بحوث في علم الأصول - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

بحوث في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المجمع العلمي للشهيد الصدر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٢

دلالات صيغة الأمر

التعبدي والتوصلي

معاني التعبدي والتوصلي

التوصلي بمعنى سقوط الواجب بفعل الغير

التوصلي بمعنى سقوط الواجب بالحصة غير الاختيارية

التوصل بمعنى سقوط الواجب بالفرد المحظور

التوصلي بمعنى سقوط الواجب بفعله من دون قصد التقرب

إمكان التعبدية بالمعنى الرابع

دلالة الأمر على التوصلية بالمعنى الرابع

مقتضى الأصل العملي عند الشك في التعبدية بالمعنى الرابع

٦١
٦٢

التعبدي والتوصلي

الجهة الرابعة ـ في تحقيق ان مفاد الأمر في الواجبات « التوصلية » أو « التعبدية » وبهذه المناسبة يبحث أولا عن معنى التعبدية والتوصلية.

ومصطلح ( التوصلية ) يمكن ان يطلق على معان عديدة يقابل كل واحد منها معنى للتعبدية وفيما يلي توضيح المعاني التي قد يراد من التوصلية والتعبدية.

١ ـ التوصلي بمعنى ما يسقط ولو بفعل الغير ويقابله التعبدي بمعنى ما لا يسقط الا بفعل الإنسان نفسه مباشرة.

٢ ـ التوصلي بمعنى ما يسقط ولو بالحصة الصادرة عن المكلف اضطرارا وإلجاء ويقابله التعبدي بمعنى ما لا يسقط الا بإتيان المكلف له طوعا واختيارا.

٣ ـ التوصلي بمعنى ما يسقط ولو بإتيانه ضمن فرد محرم وفي قباله التعبدي بمعنى ما لا يسقط الا بإتيانه ضمن فرد لا ينطبق عليه عنوان محرم.

٤ ـ التوصلي بمعنى عدم احتياجه إلى قصد القربة وسقوطه بالإتيان به ولو لا بداع القربة. اما التعبدي فهو ما يحتاج إلى قصد القربة وهذا هو المعنى الذائع للتوصلي والتعبدي.

فيقع الكلام في أصالة التعبدية والتوصلية بكل واحد من هذه المعاني الأربعة

٦٣

ضمن مسائل أربع :

المسألة الأولى ـ ما إذا شك في سقوط الواجب بفعل الغير : فهل مقتضى الأصل هو سقوطه فلا يحتاج إلى إتيان المكلف به بنفسه أو عدم سقوطه فلا بد من إتيانه بنفسه؟.

والبحث وان كان عن مقتضى الإطلاق في الأوامر وهو أصل لفظي الا انه بالمناسبة يبحث أيضا عن مقتضى الأصل العملي فيقع البحث في مقامين :

المقام الأول ـ في ما هو مقتضى إطلاق الأمر والأصل اللفظي. وقد ذكر السيد الأستاذ في المقام ان مقتضى القاعدة عدم السقوط أي التعبدية بالمعنى الأول لأن هذا الشك يرجع إلى الشك في سعة دائرة الوجوب وضيقه ـ إطلاق الهيئة ـ لا سعة دائرة الواجب وضيقه ـ إطلاق المادة ـ لأن فعل الغير باعتباره خارجا عن اختيار المكلف وقدرته لا يكون مشمولا لإطلاق المادة فالشك في سقوط الواجب لا منشأ له الا احتمال تقييد الوجوب أي الهيئة بما إذا لم يفعله الغير فمع الشك يكون مقتضى إطلاق الهيئة عدم السقوط (١).

وفيه : أولا ـ ان فعل الغير أيضا قد يكون مقدورا للمكلف فيما إذا كان يمكنه ان يتسبب إلى صدوره من الغير كما إذا امر ابنه أو استأجره لتنظيف المسجد ففي الموارد التي يمكن للمكلف إلجاء الغير أو إيجاد الداعي في نفسه للفعل يمكن امره بذلك أو إطلاق الأمر له.

وثانيا ـ اننا لو فرضنا ان فعل الغير لم يكن مقدورا له كما في غير موارد التسبيب فهذا لا يوجب عدم الإطلاق في مادة الأمر ومتعلقه ، كيف وقد ذكر السيد الأستاذ بنفسه في المسألة الثانية انه يعقل تعلق الأمر والتكليف بالجامع بين الحصة الاختيارية وغير الاختيارية لأن الجامع بين الحصة الاختيارية وغير الاختيارية اختياري.

فتحصل انه يمكن ان يكون سقوط الواجب بفعل الغير في المقام من باب سعة دائرة الواجب وشموله لفعل الغير مطلقا أو التسبيبي على الأقل فمن ناحية المقدورية لا يمكن المنع عن إطلاق متعلق الأوامر.

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٢ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٤.

٦٤

وانما الصحيح في المنع عن هذا الإطلاق مطلقا أو في الجملة التوجه إلى نكتة أخرى وحاصلها : انه لا إشكال في أخذ نسبة المبدأ إلى الفاعل ( النسبة الصدورية ) تحت الأمر أيضا لأن الأمر أعني النسبة الإرسالية الإنشائية انما تطرأ على النسبة الفعلية الصدورية ومن الواضح انه مع تحقق الفعل من الغير من دون أي استناد وتسبيب للمكلف لا تصدق النسبة الفعلية المأخوذة في متعلق الأمر فيكون مقتضى الأصل حيث لا قرينة على الخلاف عدم السقوط. وهكذا يتضح انه بالنسبة إلى أصل استناد الفعل إلى المكلف مقتضى الأصل التعبدية بالمعنى الأول.

واما خصوصية المباشرة وعدم الاكتفاء بفعل الغير المستند والمتسبب إليه من قبل المكلف ففيه تفصيل بين ما إذا كانت النسبة الفعلية صدورية فقط كما في مثل ( أزل النجاسة أو ابن مسجدا ) فالأصل هو التوصلية وبين ما إذا أخذ فيها إضافة إلى ذلك نسبة الحلول فيه ـ نسبة العرض إلى محله ـ كما في مثل ( صل أو اشرب الماء ) فالأصل التعبدية لأن خصوصية المباشرة لا تصدق حتى مع التسبيب إلى صدور الفعل من الغير.

