بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

الا أنه هنا يمكن ان نضيف نكتة نتمم على أساسها هذا الوجه للاستحالة وذلك بان نقول ان الأمر وان كان في أفق ذهن الآمر معروضا في الحقيقة على عنوان قصد الأمر لا واقعه ومعنونه الّذي يكون في طول الأمر الا ان الآمر انما يأمر بالعنوان بما هو فان في المعنون وحاك عن الخارج ، فهو يرى من خلال العنوان المعنون ويرى الخارج ، ولهذا يشتاق إليه ويأمر به وبهذا النّظر والرؤية سوف يقع التهافت في نظره لأنه من ناحية يرى الأمر في رتبة متقدمة على قصده لكونه عارضا عليه وكأن له تقررا وثبوتا قبل تعلق القصد به ومن ناحية أخرى يرى أنه عارض على قصد الأمر ومتأخر عنه وهذه وان كانت مجرد نظرة ورؤية لا واقعا وحقيقة الا ان الآمر على اية حال انما يأمر بهذا النّظر غير المطابق للواقع أي يأمر بالنظرة التي يرى بها واقع قصد الأمر شيئا مفروغا عنه ومتقدما على الأمر لكي يطرأ عليه الأمر ، مع انه لا يعقل ان يراه كذلك لأنه متقوم في هويته به فكيف يراه مفروغا عنه ومتقدما على الأمر (١).

الوجه الثالث ـ ويتوقف على مقدمتين :

الأولى ـ ان قصد امتثال الأمر عبارة أخرى عن كون الداعي للمكلف من الفعل امتثال الأمر أي محركية الأمر له بقدح الإرادة والداعي لإتيان الفعل في نفسه.

الثانية ـ ان حقيقة الأمر عبارة عن الخطاب والاعتبار الّذي يجعل بداعي المحركية والباعثية نحو متعلقه ، ولهذا لم يكن شاملا للعاجز إذ لا يعقل في حقه التحرك والانبعاث ، فلا بد في تعلق الأمر بأي متعلق لكي يكون أمرا حقيقة ان يكون صالحا للمحركية.

وبناء على هاتين المقدمتين نقول في المقام : بأن الأمر الضمني بقصد امتثال الأمر لا يعقل

__________________

(١) هذا البرهان أيضا قابل للمناقشة لأن النّظر إلى الأمر بنحو مفروغ عنه ان كان من جهة انه متعلق أو موضوع الأمر فلا بد وان ينظر إليه بنظرة فراغية فهذا رجوع إلى الوجه السابق الّذي ناقشنا فيه. وان كان من جهة أن تصور مفهوم الأمر في طرف المتعلق تصور حكائي فراغي بنحو المعنى الاسمي فإذا أريد به شخص الأمر الّذي يراد إنشاؤه وجعله بنحو المعنى الحرفي كان تهافتا فالجواب : ان الجاعل في طرف المتعلق يأخذ قصد طبيعي الأمر بنحو المعنى الاسمي لا شخص الأمر الّذي يجعله بهذا الجعل بنحو المعنى الحرفي وان كان هذا الطبيعي سوف يتحقق مصداقه في الخارج بنفس هذا الأمر الشخصي.

نعم هذا الّذي أفيد انما يتم إذا أريد أخذ قصد شخص هذا الأمر الجزئي كما هو المفروض في المقام لكون الجزئية في المفاهيم متقومة بالتشخص والإشارة إلى الخارج فيلزم التهافت في اللحاظ ، وسوف تأتي الإشارة في المتن إلى ان هذا الوجه يندفع بأخذ قصد طبيعي الأمر.

٨١

ان يكون محركا وباعثا نحو ما تعلق به لأن الأمر بذات الفعل ان كان وحده كافيا للتحريك نحو الفعل وموجبا لانقداح الإرادة في نفس المكلف فهذا عبارة أخرى عن قصد الامتثال كما بين في المقدمة الأولى ومعه لا يبقى لتعلق الأمر الضمني الثاني مزيد داعوية ومحركية لا تأسيسا كما هو واضح ولا تأكيدا لأنه امر ضمني ولا تأكيد في الأوامر الضمنية إذ الامتثال والعصيان انما يكون بلحاظ الأمر الاستقلالي دائما. وان لم يكن الأمر الضمني بذات الفعل كافيا لتحرك المكلف فلا فائدة في الأمر الضمني بقصد الأمر أيضا لأنه أخو الأمر الأول وكلاهما امر واحد بحسب الفرض ، فالحاصل محركية الأمر بالفعل مع قصد الأمر هي نفس محركية الأمر بذات الفعل فضم قصد الأمر إلى متعلق الأمر بذات فعل لا يوجب تحريكا نحو ما لم يكن يحرك إليه الأمر لو لا هذه الإضافة والزيادة في المتعلق ، كما هو الحال في سائر الاجزاء أو الشرائط التي تؤخذ في متعلق الأمر. نعم هناك فائدة واحدة لضم هذا القيد وهي انه لو لم يضم إليه فلو اتفق أن جاء المكلف بذات الفعل صدفة أو لداع نفساني سقط الأمر بذات الفعل عن المحركية لأنه قد تحقق متعلقه فلا يكون عليه إعادة ، بخلاف ما إذا ضم إليه هذا الأمر الضمني فان الأمر يبقى ولا بد عليه من الإعادة ، الا ان هذا ليس معناه ان الأمر الضمني الثاني له محركية وانما أصبح حافظا لمحركية الأمر بذات الفعل ومانعا عن انطباقه على ما أتى به فلم يسقط عن التأثير فهو يؤثر ويحرك مرة أخرى نحو الفعل والخلاصة ان الأمر بالفعل بقصد الأمر لا يمكن ان يكون مجعولا بداعي المحركية بجميع حصصه الضمنية وقد افترضنا في المقدمة الثانية حقيقة الأمر هو ما يجعل بداعي المحركية والباعثية (١).

الوجه الرابع ـ ما يمكن ان يفسر به عبارة المحقق الأصفهاني ( قده ) حيث يقول « يلزم

__________________

(١) يمكن ان نمنع لزوم ان تكون لكل حصة من حصص الأمر الضمنية محركية بلحاظ ما تعلق به لأن المحركية ليست أساسا للأوامر الضمنية بل للأمر الاستقلالي لأنه الّذي يمتثل أو يعصى وانما اللازم ان يكون لكل امر استقلالي محركية نحو ما تعلق به لم تكن ثابتة لو لم يكن قد تعلق بذلك المتعلق بالخصوص وفي المقام أخذ قصد القربة والأمر في متعلق الأمر هو الّذي يحرك المكلف نحو الإعادة في موارد وقوع الفعل أو لا صدفة أو بداع نفساني وهذه زيادة تحريكية كافية لتبرير أخذ هذا القيد تحت الأمر.

وبعبارة أخرى. ان الغرض من جعل الخطاب والأمر ليس هو المحركية وإيجاد الداعي في نفس المكلف كما قيل بل الغرض هو تحصيل ما فيه ملاك الأمر المحبوب ولهذا لو فرض ان المولى أحرز تحقق ملاكه من قبل العبد من دون ان يأمره لما أمره ولو كان أمره أيضا صالحا لقدح الداعي في نفسه ومن الواضح ان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر يحفظ غرض المولى ومحبوبه في تمام الحالات أي حتى حالة صدور ذلك الفعل منه لا بداعي الأمر الإلهي الشيء الّذي لم يكن يحفظ لو كان الأمر متعلقا بذات الفعل فقط.

