابقا عن العد بعد العقد ، لعدم النص ، وتحقق القبض عرفا بما يتحقق في غيره خلافا للدروس فألحقه فيها ، وهو لا يخلو من وجه ، والتحقيق في ذلك كله ما سمعت ، ومنه يعلم الغرابة هنا في بعض ما وقع لبعض الأصحاب. والله أعلم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ٥ من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث ٤.

١٥٦

وكيف كان فـ ( إذا تلف المبيع ) بآفة سماوية قبل تسليمه إلى المشتري وقبل تمكينه منه ، انفسخ العقد وكان من مال البائع وعاد الثمن إلى المشتري بلا خلاف أجده فيه ، بل في التذكرة والدروس حتى لو أبرأه المشتري من الضمان كما تقدم البحث فيه ، وفيما لو مكنه منه ، فامتنع من تسلمه أو أنه يتركه عند البائع باختياره والظاهر أن إتلاف المشتري بمنزلة القبض ، سواء كان عالما أو جاهلا ، للأصل السالم عن معارضة الخبر (١) المنساق منه غير الفرض ، بقرينة ظهوره في إرادة الإرفاق بالمشتري ، واحتمل الشافعي عدم كونه بمنزلة القبض في الأول ، فضلا عن الثاني ، بل في التذكرة « هذا إذا كان المشتري عالما ، أما إذا كان جاهلا بأن قدم البائع الطعام المبيع إلى المشتري فأكله ، فالأقرب أنه ليس قبضا وأنه كإتلاف البائع » وهو كما ترى.

ولو أتلفه البائع ففي القواعد والدروس وغيرهما أنه يتخير المشتري بين الفسخ ورد الثمن ، وبين الالتزام ومطالبة البائع بالمثل أو القيمة ، كما لو أتلفه أجنبي ، وعن الشيخ الفرق بينهما ، فجعل الأول كالتلف بآفة سماوية ، ووافق على الخيار في الثاني الذي ظاهرهم الاتفاق على الخيار فيه ، لكن قد يحتمل الانفساخ فيهما معا ، عملا بإطلاق الخبر (٢) وعدم جواز الإتلاف للبائع ـ فضلا عن الأجنبي ، لأن ليس له الفسخ فيكون عاديا فيه ، فيترتب عليه المطالبة بما أتلفه ـ لا ينافي تحقق الانفساخ به ، للخبر المزبور ، وإن كان قد أثم بالفعل ، على أنه لو فرض عدم تناول الخبر المزبور له ، أشكل ثبوت أصل الخيار له ، بل المتجه اللزوم ومطالبة البائع أو الأجنبي بالمثل أو القيمة ، وتعذر التسليم على هذا الوجه لم يثبت سببيته للخيار ، وخبر الضرار (٣) يدفعه ما وضعه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ من أبواب الخيار الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من أبواب الخيار الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ١٧ من أبواب الخيار الحديث ٣ و ٥.

١٥٧

الشارع من الضمان لمن أتلف مال غيره (١) فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فالظاهر عدم جريان حكم المبيع على المثل أو القيمة في التلف من البائع قبل القبض ، بل في جواز حبسها على الثمن إشكال. ولو كان المبيع متعددا فتلف بعضه قبل القبض ، انفسخ ورجع بقسطه من الثمن بلا خلاف ، بل في التذكرة نسبته إلى كل من أبطل البيع بالإتلاف ، وفيها وفي الدروس كان له خيار التبعض في المقبوض ، وفيه نوع تأمل ، لكنه ضعيف ، وأضعف منه احتمال عدم الانفساخ في التالف ، لتعليق الحكم على تلف المبيع الذي لا يصدق إلا بتلف الجميع ، فيبقى حينئذ غيره على الأصل ، فيكون تلفه حينئذ من المشتري ، لأنه أمانة في يد البائع ، وتسمع في باب الثمار تتمة لهذا إنشاء الله تعالى.

وكذا إن نقصت قيمته إى المبيع بحدث فيه من الله أو البائع ، أو الأجنبي كان للمشترى رده بلا خلاف ، بل في الروضة عن كشف الرموز الإجماع عليه ، ولأصالة صحة العقد ، والضرر بإلزامه بقبوله على هذا الحال ـ وقد علم من حكم التلف قبل القبض إرفاق الشارع بالمشتري خاصة دون البائع ـ وجبر ضرره ـ المشابه للانفساخ إنما هو بالخيار.