المقام الثاني ـ في تشخيص مقتضى الأصل العملي في هذه المسألة. والمعروف من قبل المحققين انه الاحتياط اما بتقريب : أنه من الشك في السقوط بعد اليقين باشتغال الذّمّة المستدعي لليقين بالفراغ أو باعتبار التمسك باستصحاب بقاء الوجوب وعدم سقوطه بفعل الغير.

والتحقيق : ان الشك تارة يكون شكا في السقوط بفعل الغير بمعنى احتمال كونه مصداقا للواجب بناء على ما تقدم من معقولية تعلق التكليف بالجامع بين فعله وفعل غيره خصوصا التسببي منه فيكون مرجع الشك في المقام إلى الشك في سعة وضيق دائرة الواجب ومتعلق الوجوب وانه الحصة المباشرة أو الأعم منها ومن فعل الغير. وأخرى يكون الشك في تقييد الوجوب ـ الّذي هو مفاد الهيئة ـ بما إذا لم يأت به الغير مع العلم بان الواجب ـ الّذي هو مفاد المادة ـ خصوص الفعل المباشري.

اما في الفرض الأول من الشك الّذي يكون الشك فيه في الواجب لا في الوجوب

٦٥

فمقتضى الأصل العملي هو البراءة على ما هو المقرر في بحث الدوران بين الأقل والأكثر ، لأن أصل الفعل الجامع بين المباشري وفعل الغير معلوم الوجوب وخصوصية المباشرة مشكوكة فتجري أصالة البراءة عن وجوبها ولا مجال لأصالة الاشتغال ولا الاستصحاب.

واما في الفرض الثاني الّذي يكون الشك في سقوط الوجوب بفعل الغير فلا بد من ملاحظة منشأ احتمال سقوط الوجوب بفعل الغير. ذلك ان الشك في السقوط تارة يكون من جهة احتمال اشتراط الوجوب بعدم فعل الغير بحيث يكون فعله رافعا للوجوب من أول الأمر بنحو الشرط المتأخر. وأخرى يكون مسقطا ورافعا للوجوب بقاء بنحو الشرط المقارن.

اما في الحالة الأولى ، فمقتضى الأصل العملي هو البراءة لا الاشتغال ولا الاستصحاب لكون الشك في ارتفاع الوجوب من أول الأمر.

واما الحالة الثانية ، فينبغي ان يعلم بان سقوط الوجوب بقاء بفعل الغير لا يمكن ان يكون من جهة تحقق الغرض والملاك به لأن هذا يؤدي اما إلى جعل الوجوب على الجامع ، أو تقييده بعدم فعل الغير بنحو الشرط المتأخر. بل لا بد ان يكون اما من جهة احتمال زوال المحبوبية وارتفاعها بفعل الغير أو من جهة ان فعل الغير سبب فوات الملاك بنحو لا يمكن تحصيله بعد ذلك ، فاحتمال السقوط بفعل الغير في هذه الحالة لا بد ان يكون لاحتمال أحد هذين المنشأين. ومقتضى الأصل فيهما معا جريان الاستصحاب دون أصالة الاشتغال. اما الأول ، فلتمامية أركانه وجريانه في الشبهات الحكمية عندنا. واما الثاني ، فلان الشك في الفرض الأول ـ والّذي هو غير وارد في الشرعيات عادة ـ في أصل الملاك والمحبوبية وهو من الشك في أصل التكليف. وفي الفرض الثاني وان كان الشك في العجز عن استيفاء الغرض وهو من الشك في القدرة الّذي يكون مجرى لأصالة الاشتغال ، الا أنه في الفروض الفقهية المتعارفة والتي لا يجب فيها البدار قبل فعل الغير ، أو منع الغير عن إتيان الفعل ، يكون هذا الوجوب بحسب الفرض مما يعذر المكلف في تفويته بدليل ان المولى لم يوجب البدار والإسراع عليه قبل ان يفعله الغير فهذا التفويت على تقدير وجوده تفويت مأذون فيه من قبل المولى ، اذن

٦٦

فحينما صدر الفعل من الغير يشك المكلف في انه لو ترك الفعل هل يكون عمله تفويتا للملاك غير مأذون فيه وذلك لعدم فوت الملاك بفعل الغير ، أو لم يصدر منه الا تفويت مأذون فيه لأنه قد فات الملاك بتأخيره إلى أن فعل الغير وكان تأخيره مأذونا فيه ، وهذا شك في أصل الاذن ومورد للبراءة. نعم لو فرضنا الالتزام فقهيا بأنه على تقدير مفوتية فعل الغير يجب عليه البدار جرت أصالة الاشتغال إذ يعلم المكلف حينئذ بعدم رضا المولى بتفويت الغرض ويشك في قدرته الآن على تحصيله ، وهو من الشك في القدرة على الامتثال الّذي يكون مجرى لأصالة الاشتغال. وقد تحصل بهذا البيان انه في الموارد المتعارفة في الفقه تجري البراءة دائما ، ولا مجال لما ذكروه من أصالة الاشتغال.

المسألة الثانية ـ إذا شك في سقوط الواجب بالحصة غير الاختيارية من فعل المكلف نفسه والبحث فيه أيضا تارة يكون على مستوى الإطلاق والأصل اللفظي وأخرى على مستوى الأصل العملي.

اما الأصل اللفظي ، فلو فرض انه ثبت بقرينة خاصة ان المادة ( متعلق الأمر ) مقيدة بالحصة الاختيارية من الفعل أمكن الرجوع إلى إطلاق الهيئة لإثبات ان وجوب هذه الحصة ثابت حتى إذا وقعت الحصة غير الاختيارية كما انه إذا ثبت إطلاق في المادة ثبت الإجزاء وسقوط الواجب لأن ما وقع يكون مصداقا له لا محالة فلا يبقى أثر للتمسك بإطلاق الهيئة حينئذ. وهذا يعني انه لا بد من ان ينصب البحث على تشخيص إمكان التمسك بإطلاق المادة وعدمه فان أمكن ثبت السقوط والا أمكن التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات عدم السقوط على ما سوف يأتي الحديث عنه.