٨٢

داعوية الشيء نحو داعويته ومحركيته نحو محركية نفسه » (١).

وتوضيحه : ان المحركية كما قلنا عبارة عن قدح الإرادة في نفس المكلف والأمر بالفعل مع قصد الأمر إذا أريد منه ان يكون محركا نحو ما تعلق به فهذا انما يتصور على أحد أنحاء ثلاثة كلها مستحيلة.

الأول ـ ان يفرض ان هذا الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الفعل وقصد الامتثال يحرك العبد نحو هذا المجموع على حد تحريك سائر الأوامر بالمركبات نحو مجموع ما تعلقت بها في عرض واحد وهذا غير معقول لأن إرادة الصلاة التي نشأت من قبل الأمر هي بنفسها قصد الامتثال الّذي هو الجزء الثاني للمأمور به ، فلا يعقل انبساط تلك الإرادة على هذا الجزء لأن هذا معناه انبساط الإرادة على نفسها وتعلقها بنفسها وهو محال.

الثاني ـ ان يكون هذا الأمر محركا نحو إتيان ذات الفعل فقط وهذا معناه ان الأمر لم يحرك نحو الجزء الثاني لمتعلقه وهو يعني عدم تعلق الأمر بهذا الجزء بداعي المحركية نحوه.

الثالث ـ ان تكون محركية هذا الأمر عبارة عن انه يريد إرادة امتثال الأمر بذات الفعل فيريد ذات الفعل فيأتي به ، وهذا يعني ان محركية هذا الأمر تتمثل في محركيتين طوليتين بان يكون أولا محركا نحو إرادة امتثال الأمر بذات الفعل ، وفي طول ذلك تنشأ محركية ثانية نحو ذات الفعل تتمثل في إرادة نفس الفعل والإرادة الثانية هي متعلق الإرادة الأولى ، بحيث يصدق بينهما فاء الترتيب بان نقول أراد ان يقصد الامتثال بالفعل فقصد الامتثال وطبعا لا تعقل إرادة الفعل في عرض إرادة إرادة الفعل إذ في عرض حصول المراد لا معنى لإرادته ، والا لزم طلب الحاصل وانما المراد في طول الإرادة.

وهذا أيضا باطل إذ معنى ذلك ان اقتضاء أحد الأمرين الضمنيين للتحريك في طول اقتضاء الأمر الضمني الآخر للتحريك ، وهو غير معقول لأنهما امر واحد ، وان شئت قلت : انه في مرتبة الأمر الضمني بقصد الامتثال هل يوجد الأمر الضمني بذات الفعل أولا ، فان قيل لا يوجد كان معنى ذلك الطولية بين نفس الأمرين الضمنيين وهو محال ، وان قيل يوجد فما

__________________

(١) نهاية الدراية : الجزء الأول ـ ص ١٣٤ ، ج ١.

٨٣

معنى ان لا يقتضي التحريك في عرض اقتضاء الأمر الآخر (١)؟.

وبهذا ينتهي البحث في المقام الأول وهو أخذ قصد القربة بمعنى قصد امتثال شخص الأمر العبادي في متعلقه.

المقام الثاني ـ في أخذ قصد القربة بغير معنى قصد امتثال شخص الأمر في متعلقه وهذا يمكن تصويره بأحد وجوه :

التصوير الأول ـ ان يؤخذ في متعلق الأمر قصد طبيعي الأمر لا شخص الأمر ، وطبيعي الأمر قابل للانطباق على شخص ذلك الأمر أيضا.

وهذا التصوير يندفع به الوجه الثاني من الوجوه الأربعة للاستحالة الا انه لا تندفع به الوجوه الثلاثة الأخرى. اما اندفاع الوجه الثاني فلان المحذور فيه كان ناشئا بلحاظ عالم اللحاظ والتصور حيث كان يقال أن قصد الأمر متقوم تصورا ومفهوما بالأمر فكيف يمكن ان يؤخذ في متعلقه الّذي يتقوم الأمر به؟ وواضح ان مثل هذا المحذور التصوري يرتفع بمجرد ان يؤخذ في متعلق الأمر طبيعي الأمر لا شخصه فانه لا يكون متقوما تصورا بشخص ذلك الأمر وليس الجامع والطبيعي عبارة عن لحاظ الافراد ـ فان الإطلاق كما قيل رفض للقيود لا جمع بينها ـ لكي يلزم تقومه بشخص الأمر من جديد ولا يقدح في ذلك عدم وجود امر آخر غير هذا الأمر في مرحلة الواقع والحمل الشائع لأن المحذور لم يكن بلحاظ هذا العالم ، بل بلحاظ عالم التصور واللحاظ فحسب.

واما جريان الوجوه الثلاثة الأخرى في المقام فباعتبار ان قصد امتثال طبيعي الأمر أيضا متوقف خارجا على وصول الأمر وحيث لا امر غير هذا الأمر فلا بد من تقييده بوصوله ـ وهذا هو محذور الوجه الأول ـ كما ان الأمر بقصد امتثال طبيعي الأمر كالأمر بقصد امتثال شخصه

__________________

(١) قد يقال : بأنا إذا تصورنا إمكان تعلق الإرادة بإرادة امتثال الواجب أمكن دفع هذا الإشكال بأن الأوامر الضمنية ليس لها اقتضاءات ومحركيات مستقلة بل هناك محركية واحدة للأمر الاستقلالي نحو مجموع ما تعلق به والطولية في المقام بين نفس المتعلقين حيث ان إرادة شيء متقدمة على ذات المراد. الا ان الصحيح عدم معقولية تعلق الإرادة بإرادة لأن الإرادة لا تتعلق الا بالخارج ولا يمكن ان تتعلق بالإرادة حتى بنحو الطولية فلا يصح ان يقال أراد ان يريد الفعل وقد تقدم في بحث الطلب والإرادة البرهان على ذلك فراجع.

هذا ولكن أصل هذا الوجه أيضا غير تام لأنه متوقف على ما بين في الوجه الثالث من لزوم محركية كل حصة من حصص الأمر الضمني نحو متعلقه وقد عرفت ان هذا مما لا موجب له.

٨٤

محذور الوجه الثالث والرابع ـ.

التصور الثاني ـ ما نقله المحقق النائيني ( قده ) عن أستاذه السيد الشيرازي ( قده ) وحاصله انه إذا استحال أخذ قصد الامتثال فليؤخذ عنوان ملازم لقصد الامتثال (١).

واعترض عليه تارة بان فرض وجود عنوان ملازم لقصد الأمر دائما خلاف الواقع ، وأخرى بأنه لو سلم وجود مثل هذا العنوان الملازم فالمتلازمان وان استحال التفكيك بينهما في الخارج الا انه لا استحالة في فرض التفكيك بينهما ، فيلزم إطلاق الأمر العبادي المجعول على نهج القضايا الحقيقية لمثل هذا الفرض ، وهو خلف غرض المولى.

وكلا هذين الاعتراضين غير متجهين.

اما الأول فلأنه يوجد عنوان ملازم لقصد الامتثال وهو العنوان السلبي أي عدم صدور الفعل بداع دنيوي أو نفساني ، فانه يلازم خارجا في صورة تحقيق المكلف للفعل وجود داعي الامتثال له ، لأن الفعل لا يصدر من الإنسان بلا داع.