وفي الأرش مع الالتزام لو كان التعيب من قبل الله كما في المسالك تردد ينشأ ـ من أصالة البراءة بعد جبر الضرر بالخيار ، على أنه إذا كان من الله تعيب على ملكه ، لا من قبل أحد ، وهو خيرة الشيخ في المحكي عن مبسوطة وخلافه ، وابن إدريس بل نفى الخلاف فيه في الثاني ، بل ربما ظهر منهم ذلك حتى لو كان من قبل البائع ـ ومن أنه مضمون على البائع بأجمعه ، فكذا أجزائه وصفاته ، واختاره الشيخ في نهايته ، والفاضل والشهيدان ، بل في المختلف حكايته عن ابن براج وأبى الصلاح ، وفيه ان ضمان البائع له بمعنى انفساخ العقد لو تلف ، لا انه يغرم‌

__________________

(١) قاعدة مستفادة من مضامين الاخبار ومن أراد الاطلاع على مداركها فليراجع القواعد الفقهية ج ٢ للسيد البجنوردى.

١٥٨

المثل أو القيمة ، ومثله يمنع سريانه للاجزاء ، والا لاقتضى انفساخ العقد في الجزء المقابل له من الثمن ، حتى لو أراد دفع الأرش من غيره لم يجب عليه القبول ، ولا ريب في بطلانه خصوصا على ما هو الظاهر من عدم مقابلة اجزاء الثمن لاجزاء المبيع اللهم إلا ان يدعى ان إعطاء الأرش مشابه للرجوع بالثمن في تلف الجميع ، فيستفاد حكمه منه ، لكن الاكتفاء في الحكم الشرعي بمثل ذلك في نحو هذه المسألة الخلافية كما ترى.

نعم لا ريب في ثبوت الأرش لو كان التعيب من أجنبي ، لعموم من أتلف والضرورة على عدم هدر جناية الجاني وتناول البائع لها ـ مع كون المال لغيره ـ لا وجه له ، فانحصر في المشتري ، لكن الظاهر بناء على ذلك إنما هو تفاوت ما بين القيمتين من غير ملاحظة النسبة إلى الثمن ؛ وإن كان إطلاق لفظ الأرش تقتضي ذلك لأنه جزء من الثمن ، ولو كان التعيب من قبل البائع ، فالظاهر التزامه بالأرش ، لنحو ما سمعته في الأجنبي. فيتجه منه ما ذكرناه فيه.

اللهم إلا أن يدعى انفساخ العقد فيما قابل الجزء الفائت من الثمن ، وقد عرفت ما فيه ، وقد يناقش في أصل ثبوت الأرش على البائع ، بأن الضرر الناشئ منه سلط المشتري على الخيار ، فكان تزلزل العقد صار عوض جنايته ، فلا يستحق معه أرش ، الا أن الأول أقوى. ومن ذلك ظهر أن المشتري يرجع على الأجنبي بالأرش حيث يكون التعيب منه كما هو صريح بعضهم ، وظاهر آخر وليس له الرجوع على البائع ، باعتبار أنه مضمون عليه كالمغصوب ، وهو في الجملة مؤيد لما ذكرنا من عدم كون العين مضمونة على البائع بالمعنى المزبور. فتأمل جيدا. والله أعلم.

١٥٩

( ويتعلق بهذا الباب مسائل‌ )

الأولى : لا خلاف بناء على الملك بالعقد في أنه إذا حصل للمبيع نماء كالنتاج أو ثمرة النخل أو ما في حكمه كاللقطة للعبد كان ذلك للمشتري لأنه من التوابع لملكه فإن تلف الأصل قبل قبضه سقط الثمن عن المشتري لانفساخ العقد وله النماء لأن التحقيق كون الفسخ من حينه ، لا من أصله ، وليس من ذلك أرش جناية الأجنبي مثلا ، فمتى فسخ بها كانت للبائع ، لأنه عوض جزء عاد إلى ملك المالك كما هو واضح ولو تلف النماء من غير تفريط ، لم يلزم البائع دركه لأنه امانة في يده ولا يجرى عليه حكم المبيع ؛ للأصل السالم عن المعارض.

المسألة الثانية : إذا اختلط المبيع بغيره في يد البائع اختلاطا لا يتميز ، فإن دفع الجميع إلى المشتري جاز وعن الشيخ انه يجب عليه القبول ، لأنه زاده فضلا ، وفيه منع ، بل الظاهر عدم سقوط الخيار الاتى بالبدل ، كما صرح به في جامع المقاصد والمسالك وان امتنع البائع قيل والقائل الشيخ فيما حكى عنه ينفسخ البيع ، لتعذر التسليم ولانه كالتلف قبل القبض ، وفيه منع واضح إذ أقصاه صيرورته كبيع المشاع. والأقوى عندي ان المشتري بالخيار ، إنشاء فسخ وان شاء كان شريكا للبائع ، كما إذا اختلطا بعد القبض فإنه لا ريب في تحقق الشركة قهرا ، ولا فرق في الاختلاط بين كونه من فعل البائع ، أو غيره غير المشتري ولا بين كونه بالمماثل أو الأجود أو الأردى.

نعم في المسالك « ينبغي ـ في الامتزاج بالأجود بغير اختياره ـ ثبوت الخيار‌

١٦٠