ولا ينبغي الإشكال ان مقتضى الإطلاق اللفظي للمادة هو الاجتزاء بالحصة غير الاختيارية من الفعل أيضا فلا بد لمن يمنع هذا الإطلاق من إبراز مقيد له ، ويمكن ان يقرر بأحد وجوه :

الأول ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من ان ظاهر الأمر انه بداعي الباعثية والمحركية أي من أجل إيجاد الداعي في نفس المكلف ، وحيث يستحيل التحريك نحو غير المقدور يكون هذا الظهور الحالي مقيدا لبيا متصلا بالخطاب يقيد متعلقه بالحصة

٦٧

المقدورة بالخصوص (١). وليس نظر المحقق النائيني ( قده ) إلى المدلول التصوري للأوامر حتى يتوهم ابتناء هذا الوجه على مسلك دلالة الأمر وضعا على النسبة الإرسالية بل نظره إلى المدلول التصديقي للأمر ابتداء الّذي هو الاعتبار أو الطلب أو أي شيء آخر فان هذا المدلول لا محالة يكون بداعي التحريك وليس مجرد لقلقة اعتبار أو إنشاء. وداعي التحريك لا يكون الا نحو الفعل المقدور.

والصحيح في الجواب ان يقال : ان الجامع بين الحصة غير الاختيارية والحصة الاختيارية مقدور واختياري فتعلق الأمر بالجامع لا ينافي داعي التحريك والباعثية كما هو واضح ، نعم لو ادعي الإرجاع للتخيير العقلي إلى التخيير الشرعي وانحلاله إلى الأمر بكل فرد مشروطا بترك ساير الافراد لزم الإشكال في المقام إلاّ ان الصحيح المحقق في محله عدم رجوع التخيير العقلي إلى ذلك وانه ليس هناك الا امر واحد بالطبيعة على نحو صرف الوجود.

الثاني ـ ما ذكره السيد الأستاذ في المقام من انه على مبنى كون التقابل بين الإطلاق والتقييد من العدم والملكة وانه إذا استحال التقييد استحال الإطلاق لا يتم إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية لأنه يستحيل تقييدها بذلك فيستحيل إطلاقها لها أيضا (٢).

وفيه : ان هذا الكلام لم يكن مناسبا للسيد الأستاذ فان الإطلاق المطلوب في المقام انما هو الإطلاق في مقابل التقييد بالحصة الاختيارية لأن إطلاق الطبيعة لحصة عبارة عن عدم تقييدها بما يقابل تلك الحصة لا عدم تقييدها بتلك الحصة وفي المقام تقييد المادة بالحصة الاختيارية ممكن كما هو واضح ، فلا بد وان يكون إطلاقها المستلزم لانطباقها على الحصة غير الاختيارية ممكنا أيضا.

الثالث ـ المنع عن إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية باعتبار اللغوية بعد عدم إمكان الانبعاث نحوها.

وفيه : انه يكفي في الإجابة على مثل هذا الإشكال ان فائدة الإطلاق انه لو وقع

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٢.

(٢) المحاضرات ، ج ٢ ، ص ١٥٠.

٦٨

اتفاقا الحصة غير الاختيارية خارجا أمكن للمكلف ان يجتزئ بها.

وهكذا يتضح : انه لا مانع من التمسك بإطلاق المادة للحصة غير الاختيارية من الواجب فيكون مقتضى الأصل اللفظي التوصلية بهذا المعنى.

وربما يقال : بإمكان إثبات الوصلية بهذا المعنى حتى إذا منعنا عن إطلاق المادة بالوجوه المتقدمة وذلك لأحد امرين :

الأول ـ التمسك بإطلاق المادة للحصة غير الاختيارية بلحاظ الملاك وان منع عن التمسك بها بلحاظ الخطاب فان المادة لها محمولان أحدهما الخطاب والثاني الملاك فلو فرض سقوط الأول لم يكن مانع من التمسك بالثاني نظير ما قد يقال في باب التزاحم من إمكان إثبات الاجتزاء بالضد المهم المزاحم بالأهم بناء على استحالة الترتب عن طريق التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك ، وان سقط إطلاقها بلحاظ الخطاب بسبب المزاحمة بالأهم. وقد جعل السيد الأستاذ هذا البيان نقضا على الميرزا « قده » الّذي صحح التمسك بإطلاق المادة في بحث الترتب ومنعه في المقام.

والصحيح هو بطلان التمسك بإطلاق المادة بلحاظ الملاك في المقامين معا ومع ذلك لا يصح النقض المذكور من قبل السيد الأستاذ على المحقق النائيني.

اما عدم صحة التمسك بإطلاق المادة فمن جهة ان الدلالة على الملاك دلالة التزامية في طول الدلالة على أصل التكليف ذاتا وحجية فإذا سقطت الدلالة الأولى بمقيد متصل أو منفصل سقطت الثانية ذاتا في الأول وحجية في الثانية.

واما عدم ورود النقض على النائيني فلأنه بناء على مبناه القائل بعدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية يمكن هذا التفصيل على أساس أحد ملاكين.

الأول ـ ان المقيد لإطلاق المادة بلحاظ الخطاب في المقام وهو الظهور الحالي في ان الجعل بداعي المحركية والباعثية متصل بالمادة فيمنع عن أصل انعقاد الإطلاق في المادة بلحاظ الخطاب ومعه لا ينعقد إطلاقها بلحاظ الملاك أيضا وهذا بخلاف باب التزاحم بناء على استحالة الترتب وسقوط الإطلاق في مادة الأمر المهم فان هذا السقوط انما يكون باعتبار المعارضة مع الأمر الآخر المقدم عليه بالأهمية وهذا مخصص منفصل لا يسقط إطلاق المادة في الأمر الآخر ذاتا بل حجية والمفروض عند هذه

٦٩

الطبقة من المحققين عدم التبعية بين الدلالتين في الحجية.

الثاني ـ لو سلم انعقاد إطلاق المادة في المقام للحصة غير الاختيارية بلحاظ الملاك بعد سقوط إطلاقها بلحاظ الخطاب فهذا الإطلاق معارض مع إطلاق الهيئة المقتضي لعدم تحقق الامتثال الا بالحصة الاختيارية التي هي متعلق الوجوب بحسب الفرض.

وهذا بخلاف موارد التزاحم الّذي يكون فيه الأمر المهم ساقطا على كل حال.