واما الثاني فلأنه لو أريد مجرد فرض المحال الّذي هو ليس بمحال كفرض اجتماع الضدين أو ارتفاع النقيضين ، فليس على المولى ان يجعل امره وافيا بغرضه في مثل هذه الفروض المستحيلة أيضا ، وانما عليه ان يجعله وافيا بغرضه على الفروض المعقولة ، والا فما هو موقفه من فرض ارتفاع النقيضين المحال؟ وكيف يجعل خطابه وافيا بغرضه في مثل ذلك؟ ولو أريد بذلك فرض امر معقول وان كان نادر التحقق كما إذا كان التلازم بين العنوانين غالبيا لا عقليا ، قلنا : ان التفكيك بين قصد الامتثال وعدم سائر الدواعي الّذي فرضناه غير معقول لأن ذلك معناه حصول الفعل الاختياري بلا داع.

والتحقيق ان هذا التصوير كالتصوير الأول لا يرد عليه الوجه الثاني من الوجوه الأربعة ، ولكن ترد عليه الوجوه الثلاثة الأخرى بنفس البيان المتقدم في رد التصوير الأول.

التصوير الثالث ـ ما يستفاد من كلمات المحقق العراقي ( قده ) في مقام الفرار عن محذور أخذ قصد الأمر في متعلقه من إمكان التوصل إلى نفس النتيجة بجعل الأمر متعلقا بالحصة التوأم مع قصد الأمر بحيث يكون القيد والتقيد معا خارجين عن متعلق الأمر ، وانما المتعلق هو

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١١١.

٨٥

لا يمكن ان يكون محركا نحو ما تعلق به محركية زائدة على محركية الأمر بذات الفعل ـ وهذا هو ذات الحصة التوأم مع القيد ويكون التقييد مشيرا إلى ذات المقيد نظير ما يقال : ( اتبعوا خاصف النعل ) (١).

وهذا التصوير أيضا غير تام وذلك :

أولا ـ لأن الحصة تارة يكون لها ثبوت وتحصص مع قطع النّظر عن تقيدها بالقيد كما هو الحال في الأعيان الخارجية كالإمام عليه‌السلام الّذي قد يشار إليه بعنوان خاصف النعل ، والّذي له تحصص وتشخص في الخارج ، بقطع النّظر عن اتصافه بخصف النعل ، وأخرى لا يكون للطبيعة تحصص وتشخص الا بنفس هذا التقييد ، كما هو الحال في الحصص المفهومية ، أي في تحصيص المفاهيم مثل الإنسان الأبيض ، ففي القسم الأول تكون الحصة التوأم أي خروج القيد والتقيد معا معقولا فيكون التقييد مشيرا إلى ذات الحصة ، واما في القسم الثاني فلا تعقل الحصة التوأم ، وخروج القيد والتقيد معا ، لأن هذا يؤدي إلى أن يكون متعلق الحكم ومعروضه ذات الطبيعة من دون قيد ولا تحصيص ، وعليه فالحصة التوأم في المقام غير معقولة.

ثانيا ـ ان هذا التصوير أيضا يرد عليه من الوجوه السابقة ، الوجه الأول والثاني لأن إتيان المكلف بالحصة التوأم مع قصد الامتثال يتوقف على قصد الأمر المتوقف على وصول الأمر فلا بد من أخذه في موضوعه كما ان محذور التهافت في اللحاظ ينشأ من مجرد لحاظ قصد الأمر في متعلق الأمر سواء كان بنحو الموضوعية أو المشيرية.

التصوير الرابع ـ ان يؤخذ في متعلق الأمر العبادي أحد القصود القريبة الأخرى غير قصد الأمر وقد ذكرت في المقام عدة قصود قريبة أخرى كما يلي :

١ ـ قصد المحبوبية والإرادة.

٢ ـ قصد المصلحة والملاك.

٣ ـ قصد كونه حسنا ذاتا.

٤ ـ قصد كونه سبحانه وتعالى أهلا للعبادة.

ولا يخفى ان الوجه الثالث والرابع لا بد من إرجاعهما إلى أحد القصود القريبة الأخرى

__________________

(١) مقالات الأصول ج ١ ص ٨٠.

٨٦

لأنهما متوقفان على ان يكون الفعل عبادة وحسنا في المرتبة السابقة لكي يمكن ان يؤتى به بأحد هذين الداعيين ، فلا يمكن ان تنشأ عباديته منهما.

واما قصد المحبوبية وقصد المصلحة فقبل التعرض إلى إمكان أخذهما في متعلق الأمر ، لا بد أن نشير إلى انه من الناحية الفقهية لا يحتمل ان يكون المأخوذ في العبادات قصد المحبوبية أو الملاك بالخصوص بحيث يجب ان يكون تحرك المكلف من مجرد المصلحة أو المحبوبية لأن لازم ذلك ان من يكون تحركه من الأمر ولا تكفي مجرد المحبوبية أو الملاك لتحركه تكون عباداته غير مجزية وهذا يعني انه بحسب عالم الإثبات في الفقه ليس قصد المحبوبية أو الملاك بخصوصه مأخوذا في متعلق الأمر وانما المحتمل أخذ الجامع بينه وبين قصد الأمر ، ولكنه مع هذا لا بد من الناحية المنهجية ان نبحث أولا عن إمكان أخذ كل من قصد المحبوبية وقصد الملاك في متعلق الأمر ، ثم يبحث عن إمكان أخذ الجامع بينهما وبين قصد الأمر.

اما أخذ قصد المحبوبية في متعلق الأمر فلا يرد عليه شيء من المحاذير والوجوه الأربعة للاستحالة عدا الوجه الثاني وهذا أيضا يمكن دفعه هنا بأخذ قصد طبيعي المحبوبية توضيح ذلك : ان المحبوبية والإرادة التشريعية صفة تكوينية وليست كالخطاب والجعل فعلا اختياريا إنشائيا للمولى يجعله بداعي المحركية والباعثية ، وعلى هذا الأساس سوف لا ينشأ من أخذ قصده في متعلق الأمر محذور لا على مستوى الأمر والخطاب الّذي قيد به ولا على مستوى الحب والإرادة.

اما على مستوى الأمر والخطاب فلأنه لا يرد محذور أخذ وصول الحكم في موضوع شخصه ـ الوجه الأول ـ لأن القيد ليس هو قصد الأمر بل قصد الإرادة والمحبوبية أو الملاك والمصلحة فغاية ما يلزم أخذه هو وصول الإرادة أو الملاك ولا ضير فيه.

لا يقال ـ وصول الإرادة والملاك متوقف غالبا على وصول الأمر فعدنا مرة أخرى إلى لزوم أخذ وصول الأمر في موضوع الأمر.

فانه يقال ـ وصول الإرادة والمحبوبية أو الملاك والتي جميعها من الأمور التكوينية لا الإنشائية الجعلية يكفي فيه العلم بأصل الجعل والتشريع وتحقق موضوعه وشرائطه من سائر الجهات. ما عدا العلم بالمصلحة أو المحبوبية لأن المحبوبية أو الملاك في أي شيء كانت فهي تكون ثابتة حتى لو لم تصل إلى المكلف لاستحالة دخل وصول الشيء في الشيء ، فالمكلف

٨٧

بمجرد ان يسمع المولى قد جعل على كل واجد للشرائط وعارف بالمصلحة أو الملاك في عمل ما وجوب الإتيان به فاطلاعه على هذا الجعل وعلى وجدانه لسائر الشرائط كاف في علمه بالمصلحة والمحبوبية في ذلك الفعل وهذا بخلاف ما لو أخذ وصول الأمر بمعنى المجعول والّذي هو امر إنشائي يتبع ما جعل عليه فتدبر جيدا.

ولا يرد أيضا محذور التهافت في اللحاظ لعدم تقوم قصد المحبوبية والملاك بالأمر لحاظا وتصورا.

وكذلك لا يرد محذور عدم محركية الأمر الضمني بقصد القربة زائدا على محركية الأمر بذات الفعل لأن متعلق الأمر الضمني ليس هو قصد الأمر ومحركيته بل قصد الملاك أو المحبوبية ومحركيتهما وهو لا يحصل بمجرد محركية الأمر.

واما على مستوى الإرادة والمحبوبية فما عدا المحذور المبين في الوجه الثاني من الوجوه الأربعة لا ترد في المقام لأنها مبنية على ان الأمر لا بد ان يكون باعثا ومحركا نحو امر مقدور وهذا انما هو شأن الأمر واما المحبوبية والإرادة فلا بأس بفرض تعلقها بأمر غير مقدور أو عدم قابليتها للتحريك. اما المحذور المبين في الوجه الثاني فهو يلزم في أخذ قصد المحبوبية لا قصد الملاك لو فرض أخذ قصد شخص الإرادة والمحبوبية في متعلقها لأن الإرادة والحب أيضا كالجعل من الأمور ذات الإضافة والتعلق بالخارج من خلال الصور الذهنية ، فكما لا يعقل عروض الأمر في أفق الجعل على ما يتقوم بشخصه كذلك لا يعقل عروض الحب والإرادة في أفق النّفس على ما يتقوم بشخص الإرادة ، الا اننا يمكن ان نتخلص من هذا المحذور بفرض أخذ قصد طبيعي الإرادة والمحبوبية.

وهكذا يتضح ان أخذ قصد القربة بمعنى قصد المحبوبية أو الملاك في متعلق الأمر لا يلزم منه محذور وما جاء في تقريرات الميرزا ( قده ) من استحالة أخذ قصد الملاك لأن لازمه ان تكون المصلحة قائمة بالفعل المأتي به بداعي المصلحة وهو دور لأن الإتيان بداعي المصلحة فرع قيام المصلحة به الّذي هو فرع ان يؤتى به بداعي المصلحة (١) مدفوع بما تقدم في الأبحاث السابقة من ان الإتيان بداعي المصلحة لا يتوقف على قيام

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٨ ـ ١٠٩.

٨٨

المصلحة بذات الفعل بان يكون ذات الفعل تمام ما يحصل المصلحة ، بل يتوقف على ان يكون للفعل دخل في إيجادها ، فهو يأتي بالفعل لكي يسد باب عدم المصلحة من ناحيته وإذا أتى به بهذا الداعي كان بنفسه عبارة عن قصد المصلحة الّذي به ينسد الباب الآخر للعدم.

نعم يمكن ان نناقش صغرويا في قربية قصد المصلحة في الأوامر الشرعية التي تكون ملاكاتها ومصالحها راجعة إلى العبد لا إلى المولى فان قصدها لا يكون مضافا إلى المولى ولا من أجله لكي يكون مقربا الا إذا جيء بها باعتبار اهتمام المولى وإرادته لها من العبد فيرجع إلى قصد الإرادة والمحبوبية.

هذا كله في أخذ قصد الملاك أو الإرادة بالخصوص في متعلق الأمر واما أخذ الجامع بين قصد ذلك وقصد الأمر ـ الّذي هو المتعين فقهيا على تقدير إمكانه أصوليا حيث لا إشكال في كفاية قصد الأمر وعدم لزوم قصد المحبوبية أو الملاك بالخصوص ـ فلا يرد عليه الوجه الأول والثاني من الوجوه الأربعة المتقدمة كما لا يخفى ، ولكنه يرد عليه الوجهان الثالث والرابع لأنه كلما كان الأمر بذات الفعل محركا للعبد كان الجامع بين القصود القريبة حاصلا وإذا لم يكن محركا لم يجد الأمر الضمني بأحد القصود القربية للتحريك أيضا فيلزم محذور عدم محركية زائدة في الأمر الضمني بقصد القربة أو كونه تحصيلا للحاصل.

وبهذا يتضح ان أخذ قصد القربة ـ بالمعنى المحتمل فقهيا ـ في متعلق الأوامر القربية العبادية مستحيل وفاقا لما اشتهر بين المحققين المتأخرين فلا يمكن ان تفسر العبادية بهذا الوجه أعني أخذ قصد القربة في متعلق الأمر العبادي.

النقطة الثانية _ أن تفسر عبادية الأمر بتعدد الأمر ففي الواجب التوصلي لا يوجد الا امر واحد متعلق بذات الفعل بينما في الواجب التعبدي يوجد امران أحدهما يتعلق بذات الفعل والآخر بالإتيان به بقصد الأمر الأول.

وقبل ان ندخل في تفاصيل هذا التفسير للواجب التعبدي لا بد ان نعلق هنا بأن هذا الوجه كأنه محاولة للتخلص عن المحذور في الوجهين الأول والثاني من الوجوه الأربعة المتقدمة للاستحالة حيث يندفع إشكال الدور والتهافت بتعدد الأمر. الا أن

٨٩

الوجهين الثالث والرابع لا يندفعان بذلك لأن الواجب التعبدي وان انحل إلى امرين بمقتضى هذا التفسير وقد يكونان بجعلين أيضا الا ان هذين الجعلين والأمرين بحسب الروح واللب امران ضمنيان لأنهما نشئا من ملاك واحد وإرادة واحدة فهما كالأمرين الضمنيين ليست لهما محركيتان مستقلتان بل محركية واحدة ، فنقول حينئذ : ان الأمر الثاني لا يمكن ان تكون له محركية زائدة على محركية الأمر الأول بذات الفعل لا تأسيسا ولا تأكيدا ، فلا يمكن ان يكون الأمر الثاني امرا حقيقيا ، اللهم الا إذا أخرجناه عن حقيقة الأمر إلى شيء آخر سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

ثم ان هذا الوجه في تفسير الواجب التعبدي قد جاء في كلمات المحققين من علماء الأصول ضمن صياغات ثلاث متفاوتة فيما بينها برغم اشتراكها جميعا في أصل فكرة تعدد الأمر امر بذات الفعل وآخر بقصد الأمر حين امتثال الأمر الأول.

الصياغة الأولى ـ ما جاء في الكفاية من ان الأمر الأول يتعلق بذات الفعل مطلقا ويأتي التقييد بقصد الأمر بأمر ثان مستقل عن الأمر الأول جعلا ومجعولا (١).

الصياغة الثانية ـ ما ذهب إليه المحقق النائيني ( قده ) (٢) من ان الأمر الأول يتعلق بالطبيعة المهملة « لا بشرط المقسم » لأنه إذا استحال التقييد بقصد الأمر استحال الإطلاق بلحاظه أيضا لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فكلما استحال أحدهما استحال الآخر. وحينئذ لا بد من رفع إهمال الأمر الأول بالأمر الثاني الّذي هو مستقل عن الأمر الأول جعلا ومجعولا ولكنه متمم للجعل الأول حيث لا يعقل الإهمال الثبوتي واقعا فلا بد للمولى ان يرفع هذا الإهمال بأمر ثان يبين فيه الإطلاق أو التقييد في تمام موارد القيود الثانوية التي لا يمكن أخذها في متعلق الأمر الأول.