الملاك الثاني ـ انه وان لم يكن الأصل اللفظي مقتضيا للاجزاء والسقوط لكنه لا يقتضي أيضا عدم السقوط لأن منشأ ذلك هو التمسك بإطلاق الهيئة بعد عدم إطلاق في المادة الا ان هذا الإطلاق أعني إطلاق الهيئة كان متصلا بالمادة وكان إطلاق المادة لحصة مانعا من انعقاده ورافعا له. وحينئذ لو غضضنا النّظر عن برهان المحقق النائيني المقتضي لتقييد المادة بالحصة الاختيارية لكان إطلاق المادة للحصة غير الاختيارية هادما لظهور الهيئة في الإطلاق لما بعد حصول الحصة غير الاختيارية ولكن جاء البرهان المقيد للطبيعة بالحصة الاختيارية فان فرضنا هذا البرهان حكما عقليا بديهيا كالمتصل انهدم بذلك الظهور الإطلاق في المادة فلم يبق مانع عن انعقاد الظهور الإطلاقي في الهيئة واما إذا فرضناه برهانا نظريا ومقيدا منفصلا اذن فقد انعقد إطلاق للمادة وكان هادما لإطلاق الهيئة فلم ينعقد للهيئة إطلاق من أول الأمر ، غاية الأمر انه سقطت حجية إطلاق المادة بعد ذلك بمقيد منفصل وهذا لا يوجب انعقاد إطلاق الهيئة من جديد. وهذا إشكال يستفاد من بعض تحقيقات المحقق العراقي ( قده ).

ولكنه ليس بشيء وذلك :

أولا ـ لأن المدعى عند القائل بسقوط إطلاق المادة كالمحقق النائيني ( قده ) ان المقيد قرينة لبية متصلة وهي ظهور كل خطاب في ان المولى يريد به جعل الداعي والباعث نحو الفعل مع بداهة استحالة التحريك نحو غير المقدور.

ثانيا ـ النقض بسائر موارد التقييد كما إذا أمر بالغسل مثلا وورد في دليل منفصل اشتراط كون الماء مباحا أو غير ذلك من الشروط غير الدخيلة في المسمى وصدق عنوان

__________________

(١) لم سلم اطلاق المادة لا ثبات الملاك كان حاكماً على اطلاق الهيئة كاطلاق المادة نفسها فان مدلول الهيئة مقيد لباً بعدم تحقق الملاك وحصوله خارجاً.

٧٠

الواجب فهل يوجب ذلك الاجتزاء بما إذ جاء المكلف بالواجب الفاقد للقيد وعدم إمكان التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات الوجوب.

ثالثا ـ ان دعوى تقيد الهيئة بالمادة غير صحيحة من أساسها فان الشيء الواجب لا تسقط فعلية وجوبه بالإتيان به وانما تسقط فاعلية الوجوب وتأثيره وتفصيل ذلك موكول إلى محله.

رابعا ـ ان من يرى تقيد الهيئة له ان يجعل القيد عدم الامتثال لا مفاد المادة بخصوصه لأن نكتة هذا التقييد هو حكم العقل مثلا بذلك وهو لا يرى التقييد الا بهذا المقدار ويكون إطلاق المادة أو دليل التقييد محققا لموضوع الامتثال أو نافيا له. ويبقى التقييد بعدم الامتثال تقييدا واحدا لا يزيد ولا ينقص.

المقام الثاني ـ في الأصل العملي وهو في هذه المسألة نفس ما تقدم في المسألة الأولى فانه إذا لم يعلم بتعلق الوجوب بالحصة الاختيارية بالخصوص جرت البراءة عن الخصوصية ولو علم بذلك وشك في تقيد الوجوب فان احتمل التقييد بنحو الشرط المتأخر جرت البراءة أيضا وان كان احتمال ذلك بنحو الشرط المقارن جرى الاستصحاب ان قلنا به في الشبهات الحكمية والا فالبراءة في الفروض الفقهية المتعارفة كما تقدم.

المسألة الثالثة ـ إذا شك في سقوط الوجوب بالحصة المحرمة من مصاديق الواجب والبحث هنا في مقامين أيضا.

المقام الأول ـ في مقتضى الأصل اللفظي.

ولا شك في ان الحرمة لو كانت متعلقة بنفس العنوان الواجب كما إذا وجب الغسل بعنوانه وحرم الغسل بعنوانه المقيد بماء دجلة مثلا فإطلاق المادة لا يشمل الحصة المحرمة حتى بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي إذ من يقول بالجواز انما يقول به فيما إذا كانا بعنوانين متباينين مفهوما كالغصب والصلاة.

ولو كانت الحرمة بعنوان آخر دخل في مسألة الاجتماع فان قيل بالامتناع لم يشمل إطلاق المادة للحصة المحرمة فيتمسك بإطلاق الهيئة لإثبات عدم الاجتزاء.

وان قيل بالجواز أمكن التمسك بإطلاق المادة لإثبات الاجتزاء.

٧١

الا ان المحقق النائيني والسيد الأستاذ بنيا هذه المسألة على : اشتراط الحسن الفاعلي في الواجب مضافا إلى حسنه الفعلي وعدمه؟ فعلى الأول لا يحصل الاجتزاء لأن الفعل وان كان مصداقا للواجب والحرام بناء على الجواز الا انهما موجودان بفاعلية واحدة وإيجاد واحد فليس له حسن فاعلي ، وعلى الثاني لا بأس بإطلاق المادة. ثم اختلفا فاعتبر المحقق النائيني ( قده ) الحسن الفاعلي في الواجب وأنكره السيد الأستاذ (١).

والصحيح انه حتى إذا اشترطنا الحسن الفاعلي صح التمسك بإطلاق المادة بناء على الجواز ، لأن القائل بالجواز إذا قال به على أساس دعوى تعدد الوجود فما يكون متعددا وجودا يكون متعددا إيجادا وفاعلية لا محالة فيكون الحسن الفاعلي محفوظا ، وإذا قال به على أساس ان الوجود الواحد اجتمع فيه حسن وقبح وحرمة ووجوب من جهتين اذن فلتكن الفاعلية الواحدة أيضا مجمعا للحسن والقبح في وقت واحد من جهتين.