الصياغة الثالثة ـ ما ذهب إليه المحقق العراقي ( قده ) من ان الأمر الثاني وان كان مستقلا في مرحلة المجعول والفعلية ولكنه متحد مع الأمر جعلا وإنشاء نظير جعل

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١١١.

(٢) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٤ ـ ١١٦.

٩٠

الحجية للخبر المباشر وخبر الواسطة بجعل واحد برغم انحلاله إلى مجعولين استقلاليين (١). وفيما يلي تمحيص كل واحدة من هذا الصياغات الثلاث : اما صياغة الكفاية فقد أورد عليها بأنه إذا جاء المكلف بالفعل الّذي هو متعلق الأمر الأول بلا قصد الامتثال فهل يسقط الأمر الأول أم لا؟ فان قيل بالسقوط ، لزم منه سقوط الأمر الثاني أيضا ولو عصيانا ، وبالتالي عدم وجوب الإعادة وهو خلف.

وان قيل بعدم السقوط وبقاء الأمر الأول برغم تحقق متعلقه وهو ذات الفعل خارجا ، لزم ان يكون من طلب الحاصل إذ لا معنى لبقاء الأمر والطلب برغم تحقق ما تعلق به.

وهذا الإشكال يمكن الإجابة عليه بالالتزام بسقوط الأمر الأول بشخصه ولكن يتولد امر آخر مثله لبقاء غرضه على ما سوف يأتي تحقيقه وتوضيحه. فمن ناحية الأمر الأول لا إشكال ، وانما الإشكال من ناحية الأمر الثاني وانه أي فائدة في جعله وأي محركية زائدة له طالما يكون الأمر باقيا ومتجددا بنوعه ما لم يأت المكلف بقصد الأمر.

واما صياغة الميرزا ( قده ) فقد أورد عليها السيد الأستاذ إيرادين.

أولهما ـ بطلان المبنى وان التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من العدم والملكة بل من تقابل الضدين فإذا استحال التقييد فقد وجب الإطلاق. وهذا نقاش مبنائي ربما نتعرض إليه في بعض البحوث القادمة من هذا الفصل.

ثانيهما ـ ان الإهمال في الأمر الأول غير معقول حتى يرفع بالأمر الثاني ومتمم الجعل وقد بين هذا الإشكال بتعبيرين فتارة يقال باستحالة هذا الإهمال لأن الحكم له حظ من الوجود في أفق الذهن وعالم الاعتبار وكل شيء له حظ من الوجود لا بد ان يكون متعينا في صقع وجوده ويستحيل ان يبقى مرددا ، وأخرى يقال : أن الأمر من مجعولات الآمر الّذي ينشئها من خلال الصور الذهنية والعلمية فلا يعقل ان يكون الجاعل مترددا أو جاهلا بما جعله حين جعله (٢).

وكلا التعبيرين لهذا الإشكال مبني على تفسير الإهمال في كلام المحقق النائيني ( قده ) بالإهمال الوجوديّ أي المردد بين المطلق والمقيد. مع ان الصحيح ان

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٧٧.

(٢) هامش أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

٩١

المراد له هو الإهمال المفهومي لا الوجوديّ ولا الفرد المردد توضيح ذلك : أن متعلق الأمر الأول مدلول اسم الجنس أي ذات الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة باعتبار ما هو المقرر في محله من ان الإطلاق والتقييد كلاهما حيثيتان لحاظيتان زائدتان على ذات الطبيعة المهملة وحينئذ إذا استحال كل من اللحاظين الإطلاقي والتقييدي في متعلق الجعل الأول اضطر المولى ان يجعل امره على ذات الطبيعة المهملة ويتصدى لرفع الإهمال بأمر ثان يكون متمما للجعل ، وبه يرفع الإهمال إلى الإطلاق أو التقييد.

وبناء عليه لا يلزم لا الوجود المردد أو عدم تعين ما جعل عليه الأمر الأول ولا جهل الآمر بما جعله.

نعم هنا إشكالان آخران على هذه الصياغة :

أحدهما ـ ان تعلق الأمر بذات الطبيعة المهملة اما ان يقال بأنه في قوة تعلقه بالطبيعة المطلقة ـ كما هو الصحيح عندنا حيث يأتي في مباحث المطلق والمقيد ان هناك إطلاقا وسريانا ذاتيا للطبيعة فتكون في قوة المطلقة لا المقيدة خلافا للمشهور ـ أو يقال بأنها في قوة المقيدة كما هو المشهور.

فلو قيل بالإطلاق الذاتي رجعت هذه الصياغة إلى صياغة الكفاية من حيث كون متعلق الأمر الأول مطلقا غاية الأمر بالإطلاق الذاتي لا اللحاظي.

ولو أنكرنا الإطلاق الذاتي وان الطبيعة المهملة في قوة المقيدة لزم الاستغناء عن الأمر الثاني لأن المولى في موارد تعلق غرضه بالمقيد يستطيع تحقيق تمام غرضه بالأمر الأول المهمل بلا حاجة إلى ما يرفع إهماله إلى التقييد ، لأن المهمل بحسب الفرض في معنى المقيد. نعم لو كان غرضه المطلق احتاج إلى رفعه بالأمر الثاني المطلق.

ثانيهما ـ أن هذه الصياغة أعني تعلق الأمر الأول بالطبيعة المهملة إذا كانت المهملة في قوة الجزئية والمقيدة كما هو مبناهم اتجه عليها إشكال الدور ـ الوجه الأول من وجوه الاستحالة الأربعة ـ لأن امتثال هذا الأمر كامتثال الأمر بالمقيد سوف يتوقف على الأمر أو وصوله فيلزم أخذ الأمر أو وصوله في موضوع الجعل الأول وهو محال ، وان شئت قلت : ان نتيجة هذا التسلسل استحالة الإهمال كالتقييد

٩٢

والإطلاق ، وهذا يعني استحالة الأمر بفعل من الأفعال لا مطلقا ولا مقيدا ولا مهملا من ناحية قصد القربة وهذا معناه ـ بعد فرض ثبوت أصل الأمر بالفعل ـ ارتفاع النقيضين وهو من أوضح المحالات مما يكشف عن خلل في إحدى المقدمات والمباني التي أدت إلى هذه النتيجة.

واما الصياغة الثالثة لتعدد الأمر بان يكون هناك جعل واحد ينحل إلى مجعولين أحدهما على ذات الاجزاء والشرائط والآخر على الإتيان بها مع قصد الأمر ويكون الأمر الثاني فعليته في طول الأمر الأول نظير حجية خبر الواسطة فهذا موقوف على ما تقدم فيما سبق من لزوم تعلق الأمر بعنوان من قبيل وجوب هذه الاجزاء والشرائط بما فيها قصد الأمر كلما أمكن شيء منهما ، وقد ذكرنا ان هذا خلاف واقع الأوامر العبادية الثابتة في الفقه ولا يفيد في إثبات أصالة التوصلية لما إذا تعلق أمر بفعل من الأفعال ، على أنه لا يسلم من الوجه الثالث والرابع من وجوه الاستحالة الأربعة ، وكأن المحقق العراقي انما عدل عن صياغة تعدد الجعل إلى وحدة الجعل لكون ذلك هو الأمر العرفي في الواجبات التعبدية.

النقطة الثالثة ـ ان تفسر العبادية بما يظهر من عبارة صاحب الكفاية ( قده ) من ان الأمر التوصلي والتعبدي كلاهما متعلقان بذات الفعل فمن حيث الأمر ومتعلق الوجوب لا فرق بينهما ، وانما الفرق بينهما في ان الأمر التوصلي يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه وهو ذات الفعل لتحقق الغرض منه بينما الأمر التعبدي لا يسقط الا بالإتيان بمتعلقه مع قصد القربة لأن الغرض منه لا يحصل الا بذلك ، وسقوط الأمر يتبع حصول الغرض لا مجرد الإتيان بمتعلقه (١).

وفيه : ان عدم سقوط الأمر بعد تحقيق متعلقه خارجا مستحيل فانه من طلب الحاصل فإذا تعلق الأمر بذات الطبيعة وقد حقق المكلف فردا منها كان بقاء شخص ذلك الطلب المتعلق بالجامع بين الفرد الواقع وغيره مستحيلا. لأن متعلقه حاصل فلا محالة لا بد من سقوطه ـ على الخلاف في معنى سقوط الأمر بالامتثال ـ واما بقاء طلب

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٧.

٩٣

فرد آخر من الطبيعة غير ما وقع فهو وان كان معقولا الا انه أمر آخر لا محالة ، لأن كل أمر يتقوم بشخص متعلقه فإذا تغير تغير الأمر لا محالة.

النقطة الرابعة ـ الوجه المختار في تفسير الواجب التعبدي وحاصله :

ان الغرض من الواجب التعبدي حيث انه يتوقف على الإتيان بالواجب بقصد الامتثال والقربة وحيث ان قصد القربة لا يمكن أخذه تحت الأمر وحيث ان الغرض هو سبب الأمر وعلة جعله فلا محالة يكون الأمر التعبدي كالتوصلي متعلقا بذات الفعل الا أنه كلما جاء المكلف بالفعل من دون قصد الأمر سقط شخص ذلك الأمر ـ لاستحالة بقائه بعد حصول متعلقه ـ وتولد امر جديد متعلق بفرد آخر من ذات الفعل لأن الغرض الّذي دعى المولى إلى جعل الأمر الأول لا يزال باقيا. وهذا بخلاف الأمر التوصلي فالفرق بين التعبدي والتوصلي بالدقة ليس بالتقييد والإطلاق من ناحية قصد القربة بل بالتجدد وتولد امر آخر كلما لم يأت المكلف بقصد القربة الدخيل في تحقيق غرض المولى.

وهذا التفسير يشترك مع التفسير السابق في ان الأمر التعبدي والتوصلي لا يختلفان في المتعلق بل في ما يحقق الغرض من كل منهما ولكن يختلف عنه في ان ذلك التفسير كان يفترض فيه بقاء شخص الأمر المتعلق بذات الفعل بينما في هذا التفسير يفترض سقوطه بشخصه وبقاؤه بنوعه ضمن شخص آخر من الأمر متعلق بغير الفرد المأتي به. ويشترك مع التفسير الثاني في المصير إلى تعدد الأمر وتجدده كلما لم يأت المكلف بالفعل مع قصد الأمر وان كان يختلف عنه في ان الأمر الثاني يتجدد بعد سقوط الأول ويتعلق كالأول بذات الفعل لا بقصد الأمر.

فان قلت ـ لا يعقل الأمر بذات الفعل لأن المفروض عدم وفائه بتحقيق الغرض فليس ذات الفعل هو المحبوب ، والأمر لا بد وان يتعلق بما هو المحبوب.

قلنا ـ تعلق الأمر بما هو المحبوب لأجل ان يكون محركا نحوه وهذا غاية ما يقتضيه أنه لا بد ان يكون الأمر متعلقا بما هو المحبوب في فرض محركيته نحو ما تعلق به وهذا حاصل في المقام لأنه في فرض محركية هذا الأمر للمكلف نحو ما تعلق به يكون الجزء الآخر للغرض وللمحبوب متحققا أيضا ، إذ ليس المراد بقصد القربة الا محركية الأمر.

٩٤

هذا على انه يكفي عقلا وعقلائيا في تعلق الأمر بشيء ان يكون المتعلق هو غاية ما يمكن سد باب عدم الغرض من ناحيته ولو كانت هناك أبواب أخرى للعدم أيضا لا بد ان تسد وانما لم يؤمر بسدها لعدم إمكان الأمر بها ، ولهذا صح الأمر بما يحتمل كونه مصادفا للمحبوب كما إذا امر عبده ان يأتي له بأحد الكتب في الرف برجاء ان يصيب الكتاب الّذي يريده منها لعدم إمكان تكليفه بإتيان الكتاب المطلوب لكونه أميا مثلا لا يمكنه ان يقرأ.

وهكذا يتضح ان حقيقة الأمر التعبدي هو الأمر المتعلق بذات الفعل والمتجدد كلما لم يأت المكلف بقصد القربة. وهذا في الأوامر المجعولة بنحو القضية الخارجية يكون عن طريق تجديد الأمر الموجه إلى الشخص ، واما في الأوامر الكلية المجعولة بنحو القضايا الحقيقية فيكون عن طريق نصب قرينة عامة على ان هذا الأمر له توجهات عديدة تتجدد متى ما أتى المكلف بالفعل لا بقصد القربة (١) وهذا يعطي نفس نتيجة ما لو كان الأمر متعلقا بالفعل المقيد ولهذا يصح عرفا ان تبين هذه القرينة العامة بلسان تقييد متعلق الأمر فيقال صل بقصد القربة فهو تقييد في مقام الإثبات كاشف عن تجدد الأمر بحسب مقام الثبوت وهذا يعني ان الأمر التعبدي بلحاظ عالم الثبوت والحقيقة عبارة عن الأمر المتجدد وبلحاظ عالم الإثبات عبارة عن الأمر المتقيد بقصد القربة هذا ويمكن ان يقال : ان التقييد الثبوتي بقصد القربة ليس محالا مطلقا ومن كل آمر بل محال جعله من قبل من يلتفت ويعلم بالبراهين المتقدمة للاستحالة ( باستثناء البرهان الثاني وهو التهافت في اللحاظ حيث انه استحالة مطلقة حتى في حق الجاهل نظير استحالة اجتماع النقيضين الا ان أصل هذا البرهان كان قابلا للدفع بافتراض أخذ طبيعي قصد الأمر في متعلق الأمر ) فالمولى العرفي الّذي لم يدرس الأصول ليتوجه إلى برهان لزوم التكليف بغير المقدور أو عدم محركية الأمر بقصد

__________________

(١) لا مجال لتوهم تجدد الأمر بمعنى الجعل والإنشاء وأما تجدد الأمر بمعنى المجعول فهو يتوقف على ان تكون القضية الحقيقية في الجعل بنحو بحيث يمكن ان ينحل إلى مجعولات متكررة ومتجددة كلما لم يأت المكلف بقصد الأمر بأن يوجب تكرار العمل ما لم يأت بقصد الأمر الا أن هذا لازمه عدم العصيان إذا كرر العمل في تمام الوقت وهو خلف. والحاصل هذه القرينة العامة لا تتعدى ان تكون بيانا لتوقف الغرض على قصد الأمر وعدم سقوطه بمجرد الفعل وهذا غير الأمر الفعلي المتجدد.