المقام الثاني ـ في الأصل العملي. والشك هنا يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر سواء قيل بامتناع الاجتماع أو بالجواز. اما على الجواز فواضح لأنه يعلم بتعلق الوجوب الجامع بين الحصتين ويشك في التقييد بخصوصية الحصة المحللة فتجري البراءة ، واما على الامتناع فقد يقال : ان الشك حينئذ شك في المسقط لأن تعلق الوجوب بالجامع مستحيل بحسب الفرض غاية الأمر يشك في تقييد الوجوب بعدم الإتيانبالحصة المحرمة وعدمه فيكون شكا في المسقط فيجري فيه ما مضى في المسألتين المتقدمتين في فرض الشك في المسقط.

ولكن التحقيق ان يقال ـ ان امتناع الاجتماع وإطلاق المادة تارة يكون لنكتة ثبوتية وهو اجتماع الضدين مثلا وأخرى لنكتة إثباتية ، اما على الأول فالشك في المسقط كما ذكر ، وأما على الثاني بان يكون تعلق الوجوب والحرمة بالعنوانين ممكنا غاية الأمر ان دليل الأمر البدلي حيث انه ظاهر في جواز تطبيق الواجب على كل حصة من الحصص حتى المحرمة ينافي دليل الحرمة ، فالشك ليس شكا في المسقط بل

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٢.

٧٢

يحتمل ان يكون الوجوب ثبوتا متعلقا بالجامع فيكون من الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

المسألة الرابعة ـ في التعبدي والتوصلي بالمعنى الرابع الّذي هو المعنى المشهور. بمعنى ما يعتبر في مقام الفراغ عن عهدته قصد القربة وما لا يعتبر فيه ذلك. وقبل الدخول في البحث عن مقتضى الأصل في ذلك ينبغي البحث مقدمة في حدود الفارق بين التعبدي والتوصلي بهذا المعنى. وبهذا الصدد تُذكر وجوه عديدة لتصوير الفرق بين التعبدي والتوصلي يجمعها ما ذكرناه من اعتبار قصد القربة في الخروج عن عهدة التكليف وعدمه ، فهذا المعنى الإجمالي محفوظ على كل حال ، ولكن نتكلم في تحديد ذلك وتفصيله ضمن نقاط :

النقطة الأولى ـ ان يراد من اعتبار قصد القربة أخذ قصد القربة في متعلق الأمر وقد ذهب مشهور المحققين المتأخرين إلى استحالة ذلك والكلام يقع أولا في إمكان أخذ قصد القربة بمعنى قصد امتثال الأمر في متعلقه. وثانيا ـ في أخذ سائر القصود القريبة كقصد الملاك أو المحبوبية في متعلق الأمر فالكلام في مقامين :

اما فيما يتعلق بأخذ قصد الأمر في متعلقه فقد ذكر عدة وجوه لاستحالته نستعرض فيما يلي أهمها :

الأول ـ ما هو ظاهر عبائر الكفاية من انه يستحيل ذلك لأن ما لا يكاد يتأتى الا من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلقه (١) وكأن مقصوده لزوم الدور والتهافت ، لأن قصد الأمر بالطبع متأخر رتبة عن الأمر إذ لا يعقل وجوده الا بعد فرض امر ، فلو كان مأخوذا في متعلقه لزم كونه بلحاظ آخر أسبق رتبة من الأمر لأن متعلق الأمر أسبق منه اما رتبة إذا افترضنا ان الأمر ومتعلقه بالذات موجودان بوجودين يعرض أحدهما على الآخر أو طبعا إذا قيل بأنهما موجودان بوجود واحد كما هو الصحيح فيكون على حد تأخر الإنسان عن زيد أو الحيوان عن الناطق ، وعلى كل حال يلزم التهافت في الرتبة.

وكأن المحقق العراقي ( قده ) حاول ان يدفع هذا الوجه للاستحالة حينما قال بأن

__________________

(١) كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٩.

٧٣

هذا الإشكال هو الإشكال الوارد في موارد عديدة من قبيل حجية الخبر مع الواسطة حيث يقال ان دليل جعل الحجية هو الّذي جعل خبر الواسطة حجة وهذه الحجية أثر شرعي للخبر المباشر يجعله بدوره موضوعا للحجية نفسها فكيف يمكن لدليل الحجية ان يشمل الأثر الّذي لا يكاد يتأتى الا من قبله فان هذا متهافت بحسب الرتبة. والجواب عن ذلك واحد في الموردين وحاصله : انه يثبت بالدليل حكمان طوليان أحدهما حجية الخبر الواسطة وهو الّذي يحقق موضوع الحكم الآخر وهو حجية الخبر المباشر فالحجية التي تحقق الموضوع غير الحجية التي تكون للخبر المباشر. ولا بأس ان يكون كل ذلك بجعل واحد أخذ في موضوعه طبيعي الأثر الشرعي. وكذلك في المقام بالجعل الواحد يثبت أولا امر ضمني بذات الصلاة وهذا لم يؤخذ في موضوعه امر آخر وهناك أمر ضمني آخر بقصد الأمر يكون الأمر الضمني الأول محققا لموضوعه ولا بأس ان يتحقق ذلك كله بجعل واحد (١).

ويرد عليه : أنه ان أريد تصوير أخذ قصد الأمر في موضوع شخصه بنحو لا يكون هناك أكثر من امر واحد فتطبيق ما ذكر في باب حجية الخبر مع الواسطة عليه غير معقول ، لأن الحكم بالحجية في باب الاخبار وان كان واحدا بلحاظ عالم الجعل وكذلك بلحاظ المجعول بالذات فانه أيضا واحد ، لكنه ينحل بلحاظ عالم الفعلية والمجعول إلى أحكام عديدة مستقلة فيعقل ان يحقق أحدها موضوع الآخر ، واما فيما نحن فيه فالامر الضمني بالصلاة مع الأمر الضمني بقصد الأمر كلاهما ضمنيان بلحاظ عالم الجعل والمجعول معا فلا يعقل ان يكون أحدهما مأخوذا في موضوع الآخر لأن هذا خلف الضمنية كما هو واضح وبعبارة أخرى ، الأوامر الضمنية يكون موضوعها جميعا واحدا فلا يعقل ان يكون موضوع أحدها غير موضوع الآخر أو في طوله.