٩٥

القربة نحو متعلقه سوف يجعل امره التعبدي جدا وواقعا بنحو التقيد حاله في ذلك حال التقييد بسائر القيود والخصوصيات. والشارع وان كان دقيقا الا انه في مقام المحاورة والتشريع يتبع نفس الطريقة العرفية التي يتعامل فيها مع قيد قصد القربة كما يتعامل مع سائر القيود في مقام المحاورة.

هذا تمام الكلام في معنى التعبدي والتوصلي وهو البحث الّذي ذكرناه تمهيدا للدخول في صلب الموضوع أعني بيان وتحرير ما هو مقتضى الأصل اللفظي والعملي في الأوامر وانه التوصلية أو التعبدية والكلام في ذلك تارة في الأصل اللفظي وأخرى في الأصل العملي فهنا مقامان :

المقام الأول ـ في مقتضى الأصل اللفظي للأوامر ولا يخفى ان المراد بالأصل اللفظي هنا هو الإطلاق وهو تارة يكون لفظيا وأخرى يكون مقاميا فلا بد من البحث في كل منهما.

اما الإطلاق اللفظي لدليل الأمر فلا إشكال في تماميته لنفي التعبدية وإثبات التوصلية على المبنى القائل بإمكان أخذ قصد القربة قيدا في متعلق الأمر على حد سائر القيود إذ حينئذ يكون حال هذا القيد حال سائر القيود والاجزاء التي تنفي بالإطلاق كما شك في أخذها في الواجب.

واما على تفسيرنا للتعبدي وانه امر بذات الفعل ولكنه يتجدد كلما لم يأت المكلف بقصد الأمر فائضا يمكن التمسك بالإطلاق اللفظي لنفي التعبدية بأحد بيانين :

أولهما ـ ما أشرنا إليه من ان قصد القربة وان لم يكن قيدا ثبوتا بالدقة الا انه قيد إثباتا بحسب النّظر العرفي بل ثبوتا أيضا في التشريعات العرفية فالعرف يتعامل مع أدلة الأمر معاملة التقييد فإذا لم يكن قرينة على التقييد إثباتا كشف من ذلك عدم أخذه ثبوتا.

ثانيهما ـ اننا لو فرضنا تمييز العرف أيضا للفرق بين التجدد والتقييد وان الأمر التعبدي يرجع إلى تجدد الأمر التوصلي لا تقييده ، مع ذلك كانت هذه الخصوصية أعني التجدد خصوصية ومئونة زائدة على أصل الأمر بالطبيعة الّذي هو امر واحد لا أوامر متعددة فيكون مقتضى الإطلاق اللفظي ـ أي مطابقة المرام مع ما بين إثباتا ـ نفي

٩٦

التجدد ، وهذا نظير ما يقال من ان مقتضى الإطلاق في الأمر طلب صرف الوجود ، لا مطلق الوجود الّذي يرجع إلى أوامر متعددة بعدد افراد الطبيعة (١).

واما على مسلك التفصيل بين خصوص قصد الأمر وجامع قصد القربة ، وان تقييد الأمر بالأول محال وبالثاني ممكن ، فلا إشكال في ان مقتضى الإطلاق اللفظي حينئذ نفي التعبدية بمعنى أخذ جامع قصد القربة ، واما نفي قيدية قصد الأمر بالخصوص ففي حالة عدم تقييد الخطاب إثباتا بجامع قصد القربة أيضا يثبت بالإطلاق لأن الإطلاق ينفي أخذ الجامع الأعم فينتفي أخذ الأخص لا محالة واما في حالة تقيد الخطاب إثباتا بجامع القربة والشك في لزوم خصوص قصد الأمر فلا يمكن نفيه بالإطلاق اللفظي على ما سيأتي إن شاء الله.

واما على مسلك صاحب الكفاية والمشهور من المحققين من ان الفرق بين التوصلي والتعبدي انما هو بلحاظ الغرض فحسب فالتمسك بالإطلاق اللفظي في دليل الأمر لنفي التعبدية وقع محل الإشكال لدى المحققين بما يمكن إرجاعه إلى ثلاثة اعتراضات أساسية :

الاعتراض الأول ـ انه لا يمكن التمسك بالإطلاق إثباتا للكشف عن الإطلاق ثبوتا لأنه كلما استحال التقييد استحال الإطلاق.

وتمحيص هذا الاعتراض يتوقف على تنقيح هذه القاعدة فنقول : ان استحالة الإطلاق عند استحالة التقييد تارة يراد بها استحالة شمول الخطاب للمقيد الّذي يستحيل تقييد الحكم به وأخرى يراد بها استحالة نفي التقييد وبالتالي شمول الخطاب لصورة فقدان القيد كما هو ظاهر هذا العنوان وهو مقصود صاحب هذه المقالة الميرزا النائيني ( قده ).

فإذا أريد المعنى الأول ـ كما قد يظهر من بعض تعبيرات السيد الأستاذ في موارد

__________________

(١) هذا التنظير لا يخلو من إشكال لأن كون الأمر بلحاظ متعلقه بنحو صرف الوجود ليس مستفادا من الإطلاق ومقدمات الحكمة بل بنكتة عقلية على ما هو مقرر في محله. والأولى ان يقال : ان الأوامر المتجددة لو كانت متعلقة جميعا بذات الطبيعة الجامع بين ما وقع وما لم يقع كان محالا على ما تقدم من لزوم طلب الحاصل بل ولاستحالة تعلق أوامر متعددة بشيء واحد وان كان كل واحد منهما متعلقا بغير ما أوقع لزم التقييد في الطبيعة لا محالة وهذه نفس مئونة التقييد التي تنفي بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

٩٧

متفرقة ـ فلا بد ان يلحظ ملاك استحالة تقييد حكم بقيد من القيود فان كان قائما في نفس ثبوت الحكم على المقيد أي عدم صلاحية ذات المقيد لثبوت الحكم فيه نظير استحالة تقييد الحكم بالعاجزين فهذا يوجب استحالة الإطلاق بمعنى شمول الحكم له بالإطلاق أيضا ، وان كان ملاك الاستحالة قائما في عملية التقييد نفسه اما باعتبار ان نتيجة التقييد لزوم المحال أو الاستهجان كما في تقييد الخطابات بالكفار فحسب أو كما في المحذور المبرز في الوجه الأول من وجوه استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر أو باعتبار استحالة نفس عملية التقييد كما في الوجه الثاني من وجوه استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه أعني محذور التهافت فمن الواضح ان استحالته لا يلزم منها استحالة الإطلاق بمعنى شمول الحكم للمقيد بالإطلاق ، لأن المحذور كان في نتيجة التقييد وحبسه على المقيد وهو غير موجود في الإطلاق أو في نفس عملية التقييد وهو أيضا يرتفع بالإطلاق. نعم لو قلنا بان الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود وكان ملاك الاستحالة في نفس لحاظ القيد جعلا ، كما في الوجه الثاني من الوجوه الأربعة كانت استحالة التقييد موجبة لاستحالة الإطلاق أيضا ، لكنك عرفت ان الإطلاق ليس عبارة عن الجمع بين القيود. وبهذا يتضح أيضا ان تطبيق هذه الكبرى بهذا التفسير في المقام لا فائدة فيه لأنه يثبت استحالة الإطلاق بمعنى شمول الحكم للحصة التعبدية وهذا ليس هو المقصود ، بل المقصود نفي التعبدية وشموله للحصة المأتي بها بلا قصد الأمر. نعم كان بالإمكان الاستفادة من هذه الكبرى لإثبات المدعى عن غير طريق استحالة تقييد الأمر بقصد القربة وذلك بان يقال : ان تقييد الأمر بعدم صدور الفعل بداع قربي مستحيل إذ يلزم منه لغوية الأمر اذن فلا يمكن إثبات التوصلية وشمول الحكم للحصة المأتي بها بغير داع قربي وبهذا يتوصل إلى النتيجة من دون حاجة إلى تجشم إثبات استحالة أخذ قصد القربة في متعلق الأمر ، الا انك عرفت ان ملاك هذه الاستحالة أيضا من النوع الثاني ، الّذي لا يكون موجبا لاستحالة الإطلاق كما هو واضح.