وان أريد تصوير امرين طوليين استقلاليين غاية الأمر انهما مجعولان بجعل واحد وذلك عن طريق تصوير جامع كجامع الأثر الشرعي في باب ( صدق العادل ) فهذا لو فرض إمكانه في المقام بأن يشير المولى مثلا إلى مجموعة الاجزاء والشرائط بما فيها قصد

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٧٧.

٧٤

الأمر ويأمر ـ بنحو مطلق الوجود ـ بكل ما هو مقدور منها فتجب سائر الاجزاء والشرائط بالقدرة التكوينية ويجب قصد الأمر في طول وجوب تلك الاجزاء والشرائط فهذا مضافا إلى انه مجرد فرض وخلاف ما هو واقع في أدلة الأوامر العبادية إثباتا خلاف ما هو الغرض من التمسك بأصالة التوصلية أو التعبدية في مدلول الأوامر المتعلقة بفعل من الأفعال كما أن هذا إذا كان معقولا من خلال جعل واحد وإنشاء واحد للأمر على عنوان مشير من قبيل ما ذكر يؤدي إلى ان يكون هنا امران في مرحلة المجعول أو أوامر متعددة استقلالية لا امر واحد جعلا أو مجعولا أخذ في متعلقه قصد الأمر كما هو المطلوب في هذه النقطة.

والصحيح في الجواب على هذا الوجه بالمقدار المذكور أن المتأخر غير المتقدم فان قصد امتثال الأمر وجوده في الخارج يتوقف على الأمر والأمر يتوقف على الوجود الذهني والعنواني لقصد الأمر في أفق ذهن الحاكم فلا تهافت ..

الثاني ـ ان يقال ان قصد امتثال الأمر إذا أخذ في متعلق الأمر لزم الدور إذ كل امر مشروط بالقدرة على متعلقه فهو متأخر عن القدرة على متعلقه تأخر المشروط عن شرطه ، فلو فرض انه أخذ في متعلقه قصد الأمر كان الأمر متوقفا على نفسه لأن الأمر متوقف على القدرة والقدرة متوقفة على الأمر وهذا دور محال.

ويرد هذا الوجه بهذا المقدار بأن دليل شرطية القدرة في الأمر هو حكم العقل وهو لا يشترط أكثر من القدرة اللولائية أي القدرة لو تعلق الأمر لا القدرة الفعلية والقدرة اللولائية حاصلة في المقام لأنه لو تعلق الأمر كان قصد الأمر مقدورا وهذه قضية صادقة حتى قبل تعلق الأمر لأن صدق الشرطية لا تستلزم صدق طرفيها وهذا الّذي ذكرناه غير ما يقال من ان الأمر يشترط فيه القدرة وقت العمل لا حينه فان هذا المقدار غير كاف لدفع غائلة الدور لأن القدرة وقت العمل أيضا متوقفة على الأمر فالصحيح ما ذكرناه من كفاية القدرة اللولائية لأن العقل لا يأبى عن تكليف العاجز إذا كان نفس التكليف رافعا لعجزه وموجبا لقدرته.

الثالث ـ ان الأمر إذا تعلق بالفعل بقصد الأمر أصبح المكلف عاجزا عن الفعل بقصد امتثال الأمر لأن ذات الفعل غير متعلق للأمر فكيف يمكن ان يأتي به بقصد

٧٥

الأمر ؛ إذ الأمر لا يدعو الا إلى ما تعلق به وهو المركب لا خصوص ذات الفعل ، وعليه فمثل هذا الأمر تكليف بغير المقدور.

وقد أجاب مشهور المحققين على هذا البرهان بأن ذات الفعل أيضا مأمور به بالأمر الضمني فلا بأس بالإتيان به بقصد امره الضمني لأنه بنفس هذا القصد يتحقق الجزء الآخر من الواجب فيتحقق الامتثال وليس حاله حال سائر الموارد التي لا يمكن فيها قصد الأمر الضمني وان شئت قلت : ان الأمر إذا تعلق بشيء مركب ، وكان للإنسان داع إلى أحد جزئيه فقد يدعوه ذلك الأمر إلى الجزء الآخر ولو فرض عدم داعويته إلى الكل. مثلا لو كان مطلوب المولى هو ان يسافر إلى الهند ويقوم بفعل معين هناك فقد لا يكون هذا محركا للعبد إلى السفر إلى الهند والقيام بذلك العمل لكن إذا صار له بأي وجه من الوجوه داع على الرواح إلى الهند قد يدعوه الأمر المتعلق بالمركب إلى ان يفعل ذلك الفعل المعين وليس معنى داعوية الأمر الضمني في الحقيقة الا داعوية الأمر الاستقلالي إلى جزء من اجزاء الواجب.

وبهذا يعرف انه لا وجه للاستشكال على هذا الجواب المشهور. بأن انحلال الأمر الواحد إلى أوامر ضمنية غير صحيح إذ لا يوجد لنا الا أمر واحد جعلا ومجعولا فافتراض الانحلال إلى أوامر خلف الوحدة في عالم الجعل والمجعول. فان المقصود من داعوية الأمر الضمني كما عرفت ليس الا داعوية الأمر الاستقلالي إلى جزء من اجزاء متعلقة على ان القائل بالانحلال لا يقول بتعدد حصص الأمر والوجوب بلحاظ أفق الاعتبار والجعل بل بلحاظ محكي الصورة الذهنية والتي بلحاظها يتعلق الشوق والأمر والاعتبار بالعناوين فانه بهذا اللحاظ يرى أن للأمر تبعا لمتعلقه حصصا ينبسط بها وينحل إليها.

وقد يستشكل أيضا بان هذا الأمر الضمني الّذي يقصد امتثاله والّذي فرض انه متعلق بذات الصلاة هل يتعلق بالصلاة المطلقة أو يتعلق بالصلاة المقيدة أو يتعلق بالصلاة المهملة؟ أما الأول فهو خلف قانون الارتباط واما الثاني فهو يستلزم التسلسل لأن المقيد أيضا منحل إلى ذات المقيد والتقيد فينقل الكلام إلى الأمر بذات المقيد الضمني ، واما الثالث فالإهمال في المقام وان كان معقولا وليس محالا لأن المركب المأمور به ليس مهملا ومجهولا على الجاعل ثبوتا الا انه يرد عليه ان المهملة في قوة

٧٦

الجزئية فيعود الإشكال لأن قصد الأمر بذات الصلاة انما يمكن إذا أحرز انطباق المأمور به عليها والواجب المهمل لا يحرز انطباقه على ذات الصلاة. وفيه :

أولا ـ ان الصحيح على ما بيناه في بحث المطلق والمقيد ان الأمر بذات الطبيعة المهملة في قوة المطلقة لا الجزئية وقد سميناه بالإطلاق الذاتي فان المهملة انما تكون في قوة الجزئية في القضايا التصديقية واما الطبيعة المهملة فهي في قوة المطلقة دائما. وقلنا هناك ان مقدمات الحكمة دائما تثبت هذه الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلق والمقيد المقسمي ، وهذا لا يلزم منه خرق قانون الضمنية والارتباط لأن هذا انما يلزم لو قلنا بالإطلاق اللحاظي بان نقول الواجب هو الركوع سواء سجدت أم لا فبهذا يرفض دخل القيد فينافي الضمنية.

وثانيا ـ بما تقدم في معنى قصد الأمر الضمني من انه يرجع إلى قصد الأمر الاستقلالي فانه يدعو إلى اجزاء المأمور به.

بل أصل دعوى أن الأمر لا يدعوا الا إلى متعلقه فلا يمكن الإتيان بغير متعلقه مع قصد الأمر ، غير صحيح فان الأمر يدعو إلى ما هو خارج عن متعلقه أيضا كالمقدمات فانه يمكن ان يأتي بها الإنسان بقصد امتثال أمر بذي المقدمة فان الأمر بشيء يدعو إلى كل ما لا يتم الواجب الا به فكل هذا الكلام لإثبات الاستحالة زوبعة في فنجان نشأ من تخيل انه لا بد من فرض تعلق الأمر بالدقة بما يؤتى به بقصد الامتثال.

الرابع ـ ما أفاده المحقق النائيني ( قده ) لإثبات الاستحالة وهو أجود ما أفيد وحاصله لزوم الدور لكن لا بلحاظ متعلق الأمر كما في الوجه الأول بل بلحاظ متعلق المتعلق المصطلح عليه عند المحقق النائيني بالموضوع وتوضيح هذا الوجه يكون من خلال مقدمتين.

المقدمة الأولى ـ ان الأحكام الشرعية لها متعلقات وهي الأفعال التي يكون الحكم الشرعي مقتضيا لإيجادها أو الزجر عنها كالصلاة في صل وشرب الخمر في لا تشرب الخمر ، ومتعلق المتعلقات وهي الأشياء الخارجية التي يتعلق بها المتعلق الأول كالقبلة والوقت في الصلاة والخمر في لا تشرب الخمر والعقد في أوفوا بالعقود. وهذا ما يسمى بالموضوع ، والموضوع يؤخذ دائما قيدا للحكم ، وحيث ان الجعول تكون

٧٧

على غرار القضايا الحقيقة فالموضوع للحكم المجعول يؤخذ دائما مفروض الوجود على نهج القضية الشرطية أي إذا وجد وقت فصل وإذا وجد عقد أوف به ، ونتيجة ذلك ان الحكم في فعليته تابع لفعلية موضوعه لأن المشروط عدم عند عدم شرطه ، وبهذا يكون وجود الموضوع جعلا ومجعولا متقدما على وجود الحكم ، اما في المجعول الّذي هو الحكم الفعلي فلما بيناه من ان فعلية الحكم المجعول فرع فعلية الموضوع واما في عالم الجعل فلان الجاعل يرى في أفق جعله إناطة مجعوله بتحقق الموضوع فهو يرى الحكم متأخرا عن موضوعه.

المقدمة الثانية ـ تطبيق ما أفيد على ما نحن فيه فانه إذا أمر بقصد الأمر كان الأمر نفسه متعلقا للمتعلق أي موضوعا للأمر ، فلا بدّ ان يؤخذ على حد سائر الموضوعات مفروض الوجود في مقام الجعل ، فيرجع قوله ( صل مع قصد الأمر ) إلى انه ( ان وجد امر فصل مع قصده ) وهذا يلزم منه التهافت والدور في عالمي الجعل والفعلية معا.

واما في عالم الفعلية فلان فعلية الأمر سوف تكون متوقفة على فعلية موضوعه الّذي هو الأمر نفسه.

واما في عالم الجعل فلان المولى سوف يرى في أفق جعله بالنظر التصوري بان حكمه كان بعد الفراغ عن موضوعه ومتقدما عليه فيرى امره متقدما على امره وهو تهافت في اللحاظ ومحال (١).

وقد أجاب عن هذا البرهان السيد الأستاذ ( دام ظله ) بما يرجع إلى إنكار المقدمة الأولى إذ لا برهان على لزوم أخذ متعلقات المتعلق موضوعا للحكم ومفروغا عنه في رتبة سابقة على الحكم الا أحد ملاكين أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي ، اما الملاك الإثباتي فهو ان يكون لسان الدليل ظاهرا ولو عرفا في أخذ متعلق المتعلق بنحو مفروغ عنه كما في قوله تعالى « ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ». ومن قبيل « أوفوا بالعقود » المستظهر منه عرفا ان العقد مأخوذ بنحو مفروغ عنه وانه من مقدمات وجوب الوفاء وليس من مقدمات الواجب والا لوجب إيجاد عقد للوفاء به

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ١٠٦ ـ ١٠٨.

٧٨

واما الملاك الثبوتي فهو ان يكون متعلق المتعلق خارجا عن اختيار المكلف من قبيل الوقت والقبلة فانه إذا لم يؤخذ مثل ذلك مفروغا عنه وقيدا للحكم لزم من إطلاق الأمر لزوم تحصيله وهو تكليف بغير مقدور فقوله ( صل في الزوال ) ان لم يؤخذ الزوال قيدا لوجوب الصلاة كان معناه وجوب الصلاة في الزوال حتى قبل تحقق الزوال وهو غير مقدور للمكلف فلا بد من ان يؤخذ ذلك قيدا للحكم.

واما إذا لم يوجد شيء من الملاكين فلا موجب لأخذ متعلق المتعلق مفروض الوجود ، بل يكون التكليف مطلقا من ناحيته.