واما المعنى الثاني والّذي هو مقصود صاحب هذه المقالة وهو المفيد في المقام حيث انه يراد من استحالة التقييد بقصد القربة إثبات استحالة الإطلاق أي التوصلية فتارة

٩٨

يستدل عليه بان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لأن الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في موضع قابل للتقييد فإذا استحال التقييد في مورد لم يكن موردا للإطلاق أيضا. وأخرى بان التقييد والإطلاق كلاهما فرع مقسمية الطبيعة لواجد القيد وفاقده ، فان لم تكن الطبيعة مقسما استحال أخذ القيد واستحال رفضه ، والطبيعة لا تقبل الانقسام إلى ما يؤتى بها بقصد الأمر وما يؤتى بها لا بقصد الأمر الا في طول الأمر ، ففي المرتبة السابقة على الأمر التي هي مرتبة تعلق الأمر بالطبيعة لا تكون مقسما لهما ، وهذا كلام عام في جميع التقسيمات الثانوية المتأخرة عن الأمر.

وثالثة بتقريب مبني على ان يكون الإطلاق عبارة عن الجمع بين القيود في عالم التصور واللحاظ لأنه عبارة عن إسراء الحكم إلى تمام الحالات بما هي منظورة في عالم اللحاظ ، فإذا فرض ان المحذور في أخذ قصد القربة في متعلق الأمر هو محذور التهافت في اللحاظ لزم استحالة الإطلاق بنفس ملاك استحالة التقييد.

وهذه التقريبات كلها باطلة.

اما الأخير فلان الإطلاق ليس جمعا بين القيود بل رفضها ، ويقتصر على النّظر لذات الطبيعة بخلاف العموم (١).

واما التقريب الثاني فلان ما يكون في طول الأمر إمكان وقوع القسمين لا المقسمية المفهومية فالطبيعة في المرتبة السابقة على الأمر وبقطع النّظر عن الأمر لا يمكن وجود حصتين منها خارجا واما انقسام الطبيعة مفهوما بمعنى مصداقية كل من الحصتين للطبيعة لا بمعنى وجودهما خارجا فهذا ثابت قبل الأمر لأن هذه المصداقية ذاتية وليست في طول الأمر ومناط المقسمية هو مصداقية الحصتين للطبيعة مفهوما لا إمكان الوجود خارجا.

واما التقريب الأول فيمكن ان يورد عليه حلا ونقضا :

اما الحل ـ فلأننا ننكر ان يكون التقابل بين الإطلاق والتقييد من العدم والملكة

__________________

(١) لا يقال ـ ان المحذور في أخذ قصد الأمر ليس هو محذور التهافت في اللحاظ أيضا لإمكان دفعه بافتراق أخذ الجامع بين القصود القربية لأنه يقال ـ بناء على ان الإطلاق جمع بين القيود. يرجع أخذ الجامع بين القصود القربية إلى لحاظ قصد الأمر أيضا فيرجع المحذور.

٩٩

لأن المسألة ليست لغوية كما في شرح مدلول كلمة الأعمي لغة ليرجع إلى اللغة أو العرف ، وانما المسألة واقعية ترتبط بنكتة سريان الطبيعة إلى تمام الافراد ، وقد أشرنا إلى ان هناك مسلكين في ذلك مسلك الإطلاق الذاتي ومسلك الإطلاق اللحاظي ، فعلى الأول يكون مقتضى السريان ذاتيا لا يمكن سلخه عن الطبيعة فيكفي في حصول الإطلاق عدم المانع أي عدم لحاظ القيد الّذي هو نقيض لحاظ القيد فيكون التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب ، وعلى الثاني يكون التقابل بينهما تقابل التضاد لأن كلا من السريان والإطلاق أو التقييد بحاجة إلى لحاظ زائد على الطبيعة فيكونان معا امرين وجوديين ويكون التقابل بينهما تقابل الضدين ولا نتصور فرضا ثالثا لنكتة السريان وإطلاق الطبيعة ليكون التقابل بينه وبين التقييد من تقابل العدم والملكة.

وأما النقض ـ فان هذا المبنى تلزم منه نتيجة غريبة ؛ لأنه كما يكون تقييد الواجب بقصد القربة مستحيلا بحسب الفرض يكون تقييده بالحصة غير القربية أيضا مستحيلا ، إذ يلزم لغوية الأمر كما أشرنا آنفا. فإذا كانت استحالة التقييد مستوجبة لاستحالة الإطلاق لزم بقاء الأمر بشيء مهملا من حيث القربية وعدم القربية ولا ينطبق لا على الحصة القربية ولا غير القربية ، ولا يمكن رفع إهماله إلى الإطلاق بأمر ثان إذا كان مقصود المولى ذلك لأن التقييد بغير داعي الأمر بمتمم الجعل أيضا مستحيل ، إذ يوجب لغوية الأمر فيصبح الإطلاق بمتمم الجعل مستحيلا أيضا لأن الإطلاق يستحيل كلما استحال التقييد بحسب الفرض ولا فرق في ذلك بين الأمر الأول أو متمم الجعل فسوف يبقى مثل هذا الجعل مهملا حتى يرث الله الأرض ومن عليها (١).

__________________

(١) يمكن لصاحب هذه المقالة ان يدفع هذا النقض بوجهين : الأول ان المراد انه كلما استحال التقييد استحال الإطلاق واستحالة تخصيص الأمر بالحصة غير القربية ليست من باب استحالة التقييد بل من باب استحالة أو لغوية جعل الأمر على المقيد وهذه خصوصية في الأمر لا في التقييد فالحاصل : المدعى ان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فكلما استحال التقييد من حيث هو تقييد من قبيل لزوم الدور أو التهافت من نفس عمل التقييد استحال الإطلاق وفي المقام ليست لغوية الأمر بالحصة غير القربية من جهة استحالة التقييد لكي يلزم استحالة الإطلاق. والثاني ـ أن متمم الجعل يمكن ان يكون مطلقا للحصة غير القربية لأن تقييده بالحصة القربية ممكن بحسب الفرض فيرتفع به إهمال الأمر الأول بلحاظ الحصة غير القربية واما إهماله بلحاظ الحصة القربية فيرتفع من باب كونه القدر المتيقن أو المدلول الالتزامي لنفس تعلق الأمر بالفعل بلا حاجة في ذلك إلى الإطلاق.

١٠٠