وفي المقام قيد الأمر الّذي يقع متعلقا للمتعلق من هذا القبيل أي لا يتم فيه شيء من الملاكين للتقييد. اما الملاك الإثباتي فواضح واما الثبوتي فلان الأمر وان كان غير اختياري للمكلف ولكنه حيث انه يوجد بنفس خطاب الأمر فلا موجب لتقييد الخطاب به ، وان شئت قلت : ان الملاك الثبوتي راجع بحسب الحقيقة إلى تقيد الخطاب بالقدرة والقدرة التي تشترط في التكليف كما تقدم في رد الوجه الثاني هي القدرة اللولائية الصادقة قبل تحقق الأمر وفعليته وعليه فلا يلزم ان يؤخذ الأمر قيدا وشرطا في المقام حتى يلزم التهافت أو الدور لا في عالم الجعل ولا في عالم المجعول (١).

والتحقيق هو استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه لوجوه يمكن ان نجعل بعضها تتميما وتعميقا لبعض الوجوه المتقدمة.

الوجه الأول ـ ما يمكن ان يجعل تتميما أو تنقيحا لما أفاده المحقق النائيني ( قده ) بحيث يدفع إيراد السيد الأستاذ عليه وحاصله : ان وجود الأمر وحده لا يكفي في القدرة على قصد الأمر بل لا بد إضافة إلى ذلك من وصوله ولو بأدنى مراتب الوصول وهو الاحتمال إذ لولاه لما تأتى من المكلف قصد الأمر الا بنحو التشريع المحرم والقبيح ، ووصول الأمر أمر غير اختياري ـ ولو في بعض الحالات ـ ولا يكون مجرد ثبوت الأمر متكفلا لحصوله خصوصا وان الخطابات مجعولة على نهج القضايا الحقيقة فلا بد من أخذه قيدا في الأمر وشرطا مفروغا عنه ـ وهذا هو الملاك الثبوتي الّذي اعترف به السيد

__________________

(١) هامش المصدر السابق.

٧٩

الأستاذ ـ وحينئذ نضم إلى ذلك ما تنقح في بحث القطع من استحالة أخذ وصول الحكم في موضوع شخصه ولا يكفي في المقام ان يؤخذ وصول الحكم بمعنى الجعل أو إبرازه في موضوع شخصه لأن قصد الأمر متوقف على وصول الحكم الفعلي إلى المكلف ولو بأدنى مراتب الوصول ولا يفيد فيه وصول الحكم بمعنى الجعل أو الإبراز.

وبهذا يتبرهن استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق نفسه على أساس لزوم التهافت والدور الّذي أفاده المحقق النائيني ( قده ) غاية الفرق انه كان يقرر ذلك بلحاظ أخذ الأمر في موضوع نفسه ونحن نقرره بلحاظ أخذ وصول الأمر في موضوع نفسه (١).

الوجه الثاني ـ ما يمكن ان يجعل تتميما للوجه الأول من الوجوه المتقدمة الّذي كان يبرهن على الاستحالة بملاك التهافت وأن قصد الأمر لا يكاد يتأتى الا من قبل الأمر فكيف يمكن ان يؤخذ في متعلقه بحيث يتوقف عليه الأمر وقد أجبنا عليه فيما مضى بأن الأمر لا يتوقف على واقع قصد الأمر ولا يعرض عليه حقيقة بل يعرض على عنوان قصد الأمر ووجوده في أفق ذهن الآمر فلا تهافت.

__________________

(١) يمكن الإشكال في هذا البرهان أيضا نقضا وحلا وقبل بيانهما لا بد من تبيين مقدمة حاصلها : ان وجه شرطية القدرة في التكاليف والخطابات هو الاستظهار العرفي. الّذي أبرزه المحقق النائيني ( قده ) من ان ظاهر كل تكليف انه مجعول بغرض الباعثية والمحركية وهي غير معقولة في موارد العجز وعدم القدرة فتكون هذه قرينة لبية متصلة بأدلة التكاليف ومقيدة لإطلاقاتها في موارد العجز وعدم القدرة والا فالعقل لا يأبى ان يكون التكليف بمعنى الاعتبار كالملاك مطلقا شاملا لموارد العجز أيضا.

وعندئذ نقول يرد على هذا البرهان.

أولا ـ النقض بسائر موارد الجهل المركب وعدم وصول التكاليف ولو احتمالا سواء كان امتثالها متوقفا على العلم بها أم لا فانه لو فرض إطلاق التكليف فيها لزم نفس محذور إطلاق التكليف لحالة العجز وهو انه تكليف فعلي مع عدم إمكان الباعثية والمحركية من ناحيته وان قيد بغرض وصوله لزم أخذ الوصول في موضوع التكليف وهو محال وتصويب.

وثانيا ـ الحل وهو اننا نلتزم بإطلاق التكاليف في موارد الجهل المركب وكذلك في المقام وعدم تقيدها بوصولها ولا يلزم منه محذور فعلية التكليف في مورد لا يمكن ان يكون باعثا ومحركا لأن موارد عدم المحركية والباعثية التي يستظهر العرف عدم إطلاق التكليف وشموله لها انما هو عدم المحركية التي لا ترتبط بجعل التكليف نفسه كما في العجز التكويني كالمشلول. واما عدم المحركية الناجمة من عدم وصول التكليف والّذي يرتفع بنفس جعل التكليف ( سواء كان عدم المحركية الّذي يرتفع في طول جعل التكليف من جهة كون المكلف جاهلا وفي طول جعل التكليف يطلع عليه طبيعة أو من جهة عدم القدرة على تحقيق متعلقه الناشئ من الجهل بالتكليف فانه أيضا يرتفع في طول التكليف ) فلا وجه لدعوى قصور إطلاق الخطابات وتقييده بغيره لأن ملاك هذا القيد كما أشرنا إليه لا يقتضي أكثر من التقييد بموارد عدم المحركية التكوينية والتي لا ترتفع بالخطاب في طوله فانه الّذي يكون خلاف غرض المولى من جعل الخطابات كما ان العقل أيضا يرى منجزية احتمال تفويت تكليف يتعذر عليه نتيجة جهله وعدم تعلمه له. وبعبارة مختصرة كل عدم محركية وداعوية ينشأ من الجهل بالتكليف لا يكون مقيدا للخطاب ولا يكون إطلاق الخطاب بالنسبة إليه منافيا للغرض المولوي وليس المقصود من قصد الأمر الا داعويته ومحركيته.

٨٠